حاول المتطرفون من التيار الاسلامي اغتيال نجيب محفوظ جسديا في 1994 وفشلوا، وحاولوا مؤخرا، قبل مئويته بأيام، اغتياله معنويا حين قال عبد المنعم الشحات، القيادي السلفي، عن أدب نجيب محفوظ أنه "يحض على الرذيلة ويدور حول الدعارة وأوكار المخدرات، وأن بعض رواياته تحمل فلسفة إلحادية"، ولا شك سيفشلون أيضا في محاولة الاغتيال المعنوي، فقد سارع كبار كتاب مصر بشجب هذه المحاولة الفجة وراحوا يدافعون عن نجيب محفوظ وهم في غمار الاحتفال بمئة عام علي مولده، ولا شك أن أفضل رد وأفضل إحتفال يكون من خلال المزيد من دراسة وتقديم أعمال هذا المبدع الفذ للأجيال الجديدة التي قد لا تعرفه جيدا، وهذا ما أفعله في هذه الدراسة.
محاولة اغتيال
عندما قام شاب موتور في مساء الجمعة 14 اكتوبر 1994 بطعن نجيب محفوظ (11 ديسمبر 1911م - 30 أغسطس 2006م) في رقبته بالسكين محاولا اغتياله، كتب المعلقون وقتها أن هذا الشاب لم يكن يعرف ماذا يفعل! وعندما سمعوه يتحدث في مقابلة تليفزيونية بعد الحادث، تأكدوا من ذلك إذ أنه لم يقرأ حرفاً واحداً للروائي العربي والعالمي الكبير، ومع ذلك قام بمحاولة قتله بناء على ما كان يسمعه من تحريض ضد الكاتب من بعض المتطرفين المتشنّجين الذين سمح لهم مجتمع فقد بوصلته الحضارية بأن يسطوا على منابر الجوامع ليبثوا من عليها خطب الكراهية والعدوانية التي هي بضاعتهم الأساسية. وكان البعض من هؤلاء المقيمين في عصور بائدة وفي كهوف الماضي، من خطباء الجوامع بل ايضاً من اساتذة الجامعات الذين نشروا كتبا ودراسات عن نجيب محفوظ، كانوا قد دأبوا لعدة سنوات يخطبون ويكتبون مهاجمين الأديب العربي الوحيد الذي حصل على جائزة نوبل في الأدب، متهمينه بأنه ليس مسلماً صحيح الإسلام، وبأنه يكتب ضد الإسلام و.. وقاموا بإلقاء التهمة الجاهزة لديهم التي يطلقونها بخفة وكراهية على الكثيرين فقالوا ان نجيب محفوظ كافر!
وكان من هؤلاء المحرضين على نجيب محفوظ الشيخ كشك، الذي اشتهر وذاع صيته في ذلك الوقت في مجتمع استسلم لدغدغة أصابع التطرف والكراهية، وهو في سبات الكسل الفكري والاسترخاء الحضاري .. يتمرغ في نوم ثقيل لفرط تعبه الجسدي والروحي، ولا يسمع سوى الصراخ الذي يصرخه الإرهابيون والمتطرفون من الجماعات الإسلامية فيجد فيه لذة الإثارة الوحيدة المتاحة له، بعد ان فقد - كمجتمع - لذة خلق الحضارة وابتكار المعارف الجديدة، ولذة الحياة نفسها.. فاختار لغة الحقد والعدوان والموت والقتل. وكان الشيخ محمد الغزالي صاحب الكتب الكثيرة في الإسلام ومبادئه، قد قدم تفسيراً مجحفاً باطلا لرواية «اولاد حارتنا» بأنها تدل على الكفر والإلحاد .. بينما أصدر الشيخ عمر عبدالرحمن المحرض على أعمال التدمير لمبنى التجارة العالمي عام 93 والمعتقل في نيويورك حالياً، اصدر «فتوى» بتكفير نجيب محفوظ وإباحة دمه!!
ولكن الذين قالوا أن هؤلاء الإرهابيين بمحاولتهم قتل نجيب محفوظ لم يكونوا يعرفون ماذا يفعلون قد جانبهم الصواب .. فرغم أن الشاب الموتور الذي طعن بالسكين لم يقرأ لنجيب محفوظ ولم يعرفه، فإن الذين حرضوا ضد نجيب محفوظ كانوا يعلمون تماما ماذا يفعلون.. فرغم أن اتهاماتهم بالكفر وبعدم التدين هي اتهامات مشينة وباطلة .. لأن كل من عرف نجيب محفوظ عرفوا فيه الرجل المحبّ الجميل بالغ الحساسية والحكمة والفضيلة .. رغم ذلك فقد كان هؤلاء المتطرفون يدركون جيداً أن نجيب محفوظ في كل كتاباته وأعماله الروائية الباهرة المضيئة يمثل النقيض تماما لكل ما يمثلونه هم من فكر عدواني دموي كاره للآخر وللحياة . لقد قرأوا بلا شك بعض ما كتب نجيب محفوظ. ويكفي ان نقرأ كلمات قليلة من أي عمل من أعمال هذا المبدع الفذ لتدرك توّاً مبلغ سموّ الطاقة الإنسانية والروحية الشاهقة التي يمتلكها، والتي تقطر كل كلمة يكتبها بشهد هو شهد الحياة نفسها. ليس الحياة بأبعادها اليومية الوجودية الجسدية الغرائزية فقط، بل ايضاً، وفي نفس الوقت، الحياة بأبعادها الروحية العالية، ذات الاشتياق الصوفي العظيم للكمال الأعلى، وللحقيقة الخالدة.
لقد كان إرهابيو الفكر والفعل يعرفون تماماً ماذا يفعلون عندما ارتعبوا مما يكتبه هذا الإنسان المرهف من كتابات تجمّعت فيها عصارة الألم والأمل والخوف والحب واليقين والبحث والضمير والخطأ الإنساني كله. كما تتجمع في كل إنسان حيّ جدير بهذه الصفة، لكنه سبق الآخرين في أنه استطاع أن يسبر غور هذه المشاعر المتلاطمة كلها ويعبّر عنها على لسان شخصياته في رواياته وقصصه، فإذا هو يهدي إلينا، ويهدي الإنسانية جمعاء، أجمل هدية، هي هدية الكشف وإضاءة جوانب الذات المظلمة، هدية معرفة النفس، ومعرفة الآخر، ومعرفة الوجود، والسعي الدائم لمعرفة خالق هذا الوجود. وقد فعل ذلك ليس بأسلوب الوعظ المباشر المعنّف الذي لا يلمس قلب الإنسان وبالتالي لا يؤثر ولا يجدي. وإنما فعله بأسلوب الطبيب الجراح الذي يبحث عن اصل الداء، ويضع يده على الجزء المريض المتعب من الجسد. لكي يمكننا بعد هذا ان نقدم العلاج او الراحة المسكنة. كما فعله بأسلوب المحبّ لكل الناس، فعندما نقرأ شخصيات رواياته، حتى الشخصيات الإجرامية مثل « سعيد مهران» في رواية «اللص والكلاب» لا تملك إلا ان تشعر بالعطف والحزن والمشاركة الإنسانية لشقاء هذه الشخصيات الإجرامية، وتلمس فيما يكتبه نجيب محفوظ أن طاقته على محبة الجميع تشمل حتى المجرمين الذين يصورهم ببراعة وإنسانية بالغة في رواياته. نعم إن الإرهابيين قد رأوا في فكر نجيب محفوظ تهديداً لهم. لأن جمال وبهاء الإنسانية التي في إبداعاته تفضح قبح ودمامة مشاعر الكراهية والعدوانية التي يمثلونها هم بفكر عدواني كاره للحياة
جائزة نوبل
لقد عرف العالم كله قدر هذا المبدع العظيم فمنحه العالم جائزة نوبل في الأدب عام 1988م. وذلك عن أربعة روايات بشكل خاص، ثلاثيته الشهيرة التي تضم «بين القصرين» و «قصر الشوق» و «السكرية»، وكلها أسماء حارات في حي الجمالية الذي وُلد فيه محفوظ، ثم رواية «اولاد حارتنا» التي قام إرهابيو الفكر والفعل بتكفيره بسببها! وأذكر انني قرأت «أولاد حارتنا» عندما كنت طالباً، وكانت جريدة الأهرام تنشرها مسلسلة في «اهرام الجمعة». كما قرأت بالأهرام ايضا «الطريق» و«اللص والكلاب» و«السمان والخريف» و«ميرامار». وكان كل جزء ينشر كل جمعة هو زادنا الحضاري والروحي للأسبوع كله، انا ومجموعة صغيرة من الأصدقاء كنا نتابع معا هذه الكتابات الباهرة التي يتحفنا بها محفوظ كل أسبوع، ونظل نتناقش ونحتدّ حولها حتى الجمعة التالية.
بالطبع لا تستطيع روايات عادية او حتى جيدة ان تفعل هذا الفعل في عقول ونفوس عدة أجيال من شباب مصر والعالم العربي. فقد كان هناك كُتاب آخرون كبار وقتها مثل إحسان عبدالقدوس ويوسف السباعي وعبدالحليم عبدالله وغيرهم، يكتبون الرواية ايضا، ولكن لم يقترب أي منهم من مكانة محفوظ، ولم يحصل أي منهم على نوبل. فما الذي في كتابات محفوظ لكي يكون لها فعل السحر هذا؟ في اعتقادي ان السر في كتاباته لا يكمن في صفة واحدة منها، ولا يرجع إلى سبب واحد، ولكن إن كان لنا أن نوجزها كلها في صفة أساسية شاملة واحدة، فهي أن كتاباته كانت مملؤة حتى الثمالة بعصارة الحياة نفسها وكلها .. عصارة هي مزيج من الشهد والمرّ، والخمر والعلقم، والفاكهة وماء الورد وأمطار الجبال وأنهار السفوح، وينابيع الشباب السحرية التي تحدثنا عنها الأساطير دون ان نجدها في مكان.. كل هذا في أسلوب يجمع بين الفلسفة والشعر.. ففي حواراته ووصفه حكمة عالية هي حكمة الفلاسفة.. وشاعرية مرهفة نافذة مثل وحي أبلغ الشعراء .. ولكن من أين لمحفوظ كل هذه الفلسفة وكل هذا الفكر والشعر؟!
سلامة موسى
أما الفلسفة فقد درسها في كلية الآداب قسم الفلسفة، والتي تخرج منها عام 1934م. ولكن الملفت ان نبوغه كان قد ظهر عدة سنوات قبل هذا، إذ بدأ ينشر المقالات النقدية عام 1928م أي وهو طالب في سن السابعة عشر، (ولد في 11 ديسمبر 1911م).
ويقول الناقد الكبير رجاء النقاش في كتابه «في حب نجيب محفوظ»: (الحقيقة ان نجيب محفوظ هو خلاصة الامتزاج والتفاعل في شخصيته بين أستاذين كبيرين هما الشيخ مصطفى عبدالرازق أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب، وسلامة موسى، الصحفي والمفكر الكبير .. وكان سلامة موسي ثائراً مجدداً، ومؤمنا متطرفاً بالحضارة الغربية الحديثة .. وكان في نفس الوقت من المتحمسين للحضارة الفرعونية والداعين إلى إحيائها، وقد تأثر به نجيب محفوظ تأثراً واضحاً، فتحمس للحضارة الفرعونية وترجم عنها - وهو طالب في الجامعة كتاب «مصر القديمة»، وهو اول كتاب يكتبه محفوظ، وقد نشره له سلامة موسى، وتحت تأثير سلامة موسى ايضاً أصدر نجيب محفوظ رواياته الثلاث الأولى، وكلها عن مصر الفرعونية، وهي روايات «عبث الأقدار» و «رادوبيس» و «كفاح طيبة».
أما الشيخ مصطفى عبدالرازق، وشقيقه على عبدالرازق، فقد كانا منارتين للفكر الإسلامي المتفتح المستنير في مطلع القرن العشرين، وهو الفكر الذي تراجع في مصر منذ السبعينات أمام زحف الفكر المتطرف للجماعات الإسلامية، وبذلك تعلم نجيب محفوظ من استاذيه مصطفى عبدالرازق وسلامة موسى التدين في اعتدال، والإيمان مع الانفتاح على عقائد الآخرين بدون تعصب، وتعلم أسس الفكر العلمي الموضوعي، والثقافة الاجتماعية العلمانية، وهكذا نجد في كل كتاباته بعد ذلك فكراً متحرراً موضوعياً سابقاً لمجتمعه.
إبداعاته الفلسفية
من الضروري اولا التنبيه ان المقاطع التي سأوردها هنا مأخوذة معظمها من روايات وقصص نجيب محفوظ عن لسان شخصياته الروائية، وبالتالي لا نستطيع ان نقول ان هذه هي بالضرورة أفكاره هو، فعندما يضع المؤلف كلمات عن لسان مجرم شرير، مثلا، فستكون أفكاره وأقواله شريرة، ولا نستطيع ان نقول ان هذه هي أفكار المؤلف ايضا ووجهة نظره، ومع هذا فيمكننا من طريقة صياغة المؤلف للكلمات والأفكار ان نعرف شيئاً عن فكر المؤلف حتى ولو جاء متخفياً على لسان شخصياته الروائية. ولنبدأ بعرض فكرة قالها نجيب محفوظ مباشرة في مقابلة مع محمد بركات، وهي بهذا فكره الشخصي .. ويتضح منها المنحى الفلسفي لهذا الكاتب الكبير:
«أعتقد ان كل إنسان يبحث عن السعادة وعن الحقيقة .. ورغبة بعض الناس الشديدة في السعادة ربما سقطت بهم إلي تحقيقها على حساب الحقيقة.. كما أن رغبة البعض الآخر في نشدان الحقيقة والبحث عنها ربما كانت على حساب ما يحققونه من سعادة.. ويبلغ الإنسان مرتبة الكمال عندما يتضح له في لحظة ان الحقيقة كل الحقيقة هي السعادة كل السعادة».
ويقول في قصة «الحب والقناع»: (الإنسان يفوق الحيوان في شهوة القتل فيقتل نفسه ايضاً).
ونقرأ له في روايته «الحرافيش» إفرح عند كل شروق شمس، ولا تحزن عند غروبها .. و.. يا لتعاسة القلوب الغافلة..!
وفي «حضرة المحترم»، نقرأ هذه الكلمات الرائعة التي هي مزيج من الفلسفة والشعر والصلوات:
«على الأرض تطرح أسرار إلهية لا حصر لها لمن له عين وبصيرة..
إن الله لم يخلقنا للراحة ولا للطريق القصيرة..
بالحزن يتقدس الإنسان ويعد نفسه للفرح الإلهي.
لم يعد يبالى بما كان ولا بما هو كائن ولا بما سوف يكون..»
ونلاحظ في هذه المقاطع تعبيرات متأثرة بالعهد القديم.. كما نلاحظ في الكثير من كتابات وشخصيات محفوظ تأثيرات إسلامية واضحة، وهكذا فالرجل مسلم في اعتدال وانفتاح.. ولذلك إتهمه الإرهابيون بأنه ليس مسلماً صحيح الإسلام! أي ليس مسلماً على طريقتهم العدوانية. ولكني لا اريد ان اعطي انطباعاً ان نجيب محفوظ كان رجلا شديد التدين بالمعني الفقهي للكلمة.. فكتاباته تنضح بقدر عظيم من عنفوان الحياة وشهواتها وتقلباتها .. فهو من ناحية له جانب صوفي روحي ينشد الحقيقة ويبحث عن المطلق، ومن ناحية اخرى لا يمنعه هذا من اجتراع عصارة الحياة حتى الثمالة. دون ان يعني هذا انغماسه في اي نوع من الابتذال في حياته الشخصية بل بالعكس فحياته الشخصية كتاب مفتوح للجميع فهو زوج وأب محبّ محافظ ليس له نزوات ولا عادات اجتماعية سيئة، وتتجلى محبته للناس وللحياة في حفاوته بالناس وحبّه للضحك الصافي وللسخرية والنكتة والقافية على طريقة المصريين جميعا .. فهو مصري في كل قطرة من دمائه وبكل مشاربه .. لكنه يمثل أجمل ما في الأخلاق والطبائع المصرية .. وله في وصف المصريين كلمات جميلة قالها في مقابلة مع ألفريد فرج..
قال في المصريين:
«المصريون لطاف وأهل مودة، يحبون الحياة ويعشقون مسراتها، وبخاصة المسرّات الحسية، وفيهم من طبيعة النمل، ذلك هو دأب الواحد منهم .. وحتى لو لم تكن همته عالية، إلا أنها همة متصلة باستمرار .. تثمر في النهاية عملا ضخماً، ومن صفات المصريين العجيبة أنهم تمرسوا بالاستبداد .. وهم من أقوى الناس على كراهيته وعلى الصبر عليه. إنهم يحتملونه كما يحتمل الشخص مرضاً مزمناً لا يحبه ولكنه يصبر عليه. يخيّل لي أنهم من أكثر شعوب العالم إحساساً بالحاكم. وسبب ذلك أن الحاكم كان له دائماً وفي كل العصور أثر في كل تفاصيل حياتهم اليومية.. وهم من الشعوب المتدينة جداً.. ويغلب عليهم التعلق بالطقوس والمراسم والعادات الدينية.. وإن أي نقائص في الشخصية المصرية - كالقدريّة وندرة الروح العلمية والسلبية في كثير من الأحيان - إنما ترجع إلى ما ورثته من عهود الظلام التي شملتها آلاف السنين».
ولنجيب محفوظ كلمات أخرى بها نقد عظيم للشخصية المصرية وللمصريين - على قدر حبه العظيم الواضح لهم - نقرأها على لسان شخصياته الروائية. ومنها: «كان كالثور المصري عظيم الخوار عديم الأذى».
وتمنحه الروايات فرصة استخدام كلمات قد لا تكون لائقة لا يقولها هو ولكن تقولها شخصياته الروائية بشكل معبر قوي .. فنقرأ في «السكرية»: «الحق إن الاستبداد هو مرضهم (المصريين) المتوطن .. كل ابن كلب غرّته قوته يزعم لنا أنه الوصي المختار وأن الشعب قاصر .. نحن شعب قليل الأدب! لا أعرف شعباً كالشعب المصري ولعاً بالخوض في أعراض الأمهات.! إن الزمن أدّبنا أكثر مما ينبغي، والشئ إذا زاد عن حدّه انقلب إلى ضده، ولذلك فنحن غير مؤدبين! ولكن تغلب علينا الطيبة رغم ذلك..
أما في «ميرامار» فيصرخ «عامر وجدي» في غضب: «أيها الأنذال، أيها اللوطيون، ألا كرامة لإنسان عندكم إن لم يكن لاعب كرة؟». ويقول عامر وجدي ايضا في نفس الرواية: «لقد سلبت (الثورة) البعض اموالهم وسلبت الجميع حرياتهم». أما حسني علام، شخصية أخرى من شخصيات ميرامار فيخاطب المصريين قائلا: «إني أتبرأ منكم! .. أتبرأ منكم يا فتات العصور البالية»!
وفي «المرايا» نقرأ على لسان شخصية تدعى «عبدالرحمن شعبان» هذه السخرية اللاذعة: «هكذا أنتم أيها المصريون، لن تزالوا غارقين في أوهام الكلمات حتى تموتوا .. لو لم أكن مصرياً لتمنيت أن أكون مصرياً! ولِمَ لا تتمنى أن تكون حماراً فيكون لك نفع على الأقل؟! وفي موضع آخر من «المرايا» ايضا يقول عبدالرحمن شعبان: «اتعرف ما هي اكبر نعمة اغدقت علينا؟ هي الاستعمار الأوروبي، وسوف تحتفل الأجيال القادمة بذكراه كما تحتفلون بمولد النبي».
ولكننا نعرف من كل هذا النقد القاسي، ان الذين يحملون للوطن حباً حقيقياً هم الذين ينتقدونه اشد النقد، بينما لا يقدم المنافقون سوى الطبل والزمر في الزفة.
مزامير نجيب محفوظ
في مقطع جميل من كتاب «في حب نجيب محفوظ» يصف رجاء النقاش النفحات الشعرية الخلابة في كلمات محفوظ هكذا: «نحس ان الكلمات مليئة بندى الشعر الجميل، كما نتذكر ونحن نقرأ هذه المقاطع «مزامير داود» التي جاءت بالعهد القديم والتي تعتبر - بعيداً عن قيمتها الدينية - مجموعة من أجمل الأغاني التي عرفتها الإنسانية في تعبيرها عن همومها وجروحها وآلامها ومناجاتها الصوفية للكون والحياة.. ويمكننا ان نسمي هذه المقاطع «مزامير نجيب محفوظ» ولعل نجيب محفوظ قد تأثر بهذه المزامير وليس عندي من دليل إلا تشابه الروح التي تتأمل وتغني وتفكر وتصوغ خواطرها صياغة شعرية جميلة."
وليس أجمل من هذه «المزامير» أختم بها هذا المقال، اخترتها من عدد من أعمال نجيب محفوظ:
- في ظل العدالة الحنون تطوي آلام كثيرة في زوايا النسيان.. ولكن هل يتوارى الضياء والسماء صافية؟
- عاد إلى دنيا النجوم والأناشيد والليل والسور العتيق. قبض على أهداف الرؤية، وانتفض ناهضاً ثملاً بالإلهام والقدرة، فقال له قلبه لا تجزع فقد ينفتح الباب ذات يوم تحية لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة.
- إنه فقير ولكنه غنّي بحمل هموم البشر.
- ما أكثر العفة المتولدة عن العجز.
- إننا نأبى التسليم بالمثل العليا من طول انغماسنا في الماء الآسن.
- مأساة الآدمية انها تبدأ من الطين، وأن عليها بعد ذلك أن تحتل مكانتها بين النجوم.
- الدينا بلا أخلاق ككون بلا جاذبية.
- لماذا لا يسود النقاء؟ ما الذي حال دون ذلك طوال القرون؟
- وهل يوجد في مكان ما من الأرض إنسان يعيش بلا خوف ولا رذائل.
- تساءل ألا يمكن أن يؤكد إنتسابه إلى الإنسان ويتناسي إنتسابه الجبري إلى هذا الوطن؟
- ثمة آلام أعنف من ترف الضمير!
- الإنسان إما أن يكون الإنسانية جمعاء وإما أن يكون لا شئ.
وقد استطاع هذا الإنسان الجميل نجيب محفوظ ان يكون أقرب ما يكون إلى الإنسانية جمعاء.
كاتب و شاعر من مصر يقيم في نيويورك
fbasili@gmail.com