يقدم الباحث المصري الذي يعمل في إحدى الجامعات التركية هنا دراسة ضافية لرواية إبراهيم أصلان «مالك الحزين» تقرا الرواية وكل ما كتب عنها ببراعة لتكشف عما ينطوي عليها نصها السردي المرهف في بنيته الأدبية على الانتقال من الأيديولوجيا المحايثة للمكان إلى الأيديولوجيا المضادة للسلطة.

«مالك الحزين» لإبراهيم أصلان

من الأيديولوجيا المحايثة للمكان إلى الأيديولوجيا المضَّادة للسُّلْطَة

ممدوح فراج النابي

يَقِفُ إبراهيم أصلان بنتاجه الإبداعي في منطقة ٍ، تتسِّمُ بالتفرُّد، بين مجايليه من أبناء الستينيات، ولا يَعْدُو التميُّز والفَرَادة في إنتاجِ شَكْلٍ مُغَايرٍ، يَتواءمُ مع بنية الواقع المُنْتَج فيها النص بكلِّ إشكالياته، أو حتى التموقع خلف بنية تلوذ بالتراث في محاولة منها، لمجابهة فداحة الواقع، وابتذاله في بعض الأحيان وفقط، وإنما تمثَّلت الفَرَادَةُ في وَضْعِ إنجازات الرواية الغربية في سياق غير سياقها الذي نشأت فيه كما ذكر محمد بدوي(1)، وكذا التمرُّد على القوالب والأنماط الشَّكْلية المألوفة، واستحداث أَنْماطٍ ربما غريبة وغير مألوفة على قوالب التصنيف التي تتوَّلد عن النظرية الأدبية كما حدث في«وردية ليل» «حلقة القصص القصيرة» و«حجرتان وصالة» «متتالية منزلية» و«وخلوة الغلبان» و«شيء من هذا القبيل» «مقالة قصصية» ­ إن جاز الوصف ­ ومع كل هذه الخروقات لنظرية النوع، وعدم الامتثال للحدود النوعية، فإنها جميعًا بخروقاتها تنتصر للمعيشي واليومي، مولعة بالهامش والمهمَّش، تعتني بالعابر وفي ذات الوقت البسيط والمُهْمَلِ. وكل هذا يصبُّ من أَجْلِ هَدَفٍ وَحِيدٍ هو جعل الهامش مَرْكَزًا والعَابِر متنًا. وفي سبيل هذا تمَّ تسخير الاستراتيجيات الفنية لتأسيس نصٍّ ينتصر للإنسان من مغبة ما يلحقه من مَسْغَبَةٍ واِمْتَهانٍ، وفوق هذا يُنَاهِضُ مراوغَات السُّلْطَةِ في سياسات الانفتاح التي اِسْتَشْرَتْ، وفي التفريط في الأرض، بزعم السَّلام، والاستقرار والحفاظ على دماء الأبناء.

يتصدَّر الإنسان إبداع أصلان قاطبة، بكل تلك الإحباطات والفشل اللتين مُنِيَا بهما، في جدلية يريد أن يظهر بها أثر تلك التحولات الخارجية التي تصطخب بها الحياة الاجتماعية والسياسية على هذا الإنسان الفقير/ المهَّمش، الذي أول شخص يَقَعُ عليه التأثير من جرَّاء ما يحدث. العجيب في عالم أصلان أن إنسانه مُلْتَصِقٌ بالمكان إلى أبعد حدٍّ، ولا يتخيَّل أن يغادره، إلا بمفارقة الرَوْح للجسد، حتى أن فضاءه الروائي ثابت يكاد أن ينحصر في حيز جغرافي معين لايغادره الفضاء النصي، هو مدينة إمبابة، أوما يوازيها من حي الكيت كات أو شارع قطر الندى أو فضل الله عثمان، العجيب أنَّ هذا الفضاء آخذ ­ عنده ­ في الانحسار رويدًا رويدًا في مفارقة تبعث للتأمل، ويضيق ليصل إلى شارع «فضل الله عثمان» كما في المجموعة الموسومة بنفس الاسم مسبوقة بحكايات، أو يصل إلى حيز بالغ الضيق لا يتجاوز «حجرتان وصالة » كما في مجموعته الأخيرة الموسومة بنفس العنوان، ليضيق عالم شخوصه إلى مساحة لا تتجاوز صالة ضيقة في غُرْفةٍ أو ربما مجرد كنبة أو مطبخ أو سرير.

وإذا كان الفضاء يضيق بأصحابه فإن أحلام الأشخاص ­ في الجانب الآخر ­ تكاد أن تنزوي، بعدما مُنِيَتْ بمجموعةٍ من الإحباطات والفشل في حياتها، وقد تصل إلى مجرد أحلام عابثة ـــ من وجهة نظرنا ـــ كأن يستأجر الزوج للزوجة لمبة يضعها في قبرها عند الممات لخشيتها من الظلام في الواقع (كما هي أحلام نرجس في «عصافير النيل»)، أو التفكير في مكان آمن تتحقق فيه نزواتها (كما في حالتي يوسف وفاطمة في «مالك الحزين»)، أو الأمل في أن تمتد فترة العمل بعد تجاوز السِّن القانوني (كما في حالة البهي)، أو حتى مجرد اصطياد سمكة (كما في حالة عبد الرحيم في «عصافير النيل»)، وربما يكون الحُلْمُ نَبِيلاً ­ في زمن وغد ­ (كما في حالة يوسف النَّجار في «مالك الحزين»)، حيث رغبته التائقة لكتابة رواية لكنه يفشل، بل الأدهى يفشل في مشاركة أصدقائه المظاهرات، إلى أن تتضاءل الأُمْنِيَّةُ، لتكون توسُّلاً للأبناء للنوم في البيت بعد زواجهما كما هي أمنية إحسان في «حجرتان وصالة»

مع أصلان نحن إزاء عَالَمٍ مُقَطَّر بالدلالة اللغوية التي تستخدمها المعاجم لهذه الكلمة، حيث المفردات في مجملها مليئة بالتكثيف الشديد والاكتناز الدلالي، عارية من أي زخرف بلاغي، وكأنها على حدِّ تعبير جابر عصفور« مغسولة من التشبيهات والاستعارات والكنايات» (2) كما إن الحوار رغم قصر عباراته، وإيجازه الشديد، لحد الافتقار اللغوي الشديد، يُنْبِئ عن استلهام لطرائق الحوار في مثل هذه البيئات ­ بيئة المدينة ­ التي اُنْتِجَ فيها الحوار. وقد تلجأ الشخصيات ­ في كثير من الأحيان ­ لحوار النفس مع النفس في إشارة بالغة لمدى ما تُعَانِيه هذه الشخصيات من تمزُّقٍ وشُرُوخٍ وتَشَوُّهٍ على مستوى الداخل.

-1-

تأتي رواية « مالك الحزين »، بعد مجموعة قصصية أُولَى قَدَّمَها أصلان في عام 1971، بعنوان « بحيرة المساء »(3) احتفى بها النقاد، بل إن مجلة غاليري 68(4)، خصصت عددها لمناقشة ما كتبه من قصص قصيرة، وبعد فترة سَمِّها شُحًّا أو تأمُّلاً جاءت رواية «مالك الحزين»، عام 1982، وإن كانت في الأصل استثمارًا لقصِّة قصيرة كتبها المؤلف، كما أكدَّ بنفسه في أكثر من حديث، كنوعٍ من التواضع(5) وهو ما يشي بولاءٍ شديدٍ من جانب المؤلف لفنِّ القصِّة القصيرة، التي خرج من عباءتها. ولم يكن الولاءُ في هذا وحسب، وإنما في استعارة عناصر القصِّة القصيرة، في جُلِّ كتاباته قاطبة، من تكثيف للدوال، واقتصادٍ في اللفظ، وشعرية تتجاوزُ الجُمَل إلى بناء النص، وفوق هذا إحكام في البناء، وصرامة في التشكيل على حد تعبير محمد بدوي. وقد دشنت هذه الرواية، لمرحلة جديدة في كتابة الفن الروائي، لا يبدأ بالمخالفة والمعارضة لكتابات جيل المؤسسين الكبار، أو ينتهي حتى عند استثمار الإنجاز الغربي، دون الانحياز التام له، وإنما أسِّست لمرحلة جديدة في النظر إلى الهامش والعابر، عبر الرصد بعين الكاميرا الذي وُلِعَ وفتن به أصلان ذاته، فنصبح أمام مشاهد منفصلة، بمثابة لقطاتٍ أو كادرات بلغة السينما، إلا أن رابطًا واحدًا يجمعها، يتمثُّل في تلك العين التي ترصد، ثم الرسالة اللغوية التي ينقلها الدال عن المدلول.

المكان، وهوية المكان، هو العُنْوان المُلَخِّصُ لبنية الرواية، حتى لو أسقط المؤلف العنوان الأصلى للرواية «إمبابة مدينة مقفولة»(6) لحساب هذا العنوان المجازي «مالك الحزين»، فالصفة الأصل في هذا الطائر هو بقاؤه على الغدران، إذن هو الآخر يلوذ بالمكان، ولا يفارقه كما هو الحال في شخصيات الرواية. فثمة مكان حاضر بأناسه، وبأبعاده الجغرافية والتاريخية، والاجتماعية، والنفسية، بيد أنه حاضر ­ قبلها ­ لا بوصفه مكانًا مَحْضًا مُجَرَّدًا خاليًا من الدلالة كما هو عند «جرييه» لا يحتاج من الكاتب إلى أن يزيِّنه بوصفٍ مُنَافٍ لطبيعته، بل على العكس مما يدعو إليه «جرييه» أو «الرواية الجديدة» في فرنسا كما يروِّج لها منظروها، فالمكان هنا حاضر بدلالته المكتنزة، والمتسِّعة، حيث يتجاوز حيزه الضيق «الكيت كات» ليشملَ الوطن، بأناسه الملتصقين به، غير المنفصلين عنه. ومع هذا فبطولة المكان غير متحقِّقة إلا بهم، وصراعهم الدائم، اليوميّ/ المعيشي في هذه الحياة المُصْطَخِبَةِ، وَوَقْعِهَا الفَادِحِ عليهم. يقاومونها بِضَرَاوةٍ في تَحَدٍّ فَذٍّ دون أن يَأْبَهُوا بعجز أو حتى عاهة استأثرتهم بها الطبيعية ­ دون غيرهم ­ تعوقهم عن مواصلة دورهم في ديمومة الحياة. لكن عندما يتقوَّض الوطن وتتحوَّل البلد « إلى مجتمع خدمات بناسها وطوبها وشجرها للقادرين والطامعين من كل مكان »(7)؛ عندئذ يصاب الجميع بالعجز، وهو عجز بسبب تلك التحولات التي أصابت الوطن الأم، و« تفاقم الجروح، التي طالته، ومزَّقت ثيابه وأغرقتها»(8).

ومن ثمَّ فأُنَاسُ هذا المكان، والمتحقِّق وجوده بهم، لا يختلفون عنه في شيء، أُنَاسٌ عاديون، يمارِسُون مِهَنًّا غَاية في البَسَاطَةِ، يحضرون إلى النَّصِّ، دون محاولة من الكاتب أن يُضْفِي سيمترية جمالية على سلوكهم، أو لغتهم (تتردد داخل النص الألفاظ العامية المستخدمة في مثل هذه الأماكن الشَّعْبِيَّة وهو ما سيأتي في موضعه)، أو حتى ألقابهم (رمضان الفطاطري الهايف، وسيد طلب المَسْخَرَة، والهَرَم بائع الكيف والحشيش)، أو يسعى إلى مُدَارَاة قُبْحِ جمالهم وعاهتهم بعباراتٍ مُنَمَّقَةٍ، أو أَوْصَافٍ تَبْتَعِدُ عن المُبْتَذَّلِ واليوميِّ، بل على العكس من هذا كله، فالأشخاص حاضرون من الواقع بآدميتهم وأوصافهم، دون أن يَعْبَأَ أصلان ­ عند نَسْجِهم ­ بنظريات مُقَوْلَبَةٍ، كما هو الحال عند «رولان بارث» وحديثه عن «الشخصية الورقية». أو تقترب حتى من الشَّخْصيات النَّمَطِيَّةِ كما في تقسيمات «فيليب هامون». فهذا الشيخ حسني، صائد العميان « كما وصفته أيديولوجيا السَّارد في العنوان الفرعي » حاضرٌ بعاهته التي، لم تحوِّله إلى قارئ للقرآن في قرافة « سيدي حسن أبو طرطور» أو حتى تعوقه عن مواصلة الحياة، بل راح يُوْهِمُ الجميع بأنه يرى، ويركب العجلة كأي مُبْصِرٍ، حتى يسقطَ في الماء، ومع سقوطه، إلا أنه يُكَرِّرُ المحاولة مع ماكينة سُليمان الصغير دون الحذر من العاقبة. وها هو ­ أيضًا ­ العمَّ مجاهد بائع الفول، الذي يموت في دكانه، دون أن يشعر به أَحَدٌ، كأيِّ واحدٍ من المنسيين والمقهورين، الذين تَعَلَّقُوا بذيل الحياة وأهدابها، فما رَمَقْتُهم بلَحْظٍ، وعندما أراد أهل الحارة إقامة ليلة عزاء له، ومع أن الماكينة مُتبِّرعُ بها خليل إلا أن فاروقًا جمع المال في انتهازية شديدة، وكأنَّ الرَّجُلَ في حياته استغلَّته الحياة بانتهازيتها فأبقته على الهامش، وعند مماته أراد الآخرون بانتهازيتهم استغلاله، وفي كلتا الحالتين لا يقاوم في الأولى بالاستسلام، وفي الثانية بالموت. وكأنَّنَا إزاء نَوْعٍ من الشخصيات لا تَضَعُ حياتها مَوْضِعَ السُّؤَال شأنها شأن الأبطال التراجيدين، أو حتى تأبه بالقدر والمصير(9)، بل هي شخصيات تَقْتَنِصُ لحظة حياتها، ووجودها دون أن تَعْبَأَ بالنهاية أو حتى العواقب. فها هي «فاطمة» تلك الفتاة السَّمراء النحيلة، والتي تتشابه مع آلاف مثيلاتها من القُرَى والنجوع، قهرهن الفَقْر. زُوِجَتْ بسائح عربي، أخذ ثمرتها، وتركها دون أن يروي ظمأ جسدها الفوَّار، فسعت لتحقيق مطالب الجسد، لكن نسق القيم الذي يحلُّ بالمكان يقف لها بالمرصاد، فتنصاع لنسق القيم، وتخمد شهوة الجسد، وإن كانت أرادت أن تتجاوزه، بالخروج عن المكان. وبالمثل قاسم الذي يجلس طول النهار والليل في انتظار نظارة لكي يُصْلِحَها، دون أن يجود بها القدر، فيبقى على حاله، وكأننا إزاء ضَرْبٍ من الكَدْحِ والصَّبْرِ في مجابهة هذه الحياة بقسوتها. وكذا قدري الإنجليزي النَّافِر من الحياة والهارب منها إلى نَمَطٍ غَرْبِيٍّ، يَرْتَكِنُ إليه منذ أن عَمِلَ مع الإنجليز في شركة ماركوني، فَشَرِبَ من طباعهم وأخلاقهم يقهره الواقع المتعالي عليه، بحكم هذا النَّسَق الغربي الذي اخترقه، في زوجته « أم عبده » التي ساوره الشَّك نحوها بوجود ثمة علاقة شائنة بينها وبين زغلول بائع السمين لمجرد أن نَفْسَها تاقت إليه أو حتى القهر المادي الذي يمارسه بعض ضحايا هذا المجتمع على غيرهم، كأن يسرق اللصُّ رأس العجل التي أشتراها الأسطى قدري في الأتوبيس، ويترك له الأذن كنوع من العقاب الأبدي الذي يلازمه. وكأن الواقع لا يكتفي بقهره بل يَسْخَرُ منه، ويُخْرِجُ له لِسَانُه. وفوق هذا هم ­ أيضًا ­ حاضرون بنسيجهم اللُّغوي فتتردد عبارات كـ «والنبي تتنيل على عينك وعين اللي خلفك»(10)، هي من الواقع أو« علىَّ النِّعْمَةِ أَنْتِ مَرَة فَقْر» (11)

-2-

       الشَّخْصِيَّات وهوية المكان:

تُصَنَّفُ الرواية وفق هذا التشكيل إلى رواية مكان بامتياز، فالبطولة للمكان دون سواه ومادام المكان غير متحقِّق إلا بالشخصيات، فمن الحرِّى بنا دراسة الشخصيات، لمعرفة كيف أثَّر المكان في تكوين الشخصيات، وفي المقابل كيف انصاع سلوك الشخصيات لنسق قيم المكان؟!. ليس ثمة شك في أن الشخصيات ­ هنا ­ جزءٌ حيٌّ من شخصيه المكان «المدينة»، ومعبِّرة عن هويته التي هي نِتَاجُ المدينة الحديثة، دون إغماض الطرف عن أصلها، حيث إن معظم الشخصيات ذات «جذور ريفية» في إشارة بالغة الخطورة تتفق في دلالتها، مع تكوين المدينة الحديثة التي قامة فيما قامت عليه، على أصول ريفية عند نشأتها.

وبما أن المدينة تتميَّزُ بالثَّراء والتنوُّع، فإن هذا الثَّراء قد انعكس على شخصيات أصلان التي تجاوزت التسعين شخصية. وفي سبيل الولاء لتحقيق أيديولوجيا محايثة للمكان، نابعة من الانصياع لسُلِّم القيم، فإنه ­ في المقابل ­ لم يعتنِ المؤلف بتقديم الوصف الجسمي أو النفسي لهذه الشخصيات(12). حيث هنا الشخصيات أكثر وضوحًا كما يقول صبرى حافظ، بل يزداد الأمر تعقيدًا في إبراز مجرد أسماء لشخصيات لا ترد داخل المتن سوى مرة أو مرتين دون إسهام في فاعلية النَّص، مما يعكس ثراء العالم وخوائه في آنٍ، ومن هنا نرى أنَّ المدينة أثرت تأثيرًا كليًّا في صياغة الشخصيات، ومن مظاهر هذا، إن المدينة «منحت الإنسان الأنا بدلا من النحن»(13)، فعلتِ الأنا الفردية داخل الراوية لمعظم الشخصيات؛ فيوسف لا يتوَّحد إلا مع ذاته، وفاطمة تسعى لكي تحققَ رغبات الجسد المكبوت داخلها من غياب زوجها عنها، والمعلم قاسم النظاراتي، يُحقِّقُ المتعةَ لذاته بقراءة الأهرام، وإعلان الخبر المشئوم، خبر السائح الإيطالي « دافيد موسى » وقضيته التي رفعها « لاسترداد أملاكه في منطقة الكيت كات ». دون محاولة منه لمشاركة أهل المنطقة الهَمّ والحُزْن من هذا الخَبَرِ، بل يتمادى ويكرِّر الخبر وكأنه مُزْحَةٌ. وبالمثل فاروق يطلب مالاً لإقامة ليلة عزاء للعم مجاهد، على الرغم من تَبَرُّع خليل، ودسوقي بالماكنية دون مال.

ومن ثمَّ يتبنَّى أصلان استراتيجية تتفق ـ في كثير من جوانبها ـ مع بيئة المدينة في بناء شخصياته، فمثلما قدَّم لنا نموذجًا حيًّا للمكان، دعمَّ هذا النموذج بتقديم أشخاصٍ بنفس ملامحهم، وقسماتهم، شديدة الولاء للمكان في كل شيء، ملتصقة بالمكان، لا بالأشخاص، حيث كما هو معروف في شخصيات المدينة أنها « تعبِّر عن فقدان الروابط في مجتمع المدن الحديثة بوصفه حشدًا من أُنَاسٍ لا يعرف بعضهم بعضًا»(14). فسليمان الصغير عندما يفقد زوجته لا يشاركه أحد الأزمة، حتى هو « يحاول أن يهرب بالذهاب إلي السينما»(15)، ومرة أخرى يهرب بالجلوس مع فاروق وشوقي لاحتساء الخمر والاتفاق على جسد فاطمة. كما أن

«أم روايح» عندما يذهب إليها لا تشعر بالقلق، وإن اكتفت بطلبها أن يخبرها عندما تأتي روايح حتى تطمئن.

وعلى الرغم من هذه الأنا التي تتحرك بها معظم الشخصيات في الرواية، إلا أنه جاءت بعض الشخصيات «لتعكس بترابطها بقاء شيء من علاقات التعرُّف والأواصر الممتدة إلي زمنٍ العشيرة/ الحارة/ القبيلة.» وهذا ما نراه من خلال علاقات الشخصيات بالعمِّ مجاهد وكيفية تعاملهم مع موته، فالجميعُ يسعى لإقامة ليلة عزاء له، ويسعى الآخرون للتبرُّع لهذه الليلة، باستثناء شخصية يوسف النَّجار صديقه، مع أنه يقيم معه علاقة من نوع خاص وهذا التناقض في موقف يوسف يعكس دلالة سطوة المدينة على شخصياتها. أما بقية الشخصيات ­ كما ذكرنا ­ فتنتمي إلي زَمَنٍ مُغَاير عن زمن المدينة الذي لم يَعُدْ «دوريًا بل صار تطورًا»(16).

وبما أن بيئة المدينة تتميَّزُ دون غيرها بوجود نوعٍ من حَشْدِ الشخصيات لا يوجد في أي تجمُّع عمراني، فقد ترتَّب على هذا الحشد نوع من نفي الشخصية أو ذوبانها في هذا الحشد، وهذا ما تجلَّى واضحا في غياب شخصية عبد الله القهوجي تحت عباءة الشيخ حسني، وغياب يوسف النجار عن إمبابة والمكان بأجمع، وغيابه أيضا وسط المظاهرات ثم هروبه الدائم إما إلي النهر أو شُرْبِه الخمر. هذا الغيابُ يؤثِّرُ على شخصية يوسف، ويحوِّله إلي شخصية مغتربة عن ذاته وعن مكانه، فهو يُسلِّم على الأمير عوض، وكأنه لم يقابله منذ زمن، وبعد فشله في التوحد مع ذات الفتاة السمراء عن الطريق التلويح لها بيده، يغيب بالخمر حيث يذهب إلى «بار ريجال» ليحتسي «الروم»، وعندما رأى آثار المظاهرات في الشوارع «خبَّأ نفسه تحت أشجار الخروع الرطبة/ المتدليَّة بأوراقها العريضة الداكنة، أخذ يشرب خمرة الروم الكثيفة.»(17). وقد سعى لإخراج ذاته في الرواية التي يكتبها، لكنه فشل عندما أراد أن يكتب عن ذاته حيث ارتعش، وارتبك في توزيع المنشورات، ولم يكتب عن الناس المتظاهرين وإنما كـتب عن «هؤلاء الذين يتمايلون وراءهم ويشبُّون على أطراف الأقدام، لكي يَرَوْا المظاهرات الكثيرة وعساكر الأمن المركزي.»(18). هو نفس الغياب الذي يسعى إليه الأسطى قدري الإنجليزي، فهو يستعلي على الناس وعندما لا تتوَّحد ذاته معهم يقيمُ علاقةَ من نوعٍ آخر «مع الكلاب» يمنحهم عطفه وحبُّه، ثم انغماسه في المجلد الكبير الذي يحوي أعمال شكسبير لينفي ذاته، وعندما تتفاقم أزمته بسبب زغلول بائع السمين. بناءً على وَهْمٍ، حيث طلبت زوجته لحم الرأس منه. وما أن فشل في إحضار الرأس من المدبح. فيوازي بين نفسه وبين إياجو. وقد نتج عن هذا تماهي الشَّخصية وذوبانها.

تبقى للمدينة على مرِّ العصور، فرادتها فيما تمنحه لقاطنيها من سمات التحرُّر وهو ما يدفعهم إلى الشُّعور بالاستقلالية ومن ثمَّ عدم تبعيتهم، لتلك المجتمعات التي تحتفي بقيم الجماعة، وتكَرِّسُ للنسَّق القيَّمي، في مجابهة من يَخْرَق عاداتها وتقاليدها. ومن ثم اقترن التحرُّر بالمدينة، ومَارس أشخاصها نمطًا من التحرُّر في سلوكياتهم، لكن بما إن هذه الشخصيات ـ في معظمها ـ تنتمي لنمط عشائري قبلي، لم تتجاوز إلا فيما ندر، ما سمحت به طبيعة المدينة، من تحرًّر واختراق نسقها المهيمن. ففاطمة ـ على سبيل المثال ـ هي التي تدعو يوسف إلي السينما وعند جلوسها إلي جواره تستثير رغباته بأقدامها العارية، ولفت انتباهه إليها، وتصريحها بأنها ذهبت إلي الدكتور، الذي أخبرها بأن مرضها بسبب غياب زوجها، ثم نومها مع يوسف في الحجرة الأرضية. وعندما يفشل معها يُقْنِعُها بأن السبَّبَ هو الحجرة. وعند تغيير الحجرة ­ بذهابهم إلى شقة مجيد في وسط البلد ­ ترفض أن تتعرَّى خارج إمبابة. وهو نفس التحرُّر الذي تندُّد به الفتاة السَّمراء ضد «ميمي شكيب»، وكذلك ما تفعله فتحية زوجة الأسطى عبده السَّائق، حيث تتفِقُ مع الهرم بألا ينزلَ بعد أن يشرب المزاج مع زوجها، ويظل في الحمَّام، ولكن زوجها يكتشفُ المؤامرة، ويعلن بدون خجل بأنه «يعرف كل شىء»(19)، ثمَّ ما قامت به فتحية من ضرب الأسطى وإخراجه من البيت، وإلقاء هدومه من النافذة وصُرَاخِها بأنه «يأتي بالناس لكي يحشِّشوا في البيت وفي نفس الوقت تتفاوض مع الهرم وبدأ يذهب إليها في السِّرِّ»(20)، وهذه الأفعال دال قوي على نَمطٍ مبتذل من السلوكيات جرَّاء قيم السُّوق التي استشرت في مثل هذه البيئات الرأسمالية (لاحظ زواج فاطمة من ثرى عربي، استغل جسدها مقابل حفنة من الأموال، ثم تركها، تنهشها الرغبة والحاجة للارتواء) دون أن تجد لها نَسَقًا مضادًا من القيم يحمي أو ­ على الأقل يحفظ ­ البعض من عدوى الاستهلاك والابتذال، وربما الإفراط كما في حالة نموذج فتحية وزوجها والهرم.

-3-

أيديولوجيا المكان المحايثة:

تبدو العلاقة بين الشخصيات وبعضها البعض، مرهونة بالمكان، فالشخصيات كما ذكرنا من قبل غير محدَّدة بوصف فيزيولوجي يُحدِّد ملامحها الخارجية، وإنما الشخصيات تتحدُّد ملامحها بعلاقتها ببعضها البعض، ومن بعد بعلاقتها بالمكان. ومن ثمَّ أَسْهَمَ البُعْدُ النفسيُّ للمكان/ المدينة في إظهار علاقة الشخصيات بالمكان، سواء كانت علاقة انتماء مثل علاقة عبد الله القهوجي، وفاطمة، أو علاقة اغتراب مثل يوسف النّجار، أو حتى علاقة تعالٍ على المكان كما في حالة «الأسطى قدري الإنجليزي». فيوسف يشعر بالإحباط داخل المكان المنغلق، فنراه «منزويًا منفردًا»(21). فهو لا يجدُّ ذاته داخل إمبابه، ولا خارجها، كما أن هذا الاغتراب يُصيبه بالفشل، ففي علاقته مع فاطمة التي يتفجَّر جسدها بالأنوثة يَفْشَلُ معها في الحجرة الأرضية، ويبرُّر فشله بالمكان، فيسعى لتحقيق ذاته في مكانٍ آخر فيتفق مع مجيد صديقه، على أن يترك شقته ليقابل فيها فاطمة «ويثبت ذاته بعد أن فشل داخل إمبابة»(22). وعلى الرغم من موافقة فاطمة الذهاب معه إلا أنها توهمنا «لا تتصوَّر أن ترى نفسها تخلع ملابسها خارج إمبابة»(23). وفكرت في أن تحاول مع يوسف في الحجرة الأرضية المغلقة، وإذا فشل معها مرة أخرى «يظل متعلقًا بها لكي يثبت ذاته ويستطيع أن ينام معها»(24).

كما أن رفض فاطمة الذهاب مع يوسف خارج إمبابة، وإصرارها على تكرَّار المحاولة مرات حتى يثبت ذاته، مرجعه علاقة الانتماء التي تربطها بالمكان، فذاتها لا تنفصل عن المكان، حتى ولو كان في خروجها عن المكان إرضاءً لشهوتها. وهذا ما لا يتوفَّر في يوسف، فذاته مُنْفَصِلَةٌ عن المكان الداخل/ إمبابة، والخارج/ شوارع القاهرة. حتى أنه يُقْنِعُ فاطمة بأن فشله بسبب المكان، وإذا تغيَّر المكان يستطيع أن يحقق ذاته معها، وتوافق، فتذهب معه إلى شقة مجيد، دون إتمام اللقاء بسبب المظاهرات. ثم تعود وبمجرد أن اقتربت من إمبابة «شَعَرَتْ بالاطمئنان»(25). فالشُّعور بالاطمئنان ناتج عن انصهار ذاتها بالمكان، وإحساسها بالغُرْبَة خارجه. وعجز يوسف في تحقيق ذاته مع فاطمة رغم اشتهائها له، يُبَرِّرُه صبري حافظ ـ بأن «المكان نفسه يُحرِّم عليه هذه العلاقة الحَرَام، وأن أسطورة المكان تتعدَّى في الواقع ما يبدو على السطح من تأثيراتها، وفعاليتها المباشرة إلى أعماق التكوين النفسي للشخصيات»(26).

الغريب أن فشل يوسف يتعدَّى المكان، فمثلما أُحبطَ مع فاطمة داخل المكان (إمبابة) يُحْبط مرة ثانية (خارجة إمبابة) عندما يفشل في أن يتفاعل مع الفتاة السَّمْرَاء (مجرد تلويح) التي كانت تهتف في المظاهرات «ضد الحكومة وميمي شكيب والأسعا»(27). وهذا ناتج عن سطوة المكان. فمثلما لم يتوّحد داخل إمبابة، يفشل في خارجها أيضًا، ويكتفي بالتلويح لها فلا تتجاوب معه فيهرب بعد شعوره بالانهزامية إلى «بار ريجال»، ويطلب «زجاجة من الروم، وراح يشرب ويدخن»(28). وفي جلوسه في البار يسترجع ذكرياته مع الفتاة ويستغرب «جرأتها التي لم يقدرها، وعلامات الغضب التي غيّرت ملامحها هكذا، وهي على أعناق الرجال» حيث الجرأة التي رآها على الفتاة تعادل انهزاميته.

كما أن الأماكن لديه متشابهة وإن كان قد أقنع فاطمة بأن فشله سبَبُه المكان. فإحساسه بالمكان لا يتغيَّر حتى ولو غاب عنه «عكس فاطمة»، فعند عودته إلى إمبابة بعد جولته في الشوارع التي شهدت المظاهرات، وما أحدثته من أعمالِ عُنْفٍ وشَغَبٍ، وتخريبٍ ودَمَارٍ. حتى تَحْدُثُ الصدمة، فتتراءى له إمبابة كما هي، حيث «المداخل المضاءة، وعربات الفاكهة والكبدة والسمين ومطحن البن وأولاد صديق.. كل شيء على حاله الناس إما يمارسون حياتهم، أو يشربون الشاي ويستدفئون بالنا» (29). انعكس كله على ذاته، فالموقفان متناقضان، ولا حيلة له لإثارة الناس «فخبَّأ نفسه تحت أشجار الخروع الرطبة المتدلية.. وأخذ يشرب الروم الكثيفة الحمراء» فسلوكه هذا، أشبه بمن يواري خجله. فإمبابة تبقى على حالها؛ لعدم تفاعلها مع الأحداث التي خارجها، وكأنها انغلقت على نفسها(30). وبذلك يكون يوسف قد فشل في تحقيق ذاته في أيِّ مكانٍ. فالأماكن لا تترك تأثيرًا عليه، ومن ثمّ يواري نفسه خلف الخمر؛ ليغيب كُلِّيَّةً عن الوعي ما دام غائبًا في الفعل، فالفعل والوعي يتساويان في الفشل.

وتمثِّلُ علاقة «عبد الله القهوجي» النموذج الأمثل للانتماء للمكان وعدم الانفصال عنه. فعبد الله القهوجي يرتبط بالمكان/ المقهى بعلاقة حميميَّة، فهو يرى أن «لو إتباع المقهى يبقى ما فيش عبد الله»(31)، فتاريخ عبد الله مرتبط بتاريخ المقهى. وبالمثل الجاويش عبد الحميد، فارتباطه بالمقهى ارتباط وثيق، فلو حدث شيء للمقهى «فسوف يكون نكبة »(32). فهذا الارتباطُ يُمَثِّلُ ارتباطًا نَفْسِيًا، فالمقهى يُشَكِّل حَلاً لقضية نفسية فهو جاويش سابق، ولا يستطيع أن يواجه نفسه إلا بأصدقائه في المقهى»(33).

الجدير بالذكر، أنّ الأثر النَّفْسِي الذي يتركه المكان المُتَسِّمُ بصفات المدينة على الأشخاص، أَثَرٌ طارئ ­ أو يكاد ­ يزول بمجرد توفُّر البديل وتحقُّق الرَّغَبَات الشَّخْصِيَّةِ، وهذا ما تُفَسِّره علاقة يوسف المُضَّطَرِبَة والمغتربة في آنٍ واحدٍ. ومرجع هذا إلى عدم تحقيق التواؤم بين الشَّخْصِيَّةِ والمكان: المغلق أو المفتوح، فيهرب إلى النَّهْرِ. ونفس الحال ينطبق على فاطمة، فرفضها خلع ملابسها في أي مكان خارج إمبابة لا يتأتى كما ­ تزعم ­ لارتباطها بالمكان نفسيًا، فلو كان ما قالته صحيحًا لما استجابت لرغبة يوسف، وذهبت للقائه خارج إمبابة، في شقة مجيد، فلولا المظاهرات التي حالت دون اللقاء، الذي بمقتضاه كانت خلعت وفي مكان خارج إمبابة. في ظلِّ سطوة المدينة، وشعور الفرد بالاغتراب أو التشيؤ، تصاب ­ معظم ­ الشخصيات بالانهزامية أو الفشل باستثناء عبد الله القهوجي الذي كرد فعل منه على بيع القهوة قام بضرب المعلم عطية على رأسه، وتركه يسيح في دمائه. فيوسف ينهزم في ترديد نشيد بلادي مع أصدقائه: فتحي/ سليمان/ فياض، حيث لم «يعد قادرًا على الغناء»(34) ونفس الحال الأسطى قدري الذي يتوارى عن النَّاسِ خِشْية علمهم بسرقة رأس العجل ثم ينهزم أمام زغلول بائع السَّمين وهو في بيته، في ليلة عزاء العم مجاهد. و«فاطمة عجزت عن نيل يوسف والأمير عوض الله قد صار شيخًا تشوَّهت دُنْيَاه»(35). وزيادة في إظهار انهزاميته [يوسف]، يحقِّق هذا بمستوى الخِطَاب السَّاخط فيسبُّ كل شيءٍ بقوله « ملعون أبو الناس وأبو آثار النوم التي في عيونهم وملعون أبو المسارح والممثلين والممثلات، وملعون أبو صديقك، وخطيب صديقتك، وملعون أبو منصور وفياض، وفتحي وقاسم، وعبد القادر، وعبد الفتاح وخليل، وملعون أبوها بلد وملعون أبوكم..»(36).

-4-

• لكن كيف تحقَّقت جماليات المكان على مستوي التشكيل؟

بداةً، ثمة واقع معيش، فادح وقاهر، يصطَّرِعُ أشخاصه في مقاومة ابتذاذه لهم، لا من أجل شيء سوى مواصلة ديمومة الحياة، ومع هذا الواقع وفداحته، فثمة سعي واجتهاد من قبل المؤلف لتحويل وطأة الواقع المعيش إلى استراتيجية تشكيلية من غير انحياز تام لإنجازات الرواية الغربية، في تشكيل نصه، وإن كان يضعها في غير سياقها ­ بتعبير محمد بدوي ­ لتعبِّرَ عن واقعها المُنْتَجَةِ في سياقه. وهو إيمان المُدْرِكِ بصعوبة تحقيق هذه الإنجازات برمتها في غير سياقها الذي أُنْتِجَتْ فيه لا التابع لها وقد تبدو المغايرة واضحة في تشكيل المكان على وجه الخصوص. حيث الوصف، هنا ليس القائم على الاهتمام بجماليات المكان خارجيًا، أو حتى الوقوف على وصف الشخصيات بدنيًا ونفسيًا، بل هو وصف مُقْتَصَد لأبعد حدٍّ، مولع برصد الأشياء في آنيتها، متوسِّدًا بالكاميرا في حياديتها التي ترصد الخارج دون إغراق في المجاز. فالوصف هنا معنيٌّ في المقام الأول بتقديم الشخصيات من خلال علاقتها بالمكان، وحركيتها فيه لا سكونيتها، ومن ثم يندَّغِمُ السَّرد بالوصف في بناءٍ مُحْكَمٍ مَعًا.

نَقِفُ عند وصف المَقْهَى تحديدًا، لما له من أهمية خاصة هنا في نسيج الحكاية وتوضيح مدى ارتباط الأشخاص بالمكان ­ كما سيأتي ­ إضافة إلى ما يُشَكِّلُه من دلالة عامة على مستوى النصِّ الكُلِّي. نقف أولاً على ما تطرحه دلالة المقهى على المستوى العام حيث المقاهي تُعدُّ سِمَّةً أساسيةً في المدن، كما أنها تنتشر بصورة ملفتة في الأحياء الشَّعبية لدرجة أن المقاهي تلتصق ببعضها. ووجود المقهى في المدينة يأتي كمنفذٍ شرعي للخروج من ضيق الشُّقق إلى رحابة الشَّارع، كما يأتي بديلاً لتصريف فترات الفراغ من خلال لعب الطاولة أو الدمينو ويأتي للقروى النازح من قريته كملتقى لأصحابه أو أهل بلدته في العاصمة المُزْدَّحِمَةِ ومن ثم يُعَدُّ المقهى بموقعه ودلالته النصية «مركزًا بنائيًا روائيًا يسمح بالانفتاح على شخصيات متنوِّعة، متعارفة يجمعها ما يجمعها، ويفرق بينها ما يفرق»(37). كما أن فضاء المقهى يُشَكِّلُ «واقعًا اجتماعيًا يعيشه الأبطال، ومَسْرَحًا تدور في عمقه أحداث لا يستغني عنها النَّصُّ الروائي في إنتاج دلالته، ومكانًا صالحًا لإقامة شَكْلٍ من أشكال العلاقات الاجتماعية»(38). بل لعب المقهى دورًا رئيسًا في الحركة السِّيَاسِيَّةِ والفَنِّيَّةِ(39)، فمنه تَشِكَّلت الحركات السِّيَاسِيَّة التي تُنَاهِضُ سياسة الاحتلال والملك، وأيضًا من المقهى تشكَّلت المَدَارِسُ الفَنِّيَّةُ في المَسْرَحِ العَرَبِيِّ وهذا ما أكدَّه نعمان عاشور. والقِيَّمَةُ التي اكتسبها المقهى على مختلف الأزمنة مرجعها ما يشير إليه المقهى من عالم التمرِّد والقوة حيث نجد «الرجل يُمَارِسُ أفعالاً تتناسب مع قوته وخشونته في خرق القانون أو التمرد السياسي»(40).

أما عن وظائفه في النص الروائي فهي متعددة، فهو مكان للهروب أو مكان للانتقال أو العبور. ووظائف أخرى نكشف عنها عند تحليلنا للنص. وفي « مالك الحزين» يأتي المقهى كـ «تمثيل لعالم امبابة المنفصل عن وسط المدينة وعن أحيائها الراقية»(41). والتركيز على المقهى من خلال الوصف أو حركة الشخصيات «مرتبط بدلالة اجتماعية حيث يصبح المقهى مكانًا للقاء الشخصيات، ومشهدًا للأحداث، ويلعب دورًا أساسيًا في الكشف عن جوانب هامة لشخصية رواده»(42). ويلجأ أصلان في وصفه لمقهى «عوض الله» إلى الوصف التعبيري إضافة إلى وصف هندسة المكان، وهذا النوع من الوصف يرفضه «آلان روب غريبة» فيقدِّمُ من خلاله «شرائح مختلفة من طبقات المجتمع»(43) كما أنه يرتبط بحركة الشخصيات وتفاعلها، وهذا ما جعل الدكتور صبرى حافظ يرى أن «المكان ليس موصوفًا أو حتى من وجهة نظر الكاتب، وإنما تتلخص صورة المكان من خلال الحركة منه والحياة به» (44).

ها هو مقطع الوصف كما جاء في النص:

« كاد المقهى في ذلك الوقت أن يكون خاليًا..

 إلى يسار المدخل المفتوح، كان قاسم أفندى يقرأ شيئًا في جريدة الأهرام، وعبد الله القهوجي يستمع إليه، وقد مال بقامته النحيلة وهو يضع يده في جيوب الفوطة. ويضيق من عينيه المريضتين، على بُعْدِ مقعدين منها. كان المعلم رمضان يجلس وهو نعسان إلى جوار الشيخ حسني الذي ثَبّت كعبه وراح يدق بمشط قدمه على الأرض ليضبط إيقاع "الجندول" التي تذاع من الراديو، بجلبابه القديم، وسترته المفتوحة، وشعره الخشن الذي بقَّعَه البياض، وعلى بُعْدِ مقعدين آخرين، كان دولاب قصير عليه لوحة من البلّور وطبقان أحدهما به كمية من الماركات النحاسية. وراء هذا الدولاب كان مقعد المعلم موضوعًا على صندوق كازوزة فارغًا ومقلوبًا، تحت الرَّفِ الذي يحمل الراديو الخشبي الكبير وفي صدر المقهى وراء الجدار الرخامي الذي حفرت في قلبه حلقة على هيئة هلالين متقابلين حول اسم عوض الله، كانت "البواري" بأعناقها النحاسية المجلوة مصفوفة مع "الشيش" الزجاجية على الرف الجانبي بخراطيمها المكسوة بالقطيفة، ومباسمها العاجية الملونة وكان عبد النبى الأعرج يقف داخل النصبة أمام المنقد الكبير، يشعل الفحم ويهوى عليه بمروحة من الريش، أما في الناحية اليمنى أمام قاسم أفندى، فقد كان سليمان الصغير يتفرج بجانب عينه على الأربعة الذين يلعبون الدمينو. وكان جمال ماسح الأحذية قد ترك صندوقه تحت المقعد واقترب منهم أكثر وراح يتابعهم في صمت، وفي الركن كانت صناديق الكازوزة الفارغة مرصوصة ومقربة تعلوها مرآة طويلة نالها ما يشبه الصدأ وتحت هذه المرآة، إلى جوار الثلاجة الجافة كان العم عمران وحيدًا في بيجامة من الكستور المقلَّم، وطاقية من نفس القماش، كان يتطلع أمامه، وقد أغلق فمه الخالي من الأسنان » (45).

من خلال المقطع الطويل نسبيًا، يتضح لنا أن «الوصف يلح على رؤية الأشياء في وجودها الصرف، دون أن يسقط عليها شيئًا من دلالات تكون مفارقة لطبيعتها»(46). فالأشياء كما هي في الواقع وحركة الأشخاص لا يلغيها الوصف فكل شيء على طبيعته وفق صيرورته في الحياة، دون انفصال عنه يوحى بغرابة الحدث. فقاسم أفندى يقدِّمه الوصف في حركته الطبيعية الملازمة لجلوسه على المقهى ألا وهي قراءة الأهرام محاولاً الانفتاح بها على العالم الخارجي، وبذلك تكون الأهرام نقطة اتصال الخارج بالداخل على الأقل عند قاسم. وعبد الله القهوجي يستمع لقاسم أفندى وفي نفس الوقت يمارس عَمَلَه بتوصيل الطلبات إلى أصحابها. والشيخ حسني يجلس منتظرًا فريسةً يُمارِسُ عليها ألاعيبه وفي نفس الحال يُرْهِفُ السَّمْعَ لأغنية الجندول ويتفاعل معها بالدَّقِ على قدميه، وعبد النبى الأعرج يقف أمام المنقد ويُهَوِّىَّ على الفحم وبذلك لم يخرق الوصف حياة الأشخاص، وإن كان جاء متلاحمًا مع حركتهم. كما أن المقهى لم ينفصل عن العالم الخارجي، فاتصاله جاء عبر الأهرام التي يقرأها قاسم وأيضًا الراديو الخشبي، ومن ثم فيرتبط الداخل/ المقهى، بالخارج/ العالم المحيط، وبالتالي تظهر أهمية المقهى التي هي « فاعلية كونية » فضياع المقهى هو ضياع للكون بأحداثه وتاريخه وعراقته، فالمقهى كما يقول صبرى حافظ « هو الصورة المبلِّورة لإمبابة في مواجهة العالم الخارجي على مستوى من المستويات أو الكيت كات في مواجهة إمبابة على مستوى آخر، إنه الوجود في مواجهة العدم » (47). وهذا ما عَبَّر عنه الأمير «وقال الأمير إن الحبل قد انقطع، المقهى ضاع، وعوض الله ضاع، واليوم فقط يموت أبوك»(48).

-5-

• بنية النص من التوازي إلى التعارض:

نحن أمام نصٍّ مغاير للمألوف. فمؤلفه لا يُنْتِجُ « نَصًّا للقراءة »، كما يُسَمِّيه رولان بارت «أي النصِّ المكتوب للقراءة التقليدية السَّهلة، التي لا تتطلب قراءته جَهْدًا كثيرًا من المُتَلَّقِي»(49). وإنما ينتمي النَّصُّ إلى ما يسميه بارت بـ «رواية الكتابة» «ROMEN SCRIPTIBLE»، التَي تُجْبرُ القارئ على المشَّاركة في خلق أحداثها ومعانيها التي لا يتابع القارئ شفرة الأحداث اليسيرة السهلة، ولكن عليه أن يتعامل مع مجموعة أخرى من الشفرات الصائغة للمعنى كالشفرة التأويلية"(50). لذا ينتهج نَهْجًا مضادًا للوضوح هو«الدقة»(51)، وهذا ما ورد في تصدير الرواية بمقولة بول فاليرى «يا ناثانيل أوصيك بالدقة لا بالوضوح»(52). وبالتالي فهو ليس نص مدلول يحتاج إلى دال/ العنوان، وإنما نَصُّ دَالٌ ومدلولٌ في آنٍ واحدٍ. لذا فالعنوان المتصدِّر الغِلاف «مالك الحزين»، لا ننتظر أن يُقدِّم كشفًا للأحداث أو تلخيصًا، وإن كان العنوان المقتَّرح: «إمبابة مدينة مغلقة»(53). مكوِّنًا فضائيًا للأحداث، فهو تلخيصٌ للأحداث الداخلية للنصِّ، وإن كان مناقضًا لواقع الشخصيات، فالمكان مغلق مع النَّصّ المكتوب لا المتخيّل، وبما إنِّنا أمام «مالك الحزين »، فيحقٌّ لنا أن نتساءل ­ وهو مشروع ­ كما تساءل «صبري حافظ»: مَنْ المقصود بالعنوان: أهو يوسف النَّجار/ الصامت الغامض المحيّر، أم العمّ عمران الذي لا يَقِلُ عنه غموضًا، ويَعْرَفُ ست لغات غير العربية والنوبية، ويقرأ الجرائد ويُدّخِنُ البايب ويشرب الكونياك، أهو عبد الله القهوجي ذلك الإنسان ذو القلب الكبير، أم الشَّيخ حسني صائد العميان في عالم يقود العميان؟ أم هؤلاء جميعًا؟‍‍ الإجابة: النَّصُّ نفسه(54). مع العلم أن مالك الحزين، نَوْعٌ من الطيور•، وصفه أصلان في استهلال روايته بأنه «القاعد بالقرب من مياه الجداول والغدران» (55).

العنوان المُثْبَتُ على الغِلاف يَخُرج من إطار«المكوِّن الفاعل» على اعتبار تجريدنا لأشخاص الرواية عن هذا الوصف، إلى «المكوِّن الحدّثي» حيث تسيطر الأحدّاث على العنوان، «لا من مجرد إشارة إلى المدلول، وإنما يكون ضربًا من المساحة التأويلية» (56). على اعتبار أن أصلان نفسه يَنْشُدُ الدِّقَةَ لا الوضوحَ في النَّصِّ، فالنَّصُّ مليُّء بالأَسَى والشَّجَنِ والحزن كما ذكر « صبري حافظ »: أحزان لفقد المكان، مثل حزن عبد الله القهوجي والأمير عوض والشيخ حسني. أو أحزان لفقد الذات، مثل حزن يوسف الذي لم تتوّحد ذاته مع الآخرين خارج المكان/ المظاهرات، وداخل المكان مع (فاطمة في الحجرة الأرضية). إضافة إلى ضياع ذات الأسطى قدري الإنجليزي، وتماهيها وبالمثِّل شخصية فاطمة التي تبيع نفسها لرغباتها الجنسية، وتفْقد ذاتها بخروجها خارج إمبابة وتكشف جسدها.

كما أن مدلول العنوان يتطابق مع غلاف الرواية(57)، حيث تظهر صورة لشخص تبدو عليه علامات الهلع والحزن، وأيضًا صورة لفتاة ملامحها يبدو عليها الخوف والقلق والارتباك، وهاتان الصورتان تتواءمان مع طبيعة النصِّ الممثِّل لبيئة من إفراز المجتمعات الصناعية الحديثة، وهي المدينة، التي أصابت أفرادها بأدواء العصر المختلفة من فقدان الذات الإنسانية، والضياع، والاغتراب، والخوف، والقلق..إلخ، من منظومة القيِّم التي تحلُّها المدينة على ساكنيها. وبذلك يكون العنوان دالاً قويًا على بنية المكان/ المدينة. فالقلق والحيرة والاغتراب وفقدان الذات الذين سيطروا على العنوان « مالك الحزين »، هي نفسها التي سيّطرت على النصّ، فالنص جاء مُعبِّرًا عن ارتباك الشخصيات وصراعها مع ذواتها المصِّطدمة بالواقع الخارجي، وفشلها في التأقلم أو الانسجام مع المتغيِّرات الجديدة.

-6-

يُقدِّمُ أصلان متن روايته المكوَّن من واحد وعشرين مقطعًا ما بين قصير وطويل على نظام التوازى حيث «المادة الحكائية فيه تتجزأُ إلى أكثر من محورٍ بحيث تتعاصر زمنيًا في وقوعها»(58). وهذا يعنى أن يشترك أكثر من حدث في زمن واحد أو كما يقول صبري حافظ

«إنها تنهض على تعدُّد المحاور وعلى تشابُّكها وتعاكسها معًا وتحاول أن تخلق واقعًا قصصيًا به بدائية الواقع وحيويته، وعدم خضوعه للنَّمط أو النَّسَق المألوف»(59). والتوازي هنا، لا يقتصر على توازى الأحداث، وإنما يأتي أيضًا على مستوى النُّصوصِ.

بالنسبة للتوازي على مستوى الحدث، تتجزأ المادة الحكائية، المكوِّنة للنَّصِّ، إلى أكثر من محورٍ، إلا أن تجزُّأ الحكاية لا يعني انفكاكها زمنيًا حيث الزمن واحد في جميع النُّصوص. فالرواية تبدأ بموت العمِّ مُجَاهِد الذي يتعاصر زمنيًا مع بيع المقهى الذي يتعاصر هو الآخر مع قدوم السائح الإيطالي « دافيد موسى » لاسترداد أملاكه المتمثِّلة في منطقة «إمبابة وميدان الكيت كات» بالإضافة إلى الكثير من القصص الفرعية التي تتوازى مع قصص أخرى فرعية، مثل عجز يوسف مع فاطمة في الحجرة الأرضية، يتوازى مع فشله في إقامة علاقة أُلْفَة مع الفتاة في المظاهرات المحمولة على الأعناق « وتندِّد بغلاء الأسعار وميمى شكيب » (60). فجميع الأحداث تتزامن عند حدوثها، حيث نكتشف أن زمن الرواية على مستوى الحكاية هو ليلة ويوم، فتبدأ يوم السَّابع عشر من يناير 1977 « ولم تمطر السماء خلال هذا اليوم وتنتهي مع نور صباح اليوم التالي، حيث كانت السماء تمطر» (61).

أما على مستوى النصوص، فيقيم أصلان نصَّه على علاقات تناصية بنصوص أخرى موروثة (عربية)، وحداثية (غربية). فمن النصوص العرَّبِيَّة القديمة الموروثة التي يقيم بينها أصلان وبين نصه علاقات متوازية عبر التناص، نصوص « ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة ». أما النُّصوص الغربية فهي « النُّصوص الشكسبيرية »(62). وقد جاء التوازي بين نص أصلان «مالك الحزين»، والنصوص المتناصه معه عبر أكثر من مستوى: الأحداث والأشخاص والبناء.

بالنسبة الأحداث، فقد جاءت في صياغتها عجائبية(63) مثلها مثل نصوص ألف ليلة وليلة، فالعمى لم يُحَوِّلْ الشيخ حسني إلي «رجلٍ مكفوف البصر يقرأ الآيات في قرافة سيدي حسن أبو طرطور»(64). «وإنما ـ على العكس ـ يتحدَّى العمى، ويمارس أفعالا ـ أحيانا ـ لا يمارسها الأشخاص الأسوياء(65) فهو «صائد العميان» يوهمهم بأنه يرى ويصادقهم، وهو يركب العجلة كأي مُبْصِرٍ. ويدخل في هذا ما قام به حسين عبد الشافي الذي هو «أخف دم في الدنيا كلها» بتعبير الشيخ حسني نفسه فعندما يموت والده لم يكن يملك شيئًا ولا السَّتْر حتى أنه احتار ماذا يفعل، لم يكن يريد أن يفضح نفسه وهو الكابتن المعروف علي مستوى العالم ويستدين من أجل دفن والده فيفجِّر بفعله موقفًا عجائبيًا حيث «أخرج غيارًا نظيفًا ونزل بوالده إلي البحر، وخلع ثيابه وغطَّسَه في الماء الطَّاهر ثلاث مرات وتلا الشهادتين، ثم ألبسه الغيار النظيف، وصعد به إلى الشاطئ، وأخذه أمامه علي الدرَّاجة، وسنَّده بين يديه كأنه لم يمت، وذهب به من هناك حتى سيدي عمر ودفنه بمعرفة عبد الخالق الحانوتي»(66). فالعجائبية• كما يقول محمد بدوي تنبع من «استجابة الأشخاص لما يعيشونه، واحتيالهم علي مواجهة ما يملأ حياتهم من قهر وجفاف ومسغبة فيحولونها إلي حياة محتدمة ممتلئة»(67)

أما التوازي علي مستوى الأشخاص فيأتي علي مستويين: الأول علي مستوي التسمية التي تتناص مع الأسماء في« ألف ليلة وليلة » فعبد الله القهوجي يُنَّادى بعبد الله مرة وأخرى بعبد الله الغلبان. وعبد الله الغلبان يستدعى في الذاكرة « عبد الله البَّري وعبد الله البحري ». والثاني علي مستوي وصف الشخصيات الذي يأتي علي حسب مهنتها مثل « عبد الله القهوجي ومحيي النقاش، والجاويش عبد الحميد، وزين المراكبي، والهرم بائع الحشيش.. وغيرهم.». وأخيرًا التوازي علي مستوي البناء، أو أسلوب القصِّ فمنذ الاستهلال يستعير أسلوب القصِّ في الليالي، واستلهام عبارة «زعموا أنَّ» كذلك استخدام البناء الفنَّي في العناوين الفرعية، التي كما يقول صبري حافظ تُعَدُّ «تبديا حدثيًا لأسلوب استباق الحدث المروي وتلخيصه في آن»(68). وإضافة إلي ذلك العنوان الرئيسي «مالك الحزين» الذي يتناص كلية مع قصص «كليلة ودمنة» فمالك الحزين، هو بطل آخر حكايات كليلة ودمنة، وهي حكاية «الحمامة والثعلب ومالك الحزين»(69). وبالمثل يتوازى النَّص مع النصوص الشكسبيرية من خلال قدري الإنجليزي، الذي يتماهى في شخصية عطيل، ويسند دور "كاسيو" الجبان لزغلول بائع السمين. فهذا التوازي مع نصوص تنتمي لثقافات مشابهة أو مغايرة، يقوِّي البناء ويحكمه.

 وبهذا المعني، فليس ثمَّةُ حكاية يمكن أن تُلَخَّصَ، أو تروى لطرف ثانٍ وإنما ثمة أحداث صادرة عن أشخاصٍ، بعضها يحتذي الواقع، وأخرى تحتال عليه، كتحدٍّ لهذا الواقع، ليس لها أدنى قيمة عند انفصالها عن مكانها , مفاد هذه الحكاية واكتمالها، عند حضور عناصرها معًا، ففاطمة لا يمكن أن تخلع ملابسها في مكان خارج إمبابة، وعبد الله القهوجي لا يتخيل حياته لو انهدم المقهي، حتى قدري الإنجليزي يُخْدَعُ ويَنْهَزِمُ خارج المكان.

-7-

• الوعى اللُّغَوي المحايث للمكان:

فرضت المدينة، وعيًا جديدًا على سكانها، هذا الوعيُّ نِتَاجُ أَعْرَافٍ جديدة خاصة بالمدينة دون سواها، ومن ثمّ استوجب على سكانها أن يستوعبوا «منظومة من القيم مركبة ومتفردة، وحافلة بالمفارقات»(70). فجاء تبعًا لذلك وعيًا جديدًا نظرًا لهيمنة أشياء غير مسبوقة من قبل، عبَّرت عنها لغة بعينها ذات دلالة محايثة للواقع المُنْتِجِ للغة فجاءت مفردات لغوية تتناسب مع وضع المدينة وإيقاعها السَّريع. ومن ذلك «الحارة، الشَّارع، الزحام، الأسفلت، الأتوبيس، الدراجة، الكباري، الميادين، الرصيف، المكنة، الدخان، المحطة، وغيرها.» وكذلك ألفاظ تتناسب مع الحاجات الشخصية ومُعَبِّرَة عنها مثل [المزاج، الكيف، التعميرة، وقت ممتع … وغيرها].

فالوعيُّ الذي تَشَكَّلَ بأيديولوجيا مُتَنَاغِمَة مع ثقافة المكان، انعكس على الوعاء اللغوي الذي هو لسان الجماعة. فجاء الوعي اللغوي حاويًا لكثير من المفردات الدَّالة في إشارة غير محتاجة لفك شفرتها لمعرفة مدلولها. وفوق هذا اعتمد المؤلف على لغة عارية مجرَّدة من كل زخارف بلاغية يكشف بها عُرْىَ هذا العالم « لغة تتخلَّق مُنْدَغِمَةٌ مدلولاتها بدوالها ». بالإضافة إلى أن الحوار جاء مغايرًا حيثُ يفتقدُ لصفة الحوارية بسبب «اختزاله، وانعدام وجود الطرف الثاني»(71). فجاء الحوار مُعبّرًا عنه بلغة الحياة اليومية، لغة الأشخاص التي تتسُّم بالاقتصاد والاختزال، الذي هو من شأنه «احتفاء بالتقطير، وولع برصد ما هو دال في وجوده»(72). ومرجع هذا الاختزال والتقطير أن المدني استفاد من المنجزات الحديثة التي حلّت عليه، خاصة أن المدينة منحت ساكنيها الثقافة البصرية، بدلاً من الثَّقَافة السَّمْعية فمنحته «عيناً بدلاً من الأذن»(73). فأصبح يُدْرِكُ الأشياء، ويَتَتبَّع رصدها، ويصوِّرها كأنه يراها فتقرأها كأنك تراها مجسَّدة أمام عينيك.

كما منحته هذه المنجزات الحديثة على مستوى السَّلب الأنا بدلا من النحن، فجاءت التعبيرات والألفاظ بصيغة الأنا النائية بنفسها عن الآخر/ الجماعة للشعور بالتفوق في مقابل دونيتهم مثل حالة الأسطي قدرى الإنجليزي الذي يرى نفسه أعلى مقامًا من قاسم وعبد الحميد، والشيخ حسني، ورمضان الفطاطري، فجميعهم من وجهة نظره «همج أولاد كلب»(74) أو الأنا المُعْتَزَّة بذاتها مثل حالة قاسم أفندي قارئ الأهرام، الذي يقول «أنا طول عمري وأنا بأقرأ الأهرام»(75)، أو كنوع من الاغتراب مثل حالة يوسف، الذي يغترب وهو وسط الجماعة، أو في حالة توحُّده مع الكتابة أو البحر، فيستخدم الخطاب بضمير المخاطب بدلاً من المتكلم كنوعٍ من الهروب «أنت سكران، كلا، أنت مجروح.»(76) وإذا قمنا باستبدال ضمير المتكلم بالمخاطب، يتوازى السياق ويؤكد حالة اغترابه وعدم وعيه بالفعل. فهو لا يدرى إن كان سكرانًا أم مجروجًا، أو كنوع من الإحساس بالفخر مثل حالة الشيخ حسني فيقول «إنما أنا لقد أستكملتُ دراستي الدينية في المعهد العالي للموسيقي العربية، وكنت أول دفعتي سنة ستة وثلاثين وفي جيبي الآن صورتي وأنا أستلم الشَّهادة من حضرة صاحب الجلالة الملك، وأَخْرَجَ ورقة قديمة من مجلة المُصَّور وفردها بينه وبين الشيخ وجعله يلمسها وقال "شوف" الملك أه، وأنا أهه لابس الطربوش وفرحان، وبأسلم عليه بإيدى اليمني أنا الذي دربتُ كل الملحنين والمطربين الذين تسمع عنهم، وخصوصًا على ألحان عبد الوهاب القديمة" والربيع وأول همسة"لفريد»(77) أو تأتي كنوعٍ من التوحُّد والتملُّك مثل الشيخ حسني والعصا «أنا لا يمكن أن انتقل من غير العصا»(78) وأخيرًا كنوع من الشعور بالخواء الداخلي والشبق الجنسي مثل حالة فاطمة «أنا عيانة عشان أنا بعيدة عن جوزى، وحاجات زي كده»(79) ومن ثمَّ حوى الخطاب اللغوى في بيئة المدينة هذه السِّمات، وامتزجت بها مفرداته فجاء خطابًا لغويًا حاويًا لكل هذه الخصائص. التي ميَّزته عن غيره.

وقد تكشف الحوارات الواردة في النصِّ عن الدلالات اللغوية التي يبثُّها السَّارد، سواء في لُغَةِ السَّرد ذاتها، أو في لُغَةِ الحوار عندما يَسْمَحُ للأشخاص بالتعبير؛ ليكشفَ بها عن أيديولوجيا خاصة محايثة تستمد مفاهيمها من بيئة المدينة بكل معالمها. فاللغة ذات تكثيف واختزال، كما يفتقد الحوار حواريته حيث الاختزال والعُرْىَ وكأنَّنا أمام معلومات مُسْبَقَةٍ، يتمُّ مَعْرِفَتُها، لاحظ «سوف يقيمونها للعزاء للعم مجاهد الله يرحمه، وقال فاروق أنه لم يسمع». وقد تكشف الحوارات عن سمة من سمات الخطاب المدنى الذى يعتدُّ بالعلة وذكر الأسباب، ومن ثم نرى السَّارِدَ يحرص على ذكر أدوات للتفسير مثل «كي يحضر لنا ماكينة الصوت من عند خليل»(80). فالسؤال مرتبط بعلة هى إحضار الماكينة. وثمة مفردات/ تعبيرات، مُتَحَقِّقَةٌ على مدار اتساع النَّصِّ ليس لها مدلول إلا في الواقع اللُّغَوى المُنْتَجَة فيه، مثل «حاأتصرف» أو مثل لفظ «يسك» على الموضوع أو المطلوب (شاى أو قهوة)، أو «كَفَرَ» بمعني يأس وليس مناقضة للإيمان، «واتصرف» بمعني «ارشي» ومرة أخرى بمعني ساومه «اتصرف أنت مع عطيه» (81) أو «براءة» بمعني خلاص في «يعني إحنا كده براءة»(82). أو «عندى مصاريف» بمعني محتاج لمصاريف ولوازم علىِّ. وكذلك أزوغ بمعنى «أهرب» وعبارات مثل: «ربنا يهدى القوى» كناية عن تفجُّر الأنوثة الطاغية. «لازم ما عجبتكش»، وهي كناية عن أن إمكانياتها الأنثوية لم تساعده في تحقيق فعل جنسي معها كما أن القصَّ في السَّرد يأتي دون فواصل، حيث الكلام ينساب كما هي عادة الجماعة في مثل هذه المجتمعات دون أن يأخذ صيغة الراوي الشعبي، فهو لا يتوقف، ولا يتوخى الدقة والحذر إلا من خلال نظام «التقطيع»، القائم على أساسه بنية النص.

وثمة نوعٌ من المفارقة(83). تخلقها اللغة، التي من شأنها توِّلد نوعًا من السُّخْرِيَّةِ النَّاجِمَةِ لتناقض اللفظ ­ مدلوله ­ عن داله. فالشيخ حسني أعمى ومع هذا فهو «(صائد العميان) فعند جلوسه في المقهى وينادى على عبد الله القهوجي، لكن عبد الله يتجاهله وينشغل مع قاسم في الأهرام فالشيخ ظل رافعًا رأسه حتى مرَّ عبد الله القهوجي، وأمسكه من طرف مريلته وجذبه إليه. فابتسم عبد الله، لأن الشيخ حسني رأه، وهو يمرُّ من أمامه، لكي يحضر الطلبات وأمسك به مع أنه أعمى لا يرى»(84) هذا المقتطف الصغير يكشف لنا عن المفارقة التي تولَّدت عبر اللُّغَةِ، والسُّخْريَّة الناتجة عنها، فالابتسامة التى لاحت على وجه عبد الله، لأن الشيخ رآه وهو أعمى لا يرى. وظهرت لنا العلة التي يعتدُّ بها الخِطَابُ الروائي المدنى، فنلاحظ (حتى، لأن، لكي، مع أنه)، فالسارد يُدَعِّمُ نصَّه بالوسائل التفسيرية، لأن الإنسان المدني، افتقد المصداقية التي نراها عند الراوى في بيئة الريف (الذى ربما يشطح في الخيال ومع هذا فالريفيون يصدقونه)، والعكس عند المدنى فدائمًا يحتاج إلى دليل للتصديق، ومن هنا الاعتماد على الوسائل التفسيرية كدليل للصدق، وهي تتكرَّر بصورة مطردة في النَّصِّ.

وقد تشي اللغة هنا، ببعض سمات المدينة، المتعلقة بأخلاقها، التي تتنافى مع أخلاقيات الريف، أو المجتمع ما قبل المدني، فتولَّدت في المُدن أعراف، مناقضة للأعراف والمواضع والتحريمات التي كانت سائدة من قبل. فالتحرُّر الذي ساد في المجتمع المدني ­ التحرُّر الخلقي ­ وهو ما نجم عن التعدُّد البشرى داخل المدينة، باختلاف فئاته، انعكس على الوعاء اللغوي المعُبِّر عن سلوكيات هذه الجماعة. ومن هذا ما جاء على لسان الأسطى قدري الإنجليزي بأن " قاسم أفندي، والجاويش عبد الحميد، والشيخ حسني، ورمضان الفطاطري. «همج أولاد كلب»(85). وفاروق عندما يرى فاطمة يقول: «ربنا يهد القوى»(86). في إيحاء جنسي لتفجُّر أنوثتها، وشوقي يسبُّ فاروق قائلاً: «أنا لازم أموتك يابن الوسْخَة»(87). ومن هذا أيضًا الحوار الذى دار بين فاطمة والبقَّال جابر، راجع (ص 122/123) وسنقف هنا عند الحوار الذي دار بين يوسف وفاطمة، لإبراز ما تجلَّى فيه من مظاهر التحرُّر على مستوى اللغة

«وذهب يوسف والتقيا خارج السينما. كان يبحث عنها بعينيه عندما لمست مرفقة من الخلف بأطراف أصابعها. وصعدا إلى البلكون واقتربت منه وأخبرها أنه لم يشاهد فيلمًا عربيًا منذ عشر سنوات على الأقل. ومع أنه كان ينظر إلى الشاشة طلبت منه أن يكون طبيعيًا ولا يتلفت إلى أي أحد من النَّاسِ. وعندما خلعت البطلة ملابسها واستدارت ظهرت علامة تحت ظهرها العارى، مالت عليه بكتفها وهي تهمس إيه العلامة دى" ونظرت إليه بجانب عينها اللوزية فابتسم. والتصقت به أكثر وهي تنظر إلي حجرها: والجونلة دي زي قلتها، مش كنت لبست بنطلون أحسن؟ على الأقل كان دفاني". ونظر هو ورأى ساقيها العاريتين حتى فخذيها، وقال لها: لكن كده أحلى. فكتمت ضحكتها ثم كشَّرت وقالت إنها مريضة: "والنعمة جدّ. تصدق لما رحت للدكتور قال إني أنا عيانة علشان بعيدة عن جوزي وحاجات زي كده معقولة؟

وهزّ يوسف النجَّار رأسه موافقًا ولكنه دهش من كلامها. وقبل أن ينتهي الفيلم بقليل همست له أن يقوما. وفي الطريق وضعت يدها في يده وأخبرها عن صديقه الذى وعده أن يعطيه مفتاح شقته لكي يستطيع أن يتكلما وحدهما بعيدًا عن دوشة الناس حتى ركبا عربة ونزلا في ميدان الكيت كات، وطلب منها أن تسبقه لأنه سوف يمرُّ على المقهي. لم يكن يريد أن يراهما أحد. وأطرقت هي برأسها وقد اتسعت ابتسامتها. وفي يوم الخميس التالي حدثته عن الحجرة الأرضية المغلقة» (89).

هذا المقتطف السردى يكشف لنا دلالات لغوية بثَّها السَّارد منها:

 إنَّ الحوار جاء ممزوجًا بالسَّرد، فلم ينفصل عنه، فلم نرَ ثمة متحاورين، أو حتى جملة قال، وغيرها مما تشي بأن ثمة حوارًا حادثًا فكل هذا مُلْغَىَ، لحساب السَّرد.

1-     إن اللغة المستخدمة في الحوار، تشي بعض مفرداتها بالتحرُّر الخلقي للأشخاص، وخاصة لغة فاطمة، « لاحظ التشديدات في النص». وهو ما يوضح ما ذكرناه عاليًا.

2-     كشف الحوار المُدْغَمُ في السَّردِ عن أيديولوجيا يعتنقها السَّارد وهي أيديولوجية محايثة للمكان «المدينة». فيصل «أحاديث الناس وشذراتها بعضها بالبعض الآخر، فنصبح مع خِطَابٍ متعدِّد المستويات، وكأنَّ التمايزات في الواقع اللغوي تنتقل إلى الخطاب الروائي»(90). لاحظ لغة يوسف المثقف الذى يجمع الكتب حُبًّا في قراءتها وليس لطبيعة العمل كما قال لفاطمة تبعد كلَّ البُعْدِ عن الابتذال والتحرُّر الذي جاءت به لغة فاطمة. حيث تشير في كثير من جوانبها إلى الاتزان والصنعة في الخطاب (أي لغة هادفة). لاحظ قوله: «كده أحلى». أو إشارته إلى المدلول ليشير به إلي الدال، فهو عندما يُحَدِّثُهَا عن صديقه وشقته إشارة منه إلى الرَّغْبَةِ في تحقيق علاقة فِعْلِية بينهما. فتأتي على الفور إجابتها التي نستشفها من « تطرق برأسها وقد اتسعت ابتسامتها»

-8-

• الراوي وأيديولوجيا السَّارد والسَّرد :

يتسِّمُ الراوي في بيئة المدينة بصفة عامة بأنه راوٍ حيادي يَنْأَى عن كُلِّ قيمي(91). وقد يأتي في بعض الأحيان متعدِّدًا «بوليفونيًا»، وذلك استجابة لعالم المدينة المتنوِّع الذي يحتفي بتعدُّد وجهات النظر وتعايشها معا. وفي مالك الحزين يظهر الراوي الغائب في أكثر من موضوع في (الحجرة الخارجية التي تطل على الوسعاية الصغيرة). وفي وصفة للمقهى يُقدِّم الراوي الوصف بضمير الغائب «هو» , كما يستعير عيني طائر يراقب بهما المقهى، ويتابع ما يحدث داخله (راجع ص 15). واستخدامه للضمير«هو» لما يَخْلِقهُ هذا الضمير من مسافة زمانية ومكانية بين عالمي الراوي والشخصيات حتى أن معرفة الراوي بالمكان «كَسَرَ الإيهام الذي يخلقه استخدام ضمير الغائب»(92) وهذا ما يظهر في عبارات (في ذلك الوقت – يجلس وهو فنان – يدق بمشط قدميه) كل هذا يشير إلي معرفة حقيقية بالمكان وشخصياته. الراوي هنا واحد من أبناء المكان، المتورطين فيه إجباريا، تتوازى وجهة نظره مع وجهة نظر الجماعة وتندَّغِم فيهم، ومن ثم يمنح هذا الضمير الغائب (الهو)، الذات القدرة على تمثُّل أصوات الشخصيات، وإعادة صياغتها بوعيه ونبرته الخاصين"(93) وهذا ما نراه في الراوية (ص 98/ 99/100.) وقد استفاد السَّارد من استخدامه للسَّرد بضمير الغائب حيث أَضْفَى على سرده صفة الغرائبية فيقول «وظل الشيخ رافعا رأسه وحين كان عبد الله يعود من هنا وعبر من أمامه مدَّ يده وأمسك به من طرف المريلة وجذبه إليه، وعندما استوثق همس له أن ينبهه لأن الشيخ جنيد على وشك المجئ بين لحظة وأخرى، وقال له "خلي بالك عبد الله غلبه الابتسام لأن الشيخ حسني رآه وهو يمر أمامه كي يحضر الطلبات وأمسك به مع أنه أعمى لا يري»(94). فالراوي هنا يروي عن الشيخ حسني وعبد الله القهوجي/ المروي عنهم في بؤرة سردية واحدة المقهى (الشيخ جالس وعبد الله أمامه) فالحدث المروي يتناقص مع صفات المروي عنهم (الشيخ وعبد الله القهوجي) فالشيخ أعمى. والثاني مُبْصِرٌ. ومع هذا أمسك الشيخ بعبد الله القهوجي عندما مرَّ من أمامه [ الحدث المروي ] فالحدث المروي بسيط لكن في وجود مروي عنهم (بهذه الصفات المتناقضة: أعمى – مبصر) جعل استخدام الضمير الغائب يضفي غرائبية علي الحدث بهذه الغرائبية التي وضعها الراوي بين المروي عنهم (الشيخ حسني وعبد الله القهوجي) أفسح المجال للمروي لهم المتلقي (القارئ الحقيقي)، لمتابعة حركة السرد بشغف انتظارًا لما ينتج عن استمرار السرد. خاصةً أن الشيخ سيقود أعمى آخر(الشيخ جنيد) فيشحذ الذهن بالتساؤل كيف يقود أعمى أعمى؟ ! وبذلك يرتبط المروي لهم بالحدث في انتظار ما يحدث من أفعال غرائبية أخرى، باستكمال حركة السرد لإتاحة الفرصة لقبول حركة الأشخاص في عالم مفارق لما هو طبيعي.

ودائما يستدعي الراوي الغائب الحكاية الحدثية من الذاكرة الماضوية، فهو عندما يروي عن سيد طلب فيقول «لقد جاء قبل سنوات طويلة، وأستأجر الدكان المجاور لدكان المعلم رمضان الفطاطري، وأخبر قاسم أفندي الذي كان يحلق عندهم أنه سوف يستمر في العمل عند الأسطى بدوي حتى ينتهي من إعداد الدكان على خير ما يرام، وبدأ يأتي ويقضي سهرته أمامه مع (أبو فاروق) العلَّاف ثم انتقل إلي جواره وتعرَّف على المعلم رمضان والشيخ حسني وعبد الخالق الحانوتي والأسطي قدري وبقية الشلة. وفي لحظات الصفاء كان يتكدَّر ولا يعرف أبدًا كيف جاء بوالدته (من شبشير الحصة غربية) إلي هنا وكيف ترك ناسه وعمل عند الأسطى بدوي وراء الكيت كات وتعلَّم الصنعة وأستأجر العين التي لم ينته من إعدادها على خير ما يرام إلا بعد أن قامت الثورة وألغيت الألقاب، وما الذي جري حتى تزوج ست مرات وفعل ما فعل وصار يتكلم ويتابع النساء وهو يجلس هكذا أمام العي »(95) الراوي هنا يحكي عن سيد طلب وتاريخه منذ مجيئه من (شبشير الحصة) هو وأمه إلي ميدان (الكيت كات) حتى عمله في دكانه الذي بناه، فالحدث مروي بالزمن الماضوي (جاء قبل سنوات طويلة/ بدأ/ تعرف) فصياغة الأفعال الماضية تدل على حالة التباس الحدث بالزمن الماضي وقد جاءت هذه الحكاية ليفصل السَّرد الحالي، للحكي عن سرد ينتمي إلي زمن ماضٍ. إلا أن الراوي حاول أن يمزج بين الزمنين دون خلق مسافة سردية زمنية من شأنها إذابة حالة الوعي للمتلقي. فالحدث المفصول/ الحاضر هو (حدث الشيخ حسني مع رمضان الفطاطرى في المقهى وخلافهما بشأن البرتقال) والحدث المُقْحَم (هو تاريخ سيد طلب) فالحدثان مختلفان لأشخاص منفصلين عن بعض إلا أن الراوي بهذا كسر الزمن (المتواصل) ليؤسس زمنًا آخر متراكبًا وتتوالي طياته(96)، وهذا الفعل بشأنه أن يحوِّل فعل القراءة لدى القارئ إلي حالة ترقُّب وتذكُّر في آنٍ واحدٍ. ومع هذا فالسَّارد عندما يريد قطع الاسترجاع الخاص بسيد طلب ليعود إلي زمن اللحظة الحالية/ المقطوع (مؤقتا)، يوازي بين حدثين ينقسمان إلي زمنين مغايرين

       موت العم مجاهد ______ زمن حالي

       خوف سيد طلب من عبد الخالق الحانوتي ______ زمن ماضي _______ متسلسل إلي الحاضر فموت العم مجاهد، جاء وسيطا (لربط الزمنين) دون حدوث (فجوة) فالحالة موت العم مجاهد تستدعي (بالضرورة) عبد الخالق الحانوتي أو على الأقل (وظيفته) التغسيل. هذا الفعل يخلق الرعب لسيد طلب (شخصية الحدث الماضي) لدرجة أنه يكره « رؤيته » وهذا ما جاء على لسان الراوي في هذا المقتطف:

«ولبس جلبابًا (أي سيد طلب) أبيضَ وتمنَّى أن يصبح درويشًا، وصار يذهب للعزاء في أي بني أدم يموت (استكمال للحدث الماضوي) – جاء الفعل (الوسيط).. ولم يعد يطيق أن يلمسه عبد الخالق الحانوتي. (فيكمل الحدث المقطوع) وابتسم المعلم رمضان وعاد لوجهه لونه الطبيعي وتنبَّه إلي أنه ما زال يُمْسِكُ البرتقاله التي قشَّرها في المقهى»(97)

فالحدث الوسيط (موت العمل مجاهد) ربط بين الماضي والحاضر. ليستكمل الراوي الغائب السرد من الحدث المفصول (حدث الشيخ حسنى) فيقول «تنبَّه إلي أنه مازال يمسك البرتقالة التي قشرها في المقهي فقسمها نصفين»(98). الفعلان (تنبَّه/ مازال) يوحيان بحالة اللاوعي التي مرَّر من خلالها الراوي سرده، حتى لحظة التنبُّه. وبهذا فلا يأتي الحدث مُقْحَمًا بدلالة الفعلين «تنبَّه/ ما زال» ويندمج الراوي فى الحكاية بوصفه شاهدًا، يراقب الحدث ويتابع فعالياته على مستوى الشخصيات، فلا يقف عند شخصية واحدة، فطبيعة الضمير تتيح له فرصة التجوُّل، فعند غرق الشيخ حسني بالدراجة، واستغاثته دون جدوى. نجد الراوي يرصد استغاثة الشيخ فى الماء، وفى ذات الوقت يرصد لنا حوار الجاويش عبد الحميد والحاج محمود الشامى، راجع (ص 55:57).

الراوي/ الغائب هنا على الرغم من تصريحه الدائم بالتزامه بصفة الغياب من خلال دلالة الأفعال التى يستخدمها(ابتسم، وكيف أنه راح يستغيث عمياني، وراحوا، عاد والشيخ للابتسام)، إلا أنه فى كثير من أجزاء السَّرد تُشْعر وكأن الراوي ملتحمُ مع الشخصيات غير منفصل عنهم ومن هذا «فلقد ظنُّوه النداهة ــ لم يمر وقت طويل. استولى عليه الرعب ــ بدأ الطوب يضرب الماء.. أخذت الدموع تطفو من عينيه الخاليتين، سمع الحاج محمود الشامي وهو يحرض الجاويش على الانصراف». مثل هذه الجمل تشى بالتصاق الراوي بالشخصيات/ المروى عنهم على الرغم من اتخاذه ضمير الغائب للسرد. فمعرفة الراوي بهذه التفاصيل الدقيقة والخاصة (حتى المناجاة) بين الشخصيَّة ونفسها، تُكسر الإيهام الخاطئ الذى يخلقه الضمير السارد/ الغائب بأن مسافة زمانية ومكانية(99) بين الروي والمروي عنهم/ شخصياته. وفى بعض الأحيان يتخلَّى الراوي عن دوره فى الحكى لبعض الشخصيات التى تحلُّ محله « لتخوض فى حوارها المنبثق من وجهة نظرها الفردية»(100)، ومن ذلك ما دار بين قاسم والخواجه «ولكن الخواجة استوقفه بالإشارة من يده وهو يقول بسخرية إياك فاكر نفسك الوحيد اللى بيعرف يقرأ. العفو. أنا بس كنت عاوز أطمئن وأنت عارف أن أمرك يهمنى فى الحقيقة هو يهمنا كلنا بس يهمنى أنا أكثر شوية. باقول إيه عم قاسم أعمل معروف، وخليك مع الراجل اللى قاعد معاه« يتخلى الراوي هنا عن دوره للشخصية، حتى تنتهى من وجهة نظرها التى قد يتفق معها. أحيانا ليعود مرة ثانية لطبيعته، بصفته الراوي الأساسي، لرصد الحدث فيقول «وترك الخواجة الكشك والمكان وذهب ناحية حلاوة بائعة البرتقال وضحك قاسم أفندى وهو يغلق الجريدة ويتأمل صفحتها الأولى: يا سلام يفهم الناس شايف السلام يا سليمان»(101).

وعلى الرغم من أن الراوي سمح لشخصياته أن تُعْلِن عن نفسها، إلا أن هذا لا ينفى عنه عدم التدخُّل فسمح لنفسه بالتعليق من خلال (راوٍ مضمرٍ) من خلال ضحكة قاسم أفندى التى بها إيحاء بالسُّخْرِيَّةِ من الحديث. ونفس الموقف يحدث مع قاسم أفندى وسليمان. وبالمثل الخواجة والمعلم صبحى. ومن الأشياء التى تلفت الانتباه أن الراوي وفى تمسُّكه بالضمير الغائب، إلا أنه فى ذات الوقت يتابع ويرصد أثر ما يحكيه عنهم. ومن ذلك الشيخ حسني فى معزى العم مجاهد يعلن فى الميكرفون عن مكان الهرم، وبمجرد سماع الهرم لكلام الشيخ حسني « يقفز واقفًا فضحه العم عمران فى الميكرفون والحكومة الدنيا كلها، عرفت فجأة يا نهار أسود. الراجل ودانا فى داهية »(102).

       المقهى.. الوطن والأيدولوجيا المضادة:

لا يُحْمَلُ الوصف المرتبط بالمقهي، وعلاقة الشخصيات به، على أنه وصف خارجي لا يَحْمِلُ دلالة مفارقة لمعناه الظاهري، فهذا الإلحاح من قبل السَّارد على وصف المكان، وإظهار سكونية الحياة في داخله، في مقابل حركية الحياة في الخارج، والدليل على هذا الأهرام التي يقرأها قاسم وفيها خبر قدوم السائح الإيطالي « دافيد موسى » الذي يريد أن يبيع ميراثه من أرض «إمبابة والكيت كات»، وردود أفعال جُلساء المقهى التي لم تتجاوز­ مع الأسف ­ حتى الصِّيغ العربية للانتهاكات ضدهم من قبيل «نشجب ــ ندين ــ نستنكر». فالخارج، متهيأ على الدوام ومصطخب حيث عمليات التسوية تجرى على قدم وساق، والأرض التي افتداها الأبناء بالدم، يُتَنَازَلُ عنها بصيغة تضليلة «معاهدة السلام». ومع كل هذا إلى أن الواقع على النقيض حيث السكونية، وعدم الاهتمام مع جلال الأمر الذي يحدث، بل إن جدارية البوابة المؤرخ عليها تاريخ انتهاء معركة الأهرام تشير إلى 1798، وهو ما يعنى زخاء الماضي بالعطاء والتضحية، في مقابل موات الحاضر « المقهى ضاع، وعوض الله ضاع، واليوم فقط يموت أبوك » كما ذكر الأمير، ولو ادَّعى آخرون تبني آراء رافضة كعبد الله «لو إتباع المقهى يبقى ما فيش عبد الله» فالمسألة لا تخرح عن الإطار اللفظي. فكأننا إزاء مرثية لحالنا الذي أصبح باردًا آسنًا كما البرك، متذرعين بمقولات «فالنهر ليس النهر» كما زعم يوسف النجار في تبريرات عجزه عن الكتابة، أو مشاركة الأصدقاء المظاهرات، أو حتى الغناء. هنا أصلان يرفع غلالة الوهم عن المثقفين الذي استكانوا، وعن جموع الشعب الذي استسلم لحالة الإخصاء التي تمت له بفعل سياسات كلها خارجية، فخارج إمبابة يَعِجُ بالمظاهرات ­ حتى ولو كان قلة من يقومون بها ­ والداخل في مفارقة مثيرة للدهشة، ساكن يُمَارِسُ حياته، ولهثه الدائم خلفها ومن ثم يعلن منذ البداية أنه ليس تابعًا حتى في ظل انسياق كثير من كتابنا ومثقفينا للتيارات الغربية، واللهث خلفها، دون وعي بمفارقة مصدر المنشأ الذي تولَّدت في سياقه هذه الانجازات، والتي تختلف ­ بالطبع ­ عن سياقاتنا الثَّقَافيَّة والتاريخية والاجتماعية.

وكأن النَّصَّ بهذه التشكيلات سواء على مستوى الوصف الذي يحتفي بالتفاصل الدقيقة (لاحظ وصف حجرة يوسف في ص 12، ثم وصف المقهى في ص 15،16) وذكر المُهْمَل والعابر، أو علاقة الأشخاص بالمكان، واللغة التي عكست فردية، وأنانية، وفي بعض الأحيان انتهازية بل كُرْهًا لكلِّ ما هو لصيق بالسُّلطة، فتحيل مفرداتها كُلَّ فِعْلٍ بَغِيضٍ إلى الحكومة، فالأسطى قدري عندما أصيب، فالحكومة هي التي أصابته «بطلقات الرصاص» (ص 165). وأيضًا أيديولوجيا السَّارد والسَّرد؛ حيث يتبنى أيديولوجيا مضادة لتلك الأيديولوجيا الرسمية، التي كرَّستها خطب الزعيم المؤمن، أو المُلْهَم، رافضة لكافة المسميات التي تترك الأرض للعدو، وكأن التصاق الشخصيات بالمكان، الضيق إمبابة ­ حتى ولو كان على سبيل الوهم كما سعت فاطمة في تبرير رفض خلعها ملابسها خارج إمبابة ­ خِطَابٌ مضاد للخطابات الرسمية التي فرَّطت في تراب غالٍ مُلَطَخٍّ بدماء وطين الأبناء. كما أن العنوان الأصلى وليس التجاري «إمبابة مدينة مغلقة» يقف هو الآخر مناقضًا لسياسة الانفتاح التي تبنتها السُّلْطَة، وتغوَّلت في كل شيء ولم تفرِّق بين أرض أو عرض، فالثرى العربي، الذي أخذ ثمرة فاطمة ورحل، دون ارتواءها، نموذج صارخ لفشل هذه السِّياسات، فلا بقيت على حالها ــ كما كانت ــ ولا تحقَّق لها الارتواء فالنهر هو الوحيد القادر على إروائها كما يقول يوسف و­ للأسف ­ النهر لم يعد نهرًا، بل إن نظام التقطيع الذي اعتمده السَّارد، ليقاوم عمليات التفتيت للوطن، والتفريط في أقل القليل، فالعناصر مفتتة إلا أنها تؤدي مَعْنىً دلاليًا، هو هذا النص بزخمه، فبدونها لا يكتمل معنى النص، مثلها مثل الوطن. كذلك التوازي الذي أقامه السَّارد مع نصوص تراثية، ليشيرَ إلى تمسُّكِه بجذوره، حتى ولو استلهم نصوصًا غربية كما في حالة نصوص شيكسبير، فهى نصوص أصيلة غير فجَّةٍ، مفهومة تتواءم مع طبيعة نصه، ليست مقحمه عليه.

وكل هذا يشير إلى أن أيديولوجيا النصِّ تأتي كمضادٍ للواقع الذي أُنْتِجَ فيه فتاريخ الكتابة كما هو مدوَّن في نهاية النصِّ ديسمبر 1972، أبريل 1981، وهذا التاريخ كفيل بالتأكيد على فترة من أهم الفترات في تاريخ مصر والمنطقة العربية، فالنتائج بالسلب أو الإيجاب التي تحققت، انعكست على المنطقة برمتها، بل أعادت تشكيل هذه المنطقة، في ضوء الجديد ــ على مستوى السلب ــ الاعتراف بالعدو كشريك، ولاعب محوري في عملية السلام ــ التي لم أرَ أنها خرجت من غرفة العمليات حتى الآن، رغم تغيُّر الأطباء المعالجين، دون إبداء الأسباب للفشل، أهو عن جهل أم عدم القدرة على اكتشاف الخطأ ــ وكذا على مستوى مصر التي تقزَّم دورها وانحسر، كما انحسرت مصر إلى إمبابة في سلبيتها. كما هو الحال في المشهد الأخير «كانت الليلة تنقضي، والهدوء يتراجع، كما تتراجع الأحلام » بل أضيف وليسمح لي أوصياء أصلان، «وتنزوي ثم تموت».

وبعد، هل يمكن لنا أن نقرأ نصوص أصلان دون ربطها بسياقها الذي أنتجت فيه، ومن ناحية ثانية دون ربطها بموقفه الأيديولوجي، الرافض لهذا الكيان الصهيوني، دون خطابية فجة زاعقة؟! أعتقد ­ وربما أكون مُخْطِئًا ­ الإجابة، لا. فمن الظلم قراءة نصوص أصلان بعيدة عن هذا المنحى، حتى ولو عارضنا نداءات بهاء طاهر بعدم سجن قصص أصلان، وتحليلها من «منظورات اجتماعية ونفسية وبل سياسية»(103). فالأمر يتجاوز هذا كله إلى بساطة تنفذ إلى العمق، متخطية السطحية والابتذال، التي تمتلأ بها نصوص غثة، حققت رواجًا لم تحققه نصوص رصينة، أعلى منها قِيمَةً، ونُبْلاً.

 

الهوامش:

(1) محمد بدوي: "الرواية الحديثة في مصر: دراسة في التشكيل والأيديولوجيا "، الهئية المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة 2006، ص 126.

(2) جابر عصفور: مقال الأهرام، الاثنين 16.01.2012

(3) نشرت قصص هذه المجموعة في مجلة جاليري 68، عدد فبراير 1971، حيث نشر منها قصص (الجرح، الرغبة في البكاء، المقهي القديم، التحرر من العطش، والبحث عن عنوان)

(4) واحتوى العدد على ثلاث دراسات لإدوار الخراط، تناول فيها جناليات ااتشكيل، وخليل كلفت، مطبقًا المنهج الماركسي، وغالب هلسا متحدثًا عن واقعية بلا ضفاف.

(5) لا أعدُّ هذا تواضعًا بقدر ما هو ميزة، أسهمت إلى حدٍّ بعيد في تلك السِّمات التي يبدو عليها إبداع أصلان، وهذه الفكرة التي أطلقت عليه في دراسة سابقة عن « محمد البساطي » عن روايته « جوع » ــ إن جاز الوصف ــ « تناسل قصصي »، حيث القصة القصيرة تستثمر في حكاية أطول بنفس أبطالها، والعجيب إن هذه الظاهرة كانت حكرًا على جيل الستيتيات، فيحيي الطاهر عبد الله يستثمر قصة « الدف والصندوق، وقصة الموت في لوحات » في بناء رائعته الطوق والأسورة.إلا أن هذه الظاهرة عادت مرة ثانية في جيل البنات، أو رواية البنات، فمي التلمساني تستثمر قصة قصيرة كتبتها في إنتاج « دنيا زاد » وبالمثل عفاف السيد، تنحو نفس المنحي في رواية « السيقان الرفيعة للكذب ». وهذا الاستثمار للقصة وتناسلها في رواية، ساعد على شدة الحبكة، وعدم الترهُّل، وكأننا مع ضرب من صرامة البناء.

(6) كان العنوان الأصلي للرواية هذا ثم عُدِّل إلى هذا العنوان المجازي، وربما السبب وراء هذا التغيير راجع إلى مواصفات النشر والتوزيع.

(7) مالك الحزين، مرجع سابق، ص؟؟؟

(8) أحمد محمد عطية: « مالك الحزين والأصالة والمعاصرة »، جريدة الشرق، السبت 8 جمادى الأولى، 1410، عدد 531، ص 24

(9) شخصية نرجس في عصافير النيل، مثال ثري على هذا النوعِ من الشخصيات، غير عابئة بالمصير القدري، شأنها شأن إحسان في « حجرتان وصالة ».

(10) مالك الحزين، مرجع سابق، ص: 38.

(11) السابق، صـ 38.

(12) باستثناء شخصية سيد طلب، فهي نازحة من الريف إلى المدنية.

(13) حسين حمودة: « الرواية والمدنية: نماذج من كتاب الستينات في مصر »، سلسة كتابت نقدية، ع (105)، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، سبتمبر (2000) ، ص 71.

(14) السابق صـ 71.

(15) مالك الحزين: مرجع سابق، ص 51.

(16) حسين حمودة: مرجع سابق، ص 71.

(17) مالك الحزين: مرجع سابق، ص 169.

(18) السابق نفسه ، ص 103.

(19) السابق نفسه، ص 83.

(20) السابق نفسه، ص 83.

(21) السابق نفسه، ص 12.

(22) السابق نفسه، ص 17,

(23) السابق نفسه، ص 60.

(24) السابق نفسه، ص 121.

(25) السابق نفسه، ص 121.

(26) د. صبري حافظ: "الحداثة والتجسيد المكاني في مالك الحزين "، مجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سبتمبر 1981، ص 171.

(27) مالك الحزين، مرجع سابق، ص 62.

(28) السابق نفسه، ص 63.

(29) السابق نفسه، ص 82.

(30) وهذا يُفَسِّرُ لنا اختيار العنوان الأول « إمبابة مدينة مغلقة »،ثم العدول عنه إلى العنوان المثبت على الغلاف

 « مالك الحزين »

(31) مالك الحزين، مرجع سابق، ص 78.

(32) السابق نفسه، ص 78.

(33) جيهان عبد الخالق مصطفي:" توظيف المكان في الرواية المصرية "، مخطوطة ما جستير بآداب القاهرة،برقم 618، ص 109.

(34) مالك الحزين، مرجع سابق، ص 88.

(35) ـ محمد بدوي، مرجع سابق، ص 134.، وإن كان يرى محمد بدوي من جملة الشخصيات التي لم تحقق شيئًا عبد الله، حيث عجز عن الاحتفاظ بتجانس واقعه، وإن كان هذا صحيح إلا أنه الوحيد الذي قاوم، ومقاومتة تمثلت في الضرب، اهذا نخرجه من الانهزامية، وإن عجز، فيكفيه نجح في تحقيق التواءم النفسي الذي فشلت فيه جميع الشخصيات، ويكفي لك أن ترى قدري الإنجليزي الذي لم ينفصل عن الانجليز، وهو ابن من أبناء المكان.

(36) السابق: صـ 89.

(37) د, مصطفي الضبع::« إستراتجية المكان: دراسة في جماليات المكان في السرد العربي »، ص 195

(38) السابق نفسه، ص 195

(39) عن دور المقهى الاجتماعي، انظر " قهاوي الأدب والفن في القاهرة "، عبد المنعم شميس، دار المعارف د. ت ,حيق يقول ليس للقهاوي قيمة في ذاتها ولكن قيمتها في روادها، ص 57، وعن التطورات التي لحقت بالمقاهي ووظائفه راجع: محمد جبريل:" مصر المكان "، ص 329، 330،331,

(40) حسن بحراوي: « بنية الشكل الروائي: الفضاء، الزمن، الشخصية »، ص 91.

(41) د. صبري حافظ، مرجع سابق، ص171.

(42) د. مصطفي الضبع، مرجع سابق، ص 195.

(43) محمد بدوي، مرجع سابق ص 137.

(44) د. صبري حافظ، مرجع سابق، ص171.

(45) مالك الحزين، ص 15،16

(46) محمد بدوي، مرجع سابق ص 139

(47) د. صبري حافظ، مرجع سابق، ص171

(48) مالك الحزين، ص 127.

(49) محمد بدوى: مرجع سابق، صـ 127.

(50) رولان بارث:« الدرجة الصفر للكتابة »: ترجمة محمد برادة، دار الطليعة. بيروت 1980، ص 48.

(51) محمد بدوى: مرجع سابق، صـ 127.

(52) مالك الحزين، ص 52.

(53) محمد بدوي مرجع سابق، ص 186. وإن كان العنوان عند:" سامي خشية: مرجع سابق، ص 158،

(54) صبري حافظ: مرجع سابق، ص 176.

(55) مالك الحزين: مرجع سابق، ص 7.

(56) محمد بدوي: مرجع سابق، صـ 127.

(57) اعتمدنا على رواية (مالك الحزين) ضمن إصدارات مشروع القراءة للجميع، مكتبة الأسرة. طبعة 1998.

(58) حسين حمودة: مرجع سابق، صـ 122.

(59) صبرى حافظ: « مالك الحزين والحداثة والتجسيد المكاني »: مرجع سابق، فصول صـ 163.

(60) مالك الحزين: مرجع سابق، ص 63.

(61) السابق نفسه: ص 170.

(62) صبرى حافظ: مرجع سابق، ص 164.

(63) يسمهيها محمد الباردي بالإغراب ويرى « الإغراب بأنه تقديم فصل أو مرحلة من الحكاية عادية بواسطة طرف ثالث لا يفهمها بحيث يكون القارئ مدفوعًا إلى أن يرى في الفصل أو في المرحلة تفاصيل وقيّمًا مخالفة للمألوف وهو يختلف عن مفهوم الغرائبي الذي حدّده تودوروف في كتابه "مقدمة للأدب الفنطاستيكي" فقد حصر هذا المفهوم في تشخيص الخارق من الأحداث وبحث عن الصلة التي تربطه بالعجائبي والفنطاستيكي متحدثاً عن القطيعة مع النظام المعترف به»، راجع في هذا « إنشائية الخطاب في الرواية العربية الحديثة »، دراسة عن مالك الحزين، بعنوان « واقعية الأسطح: سطحية العالم/ إغراب السارد » ص 189، وما بعدها.

(64) مالك الحزين: مرجع سابق، صـ 30.

(65) محمد بدوي، مرجع سابق، ص 133. والتشديد من عندنا.

(66) مالك الحزين، السابق، صـ 59.

* والأمثلة على هذا عديدة منها، ما فعله مع الشيخ جنيد وركوبهما في البحر فلوكه. ص 31 وما فعله عند ركوب الموتوسيكل، ص 56.

(67) محمد بدوى: مرجع سابق، ص 136، "وبالاحتيال يتوازى مع على الزئبق في سيرة على الزئبق"

(68) صبري حافظ: مرجع سابق، ص 164.

(69) هذه من ضمن الحكايات التي أضافها ابن المقفع عند ترجمتة النص عن الفارسية إلى العربية، وقد ذكر محمد حسن نائل المرصفى في تقديمه المحقق لكليلة ودمنة طبعة مؤسسسة الزين بيروت 1980، إن هناك ستة أبواب لم تكن، وهي (مقدمة الكتاب على لسان بهنود بن سحوان، المعروف بأبي على بن الشاه الفارسي، وباب عرض الكتاب لابن المقفع، وباب الفحص عن أمر دمنة، وباب الناسك والضيف وباب مالك الحزين، والبطة، وباب الحمامة والثعلب ومالك الحزين)، وقد جاء ذكر مالك الحزين في باب " الحمامة والثعلب، ومالك الحزين " وهو باب يضرب به لمن يرى الرأى لغيره ولا يراه لنفسه، للمزيد راجع الدراسة الضافية، لأحمد محمد عطية، بعنوان:" مالك الحزين والأصالة والمعاصرة "، مرجع سابق، ص 24.

* إضافة إلي المفارقة التي تولد السخرية ومن ذلك ص 60.

(70) حسين حمودة: "الرواية والمدينة"، مرجع سابق، صـ 71.

(71) محمد بدوي : مرجع سابق، ص 129.

(72) السابق: صـ 132.

(73) كافين رايلي: "الغرب والعالم: تاريخ الحضارة من خلال موضوعات"، ت:عبد الوهاب المسيري،

د. هدى عبد السميع، مراجعة د. فؤاد زكريا، عالم المعرفة، الكويت، الجزء الأول، 1985، صـ 79.

(74) مالك الحزين : مرجع سابق، ص 39.

(75) السابق نفسه: ص 56.

(76) السابق نفسه: ص 167.

(77) السابق نفسه، ص ص 30، 31 (والتشديد من عندنا).

(78) السابق نفسه، ص 162.

(79) السابق نفسه، ص 55.

(80) السابق نفسه: ص 33.

(81) السابق نفسه: ص 105.

(82) السابق نفسه: ص 104.

(83) السابق نفسه: ص، ص 16، 17.

(84) بالمثل موقف الشيخ حسني مع الشيخ جنيد عند ما يصف لنا ملامح وجه أثناء الفزع عند الغرق.

(85) مالك الحزين : مرجع سابق ، ص 56.

(86) ا السابق نفسه، ص 32.

(87) السابق نفسه، ص 35.

(88) السابق نفسه: ص، ص 51، 52.

(89) محمد بدوى: الرواية الحديثة في مصر، صـ 151.

(90) حسين حمودة: " المدينة في الرواية " مرجع سابق" ص 322.

(91) شحات عبد المجيد:.« بلاغة الراوي: طرائق السرد في روايات محمد البساطى »، ص94.

(92) السابق، ص 88.

(93) مالك الحزين ، مرجع سابق ص 17.

(94) السابق نفسه، ص ص 25، 26 (والنشديد من عندنا)

(95) شحات محمد عبد المجيد: مرجع سابق ص 145.

(96) مالك الحزين، مرجع سابق، ص 26.

(97) السابق، ص 26.

(98) شحات محمد عبد المجيد: مرجع سابق، ص96.

(99) السابق: ص 115.

(101) مالك الحزين: مرجع سابق، صـ 96.

(102) السابق نفسه: ص 137.

(103) بهاء طاهر: " إبراهيم أصلان: نقاء القلب واللغة "، جريدة الأهرام، المصرية، بتاريخ 14.01.2012.

 ثانيًا المصادر والمراجع:

(1) إبراهيم أصلان: « مالك الحزين »، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1997.

(2) لأحمد محمد عطية: « مالك الحزين والأصالة والمعاصرة »، جريدة الشرق، السبت 8 جمادى الأولى، 1410، عدد 531.

(3) بهاء طاهر: « إبراهيم أصلان: نقاء القلب واللغة »، جريدة الأهرام، المصرية، بتاريخ 14.01.2012.

(4) جابر عصفور: « أيام الموت الموجعة »، جريدة الأهرام، المصرية، الاثنين بتاريخ 16.01.2012

(5) جيهان عبد الخالق مصطفي: « توظيف المكان في الرواية المصرية »، مخطوطة ما جستير بآداب القاهرة، برقم 618

(6) حسن بحراوي: « بنية الشكل الروائي: الفضاء، الزمن، الشخصية »، المركز الثقافي في العربي، بيروت،

 الدار البيضاء، ط أولي، (1990).

(7) حسين حمودة: « الرواية والمدنية: نماذج من كتاب الستينات في مصر »، سلسة كتابت نقدية، ع (105)، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، سبتمبر (2000)

(8) عبد الله إبراهيم: « المتخيل السردي: مقاربة نقدية في النتاص والرؤى والدلالة »، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط (2)، (1996).

(9) عبد المنعم شميس: « قهاوي الأدب والفن في القاهرة »، دار المعارف، مصر، د. ت.

 (10) سامي خشية: « مالك الحزين وإمبابة » ع (2) السنة الرابعة، مجلة إبداع، الهئية المصرية العامة

 للكتاب، 1983

 (11) شحات محمد عبد المجيد:.« بلاغة الراوي: طرائق السرد في روايات محمد البساطى »، كتابات نقدية ع (III)، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، أكتوبر 2000.

(12) صبرى حفاظ: « مالك الحزين والحداثة والتجسيد المكاني »، مجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، سبتمبر 1981.

(13) محمد الباردي: « إنشائية الخطاب في الرواية العربية الحديثة »، من منشورات، اتحاد كتاب العرب، دمشق، 2000.

(14) محمد بدوي: "الرواية الحديثة في مصر: دراسة في التشكيل والأيديولوجيا "، الهئية المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة 2006.

(15) محمد جبريل: « مصر المكان: دراسات في القصة والرواية »، كتابات نقدية، ع، (71)ـ الهيئة العامة

 القصور الثقافة، القاهرة، فبراير (1998)

(16) مصطفي الضبع:« إستراتجية المكان: دراسة في جماليات المكان في السرد العربي »، كتابات نقدية،

 ع(79) الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، أكتوبر، (1998)

 

ثالثًا المراجع الأجنبية المترجمة:

 (1) رولان بارث: « الدرجة الصفر للكتابة »، ترجمة محمد برادة، دار الطليعة. بيروت 1980

(2) كافين رايلي: « الغرب والعالم: تاريخ الحضارة من خلال موضوعات »، ت:عبد الوهاب المسيري، د. هدى عبد

 السميع، مراجعة د. فؤاد زكريا، عالم المعرفة، الكويت، الجزء الأول، 1985