يستبين الباحث تقشرات جلد بعض المثقفين المعارضين للنظام السوري. ويرى أنها تكشفت عن طروحات متتابعة، مشدودة إلى حبال الحرج من الفعل الأخلاقي، مما يدفعهم للمناورة المسعورة مع النظام، من خلال التلاعب على مفاهيم نكوصيّة الفحوى كـ"التوسطات" و"الواقعي" و"الحوار الوطني".

محاورو النظام السوري: باعة أساطير أم سعاة أوهام؟

صبحي حديدي

منذ أن فاجأت الانتفاضة السورية، ومثلها جميع الانتفاضات العربية، الغالبية العظمى من شرائح المثقفين والنُخَب والشخصيات المعارضة، فأخذتهم على حين غرّة، ومن حيث لا يحتسبون كما يتوجب القول؛ صدرت عن هؤلاء سلسلة "قراءات" للأوضاع القائمة، أو القادمة، تراوحت بين ردّ الفعل المعبّر عن الحماس الشديد، أو ردّ الفعل المتشكك بحذر شديد، أو ردّ الفعل الذي يسعى إلى تمويه المفاجأة بأقنعة شتى تميل إلى السفسطة عموماً، ولكنها لا تفلح دائماً في إخفاء عناصر شعورية دفينة مثل الارتباك والحرج والحيرة و... بعض الجرح النرجسي، أيضاً! لم يكن سهلاً، في منح فضيلة الشك إلى هذه الحال المعقدة، أن يكتشف مثقف سُجن ثلاث أو أربع أو سبع سنوات، أنه كان غافلاً إزاء، وربما قاصراً مقصّراً في إدراك، هذا الحراك العبقري الفذّ الذي كان يعتمل في صدور الصبايا والشباب، واندلع بغتة وبقوّة، فهزّ أركان نظام استبداد وفساد وراثي، أمني وعسكري واستثماري، يواصل البقاء منذ 41 سنة بصفة ديناصورية أو تكاد.

هذا المثقف ـ والأمثلة على نموذجه ماثلة للعيان، وافرة كثيرة، فلا حاجة إلى تعيين بعضها إسمياً ـ انضوى في صفّ الانتفاضة دون إبطاء بالطبع، وكما للمرء أن ينتظر من "مثقف ثوري" أو "مثقف عضوي" أو "مثقف ملتزم"؛ ولكنّ "القراءات" التي اقترحها للانتفاضة سرعان ما انقلبت عنده إلى هواجس، ثمّ ارتيابات (شبه ديكارتية أحياناً!)، فاشتراطات (تتوسل "العقل" دائماً، وتُعلي شأن "السياسة" بوصفها "توسطات" وليس تظاهرات!)، وصولاً إلى حال مدهشة من القطع، وبعض القطيعة، مع أهل الانتفاضة أنفسهم، والشباب منهم بصفة خاصة. وهكذا، رأيناه ينحو باللائمة على رافعي شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، لأنه غير واقعي، وغير قابل للتحقق؛ ويطري تيّار الحوار مع النظام لأنه، في المقابل، سلوك "واقعي"؛ ولا يتردد في الاعتراف بأنّ النظام لن يقبل الحوار أصلاً، ولكن هذا هو المطلوب: إحراج النظام أمام الشرائح المترددة من أبناء الشعب!

هو، في جانب آخر لا مفرّ من اقترانه بهذه المعادلة، يتعامى تماماً عن حقيقة أنّ آلة البطش الفاشية التي اعتمدها النظام في قمع الانتفاضة، وانطوت على استخدام كلّ الأسلحة وكلّ النيران وكلّ الفظائع وكلّ صنوف التنكيل الهمجية، بما في ذلك التصفية الجسدية المباشرة، والتمثيل بالجثث، واعتقال الرضّع وتعذيب الأطفال واغتصاب الصبايا والنساء... لا مكان في قواميسها لمفردة "حرج"، ولا لأية مفردة أخرى توازيها في المعنى والدلالة. بيد أنّ هذا التعامي هو، في حقيقته الباطنية، والسيكولوجية ربما، صيغة في مداراة حرج المثقف صاحبنا، وليس حرج النظام عملياً؛ وثمة، هنا، مسعى للتحايل على اصطفافات وطنية وسياسية وأخلاقية صارت جلية وصريحة، ولا تقبل التوسط أو التسوية أو المساومة.

والمرء، إلى هذا، لا يعدم عند صاحبنا المثقف إياه ذلك التذاكي في تقليب الموقف من النظام، ورأس النظام شخصياً، على وجه وقفا، في آن معاً: هو، تارة، مستبدّ، يائس، يقود البلاد إلى الكارثة، ولا سبيل إلى بقائه على رأس الحكم؛ ولكنه، تارة أخرى، جدير بأن ينقلب إلى مواطن صالح خدم بلاده، ويستحقّ التكريم والتعظيم وكامل حقوق المواطنة! هو، مرّة، "الرئيس الدكتور" الذي يتوجب التوجه إليه لإنقاذ البلاد من الأخطار المحدقة بها؛ ولكنه، مرّة أخرى، رأس نظام مستبد فاسد يتوجب رميه في "تنكة الزبالة"! وإذْ يدعو إلى الحوار مع النظام، سواء من أجل هدف "الإحراج" دون سواه، أو لاكتساب فئات اجتماعية أخرى إلى صفّ الانتفاضة؛ فإنّ صاحبنا المثقف يعترف بأنّ كلّ ما يعد به رأس النظام هو "الحرب على الإرهاب"!

وأمّا الرافعة الكبرى في تفكيره، ولعله يرى فيها سلاحه السجالي الأمضى، فهي هذه المعادلة العالقة، أو بالأحرى المعلّقة عن سابق قصد وتصميم، بحيث تسدّ الآفاق جميعها ولا تفتح إلا كوّة واحدة، تفضي إلى الحوار مع النظام: النظام عاجز عن إخلاء الشوارع من المتظاهرين، والمتظاهرون عاجزون عن إسقاط النظام. حسناً، فما العمل إذاً؟ يجيب صاحبنا: الحوار الوطني، بين الجميع، ومع الجميع، على غرار ما يقترح "المثقفون". إجابة فرعية، على السؤال ذاته، تذكّر بالمثال الأوروبي، وفي أوروبا الشرقية خاصة، حيث كان المجتمع المدني والمثقفون هم الذين أسقطوا الدكتاتوريات؛ الأمر الذي يوحي بأنّ الحراك الشعبي الراهن، المتمثل في الاحتجاجات والتظاهرات والإضرابات، هي الأفق المسدود؛ والأفق الآخر، المفتوح، هو ذاك الذي ينخرط فيه مثقفو المجتمع المدني.

وقارىء هذه الآراء، خاصة إذا كان غريباً عن الملفّ السوري، أو غير ملمّ بتاريخ نظام الاستبداد والفساد الورثي هذا، قد يقع بالفعل أسير سطوة المعادلة، التي تبدو أقرب إلى "العقل" و"السياسة"، كما تحمل صفات "الواقعية" و"الاعتدال". ولا يزيد في جاذبية هذا الطرح إلا أضاليل النظام التي تقول إنّ السلطة تدعو إلى الحوار الوطني، والمعارضة هي التي ترفض المبدأ وتعطّل المصالحة. العارف، في المقابل، ليس بحاجة إلى قدح الذاكرة لكي يستعيد النقيض تماماً، فلا يكشف لعبة النظام في التضليل والمراوغة، بينما البطش يزداد وحشية ودموية، فحسب؛ بل يتنبه إلى مقدار البؤس في أطروحات هذا النموذج من المثقفين المعارضين دعاة "الحوار الوطني". ذلك يجعلهم، على نحو أو آخر، باعة أساطير، أو سعاة أوهام، أو أتباع منزلة بين المنزلتين... لعلها أدهى وأمرّ!

ذلك لأنّ الأسد الابن، ومنذ السنة الأولى لتوريثه، عبّر عن مزاج كاره للمثقف المعارض، اختلطت في ثناياه عناصر التهكم والسخرية والاحتقار والتخوين، بل إنكار الوجود أيضاً، وذلك في حديث شهير إلى صحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية، مطلع العام 2001. ولقد بدأ من مبدأ التخوين، ليس دون فذلكة معتادة: "في كلّ المجتمعات هناك الأبيض وهناك الأسود وهناك حسنو النيّة وسيئو النية"، وبذلك: "لا نستطيع أن نقول إننا أمام حالة مطلقة. هل يمكن أن نقول بأنّ كلّ الناس عملاء؟ هذا مستحيل. هل يمكن أن نقول إنّ كلّ من يطرح فكرة ظاهرها إيجابي هو وطني؟ أيضاً هذا مستحيل". ولقد اعتبر أنّ أفعال هؤلاء المثقفين (وهي، للتذكير المفيد، لم تتعدّ البيانات وارتياد المنتديات، فلا أحد تظاهر، ولا أحد اعتصم أو أضرب) إنما "تمسّ الاستقرار على مستوى الوطن"؛ ثمّ اختار للأمر احتمالين: "أن يكون الفاعل عميلاً يخرّب لصالح دولة ما، أو أن يكون جاهلاً ويخرّب من دون قصد"؛ وجزم حول النتيجة: "الإنسان في كلتا الحالتين يخدم أعداء بلده".

كذلك لجأ الأسد إلى ما أسميناه، آنذاك، مداواة المثقفين بما كان هو الداء... في ظنّه، بالطبع. ولقد سأل، في التعقيب على بيانات المثقفين: "أنا لا أعرف من هم هؤلاء الأشخاص الذين سمّوا أنفسهم المثقفين. هل هم مثقفون فعلاً أم ماذا؟ لا توجد لديّ معلومات". كان ذلك التصريح مدهشاً من رئيس أحاط نفسه، منذ انطلاق سيرورة توريثه، برهط من الكنوقراط غير البعثيين إجمالاً، ممّن شكّلوا "مجموعة الـ18"، أو الـG-18 حسب تعبير الكاتب الأمريكي المنافق فلنت ليفريت، من أمثال ماهر المجتهد، نبيل سكر، سمير سعيفان، رياض الأبرش، سامي الخيمي، غسان الرفاعي، وعصام الزعيم... هذا فضلاً عن بعض المثقفين المنتمين تاريخياً إلى اليسار.

وكان من غير المعقول أنّ الأسد يقصد القول إنه لا يعرف المثقفين المعارضين معرفة شخصية، أو لا يعرف ما الذي يمثّلونه اجتماعياً وسياسياً وثقافياً ومعرفياً، إذْ كيف كان ممكناً له أن لا يعرف مَنْ هو أنطون مقدسي، أو عارف دليلة، أو عبد الرحمن منيف، أو ممدوح عدوان، أو علي الجندي... من موقّعي بيان الـ99؟ وكيف يمكن لرئيس "شاب"، يعلن نيّة التغيير والتطوير، أن لا يعرف صفوة مثقفي بلده؟ الحقّ أنه كان يعرف معظم مثقفي سورية من موقّعي البيانات وناشطي المنتديات ولجان إحياء المجتمع المدني، وما كان يقصده من إنكار في التساؤل، ("مَنْ هؤلاء؟")، لم يكن يخصّ الهوية والموقع والمعرفة الشخصية، بل يتناول جوهرياً القول إنهم مجرّد نكرات: ما قيمتهم؟ وما أهمية ما يقولون ويكتبون؟

ذلك لأنه، وفي الفقرة التالية مباشرة، يذهب إلى التشكيك حتى في تعريف المثقف كما يمكن أن يحمله أصحابنا، فيسأل، ليس دون النبرة الأكاديمية المعتادة: "لكن ما هو المقصود بكلمة مثقف؟ هي كلمة عامة إلى حدّ ما. هل من يطّلع على مواضيع مختلفة هو مثقف؟ هل صاحب الشهادة العلمية هو مثقف؟ هل من يقرأ كتباً كثيرة هو مثقف؟ هل من يكتب الشعر أو القصة أو الرواية أو يعمل في الصحافة هو مثقف؟ هي كلمة غير واضحة الحدود. وعلى كلّ حال هذا التصنيف غير معتمد بالنسبة لي"! كذلك كان الأسد يعلم أنّ هاجس مثقفي سورية، في تلك الأيام كما هي الحال اليوم أيضاً، لم يكن التوافق حول تعريفات المثقف، بل حول تعريفات الحقّ والحرّية والقانون، وحول الاجتماع والسياسة والاقتصاد والثقافة، وحول الانضمام إلى عالم أخذت فيه الأنظمة الشمولية الدكتاتورية تنقرض واحدة تلو أخرى، وحول ضرورة إحداث تغيير ديمقراطي جوهري في حياة البلاد، وحول الماضي والحاضر والمستقبل.

لكنّ تركيزه على تعريف المثقف، بدل مناقشة آراء المثقفين وفحوى بياناتهم، لم يكن يُراد منه ممارسة رياضة الفذلكة وحدها، بل صياغة تعريف المثقف كما تعتمده فلسفة النظام. هنالك نوعان من الأشخاص، قال الأسد: "شخص يفكّر ويخرج بنتائج ضارّة للوطن"، و"شخص يفكّر ويخرج بنتائج مفيدة للوطن"... هكذا، باختصار شديد. ولأنّه لم يضرب مثلاً على أيّ من الشخصين، فقد كان منطقياً أن يشغل أنطون مقدسي، آنذاك، موقع النمط الأوّل؛ وأن يشغل علي عقلة عرسان موقع النمط الثاني: الأوّل طالب بتحويل سورية من قطيع إلى شعب، والثاني طالب بتحويل المثقفين من بشر إلى سائمة.

وليس مدهشاً أنّ النظام لم يحتمل، في الماضي، نبرة الاعتدال التي طبعت معارضة بعض المثقفين دعاة الحوار، فاتهمهم بـ"إثارة النعرات الطائفية و"وهن عزيمة الأمّة"؛ وأنّ النظام لا يحتملهم اليوم، أيضاً، حتى إذا كان يُحسن ترويج بضائعهم وتغذية هواجسهم، الأساطير منها والأوهام... على حدّ سواء!