هي تراتيل خص بها (الكلمة) الشاعر المصري المرموق، تمثل جزءا مهما من تجربة البدايات. يرغب الشاعر من خلالها كتابة الحنين لاستعادة الزمن الجميل الذي تركه يوما خلفه بدون رجعة، وهي شهادة أيضا على مرحلة وتاريخ لايزال يعتمل في الذاكرة. وحين يستعيدها شاعرنا اليوم، فلرغبة استرجاع تلك القيم ونبلها لاستشراف المستقبل، ولعلها نفس قيم "الكلمة" وهي تستأنف الصدور من جديد.

ديوان

تراتيل الهزائم الجميلة

ديوان تأخر أربعين عاما

فرانسوا باسيلي

إيضاح

فى هذا الديوان أضم عددا من قصائدي المبكرة التى كتبتها فى نهايات الستينات وأوائل السبعينات  - بعد هزيمة  ٦٧ المروعة وقبل إنتصار العبور الباهر -  وكنت في العشرينات من عمري - وقد نشر معظمها وقتها فى مجلات الهلال والمجلة بمصر ، والآداب ومواقف بلبنان ، ولم تظهر في ديواني الأول   (تهليلات إيزيس 1998 مدبولي) - ولا أعرف لماذا لم  أهتم بنشرها في ديوان في ذلك الوقت-   وانشرها الآن كشهادة تعبر عن روح تلك الفترة- فترة احتضار ما يشير إليه الكثيرون بالزمن الجميل.

 وأعرف أن الذائقة الشعرية اليوم قد تخطت ذائقة الزمن الجميل، ولكن هناك فى الشعر أشياء تبقى رغم عوامل التعرية القاسية التى يتعرض لها الحجر والبشر والشعر على السواء.. خاصة وأن البدايات تحمل دائما بذور النهايات، ولعل فى الآسي والرؤية التى تحملها هذه القصائد المبكرة إضاءة للسنوات التى تلتها وصولاً إلى اللحظة الحاضرة الشديدة الانحدار لمصر والعالم العربي.

يناير1970 كان شهرا مشهودا بالنسبة لي، ففيه ظهرت لي دفعة واحدة قصيدة طويلة فى مجلة الهلال المصرية وثلاث قصائد فى مجلة"المجلة" التى كان يشرف عليها الكاتب الكبير يحي حقي.

ويمكن بهذا اعتبار شهر يناير70 شهر ميلادي كشاعر مصري ظهرت قصائده الأولى فى أهم المجلات الأدبية المصرية وقتها بالأضافة إلى مجلة مواقف البيروتية التى كان يصدرها الشاعر الكبير أدونيس والتى ظهرت لي بها عدة قصائد فى نهايات العام السابق 1969

وفى نهاية الشهر نفسه هاجرت من مصر إلى نيويورك هجرة شرعية كنت أعد أوراقها منذ عام تقريبا. ودعني أهلي وأصحابي فى مطار القاهرة يومها كمن يودعون عزيزا مات . وهكذا كان شهر مولدي كشاعر هو نفسه شهر موتي كمواطن مصري، وقد اقترن شعري منذ ذلك الوقت بهذا الحدث الجلل، وجاء ماكتبته من شعر بعد ذلك معبرا بشكل أو بآخر عن الهجرة والغربة والمنفى .وعلى إثر زياراتي لمصر مؤخرا تصاعد خيط شعري آخر هو الهلع لما اصاب مصر من تحولات أليمة وما آل اليه حالها بعد أفول شمس الزمن الأجمل - زمن الهزائم الجميلة.

فالمحزن حقا هو أن ذلك الزمن بكل هزائمه و آلامه يبدو الان الأكثر جمالاً و نبلاً و بهاء مقارنةً بما تهاوت إليه احوال مصر و المنطقة اليوم . فالهزائم علي مرارتها كانت كبوات الفارس النبيل و احلامه الجميلة، كانت  هي خيبات العشاق المتيمين التي تلفها رايات الشوق للحرية و النهضة، كانت تقطر شهداً مع كل قطرة مر، كان لها شرف المحاولة وعزة التوق وعنفوانه.

 لم تكن هزيمةً للروح ولاللحلم..كما هي اليوم.

فالغريب أن القصائد التي تفتتح الديوان، والمكتوبة في قاع سنوات الهزيمة في ٦٨ و ٦٩ بها شحنة مدهشةٌ من الأمل والإصرار علي الفرح بأكثر مما أكتب به ويكتب به كتاب وشعراء مصر اليوم.

ولهذا أقدم تراتيل الهزائم الجميلة .. بعد حوالي أربعين عاماً من كتابتها.. كشهادة تعبر عن روح تلك الفترة.. لعلها تحمل من ذلك الماضي المتوهج طاقةً محفزةً للحاضر البائس.

 نيويورك - يناير 2010

بعد قليل

زمن الحرب قتيل بعد قتيلْ

زمن الحرب عويل

زمن الحرب وداعٌ

دمع ومناديل

زمن الحرب طويل

...............

بعد قليل

بعد قليل

تضحك ياأرغول

ترقص ياأرغول

أرجع من غابات النار

من عطش الأسفار

أملأ أرضي فرحاً ومواويل

أكتب اسمي

واسم حبيبي

فوق ضفاف النيل

ياوطني وأقول

زمن الحب جميل.

كتبت في القاهرة1968 م ونشرت في مجلة الهلال يوليو 1969

وعد

مالت على النخيل

الشمس ثم غابت

وأطبق الظلام فوق الوادي

لكنها

من قبل أن تميل

أهدت إلىَّ وعدها الجميل

أن لا يطول الليل والعويل

فى بلادي.

القاهرة  ١٩٦٨

البكاء فى عرس العالم

إلى س. د.

الآتية كالفرح إلى دموع العالم

قصة هذه القصيدة

كتبت هذه الكلمات اقدم فيها ملابسات هذه القصيدة واصفاً حالة كاتبها الشاعر والظروف الشخصية والوطنية التي افرزتها:

رأى الرجال تهرول فى شوارع القاهرة والدموع على وجوههم غزيرة، انتهى عبد الناصر لتوه من خطابه المزلزل الذى أعلن فيه خبر هزيمة عسكرية هائلة، وضياع مساحة عظمى من الأراضى العربية، وسقوط الحلم العربى سقوطا كوني الأبعاد، وصدم الشاعر الشاب، وهو يعيش هذا الكابوس أمام شاشة التليفزيون مع مئات من المتزاحمين فى مقهى بحي (الدقى) المجاور لجامعة القاهرة، التى يتخرج فيها هذا الصيف(1967) ، وخرجت الجموع مندفعة للشوارع تتخبط فيها كالأمواج فى ضياعها الوجودي العظيم، بعد انقطاع حبل الرحم الذى كان يصلها بأمل الغد ومجد الماضى معا.

فجع الشاعر الشاب فى أعظم ما يمكن أن يفجع فيه إنسان مثله: ليس فى شخص قريب أو حبيب، وإنما فى وطنه بأكمله، فى جماع الناس والبشر من حوله الذين يمنحونه المكان والزمان والمعنى والأمان، فى الزعماء والأدباء والشعراء، فى الأناشيد والأعياد والأمجاد، في الثورات والانتصارات، فى كل ماهو واعد وجميل ومبشر فى حياته، فى تاريخه ومستقبله.

العام والخاص

ومما زاد من عبثية هذه الفجيعة أنها جاءت متزامنة مع قصة حب عميقة مليئة بالفرح والوعود الجميلة وأهازيج الأمل والعناق، فقد أرسل الشاعر قبل أيام من كارثة الخامس من يونيو ـ  حزيران ـ خطابا إلى من أحبها قلبه، فلسطينية تقيم فى عمان بالأردن، يصرح لها لأول مرة بمشاعر ه نحوها، وهكذا وجدت (سعاد) نفسها تتسلم رسالة من صديقها الذى قابلته لفترة، وراسلته لمدة، يدعوها فيه لمشاركة حياته، فى نفس الأسبوع الذى يكتمل فيه ضياع وطنها فلسطين، وهاهو الحب يفتح طاقة فى توقيت غير ملائم أبدا. فيمتزج الألم العام بالأمل الخاص، فى عناق أليم ملئ بالذنب والغضب والأسى والتوثب، هكذا تكتب له فى ردها عليه. تبادله مشاعره فيعيشان لحظة زمنية بالغة الانفصام، ينهار فيها عالمهما الخارجي فى مصر وفلسطين انهيارا عظيما، بينما يبدأ عالمهما الداخلي فى بناء عالم مسحور من الحب والأمل والتطلع، ويعبر الشاعر عن هذا فى قصيدة ينشرها له الناقد الكبير الأستاذ رجاء النقاش فى مجلة الهلال ـ يناير1970م بعنوان (البكاء فى عرس العالم).

………………………..

…………………………

حين حملت هذه القصيدة وذهبت لزيارة الناقد الكبير رجاء النقاش(رحمه الله) بمكتبه بدار الهلال عام1969 بعد أن نشر أول قصيدة لي  فى الهلال فى يوليو69 ، نظر إلي الأهداء الذى كتبته تحت عنوان القصيدة وسألني بسرعة: "إنت خطبت؟" وباغتني سؤاله فقد كنت شابا خجولا غير معتاد على ان افصح بمكنوني الشخصي سوى تحت غطاء الشعر لكنني لم استطع سوى أن أجيب قائلا: نعم. والحرفان س. د. يرمزان إلى خطيبتي سعاد دلل (زوجتي وأم أولادي اليوم). ويكشف هذا عن اهتمام الناقد الكبير بالنواحي الشخصية للشعراء الشبان الذين يحتفى بتقديمهم للقراء بحب حقيقي، وبلا تكلف أو استعلاء بل ببساطة شديدة. هكذا كان رجاء النقاش رحمه الله قامة إنسانية كبيرة قبل أن يكون صرحا أدبيا هائلا طوال النصف الثاني من القرن العشرين.

البكاء فى عرس العالم

(إلى س. د. الآتية كالفرح إلى دموع العالم)

أطير كي أضئ في فجيعة المصيرْ

لأنني أول هذا العالم الآخير

لأنني الفاتح والأسير

لو تضفرين مثليَ الأشواك حول جبهتي

لو تشربين كأسي المرير

لو تحملين- مثلما حملتُ- كوكب الدمار

وتفرحين بالأسي، وتنذرين عرسنا للنار

لو يسقط الإزار

عن جسمك الإله، تعبرين آخر الأسوار

وتدخلين عالمي الضائع بين الأرض والسماء

فتمنحين الحب والجفاء

وتصبحين توأمي

وأول الأعداء

لو تشردين فى أنحاء الأرض تبحثين عن وطن

لكنتِ انتِ زوجتي التى عرفتها فى أول الزمن

وآخر الزمن

.........

حينما تلألأ الدمع الجميل فى اشتعال الليل بالزفافْ

رأيتُ ياحبيبتي أضواء هذا العالم الذى بلا ضفاف

تجئ من نهاية الأرض ، رأيتُ العالم الطّواف

يجيئني مباركا مدينة مدينة

ضممته، أجهشتُ فجأة بالفرحة الحزينة

عرفت أنه أتى ليسترد الدين والرهينة

منحته مقابل الأفراح دمعة

وفى مقابل الحب الضغينة

فرحتُ بالمهنئين والمعّزيين

صُلبتُ وأبتهجتُ واحترقت عاليا

دفعت مهرك الثمين

.........

العالم الحزين جاء قال لي: زفافكَ الموتُ

وفى  رحيلكَ القيامة

وهزّني، وقال لي: الريح رايةٌ

والبحر أول العلامة

وقال لي: لاتطلب السلامة!

..........

خرجت ذاهل العينين فوق جبهتي غبارْ

أضرب فى القفار

أبحث عن حقيقة الليل وعن خرافة النهار

أدخل كل دار

ضاربا كالسيف فى حجارة الجدار

عاشقا ممزقا

ضاحكا محترقا

لو تجمعين كل جرح لي فى هذه المدن

لو تحملين الكون فى يديكِ والزمن

تهللي..تهللي

اليوم لاثياب لي ولا وطن

اليوم أستعيض عن فداحة الحكمة بالبراءة

واستعيض عن دموعنا

براحة الشجن

اليوم أهدمُ الذى بنيتْ

أنثرُ الذى جمعت

أُزف للهواء

للعالم الراقص فى تدفق الدماء

أُزف للبكاء

فى انتظار طفليَ الضاحك والبرئ

فى انتظار الكوكب المضئ

والساحر المخلّص الذى بلا مجئ

كرهتُ أن أراكَ ياتمخضاً مخادعاً

وعالما مفجّعا

كرهتُ أن أراك

لكنني سقطتُ فى هواك

عشقتُ أن أكون خارجا وداخلا

وآتيا وراحلا

نذرت للهلاكْ

للريح والشجرْ

والنار والمطر

تهللّي..تهللّي

اليوم صرتُ ساحرا وعاشقا

ودمعة على حجر

وضربة على وتر

فاستقبلي مجيئيَ المحيّر الغريب

بالورد والصليب

اليوم صرتُ ميتّا

فاستبشري وانتظري

غدا أعود كاملا كالقمرِ

لنكمل الطوافْ

بالحزن والأفراح حول النهر والضفاف

ونشعل الدموع ياحبيبتي

ونبدأ الزفاف.

نشرت بمجلة الهلال المصرية يناير1970

زفاف العروس إلى نفسها

تعلقين بي

كالذنب

كالدموع مابكيتها

كالشمس والنجوم فى مدارها

يازوجتي التى لم أحضر اكتمال عرسها

لم أحضر انكسارها

فى الليل، وارتعاش نفسها

وخوفها من ذلك الذى فراشه للريح للجراح مملكة

غيابه مجاعة

مجيئه ضراعة وتهلكة

يازوجة مباركة

تركتها فى ليلة الزفاف

وحيدة، لأنني أخاف

أن تذبل الزهور فى يدي

وأن يصيبني الجفاف

أخاف أن تموت ما بالقلب من مسرّه

أراك ياحبيبتي حزينة ومرّة

لاتمنحين خمرة ولاغذاء

أصير مثل شجرة

وحيدة تمد ظلها إلى السماء

فتحسدينني

وتكرهينني

أيتها الجميلة الخضراء

.............

الحزن يفتح الطريق كل ليلة لرحلتي

ويرفع الثياب لي

أقوم عاريا

وأعبر الهواء

وأحمل السماء فوق جبهتي

وأطعن الجسد

ذاك الذى جراحه مضيئة إلى الأبد

على حوائط السنين- حيث تكبرين- أستند

فتفرحين بي

وتدخلينني

أخاف..أرتعد

من يمسك الروح الذى لا يتئد؟

لأنني دخلت بيت عالم ضيوفه بلا عدد

أذوب فى عيونهم..ولاأجد

من يشبه الذى رأيته

فى حلمي القديم، وانتظرته

من يفتح الذراع لي

من يدفئ الجسد؟

لا أنت باحبيبتي

ولا أحد.

مجلة المجلة المصرية يناير 1970 وأيضا مجلة مواقف فى بيروت 

فليكن

شعري خروجاً من كفن

صدراً رحيباً يحتضن

من بلا أرض ولا مأوى، ومن

يحيا غريباً في الوطن.

………………

فليكن شعري مروجاً وسنابل

وفراشات وورداً وجداول

وحنيناً للديار

وليكن ماء لمن يظما

وللجوعى ثمار

وليكن في الليل عرساً ومشاعل

وليكن برجاً وأسراب حمام

وأغاني للسلام

1968

الشاعر

جالس في الجحيم

جالس لا أقوم

معطفي مثقلٌ بالحصي والنجوم

والاله القديم

لغتي لعنتي

جالس في البداية

فاتح صدر ثوبي لأرضي

لغتي زوجتي

لغتي شهوتي والغواية

لغتي نزوة وجنون

لست أتبع أحداً

ويتبعني الغاوون.

مسرحية

يرفع الستار

عن بلد مهدم منهار

وعن ممثلين مسخرة

يصرخون يقفزون

يضربون الرأس في الجدار

يكذبون يسرقون

يخفضون الرأس في إنكسار

أخرج ثائراً

لكنني أعود مثل الطفل

أحضن الممثلين والكومبارس

وأقبل الجدار

يحلقون حولي

يطعنونني في القلب

فأخر فوق المسرح المنهار

ويسدل الستار

حادثة

اطلقوا رصاصهم

في الليل

سقطت فوق جبهتي

وملت فوق حافة الجدار

وفي الصباح

بعدما شربت قهوتي

رأيت في جريدة النهار

جثتي

وقرأت

أصيب أمس في حادثة قطار -

سعيكم مشكور

إعتراف

وتسألين: ما الذى يغويك خارج الحدود؟

وتسألين: ماالذى

يبعث فيك الحلم والشرود؟

وتسألين...تسألين

ويدمع السؤال فوق وجهك الحزين

فأعترف:

حلمت أن أغيّر الوجود

بكيت كي أضحك ياحبيبتي

هاجرتُ

كي أعود

جراح مضيئة الى الأبد

1 ـ الحزن

أكثر مايحزنني أن اليوم الآن قصير

والأفراح قليلة

والكلمات تقال هنا وهناك بلا حيلة

أكثر ما يحزنني أن القلب الآن يعيش بلا أحلام

فى صحراءٍ خاوية وبرودة

فالأمل الضائع ضائعْ

والأشياء المفقوده مفقودة

أكثر ما يحزنني أن الليل يجئ إليَّ فلا يدفئني

فأنا وحدي

أرسم خوفي فى صورة

أتخيّل نفسي ملكاً

فى قاعات العرش المهجورة

أنظر فى المرآة المكسورة

لا ألقي وجهي

أكثر ما يحزنني أن القتَلَة

يمشون الآن بغير قناع

فوق المقتولين

والناس تصفّق للقتلة.

القاهرة  1968

2 ـ الآخر

عاش حياة للغرباء وللتعساء

حين دعاه الحب

أعطى عينيه، يديه، ودق له الاجراس

وبكى من شدة حبه

سار وحيدا ذات مساء بمدينة

فالتفوا حوله

داهمه الحراس

لم يعرف كيف يرد اللكمات المنهالة فى الظلمة

لم ينزف كِلْمة

كان نقياً وضعيفا...

حين عبرت الشارع ليلتها صدفة

دست على قدميه.

بعد سنين

خيل لي أني ألقاه

كثيرا ما ألقاه

حتى كنت أمر الليلة، صدفة

عبر المرآة

يا ألله

عيناي هما عيناه

يا ألله

كيف أنام هنا ؟

هل كان النازف عند رصيف الليل، أنا؟

نشرت فى مجلة مواقف –بيروت 1969

احتفال سيد الحب بسفك دمه

في ضحكة الحروب

في سنين الذبح واحتدام اللهو

واغتيال القاتل البريء

في الفقد

في ظلام الطعن

وانحناء الورد حول الخنجر المضيء

في المقت

واهتراء الكف حول الكف

وارتخاء الساعد الصديء

في العرى

في صراخ الشعب

في التضرع المرفوع

أجيء

حيث تستقر الشمس فوق صدري

قلادة

وتملأ النجوم جيبي المقطوع

أجيء

حيث تركض الأشجار والأنهار

حيث ينهض الينبوع

محملا بالدمع

حيث تخفض الجموع

رأسها

للقمع

أنحني

 وأرفع الجموع

كالشمع، كاللهيب في يدي

وألبس الجموع

أجيء ، لا أجيء في زمانك المخلوع

يا زهرة الأمم

كل البلاد أمطّرت

منَّا وسلوى

أمطرت

وأنت لم .

……….

أطوف في بلادي َ

مخضبا

مرفرفا كالروح

ناشرا ثوبي على الرياح

غارسا

شريعتي على السفوح:

اليوم من دمي تولد مصر طفلة

ويخرج الرمح من الجروح

اليوم تينعين يا جميلتي

وتقطفين مثل وردة

وترجفين مثل الطائر المذبوح

وتصحبينني

في مركب النيران من شمال النيل للجنوب

تجمعين لحم زوجك المحبوب

لحم شعبك المغلوب

تمسحين كل دمعة عن عينه

وترتقين ثوبه المثقوب

……….

تقوم مصر كالعروس من فراشها

كوردة مغسولة بالحزن

ترفع الذراع لي، أختارها ، أزفها لنفسي

تقدمي

فالنار في انتظارنا ، دفعت مهرك الثمين من دمي

واليوم تنتمين لي

وأنتمي

للضوء في أصابع الأطفال حيث تفلت الشرارة

وتوغل الخيول تضحك الحروب يقلب التاريخ

صفحة وراء صفحة

وأبتني من حزنك القديم لي مغارة 

وترسم الخيول فوق جسمك المدائن المنهارة

فأنتمي

لحلمك الجديد ، هل ترين في دمي

حضارة تموت ؟ أم حضارة

تجيء ؟ .. أم قوافل الأموات والنيام؟

ترين .. هل ترين ؟ ها أنا أمزق الستارة

أضيء في الظلام

راحلا ، وهودجي يهتز طائرا من الخيام للخيام

منزلي

مهاجر

وأنت مثل أرملة

وزوجك التاريخ ، كل مأتم تمشين فيه ، تحضرينه،

وتنحنين تحت كل مقصلة .

……….

صرت واقفا دهرين فوق شفرة الأرض

انشطرت

طار نصفي

للغرب ، واستقر نصفي

كالرمح فوق صدر الشرق

صرت مائلا كالقوس فوق حافة التاريخ

صرت هاويا كالنجم

ان موتي

حمامة تضيء في حلول الروح

أجيء في انبلاج النور والظلام

بين صفحة الخزي

وصفحة البطولة

رافعا سيفين:

واحدا للنار

وواحدا للورد

طالعا من فتحة الدهر ، من الطفولة

مبشرا بعرس دمع واضطراب الارض وانفتاح قبر

اوزوريس واختطاف وزنة العدل وصولجان الخير

من يديه

منذرا

بفقد درهم الحب وقشة السكينة الأخيرة

معلقا في شوكة الشك

وباب الحيرة

لأنني الحريق ، والخروج ، والحطام

وآخر الأبراج

والأفواج

والجزيرة

لأنني الختام

أعلنت أن موتي

بدايتي

وموتي

تفتح الأكمام.

كتبت في نيو يورك في 1970.

ونشرت بمجلة الآداب البيروتية ( ربما عام 71 أو 72 )

أشعار الحب على ورق البردي

قبل نشيد الانشاد في العهد القديم من الكتاب المقدس، كتب المصري القديم أشعار حبه على ورق البردى، راحت أصداؤها بعد ذلك تتردد في تراتيل وصلوات الحب بالمنطقة لمئات من السنوات، حتى حطت على قلبي فكتبت هذه الأشعار من وحيها.

إكتبيني لأحيا

سرتُ منحدرا نحو موتي

رأيتكِ فوق الغمام تنامين

فناديتُ إسمكِ، عاد الصدى

إن إسمك- يامصر- تعويذتي

فردّي سهام الردى

واكتبيني

لأحيا

على ورق البردى

حرف تجليَّ

حرف هوى من نقوش المسلّة

وقابلني فى الطريق

تجلىَّ إلها، وقبلني كالصديق

وقال: تعال معي

كي نودع  أحبابنا

قبل أن نتعمد فى دمنا

ونخوض الحريق.

فى فراشي  تظل كظل ظليل

فى فراشي  تضئ كنار الفتيل

فى فراشي  تغيب..تغيبُ

كشمس الأصيل

ونجم الآفول

وفى الفجر

ترجع لي وتقول:

إنني النهر

يازوجتي الأرض

ما بيننا لا يزول .

سحرت الزمان

عَطّْرتني ياحبيبي بمرّ اللبان وأعمدة من دخان

سحرت المكان الذى فيه تمشي

فصار المكان الذى لا مكان

سحرت الزمان فصار الزمان الذى لا زمان

وصرت العهود التى ضيعت موكب الفرعون

وأسقطت الصولجان

وَعَطَّرتني فى مساء الرحيل

وقبلتني قبلة فى ظلال النخيل

ثم غبتَ عن العين، صرت المواويل

ومازلت أرنو إلى البدر علّه يخبرني عن مكانكِ

فى المكان الذى لا مكان

ومازلت أسرع خلف العهود التى هرولت

فى الزمان الذى لازمان

وعندي يقين

بأنك سوف تعود

تعود وتحضنني

فى الزمان الجميل.

تعلمت منك القيامة

ليس عندي فكر محدد

عن طبيعة ما بيننا

كأنك أسطورة

من مكان قصيّ تجيء

تعانقني ساعة 

ثم تبعد

كأنكِ نصف ألهة خصب

تمدّ لنا جسدا كالقرابين

ندخله آمنين

لكي نتقدّس فيه

ونعبد

تموج موائده بالشهيّ

من التمر والتين

والشهد يهمى على خصره

فنرشف منه

ونشهد

أنتِ المليكة

جالسة تملكين

وقائمة تحكمين

تسيرين ناصعة العرى

مثل النهار

فتخفض أعينها النرجسات

وتسجد

……..

لست أدرك كنه الذي بيننا

أهو عشق العشيق

لمعشوقة تشتهيه

تفاتحه بالحياة وتغريه

تدخل فيه

وترقد

فيفنى بها 

يتبدد

مودعا بين أهدابها

نطفة

فتجيء له ابنة

وولد

أم هو حبّ البقاء

ورعب الفناء

الذي يتملك قلبك

يا عبد

يا مخلوق

فتخلق خالقك الأعظم الأوحد

فيأتي اليك إلها تجسد

يولد من ايزيس بمنفيس

هي الروح تنفث روحا

بصدر العشيق القتيل

فيلتئم اللحم والعظم

في جسد

يتجدد

………

أم ان ما بيننا

هو حبل الرحم

بين طفل يتيم

وأرملة لم تلد

هي أمه لكنها لم تلده

هي أم الطبيعة

والأرض والنيل

والليل والكون

أم الأبد

وصانعة الأبديّة

ليس عندي فكر محدد

عن طبيعة ما بيننا

فعلاقتنا تعتريها العُقد

غير أني تيقّنت أني تعلمت

منك المعارف

جزئية.. كليّة

رؤية كونية

وتهجّيت على شفتيك الكلام

وتعلمت المشاعر

والشعر

والشاعرية

وكيف على الناس ألقي السلام

وكيف أردّ التحية

بأحسن منها

وتعلمت النشيد الذي

ستردده العاشقات

والأغنيات الشجيّة

وتعلمت أصير لكِ العاشق المتوحّد

أسلّم نفسي طواعية ليديكِ

أصير الضحيّة !

……….

تعلمت منك لأبعد حدّْ

وتعذبت لأبعد حد

وما زلت آتيك

أطلب منكِ المزيد

بغير تردد

وما زلت أجهل ما بيننا

من ضبابية

وأمور خفية

ونار تضيء بلمسة كفكِ

في داخلي

ثم

تخمد .

حبيبي سحاب يمرُّ

دعوت ُ حبيبي لم يستجبْ

دعوتكَ يا من أحبّْ

سكبت عليكَ دموعا من القلبْ

رصّعتُ ثوبي بلوزٍ وزهر القصبْ

وطرّزته بخيوط الذهب ْ

لكيما تراني جميلة

وانتظرتكَ

قالوا : سيأتي حبيبكِ

قالوا : نساك حبيبكِ

غيرك صار الحبيبَة

أشعلت في الليل نار السراج

وانتظرتكَ لم تأتِ ، لكن صوتك في مسمعي

كان يهمس لي

وكأنك في مخدعي

كان يهمس: " أنتِ الحبيبة"

فانتظرتكَ 

طيبتُ خصري

فصار من الشوق شمعاً وعاجْ

وكأنيّ أرض جديبة

وأنتَ سحاب يمرُّ

من الشرق للغرب

لكنني لا أبالي  

فأنَّا هطلتَ

سيأتي إليَّ الخراج .

الغريبة

رأيتها حزينة

تنام وحدها علي سواعد المدينة

وفوق وجهها تعب

جلست قربها بلا سبب

وعينها تخفت مثل النجمة الأخيرة

سألتها فلم تجب

لمست وجهها الجميل المكتئب

فزعت وقالت: لا تحبني

فقلبي من خشب

صدري لكل مغترب

وفرحتي قصيرة.

المدينة التي تسكنني

الساعة الثانية

في الليل

خلت الشوارع

سالت الأمطار

ومدينتي علي الطريق غانية

رايتها قرب الجدار

تزيح ثوبها عن صدرها وتسير عارية

لكنها لا تمنح الفقير غير السخرية

لا كسرةً، لا رشفةً من ماء

تسير تحت اذرع الذين يدفعون في سخاء

وتنام تحت الأغطية

......................

أكاد أطعن الجسد

وأعبر الطريق ساحباً جراحه ..وأستند

إلي جدار عالم مهدم

أمتد في شقوقه..ولا أجد

من يبذل العزاء لي ..أو يمسح الجراح

والرب أسكت الرياح في الفضاء واستراح

فإن صرخت

لا يرد

.................

أمد فوق جثة الرصيف جثتي

فيعبر الرجال والنساء فوق جبهتي

 بلا عدد

يحتمون جلدهم بجلد بعض

 يضحكون دون فرحة

ويصمتون - حين يصمتون - للابد

يطلبون دفء ليلة

ويحفرون جرحي الذي برد

..........................................................

أألعن المدينة التي أحبها ؟

لا نوم لي في ليلها

أخوضها شوارعاً مريرة وسافرة

مسافراً بغير قاطرة

في الليل لا رفيق

فهل أضم صخرة أم شوكة علي الطريق؟

أجوع خلف سيدي الجسد

أشم لحمه العتيق

أطرح ثوبه علي موائد المقامرة

أعرف أن رحلتي سريعة وخاسرة

فإن بللت جمرة الجسد.. أطعمته

فأين خبز روحي المهاجرة؟

أظل لا سلام لي

لا حضن يدفئني

لا بيت ..

لا شجرة

.............................

مدينتي التي أحبها

تطردني ..فأين أستريح؟

اضرب في البلاد - في شوارع المدن

وجسمها الطريح

أراه في زجاج الواجهات في مداخل الحانات عاريا

تملؤه البثور والغضون

ينهشه الجياع بالشفاه والعيون

يسقطون فوقه وحوله

ويسقطون

داخلي

متي تهب الريح ؟

هل أبدأ الفرار - يا لساقي الكسيح -

أم أبدأ الجنون؟

أمزق الثياب ..أقطع الطريق عاريا

فمن أكون؟

الميت الذي بلا ضريح

أم أنني الذبيح

في هذه المدينة التي أسكنها

تسكنني

وأحبها

لكنها تخون

………………………

حدقت في المرآه

يا ألله

وجهي عجوز كالزمن

حملت كيف هذه السنين في دمي

إلى مصيري المقبل؟

هذا هو وجهي الأخير

فأين وجهي الأول ؟

أشد فوق أسطح البلاد خطوتي

ذكري صيف 1964 في هامبورغ

 وتبعدين..تبعدين ..توغلين في الظلال

ولا تظل منك بسمة تضيئ ليلتي

ولا صداك يعبر الجبال

وتغلق البحار دوننا .. وتبعد المسافة

أشد فوق أسطح البلاد خطوتي

وعودتي المخيفة

وأفتح الزمان والمكان..أسأل العرافة

- أكان ما بقلبنا حقيقة؟

أم غفوة؟

وكان حبنا خرافة؟

...........................

هامبورج هذه علي تضيء لي من الشمال

فتاتها التي حسوت دمع قلبها

حينما لقيتها علي الطريق صدفة

فأجهش الغريب داخلي..وناء بانتظاره..ومال

أسندت غربتي على انسدال شعرها

وغفوت خلف عينها التي احببتها ..وما أزال

وحينما أضاء وجهها

بذلك الذي يظل كالسجين في العيون لا يقال

عرفت أنني شقاؤها..وطيرها المهاجر الكئيب

وأنها طفولتي..وحزني الغريب

ولدت في اخضرارها

نعيت عمري الذي نزفته ضراعة ابتهال

و سرت في رداء حبها..وظلها الودود

فهل فرحت أم  بكيت فوق صدرها؟ ودمعها الشهيد

سال حينما لمستها.. أضاءت الشموس

رف جسمها وطال

وامتد فوق حافة الزوال

صار عالمي..واخر الحدود

ومسكني..أضيء فيه

أحتويه- اه لو أعود

إلي ذراعها..ردائها - يا وجهها البعيد -

أنا هنا وحيد

أنام في العراء في الجليد..أين صدرها

وفرعها المديد

أحن للعذاب فيه- أشتهيه- اه لو أعود

أذوب فيه، احتويه من جديد

................................

لكنني في ليل الارتحال

سحبت لمستي من كفها..تركتها بلا سؤال

وحدها على الطريق ترفع الذراع لي

تشد ثوبها

ويختفي جبينها وراء أوجه الرجال والنساء

أما نسيتها؟

فكيف أستعيد وجهها وحزنها؟

أما تركتها

فكيف أوجع الفؤاد بانتظارها

وكيف أطلب المحال؟

.................................

كنت قد نسيت .. ربما نسيت

يوم أن تردد الصدي وأعول القطار

ولا ابتسمت حينما لوحت لي ولا بكيت

حينما اغتربت في البحار

لأنني كبرت في الزمان - كم كبرت

وصرت كالدخان لا أقيم في مكان، لا أضم غير نار

وصرت كالصخور كالشقوق في الطريق لا تريق دمعة ولا تثار

وصرت كالجدار

بعيني الزجاج أرقب السنين كيف تمحي

وأعبر المساء يابس الذراع مثلج الجبين

وطالما عبرته بدفء راحتيك في يدي

وصمتك الحزين

وأختفي بحجرتي..وأسدل الستار

........................

كنت قد نسيت غير أنني

أفقت فجأة على أنامل التذكار

تدق فوق كاهلي، تعيد ما دفنته بداخلي

وتمسح الغبار

عن الذي ظننته يضيع كلما الزمان مر

والدقائق الكثار

فإذ بقلبي القديم حزنه كما هو

وجرحه بلا دثار

أضاع ما أضاع وانزوى

يعيش لا ترقب ولا انتظار

فدربنا الفقير

لا يجود

مرتين

بالثمار

شاعر وكاتب من مصر يقيم في الولايات المتحدة

ولد فرانسوا باسيلي بالقاهرة في ديسمبر 1943  
• تخرج من كلية الهندسة جامعة القاهرة وعمل بأكاديمية البحث العلمي بمصر ثم هاجر إلى الولايات المتحدة حيث عمل مهندسا ثم مديرا للمشروعات بشركة بكتل والآن يرأس شركة استشارية للتدريب والإدارة.
• ساهم في إحياء النشاط الثقافي والصحفي في المهجر الأمريكي منذ وصوله في السبعينات، حيث كان مديرا لتحرير جريدة مصر، أول جريدة مصرية تصدر بأمريكا. ويكتب حاليا بانتظام في عدد كبير من صحف المهجر.
• ظهرت أشعاره ومقالاته الفكرية والسياسية في أهم المجلات والصحف العربية ومنها الهلال والأهرام وأخبار الأدب وإبداع ووطني بمصر، والآداب ومواقف بلبنان، والقدس العربي بلندن، والكثير من مواقع الانترنت ومنها إيلاف والوطن وميدل إيست أونلاين وشفاف الشرق الأوسط ودروب وجسور والحوار المتمدن وغيرها.
• ظهر له ديوان "تهليلات إيزيس" عن مكتبة مدبولي بالقاهرة 1998