يعد كتاب الناقد والمترجم العراقي علي حاكم صالح "المجتمع اللا اجتماعي: دراسة في أدب فؤاد التكرلي" خطوة في طريق قل سالكوه. إذ يندر أن يكرس ناقد عراقي كتابا كاملا لأديب عراقي حديث، وهنالك فراغات مؤسفة ومحرجة في مكتبتنا النقدية العراقية تنتظر من له عزيمة علي حاكم ودرايته النقدية والفلسفية وعشقه للكلمة ليباشر الإسهام في سدها. وكتابنا هذا غزير الدلالات يمد جذورا عميقة في تربة مشاغلنا الأدبية والاجتماعية والسياسية والفلسفية، وهو متورط في ظرفيته التاريخية عازف عن التعالي عليها، يمزج التأمل بالانفعال المشبوب، ويتخذ من فؤاد التكرلي رفيق محنة وشاهدا على مأساة.
ينقسم الكتاب إلى مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة؛ فيتحرك في انسيابية ورشاقة من فرضية بحثية تحتويها المقدمة إلى استقصاء للمظاهر الدالة على تلك الفرضية في الفصول الثلاثة لينتهي إلى خاتمة طريفة تأبى الابتعاد عن نصوص التكرلي فتتخذ إحدى رواياته منصة تطلق منها مشاغلها ولقاها. ما أرمي إليه في هذه المراجعة للكتاب هو اختبار فرضيته المحورية ومحاولة قلبها لتقف على قدميها ولتكون عونا لنا على كشف علة كبيرة تعاني منها الثقافة العراقية الحداثوية قادنا علي حاكم إلى أسوارها ولكنه ظل يحوم حولها دون أن يقتحمها.
لابد من التذكير بدءا أن الخلاف في الرؤى النقدية هو النسغ الأكبر في رفد الحياة الفكرية بالحيوية والخصوبة، وأن أفضل إطراء لكتاب أن يدفعنا إلى الانخراط معه في سجال معمق يكون الكتاب نفسه الأصل فيه والدافع إليه. إن أخطر ما تتعرض له إبداعاتنا الأدبية والنقدية هو الصمت الأبكم الذي يحيط بها، وما أحوجنا اليوم وقد صار النشر واسعا وعناوين الكتب لا حصر لها إلى حركة نقدية تلاحق ما ينشر وتعلق عليه وتكون دليلا لا يستغنى عنه لانتقاء أفضله.
فرضية المجتمع اللا اجتماعي
ينطلق علي حاكم من قناعة تنتظم بحثه برمته مفادها أن أدب التكرلي قد قدم صورة مجتمع مفكك عانت مكوناته الاجتماعية والسياسية (العائلة، مؤسسة الزواج، السلطة السياسية) من حالة تأزم وتشويه طوال التاريخ المعاصر، وان التكرلي قدّم لا اجتماعية هذا المجتمع عبر مجموعة من الثيمات المتكررة في أعماله خصص علي حاكم لكل منها فصلا من فصول كتابه الثلاثة. تقع ضمن المقدمات التي تؤطر البحث مصادرة دالة ومثيرة للجدل، إذ يفصل الناقد في حياة التكرلي بين عالمين هما عالم الحياة الاجتماعية المتعارف عليه وعالم الفرد الداخلي فيقول تعليقا على مهنة التكرلي في القضاء "إن القضاء ظاهري، سلوكي، يتناول الإنسان وجودا مسطحا من غير عمق ولا باطن، لأن المواضعات البشرية التي يتواضع عليها الناس، أو يتوارثونها، هي بطبيعتها لا تمس الجوهر الباطني لحيواتهم وتركيبهم الخفي" (ص. 20)(1) ثم يعزل بين التكرلي القاضي والكاتب فيرى أن الوظيفتين تتصلان بعالمين لا صلة بينهما.
أعتقد أن هذا العزل بين المواضعات البشرية التي يتبناها المجتمع من جهة والجوهر الباطني والتركيب الخفي للكائن من جهة أخرى هي صلب مسعى مارتن هيدغر في إثارته لسؤال الوجود. ويُظهر النشاط الترجمي لعلي حاكم الذي مال بشكل واضح لكتابات جورج غادامير قربه الشديد من منابع الوجودية الألمانية كما باشرها هيدغر. يرى غادامير في كتاب "طرق هيدغر" أن "الدزاين هو دائما ... "وجود مع" بغض النظر عما إذا كان الآخرون موجودين هناك أم غير موجودين، وبغض النظر عن حاجتهم لي، أو عدم حاجتي لأي واحد منهم"(2). وهو ما ينطوي على أن التفاعل الاجتماعي مع الآخرين لن يكون له أثر على الجوهر الباطن للفرد لأنه "وجود مع" أي تجاور سلبي بحت. ويرد في كتاب "الحقيقة والمنهج" قول غادامير إن "التحليل الوجودي للدزاين لا يتضمن، بالنسبة لهيدغر، مثالا تاريخيا للوجود. ومن هنا فإن هذا التحليل يدّعي، فيما يتعلق بأي بيان يدور حول الإنسان وإيمانه، شرعية قبلية ومحايدة."(3). إن قناعة العزل الوجودية بين الكينونة وظرفيتها التاريخية والاجتماعية هذه تعد لحظة التأسيس للبحث الذي نحن بصدده وقد قادت علي حاكم فيما تبقى منه إلى التماهي مع التكرلي الكاتب (لا القاضي) ومشاركته مرصده الذي تابع منه شخصياته الروائية.
لدينا إذن مسلمة وجودية اعتمد عليها التكرلي في رواياته دون شك، لكن قبولها كواحدة من مسلمات البحث الذي يكتبه علي حاكم سبب إشكالات كثيرة. أول هذه الاشكالات أن الناقد لابد أن يترك مسافة نقدية تفصله عن الكاتب الذي يتصدى لنقده لأن التماهي مع الكاتب واعتناق مسلماته يحرم الناقد من مرصد خارج اللعبة الإبداعية تتيح له ملاحظة حدودها العامة وخارطتها. ويبدو أن علي حاكم ميال إجمالا إلى التماهي مع موضوع جهوده النقدية، وهو ما نلاحظه في دراسته عن الشاعر محمود البريكان حيث يصل التماهي بينه وبين الشاعر حد تضمين نقده مقطعا يتكلم فيه الناقد بلسان الشاعر(4). وليست ستراتيجية التماهي مع موضوع النقد بالأمر الغريب، فقد دعا إليها ومارسها الناقد السويسري الذي يصنف ضمن نقاد مدرسة جنيف الكبار جورج بوليه (1902 ـ 1991) الذي كان يرى أن سر القراءة يكمن في أنها تتغلب على الحواجز التي عادة ما تفصل الذوات وقد وصف ما يحدث في ممارسته النقدية "إن وعيي يتصرف وكأنه وعي شخص آخر."(5) لكن ستراتيجية التماهي هذه تواجه الكثير من العقبات التي تهدد قدرة القراءة على الكشف.
يرى بول آرمسترونغ أن إنتاجية عملية القراءة تعتمد على علاقة فرض ومقاومة، فنحن نأتي النص محمّلين بقناعاتنا عن الأدب والحياة وعلى وفقها نصوغ فرضياتنا عنه، ولكن النصوص تقاوم فرضياتنا لأنها ببساطة لا تقبل الاختزال الذي تسعى إليه الفرضيات. هذه العلاقة المتوترة بين الإبداع والتأويل هي الأصل في قدرة العملية النقدية على إثراء فهمنا للأدب وتذوقنا لوجوهه المتعددة. يقول آرمسترونغ عن آخرية النص: "هنالك شيء آخر عدا افتراضاتنا المسبقة، وهو ضروري لأنه يساعدنا على تركيز فرضياتنا وكبح جماحها، وهذه الآخرية يوفرها صراع المؤول ولعبة المقاومة التي تكون استجابتها لبعض التخمينات أكثر منها لأخرى غيرها."(6) ما حدث في "المجتمع اللا اجتماعي" أن الكاتب والناقد اعتنقا الفلسفة نفسها وسارا يدا بيد في انسجام وتوافق جعل الناقد يعتمد رؤية الكاتب بوصفها ترى أن المجتمع مفكك لا اجتماعي، وحجب عنه المسافة النقدية التي تتيح له اختبار هذه الرؤية.
الإشكال الثاني الناجم عن قبول الناقد المسلمة الوجودية للكاتب أن البحث دمج بين الشخصيات الروائية ومبدعها. وكانت الخطوة الأولى في هذا الاتجاه هي عزل القاضي عن الكاتب في شخصية التكرلي، وهو عزل تعسفي يعتمد النظرة الوجودية التي أشرت إليها. يتحقق شطب القاضي بالقول إن العدالة بالنسبة له "فكرة ميتافيزيقية لا تنال" (ص. 21)، وهي عبارة يستعيرها علي حاكم من رواية "المسرات والأوجاع" ليصف بها "العدالة التي يشتغل التكرلي القاضي من أجل تحقيقها" (ص. 21). أما رسالة أدب التكرلي كما يراها علي حاكم فهي القول إن "الحياة ليست غير لذّاتها الحسية العابرة" (ص. 23). وهو قول لا يجانب الصواب كثيرا لأن أبطال التكرلي مشغولون في نهاية المطاف بوجودهم الفردي، لكن القارئ ينتظر من النقد التأويلي تحديدا إضاءة المناطق الواسعة التي قادت هذه المقولة المبسطة الكاتب إلى استكشافها. وقد سعى علي حاكم إلى ذلك، لكنه بسبب تماهيه مع الكاتب عاد ليبلور ما توصل إليه بعبارة لا تتجاوز مواقع الكاتب.
الإشكالية الثالثة أن صفة اللا اجتماعي ظلت تتنقل بين الفرد والمجتمع. يقول علي حاكم "وهذا التقابل بين القيمة الأخلاقية، أو المحرمات من جهة واللذّات والمتع الحسية [من جهة أخرى]، هو وجه آخر للتقابل بين الاجتماعي واللا اجتماعي." (ص. 26). ولا يخفى ما تسبب هذه العبارة من إرباك للقارئ، فصفة اللا اجتماعي تتحول هنا إلى صفة تلازم السعي إلى اللذات والمتع الحسية (وهي فكرة فرويدية أكثر منها وجودية لأن مبدأ اللذة يناصب الأنا الأعلى العداء في نزاع أزلي لا يمكن لأي مجتمع مهما كان نمطه أن يحله. ولابد من الإشارة هنا إلى التشابه بين مفهومي الوجود لدى هيدغر واللاوعي لدى فرويد في أنهما يقعان كلاهما خارج نطاق التاريخ). فهل تمثل القيمة الأخلاقية المجتمع بينما يمثل السعي إلى المتع الحسية اللا مجتمع؟ وإن صح ذلك كيف تصح فرضية البحث الأساسية التي تفيد أن المجتمع نفسه لا اجتماعي وأن الفرد بحاجاته الحسية المحبطة ضحية لهذا المجتمع؟ تشير هذه العبارة إلى أن اللا اجتماعية صفة متأصلة في "الجوهر الباطني" لحياة الفرد الذي افترضه البحث مقدما.
أعتقد أن البصيرة النقدية الصادقة التي استهدى بها علي حاكم قادته في لحظات معدودة إلى إدراك مخاطر تماهيه مع التكرلي. وكنت أتمنى لو أنه مارس لعبة جاك ديريدا التفكيكية فطوّر هذه اللحظات الهامشية في بحثه واعتمدها دليلا لإعادة النظر في فرضيته الأساسية التي انطلق منها. وكمثال على ما أقول هنالك قناعة الناقد بأن التكرلي لم يقدّم في أعماله أي مثال على علاقة صداقة حقيقية، وهو أمر ينسجم مع فكرة المجتمع اللا اجتماعي، لكنه سرعان ما ينتفض بما يشبه الصدمة وهو يتذكر كما أعتقد صداقته الأدبية المثمرة مع د. حسن ناظم التي دامت عقودا طويلة وصارت من الأساطير التي تفخر بها الثقافة العراقية لما نجم عنها من ترجمات مشتركة متميزة ومهمة. وهكذا نجده يعلق أن "هذا التجفيف الاجتماعي المقصود أمر غريب في مجتمعنا العراقي. كانت الصداقة والصحبة وما زالت هي الحاضنة الرئيسة التي يحتمي بها الفرد ويلوذ إليها في مواجهة الحياة والمجتمع والسلطة." (ص.129). كان لابد لعلي حاكم أن يتوقف عند هذه اللحظة الإشكالية في رؤيا التكرلي المتجهمة للمجتمع فيحاول أن يتحرر من مواقع الكاتب ليرى محدودية المنظور الذي تعتمده الروايات وتطرّفه في آن واحد. بدلا من ذلك يلوي علي حاكم عنق هذه الحقيقة التي شذت عن مسار فرضيته بلماحية فيرى أن التكرلي على حق في أن الفرد كان وحيدا، وكان في مواجهة السلطة لا في مواجهة الحياة التي تصوغها السلطة (ص. 130). وهو تخلص إشكالي بدوره لأنه يحول المعضلة الوجودية المعقدة إلى معضلة سياسية بسيطة. هنالك مثال آخر على هذه اللحظات الإشكالية هو ما لمسه علي حاكم في قصة "الآخرون" من "التعاضد والتشارك بين الناس" (ص. 81)، لكنه مرة أخرى يقدم تسويغا طريفا له فيرى أن الاستعمار لم يفتت المجتمع كما فعلت الديكتاتورية!
أين يقع اللا اجتماعي لدى التكرلي؟ أهو صفة للمجتمع بأسره أم صفة للمثقف الحداثوي المأزوم في رواياته؟ قناعتي التي لن يتسع لتفاصليها المجال هنا أن التكرلي قدم لنا مجموعة من المثقفين الذين اعتنقوا الوجودية (بنسختها الفرنسية الميلودرامية) أو جربوا العالم عبر منظورها، وأنه سعى بحماس طوال مراحل عمله إلى كتابة الرواية الوجودية التي تثير أسئلة الوجود (وهي أسئلة دائمة لا تخضع لظرفية المجتمع) إلا أنه بسبب صدقه وأصالته الفنية بقي متورطا في ظرفية وجوده التاريخي والاجتماعي وظل يصطدم دائما بحواجز تمنعه من تحقيق حلمه في كتابة الرواية الوجودية ذاك. وسأعود إلى هذه الفكرة عند مناقشة الروايات، لكني أود أن أتوقف قليلا عند مشكلة المثقف العراقي التي تثيرها قراءتي لعلي حاكم.
المثقف اللا اجتماعي
كتب علي حاكم دراسته هذه في ظروف عراقية صعبة كان المجتمع العراقي خلالها يتعرض لاحتراب طائفي هدد مقومات وجوده. وكما حدث في آداب الدول التي تخلصت من الديكتاتورية والاستبداد (ألمانيا واليابان مثلا) فإن ميلا متزايدا بدأ يتبلور لدى كثير من المثقفين العراقيين بعد عام 2003 إلى القول إن المآسي التي مر بها المجتمع العراقي في عهد الاستبداد لم تكن أمرا طارئا بل هي نتيجة طبيعية لحاضنته الاجتماعية. يقول علي حاكم: "فالسلطة كل سلطة على الإطلاق، نتاج المجتمع نفسه. إن أخلاق السلطة ليست طارئة ولا مستوردة؛ هي عطانة المجتمع نفسه." (112 ـ 113) وأرى أن قناعة الناقد هذه هي التي دفعته إلى وضع فرضيته الخاصة بلا اجتماعية المجتمع العراقي و إصراره عليها. لاشك أن في هذا الموقف النقدي من المجتمع ومواصفاته ميزة التنبيه إلى ضرورة الشروع في عملية مراجعة شاملة لما ترسّب من أخلاقيات دفنها الاستبداد كالألغام في تربة المجتمع، لكن هذا الموقف نفسه يصبح مثيرا للقلق عندما يعتمد اللذة الحسية المحض التي تخفي وراءها موقفا عدميا مدمرا بديلا عن مواضعات المجتمع وتراثه.
هنالك خيبة مريرة لدى المثقفين العلمانيين العراقيين إزاء تراجع دورهم في الحياة السياسية والاجتماعية للبلاد في ظل الدستور والانتخابات التي جاء بها التغيير في العراق، وهي خيبة دفعت بهم في اتجاهين مؤسفين: الأول هجاء كل أيديولوجيا أو منهج فكري متماسك، والثاني هو هجاء الجمهور دون تمييز والسقوط في فخ النخبوية. أما الهجوم على الأيديولوجيا فيستهدف كل الاتجاهات الدينية والقومية واليسارية، والبديل عادة دعوة غامضة إلى احترام الفرد ونوازعه الطبيعية التي تسبق التنظير والعقائد. وهو موقف يصب في نهاية المطاف في الإعلاء من شأن اللذة الحسية الصرفة المتحررة من كل قيد. تكمن خطورة هذا الموقف في أنه أحادي يخشى التعددية. فالأيديولوجيا تعد مصدر خطر ودمار إذا ما انفردت بالحياة السياسية والاجتماعية لأنها ستؤدي لا محالة إلى عودة الاستبداد. لكن غياب الأيديولوجيا الكلي والعيش على وفق مبدأ الفرد المعزول في متعه الحسية اللاهية يؤدي هو الآخر إلى استبداد من نوع جديد. فالديكتاتوريات تنفرد بالسلطة وتحتكرها لادعائها أنها تقدم للإنسان ما يحتاج من متع حسية، بينما الصيحة الأزلية تذكرهم أن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. الإنسان كائن اجتماعي مفكر وهاتان الصفتان (الاجتماعية والفكر) تقودان لا محالة إلى اختلاف الرؤى والمواقف. إنكار التعددية (الذي يتقنع بإنكارالأيديولوجيات) هو دعوة إلى الاستبداد. الديمقراطية الحقيقية هي التنظيم المنفتح لمختلف الرؤى والأيديولوجيات ضمن مؤسسات ديمقراطية معافاة، وما دام هناك مبدأ الاحتكام إلى الجمهور فإن التعدد يكون مصدر ثراء وضمانة تصحيح للأخطاء.
أما السقوط في فخ النزعة النخبوية فهو أمر بدأ يظهر صراحة في كتابات الكثير من المثقفين الناقمين على تدهور القيم العلمانية في المجتمع العراقي بعد صعود نجم التيارات الدينية في أعقاب التغيير. وبدلا من دراسة أسباب هذا التدهور في تطور الحياة السياسية العراقية خلال حقبة ما بعد الاستعمار، بدأ يتبلور ميل متزايد إلى هجاء المجتمع العراقي بوصفه الحاضنة لقيم بالية. الأرجح عندي أن السبب الأساس في تدهور القيم العلمانية في العراق (وربما المنطقة عموما) أن الأنظمة السياسية التي ظلت تسيطر على مقاليد السلطة منذ الاستقلال كانت علمانية ديكتاتورية، وهو ما ولّد اقترانا يصعب فكه بين الطرفين. والمفارقة الأصعب أن الديمقراطية التي ظلت محرمة طوال عقود خلال الحقبة الديكتاتورية العلمانية تبدو وهي تقترب من أفق الحياة العربية مرتابة في العلمانية و نواياها. هنالك لدى الجمهور حاسة سياسة تستجيب للوقائع، وبالرغم من غياب ضمان أن تقود هذه الحاسة إلى اختيارات صحيحة فإن الأنظمة الديمقراطية تضع ثقتها في هذه الحاسة وتحترم قراراتها. بدلا من البحث في ظروف تشكل الوعي السياسي العراقي المعاصر اتخذ المثقف العلماني المهمش موقفا منفعلا ضد المجتمع بأسره، بل أن الكثير من المثقفين العراقيين بدأوا يعلنون حنينا إلى الحقبة الديكتاتورية التي أتاحت للثقافة العلمانية متسعا بدأ يضيق في يومنا هذا.
تمظهر اللا اجتماعي
يخصص علي حاكم ثلاثة فصول لمتابعة الثيمات الدالة على لا اجتماعية المجتمع العراقي في روايات التكرلي. فيكرس الفصل الأول لاستقصاء موضوعة سفاح المحارم، والثاني للعائلة والمجتمع والسلطة، والثالث للطريقة التي مارس بها أبطال التكرلي فعل القراءة والتثقيف الذاتي وتأثيره عليهم. يحاول علي حاكم وهو يتابع موضوعة سفاح المحارم ويرصد تكرارها في أعمال التكرلي أن يمارس فعلا تأويليا وتصنيفيا لفهمها. وهو يرى أن مراودة الأب لابنته عن نفسها في "بصقة في وجه الحياة" وحب أبو حسين لابنة زوجته في قصة "الدملة" مظاهر تعري الإنسان الطبيعي الكامن خلف الوجود الأخلاقي للإنسان الاجتماعي فيقول "ليس ثمة وجود لهذا الكائن في عريه الطبيعي السابق على وجوده الأخلاقي، إلا إذا حدث ذلك الانفصام المفزع بين الطبيعي والأخلاقي. إنها تجارب وجودية، ولكنها بالغة الحدية، وكاشفة عن بواطن عميقة داخل النفس البشرية. والتكرلي يستخدم هذه التجارب كي يعري منطقة مظلمة داخل النفس الإنسانية، من خلال إخضاعها لهذه التجربة." (ص. 61). يبقى علي حاكم في هذا المقطع أمينا لمنطلقه القاضي بالفصل بين الاجتماعي والطبيعي واعتماد سعي التكرلي إلى استبطان التركيب الخفي لجوهر الإنسان الطبيعي. ولكن بدلا من أن يقوده هذا المنطلق إلى تحويل اهتمامه إلى محاولة التكرلي زرع رؤيته الوجودية في الواقع الاجتماعي العراقي (وما يترتب على هذه المحاولة من تنافرات واكتشافات) نراه يسحب شذوذ هذه الشخصيات إلى المجتمع برمته فيقول إن التكرلي "لا يثق بالإنسان الأخلاقي. يعرف أن الجميع ليسوا أسوياء." (ص. 67)، وهو بهذا يتراجع عن الفصل بين الطبيعي والأخلاقي الذي طرحه كمسلمة في بداية البحث فيقول "هذا التقابل بين الاجتماعي والطبيعي تقابل مصطنع، ففي الحقيقة هما متناسخان كلا واحدا. ولكنه كل واحد ليس من دون معنى دفين، قادهما [أي محي في "بصقة في وجه الحياة" وأبو حسين في "الدملة"] وعيهما غير السوي اجتماعيا إلى تجريب الخروج عليه فهلكا." (ص. 62).
لدينا هنا حالة تعميم الشذوذ ليصبح هو القاعدة. يطرح التكرلي ما تعرّف عليه في الحقل الجنائي بوصفه خروجا على المجتمع وكأنه القاعدة التي تكمن في المسارب التحتية للحياة الاجتماعية. وهو أمر يشبه ما فعله سيغموند فرويد عندما درس حالات العصاب وطرح ما تعلمه من خبرته في الطب النفسي من حالات شذوذ وعصاب بوصفها تمثل اللاوعي الذي يكمن تحت القشرة الاجتماعية لكل شخص سوي. لكن هذه المقارنة بين التكرلي القاضي وفرويد الطبيب النفسي تزداد تعقيدا إذا ما طرحنا سؤالا محوريا هنا: هل الشذوذ المعمم في حالتي التكرلي وفرويد ظاهرة اجتماعية أم طبيعية؟ هل طبيعة النظام الاجتماعي الذي يعيش فيه الأشخاص هو ما يدفعهم إلى تطوير هذه المناطق السرية المنحرفة في وعيهم (وبصلاحه يتحسن حالهم) أم أن هذه المناطق السرية أمر لا مناص منه مهما كانت طبيعة النظام الاجتماعي؟
لقد طور ويلهم رايش (1897 ـ 1957) على سبيل المثال نظريات فرويد ليضفي عليها مسحة اجتماعية توفق بين الماركسية والتحليل النفسي، وتجعل العصاب الذي يتحدث عنه فرويد مرتبطا بطبيعة النظام الاجتماعي. وهو ما يعني أن فرويد لم يكن معنيا بالسؤال الاجتماعي أو السياسي بل كان يتابع دراما مسرحها اللاوعي والعائلة. بالنسبة للتكرلي كانت فكرة الانحراف بوصفها مكوّنا سريا كامنا في عمق كل وعي سَوي وسيلة قدّم من خلالها إيمانه بوعي الوجود العابر للظرفية الاجتماعية والسياسية (وهو سؤال وجودي بالتأكيد) وما يترتب على هذا الوعي من ابتعاد عن المواضعات الاجتماعية المقبولة. والواقع أن أعمال دعاة الفلسفة الوجودية الفرنسية الذين انطلقوا من سؤال الوجود المحايد تاريخيا تُظهر أن طرح السؤال انتهى بهم إلى الانهماك بأسئلة ثقافة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكان الخلاف بين سارتر وكامو خلافا سياسيا في المقام الأول. ولدينا في روايتنا العربية مثال رواية "الشحاذ" لنجيب محفوظ التي بدأت بإثارة سؤال وجودي لكنها انتهت إلى إشكالية سياسية. وأعتقد أن هذه المفارقة تكمن في التضاد المستحكم بين فردية النزعة الوجودية واجتماعية جنس الرواية.
لقد اضطر التكرلي (شانه شأن سارتر وكامو ومحفوظ) بفعل حركية السياق التاريخي الذي عاش فيه إلى الاصطدام بنداء الاجتماعي والسياسي. وما أعنيه هنا أن التكرلي ظل طوال حياته يسعى إلى كتابة الرواية الوجودية المشغولة بسؤال يعلو على السياسي والاجتماعي، ولكنه ظل دائما يواجه نوعا من الإخفاق الذي تمخض عن نتائج إبداعية مميزة. وكمثال على هذه الفكرة أطرح مقتل مدحت في نهاية "الرجع البعيد"، فالرواية ظلت في قسمها الأعظم تتركز على موضوعة الاجتماعي السوي (الحياة اليومية ومشاغلها) من جهة والطبيعي المنحرف (علاقة سفاح المحارم بين عدنان وخالته) من جهة أخرى. وبالرغم من أن عدنان كانت له علاقة سياسية بالانقلابيين البعثيين فإن هذه المعلومة لم تشغل حيزا كبيرا في الرواية ولا نجد أية تفاصيل عنها. المعاناة التي مر بها مدحت بعد اكتشاف الأمر لم تكن ذات طابع سياسي بل هي لحظة روائية متوهجة جمع فيها التكرلي الاجتماعي والطبيعي في موقف درامي عميق الدلالات. في ضوء هذا الفهم للرواية أجد أن نهايتها (الانقلاب العسكري ومقتل مدحت على يد الانقلابيين) تبدو كالمفاجأة. ومما له دلالة أن القارئ لا يعلم أي الطرفين قتل مدحت؛ الانقلابيون أم المدافعون عن النظام؟ تدخل السياسة السرد كقوة غريبة عن الموضوعة الرئيسة للرواية، وهي تحسم موقفا لا يمت إلى السياسة بصلة ولا يمكن حسمه سياسيا البتة (وهو ما يذكّرنا بحقيقة أن كامو لم يحدد اسم العربي القتيل في رواية "الغريب" دون أن يمنع ذلك القراءات ما بعد الكولونيالية من استقصاء دلالات ذلك). بدلا من أن تكون السياسة مرآة تعكس الحالة العائلية الملتبسة وسببا لها (كما يرى علي حاكم) أرى أنها اقتحمت النطاق الخاص وعاثت فيه فسادا وأجلت السؤال الوجودي الذي كان التكرلي يحاول طرحه في بداية روايته.. وهو فهم لا يجد في العلاقة بين السياسة وسفاح المحارم سببية واضحة محددة بل ضدية إذ سفاح المحارم جزء من الإشكالات الوجودية التي تؤرق أبطال التكرلي بوصفها مظهرا من مظاهر صراع الرغبة والمواضعات، وهي في جوهرها تعلو على الظرفية التاريخية.
من هنا يمكن أن تعد رواية "خاتم الرمل" محاولة جديدة من التكرلي لمعاودة السؤال الوجودي بعيدا عن السياسة. فواقعة اختفاء العريس في ليلة عرسه التي تحدث في "الرجع البعيد" تتكرر في رواية "خاتم الرمل" وقد عاود التكرلي محاولته شحن حادثة الاختفاء بدلالة وجودية فالمحيطون بالبطل ومعهم القارئ يعجزون عن فهم السبب، وينتهي التكرلي هذه المرة إلى إدخال عنصر فرويدي لا يتكشف بسهولة لأن النص مكتوب من وجهة نظر شخصية مسكونة بالوهم. وتبقى مهمة إدراك مرض الأم النفسي وبراءة الأب وعصاب البطل موكولة للقارئ. وهكذا نرى أن جنس الرواية العابر للأفراد قاد التكرلي إلى مناطق تجاوزت سؤاله الوجودي.
يرد في مناقشة علي حاكم لرواية "الرجع البعيد" قوله إنها "رواية تاريخية، أكثر منها تناولا لجانب وجودي في كينونة الإنسان بما هو كذلك." (ص. 68 ـ 69) ويضيف عن عدنان "فجسده الذي اغتصب خالته تناظره الرشاشة التي ستغتصب الدولة." (ص. 71). وما يثير الشكوك في هذا الاستنتاج أن "الرجع البعيد" تتكون من عدة حبكات ليس بينها كلها حبكة سياسية واحدة. كما أن انتماء عدنان إلى الجماعة الإرهابية الانقلابية لم يتحول إلى حبكة سردية لها حضور مؤثر في الرواية. يمكن تقسيم الحبكات التي تتكون منها الرواية على محورين الأول هو الحياة اليومية الاجتماعية والثاني هو الخرق المنحرف الكامن في طبيعة الباطن الملغز للشخصية. فضلا عما سبق فإن تكرار موضوعة سفاح المحارم في سياقات اجتماعية وسياسية متنوعة يجعلها أقرب إلى المنظور الوجودي للتكرلي منها إلى الظرفية التاريخية والاجتماعية التي تََطوّر فنه في حاضنتها.
عندما ينتقل علي حاكم في الفصل الثاني إلى مناقشة موضوعة العائلة والسلطة لدى التكرلي يخلص بعد مناقشة "الوجه الآخر" ومحنة محمد جعفر الوجودية التي تمنعه من أي تواصل إنساني ايجابي، بل وتدفعه إلى القسوة والخسة، إلى عبارة عميقة الدلالة فيقول "إنها تؤشر التماثل البنيوي القدري بين الوجود الاجتماعي وقوى الوجود الغامضة." (ص. 94) هي عبارة محيرة فعلا، فهل العلاقة بين الاجتماعي والطبيعي علاقة سببية كما توحي الكثير من المقاطع التي أتينا على ذكرها في الكتاب، أم هي علاقة تماثل "بنيوي قدري"؟ أعتقد أن السبب في حيرة علي حاكم إزاء الإجابة عن هذا السؤال ناجمة عن أن التكرلي لم ينطلق من الاجتماعي ليقارب الطبيعي، بل انطلق من معضلة المثقف الوجودي المشغول بسؤال الكينونة (وهو سؤال يفعّل الوعي إلى حد يؤدي إلى إفساد الوجود التلقائي للإنسان) أكثر منه بسؤال العدالة الاجتماعية. ومن الطريف ملاحظة التباس الحدود بين النذالة الأخلاقية والموقف المتفلسف في شخصية محمد جعفر.
هل تتمثل أهمية الانجاز الروائي للتكرلي في رصده الاجتماعي والسياسي لتاريخ العراق الحديث وهل كتب روايات تاريخية نقدية اجتماعية وسياسية في المقام الأول؟ هذا ما يبدو علي حاكم ميالا إلى الاقتناع به، ولكن مقارنة أعمال التكرلي بأعمال الروائيين الذين سجلوا التاريخ مثل تولستوي وستاندال وبلزاك وديكنز ومحفوظ وغيرهم كثيرون يجعلنا نفتقد في أعماله حبكة تعتمد محنة سياسية دالة. تدخل السياسة النص لدى التكرلي من الهامش وتبقى تراوح حول أسوار الدراما العائلية التي تقع في النطاق الخاص، وأبرز ما تحقق السياسة من حضور في هذه الروايات هو أنها تكون النقيض الذي يهزأ بالطبيعي ويعطل السؤال الوجودي الدائم. هنالك عبارة يقتطفها علي حاكم من "المسرات والأوجاع" تفسر عنوان الرواية تفيد أن "هذه العلاقة الأزلية بين الأنثى والذكر تسبب من الأوجاع أضعاف ما تمنح من المسرات" (ص. 128). وهو أمر طريف بالفعل فالأوجاع ليست أوجاعا سياسية أو اجتماعية ظرفية بل هي الأوجاع الأزلية (ذات الطابع الوجودي) التي تنطوي عليها مسرات الاقتراب من الأنثى.
تحيلنا هذه الخلاصات إلى الفصل الثالث من الكتاب وفيه استقصاء طريف وثاقب لمظهر آخر من مظاهر تمظهر اللا اجتماعي في روايات التكرلي. فأبطال التكرلي مثقفون في الغالب (وهو أمر يؤكد أن الأزمة تخص المثقف لا المجتمع)، وهؤلاء يكثرون من القراءة، وهكذا يشرع علي حاكم في متابعة ما يقرؤون وما يكتبون من تعليقات على قراءاتهم. هنالك تركيز كبير على قراءات توفيق بطل رواية "المسرات والأوجاع" وهو تركيز مبرر ويستحق الإعجاب من الناقد لأن الثقافة محور أساس في أعمال التكرلي، كما أنها موضوعة بالغة الحساسية بالنسبة للفلسفة الوجودية لسبب يطرحه علي حاكم بوضوح: "الثقافة، التي هي الطور اللاحق للوجود الإنساني الطبيعي، القردي إن صح التعبير، ستكون خطرا حقيقيا لسبب بسيط أنها تزرع في الفرد إحساسه العميق بفرديته" (ص. 133) هذا التشخيص الدقيق لدور الثقافة في المنظور الوجودي لا يدفع الناقد إلى تحويل أنظاره إلى حقيقة أن أزمة المثقف قادمة من الثقافة لا المجتمع. توفيق مثقف وجودي مشغول بسؤال الكينونة (وهو أمر ملتبس في ظروف بلد كالعراق)، وهو لا يرى في العالم إلا أسئلته الوجودية هذه. يرى في يومياته (معروف ولع الوجوديين بكتابة اليوميات) أنها "إشارات بريئة على الورق ... فاللغة لا علاقة لها مباشرة مع أشياء العالم ولا بأعمال الإنسان." (ص. 138) وهو قول يحدد صراحة عزلة توفيق الوجودية عن عالم السياسة والمشاكل الاجتماعية. فاللغة بالنسبة له تنزع من انشغالاتها المتصلة بأعمال الإنسان وتستبقي براءتها الأولى (كان هيدجر يعتقد أنها لا تفعل ذلك إلا في الشعر العظيم).
إزاء هذا الرأي الأنانوي في اللغة الذي تطلقه شخصية سردية روائية، وهو بالتالي يعدّ دليلا يستهدي به الناقد لمعرفة حقيقتها، يواجه الناقد لحظة أخرى مربكة لفرضيته القائلة إن توفيق وغيره من شخصيات التكرلي نماذج دالة على حالة المجتمع المحيط بها ولا اجتماعيته. بدلا من ممارسة التأويل وتحليل شخصية توفيق بوصفه مثالا للمثقف العراقي المغترب عن محيطه نجد أن علي حاكم ينطلق إلى تصحيح هذه الفكرة (وهو على حق) فيذكّر توفيق ويذكرنا أن اللغة "محكومة بأعراف اجتماعية ضمن الممارسات الاجتماعية نفسها." (ص. 138) وهو تذكير يؤشر إصرار الناقد على فرض فرضيته على النص.
هنالك مفارقة أخرى في مجال قراءات توفيق تعامل معها علي حاكم بالطريقة نفسها فبدلا من تأويل قصور قراءة توفيق وضيق افقها الدال على محنة المثقف المعزول نراه يغطي عليها ويقبلها. بالرغم من أن توفيق يختار روايات بانورامية كبيرة إلا أنه يتعامل معها بطريقة محكومة بحاجاته الفردية ويهمل إهمالا تاما ما تحتويه هذه الروايات من رؤى اجتماعية أو سياسية. رواية مثل "الحرب والسلام" لتولستوي لا تثيره إلا بما تقدم من نموذج زواج سعيد يساعده على نسيان آلام زواجه، ولا تدفعه رواية باسترناك "دكتور زيفاكو" إلى أكثر من الحسرة على خسران عشيقته آديل، أما ثلاثية نجيب محفوظ، وهي سفر اجتماعي وسياسي شامل، فيقول عنها توفيق "لا يمكن أخذها كرواية مأخذا جديا، فيها ثرثرة تليق بالعجائز." (ص. 143). تبدو آراء توفيق فيما يقرأ بسيطة إن لم نقل ساذجة، وهي متمركزة في بؤس وجوده الفردي الخاص الذي لا يهمه مما يحدث حوله إلا ما يؤثر في مسعاه الدائم إلى المتعة الحسية البحتة. أما إعجاب توفيق برواية "سانين" فسببه أن موضوعتها بعيدة عن الهم الاجتماعي والسياسي ومركزها سفاح المحارم الذي يمثل كما أسلفنا القول ثيمة تتصل بالطبيعي أكثر منها بالاجتماعي. يرى علي حاكم أن هذه القراءات "تعبر عن موقف مترو من العمل الأدبي، ودوره في الحياة." (ص. 138)، بل ويتمادى إلى دمج التكرلي في شخصية توفيق فيقول إن "هذا التصور هو تصور فؤاد التكرلي الكاتب والإنسان نفسه." (ص. 146).
الفرضية واستجابة النص
هنالك علاقة جدلية صعبة بين فرضية الناقد واستجابة النص لها. تزداد الفرضية قوة كلما استجابت تفاصيل النصوص لمسلماتها. وقد لاحظنا أن نصوص التكرلي مارست مقاومة واضحة لفرضية المجتمع اللا اجتماعي، ومن الطريف أن تكون آخر أمثلة المقاومة حقيقة ترد في مناقشة على حاكم لرواية "اللا سؤال واللا جواب". كتب التكرلي هذه الرواية عن محنة الحصار التسعيني الذي بدأ يمزق بالفعل لحمة المجتمع العراقي ويهز القيم الاجتماعية والأخلاقية ويزيد من بطش السلطة واستهتارها، لذا يكون من الطريف أن تقدم هذه الرواية أول مثال في أعمال التكرلي على صداقة سليمة بين الجارين عبد الستار وحيدر. بينما تتابع الرواية كدأب ما سبقها من أعمال الدراما العائلية وإشكالاتها فإنها بخلق هذه الصداقة لا تفعل إلا تعليق السؤال الطائفي الذي سينفجر على نحو يصدم الجميع. وهو سؤال يتصل بالخراب الذي أعملته الديكتاتورية في كيان المجتمع العراقي الذي ظل يقاوم تأثيراتها التدميرية طوال عقود.
هل الشخصيات الوجودية التي قدمها فؤاد التكرلي تعبير عن لا اجتماعية المجتمع بأسره (كما يراها علي حاكم) أم هي تعبير عن أزمة المثقف الوجودي المغترب عن مجتمعه وقضاياه؟ أعتقد أن التكرلي انطلق من وعي وجودي متمحور على الذات الفردية، لكنه لأصالته وسعة رؤياه أضاء مساحات واسعة من الواقع العراقي.
كاتب ومترجم عراقي مقيم في كندا
هوامش:
(1) . علي حاكم صالح، المجتمع اللا اجتماعي: دراسة في أدب فؤاد التكرلي، دار التنوير، بيروت، 2011. كافة الإشارات في البحث ستحيل إلى هذه الطبعة.
(2) جورج غادامير، طرق هيدغر، ت: د. حسن ناظم وعلي حاكم، (دار الكتاب الجديد، بيروت، 2007)، ص 273
(3) جورج غادامير، الحقيقة والمنهج، ت: د. حسن ناظم وعلي حاكم، (دار الكتاب الجديد، بيروت، 2007)، ص 364
(4) . د. حسن ناظم (تحرير وتقديم)، الشعرية المفقودة: دراسات وشهادات عن الشاعر محمود البريكان ( منشورات الجمل، بيروت، 2009)، ص ص 77ـ 82.
(5) بول آرمسترونغ، "القراءات المتصارعة: التنوع والمصداقية في التأويل"، ت: فلاح رحيم (دار الكتاب الجديد، بيروت، 2009) ، ص. 238.
(6). المصدر السابق، ص. 50.