المدوَّنات

رسالة مصر

منتصر القفاش

من سمات المدونات البوح والفضفضة سواء بالكلام أو الصورة؛ ورغبة أصحابها في أن يشاركهم الآخرون في أفكارهم أو انطباعاتهم وتعليقاتهم، التي قد تكون وليدة لحظة الكتابة وتتطور وتتعدل من خلال تعليقات القراء. وفي لحظات الاختناق أو الاحتقان التي يعيشها المجتمع المصري تزداد الحاجة إلى الفضفضة والسخرية والحلم بالتغيير. وكل هذا تعكسه المدونات المختلفة، بحيث تستطيع من خلالها أن تفهم الكثير مما يحدث في مصر ومشاهدة ما عجزت محطات تليفزيونية عن تصويره. فأصحاب المدونات في قلب الحدث وليسوا فريق إعلامي ينتقل إلى موقع الحدث، وسهولة وسرعة إضافة أخبار أو مشاهد مصورة إلى المدونة أتاحت لهم أن يسبقوا الكثير من وسائل الإعلام الأخرى . وليس الأمر رغبة في سبق صحفي بل أن يكشف المدون عما يراه وعما يشعر به والذي يعرف انه ليس له مكان في أجهزة الإعلام المكرسة. وكلما ازداد شعور صاحب المدونة أن ما يقدمه في مدونته ليس له مكان خارجها ازداد شعوره بحريته من خلالها، وتمادى أكثر في الكشف عن أفكاره، وانتفت الحدود بين ما هو شخصي وعام، ويترك المدوِّن الكتابة تتشكل بعفويتها دون الانشغال بشكل معين أو طريقة محددة فهو ليس مطالبا باتباع قواعد معينة، ويقدم يومياته المعلنة بما فيها من هواجس وأحلام وخواطر ونكت ومختارات مما قرأه وسمعه وشاهده. فالمدونة مكانه الخاص المعلن والذي يحلم أن يكون في كل مكان. والشعور بان هذا لا يمكن أن ينشر في مكان آخر من أسباب اختيار أصحاب المدونات لأسماء أخرى يقدمون بها أنفسهم، فبقدر ما يعطيه الاسم الجديد ـ الحركي ـ الحرية في قول ما يريده فانه في نفس الوقت يجعل الانتباه يتركز فيما يقوله ويرغب في التواصل به مع الآخرين. ومن الطبيعي أن تصطدم هذه الخصوصية المعلنة بمؤسسات تنتهج طريق "ما هو متفق عليه" "وان بليتم فاستتروا" "وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار". فالصدام هنا بين من يتعرف على حريته من خلال الممارسة، وبين من يرى الحرية في الاتباع.

ومن نتائج هذا الصدام الحكم الذي صدر ضد المدون المصري الشاب ـ 22 سنة ـ عبد الكريم نبيل سليمان "كريم عامر" بالسجن أربعة سنوات ، ثلاثة منها كعقوبة لما رأته المحكمة من أن كتابات عامر تتضمن ازدراء للدين الإسلامي وعام بتهمة إهانة رئيس الجمهورية، وهما تهمتان تكررتا من قبل في قضايا سابقة. لكن الجديد أن قرار الحكم استند إلى كتاباته في مدونته على "شبكة الانترنت" والمحرك الأول للقضية جامعة الأزهر التي بدأت بفصل عبد الكريم الذي كان طالبا فيها بعد مجلس تأديبي لأفكاره العلمانية. ثم تقدمت بمذكرة ضده إلى النيابة العامة. وفي ذلك كتب كريم عامر في مدونته:

التحقت بالأزهر بناء على رغبة والديّ وعلى رغم رفضي التام للأزهر وللفكر الديني ـ في وقت لاحق ـ وكتاباتي التي تنقد وبشدة تغلغل الدين في الحياة العامة، وتحكمه في سلوكيات البشر وتعاملاتهم مع غيرهم، وتوجيهه لهم في السلوكيات الحياتية، إلا أن التخلص من ربقة القيد المتمثل في كوني طالباً ـ سابقاً ـ في جامعة الأزهر لم يكن ـ كما كنت أتصور ـ بالشيء السهل أو الهين. فعندما حصلت على حريتي المتمثلة في وثيقة فصلي النهائي من الجامعة في آذار (مارس) الماضي، كنت أتصور أن الأمور انتهت عند هذا الحد، وتجاهلت ما نشرته صحيفة "الجمهورية" من أن أوراق التحقيق معي في مجلس التأديب أرسلت نسخة منها إلى النيابة العامة ... ويبدو أيضاً أن "بركات" الأزهر بحق طلابه لا تقتصر على حرمانهم من استكمال دراستهم بعيداً منه ... وما استدعاء النيابة لي للتحقيق معي حول هذا الأمر إلاَّ أحد مظاهر هذه "البركات". ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد بل رفعت قضية أخرى قي نهاية شهر مارس لمنع واحد وعشرين موقعا ومدونة بتهمة أنها تسيء لسمعة مصر، وأنها توجه إهانة لرئيس الجمهورية.

ولن يتوقف هذا النوع من القضايا، فالصراع سيستمر بين من وجدوا أماكن لحريتهم يكتشفون بها عالما جديدا، وبين مؤسسات ترى في كل مدونة وثيقة اتهام, فكل التعبيرات التي قيلت عن سقف الحرية وحدود الحرية يتم إعادة النظر فيها في كل مدونة. وتكشف كل منها عما يعيشه المدوِّن ويحلم به بلا أية حدود، فهو يريد أن يكون الآن، وليس في إمكانيات مؤجلة. كتب عبد السلام بنعبد العالي "إن الجيل الذي يتهمه صاحبي بعدم التجذر والانفصال، جيل سندبادي، يعيش اللحظي لا الآني، اللحظي الذي هو "قرار التاريخ الذي ينزل مثل الساطور على ثقل الماضي وثقل الحاضر" كما يقول نيتشه.

الحقائق القديمة صالحة لإثارة الدهشة
تحل في هذا الشهر ذكرى ميلاد ورحيل يحيى الطاهر عبد الله، ولد 30 أبريل 1938 ورحل في 9 ابريل 1981، وأتذكر انه في العام الماضي عقدت بورشة الزيتون بالقاهرة ندوة بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لرحيله شارك فيها كتاب من أجيال مختلفة، واتضح فيها أن أعمال يحيى الطاهر عبد الله ركن أساسي في أي حديث عن التجديد في القصة والرواية، فالحوار مع أعماله بقدر ما يضيف إليها فانه يكشف في نفس الوقت عن إمكانيات مازال يمكن اختبارها في النصوص الجديدة.

واستمرارا للحوار مع يحيى الطاهر سنتوقف عند روايته " الحقائق القديمة صالحة لإثارة الدهشة" التي صدرت عام 1977 وكانت روايته الثانية بعد الطوق والإسورة . لا تعرفنا الرواية على اسم بطلها الرئيسي، وتقتصر على تسميته اسكافي المودة، الكلمة الأولى تدل على عمله في السوق والثانية على درب المودة الذي يحلم الاسكافي بالسكن فيه بدلا من درب الصفا "الضيق الموحل". اسم يعكس تراوح الشخصية بين الآن وما تحلم به، بين مكانها المضطرة إليه في السوق بصخبه ومكانها في الدرب الذي ستهنأ فيه بالعيش. ويتأخر ظهور اسم اسكافي المودة حتى الحلقة الثالثة من النص ويسبقه اسم "الرجل المخمور" الصفة الأساسية للإسكافي التي تتيح له أن يعايش المفارقة الموجودة في اسمه وتتيح له أن يعيش الدنيا كما يراها. فالخمرة جسر بين عوالم لا تصالح بينها، وتكاد أن تكون مرادفا للحياة عنده، تُخفف ـ وفي نفس الوقت تزيد ـ ثقل ما يرى، فهو بدونها سيرتد إلى ملامحه الحادة الصلبة التي تكشفها السطور الأولى من النص، حين يرى وقد أنهكه السير المطعم الفاخر برواده فـ " صرخ ـ هو الجائع الحافي العاري ـ صرخته الأخيرة وارتمى في حضن أمه الأرض ليستريح".

ومن هنا فان ابتداع الحيل صفة أخرى ملازمة للاسكافي وقد تكون اسما آخر له، فعن طريق الحيلة يستطيع الوصول إلى الخمارة بخمرتها ويستطيع أيضا معالجة آثارها عليه. ويمكن قراءة الحلقات السبعة المكونة للنص على أنها أشكال مختلفة للحيل تتوالد من بعضها البعض أو تسلم كل حيلة دفة الحكي لحيلة أخرى، فالحيلة هنا ليست وسيلة فقط بل قرين اسكافي المودة. وراوي هذا النص غير منفصل عن هذه الشخصية، لا توجد مسافة بينه وبين عالمها متداخل الأزمنة وكثير التحولات والمتماهية فيه الحقيقة مع الحلم. لا يحاول الراوي أن يعيد غرائبية المواقف إلى منطق الواقع المألوف أو يضعها في إطار المتوقع بل قد يراه القارئ احد أصدقاء اسكافي المودة في الخمارة "قصد الخمارة ووجدها مكتظة ورغبة في الحيطة وطلبا للامان المفقود، وبعد الذي شاف في يومين متعاقبين، عقد لسانه ثلاث عقد وجلس يشرب. شرب وشرب وشرب ونفسه ما تزال في الشرب راغبة، فشرب وشرب وشرب حتى رأى جاره حمارا ببردعة ورأى الساقي قطارا بمدخنة يصفر ويمشي على قضبان".

الراوي هنا يتمثل تراث رواة الحكايات و السير الشعبية لا انفصال في حكايته بين مستويات الخرافة والحلم والواقع اليومي، يروي بقوة كل هذه المستويات وحر في التنقل والمزج بينها. هذه السمات لاسكافي المودة وعالمه وراويه تجعل المحاكاة الساخرة هي الملمح الرئيسي المهيمن على هذا النص، وتشكل مناطق السرد والحوارات فيه من الصفحة الأولى إلى نهاية العمل. يحاكي الاسكافي ساخرا خطابات عديدة: خطاب السلطة الحاكمة، خطاب أهل السوق، خطاب عالم الخمارة، خطاب حكمة الصديق لصديقه. خطابات عديدة تبدو محكمة ولها منطقها الواضح، لكنها كلها تضربها السخرية في العمق، وتشير إلى عكس ما يتبدى على السطح، فهي خطابات أو لغات الحيلة في سعيها إلى أن تصل إلى هدفها. وأظن أن الحقائق القديمة تكتسب أهم نجاحاتها الفنية من قدرتها على ضبط إيقاع المحاكاة الساخرة. وتجعل قراءة العمل في كل مرة متعة متجددة، من خلال تأمل اسكافي المودة وهو يشكل عالمه ويتشكل بتلك السخرية الغنية.