لم أكن ألقاه إلا لماماً مرة كل شهور أو مرة كل سنوات غالباً على غير موعد، فنتحدث نصف ساعة أو نحوها ثم نفترق، وكانت آخر مرة رأيته فيها منذ بضعة شهور في جمعية الأدباء حيث كان يرأس لجنة من الأدباء كلفتها الجمعية بوضع كتاب يصور كفاح الجزائر.
وفي كل مرة كنت ألقاه كنت لا أكتفي بالاستماع إليه وهو يعلق تعليقاته الواضحة القاطعة المختصرة على الحياة الثقافية أو الشؤون العالمية، ولكني كنت أتفرس في وجهه الأسمر الضخم وأتأمل عينيه الثابتتين الخاليتين من البريق وهما لا يتحولان عن محدثه. بل كنت أتفرس في وجهه أكثر مما كنت أستمع إليه. فقد كنت أحس دائماً بأني أعرف ما سيقول لكثرة ما قرأت له ولمعرفتي الكافية باتجاه قراءاته وبمنهجه في التفكير. وكنت لا أستمع إليه إلا وتتجاوب في رأسي جمل سمعتها منه أو قرأتها له في الماضي القريب أو البعيد، ولهذا كنت أتفرس فيه أكثر مما أستمع إليه.
كنت أتفرس في وجه سلامة موسى لأحاول أن أفهم شيئاً عن "دخيلة" هذا الرجل الذي قام بدور خطير في حياتي وفي حياة الكثيرين من أمثالي، ولأحاول أن أجلو "سره"، فقد كنت على يقين من أن في سلامة موسى سراً عميقاً يستحق أن يجلى، لأني عرفته أكثر من ربع قرن، ومع ذلك لم يطرأ على محياه تغيير يذكر، أما حيويته ولمعان فكره وجدة علمه فلم يطرأ عليها تغيير أبداً وكنت أعجب لهذا الذي لا يتغير فهو بعد السبعين كما كان بعد الأربعين. وكنت أحياناً أتأمل من شعره الأشيب وأعجب لشباب حديثه ووجهه ونظرته، وأذكر قوله عن نفسه ذات مرة: أنا شاب في السبعين.
وكنت أذكر أنه لا يدخن وأنه رجل معتدل في كل عاداته، فتقول نفسي: هذه الحيوية من هذا الاعتدال. ثم أعود فأقول كلا. كلا. إن في هذا الرجل سراً، فهو معتدل في كل شيء إلا في تفكيره وتعبيره. فهو في السبعين يفكر كابن الثلاثين. ولا أغالي إن قلت أن بعض أفكاره تعد إلى اليوم أفكاراً ثورية لن يفهمها أو يحس بخطورتها إلى الجيل القادم والذي يليه.
وكنا كلما اجتمعنا نناقش آخر الكتب التي قرأها وآخر الكتب التي قرأتها، فأجد أنه أسبق مني إلى معرفة آخر ثمرات الفكر الإنساني، ولاسيما منها ما يتصل بالحضارة الحديثة، فتتجاوب في رأسي عبارة قرأتها له منذ ربع قرن تقول أن الرجل المتمدن هو الذي لا ينام بعد الظهر ويقرأ كتاباً جديداً كل أسبوع فأعرف أن سلامة موسى لم يكن ممن يقولون ما لا يفعلون.
ولم أكن أحدّث سلامة موسى أبداً عن أثره في حياتي وفي حياة جيلي، ولم أعرف إن كان هو نفسه يدرك خطورة المدرسة الفكرية التي أسسها ومدى أثرها في حياة البلاد، لأنه كان متواضعاً بسيطاً يتكلم على السجية في إخلاص كإخلاص الأطفال، وكنت استعيب أن أقول في حضرته شيئاً من هذا القبيل. أعرف أنه لاشك يخجل تواضعه، ولكني ما التقيت به مرة إلا أصبح فكري كشريط السينما، فتعود بي ذاكرتي ثلاثين عاماً إلى الوراء، وأذكر صباي وشبابي الباكر حين بدأت أقرأ له لأول مرة فإذا بوجودي كله يهتز وإذا بأفكاري كلها تنقلب رأساً على عقب، وإذا بعقلي يرتاد آفاقاً جديدة من المعرفة والتفكير.
ولست أعرف على وجه التحقيق متى تفتح عقلي لتحرير المرأة ولحرية الفكر وللإصلاح الديني للفكرة الاشتراكية ولا من أين استقيت هذه الأفكار ولكني أذكر على وجه التحقيق أني كنت أتابع هذه الأفكار وأجادل فيها وربما أزينها لزملائي التلاميذ من الكفاءة والبكلوريا في مدرسة المينا الثانوية، وأنا بين الرابعة عشرة والسادسة عشرة. أذكر هذا ذكر اليقين بسبب مشادات حدثت بيني وبين مستر جيمس سوينبرن "نزيل السجن الآن المحكوم عليه في قضية الجاسوسية" ومستر ورذيل وكانا يدرسان اللغة الانجليزية في آخر سنتين من تعليمي الثانوي، فكان أولهما ينصحني بلين ألا أحاول الطيران قبل أن تكتمل أجنحتي أما الثاني فكان يسخر مني بغيظ الكلام أمام التلاميذ فأكاد أبكي غيظاً وخجلاً. وقد تركت هذه المشاهدات انطباعات في عقلي الغض لا تمحوها الأيام.
ولعلي أخذت هذه الأفكار من قراءتي لقاسم أمين والعقاد وطه حسين فقد تعرفت على هؤلاء قبل أن أتعرف على سلامة موسى. فدفاع قاسم أمين عن المرأة معروف ودفاع العقاد عن الاشتراكية في كتابه "الفصول" كان بين أيدي التلاميذ المنفتحين للثقافة ولكل فكر جديد، أما طه حسين فكنت أقرأ له سيرة سقراط وغير سقراط ووصف استشهادهم في سبيل حرية الفكر وتطهير الإنسانية في كتابه "قادة الفكر"، وكان يومئذٍ مقرراً علينا في المدرسة، فتروعني بطولة هؤلاء الأبطال. أما كتب التاريخ فكانت تلهب خيالي بما تسرده من صراع المصلحين في عصر النهضة الأوربية في سبيل الإصلاح الديني ومن صراع المفكرين والزعماء في عصر الثورة الفرنسية في سبيل الحرية والمساواة والإخاء.
ولكن كل هذه كانت معلومات محنطة لأنها شواهد من تاريخ مضى وانقضى وهي أنفع ما يكون، بل ألزم ما يكون، لإذكاء الأفكار الإنسانية المتحررة في قلوب الايفاع والشباب، غير أنها منفصلة عن واقع الحياة العصرية التي نحياها في القرن العشرين. فقاسم أمين حرر المرأة بالمنطق وقوة البيان، والعقاد دافع عن الاشتراكية دفاعاً فلسفياً، وطه حسين بنى أضرحة من رخام لقادة الفكر الغابرين. أما الفكر الإنساني وقادته في القرن العشرين ومقدماته فلم نكن نعرف منها شيئاً مذكوراً.
ثم جاء سلامة موسى وملأ هذه الفجوة في معارفنا وتفكيرنا. ولا أذكر أول من هداني إلى قراءة سلامة موسى، وإن كنت أرجح أنه صديقي الأستاذ عبد الحميد الغني مستشار وفدنا لدى الأمم المتحدة اليوم، وهو الأديب المعروف "عبد الحميد الكاتب"، وكان أوسع مني اطلاعاً في الأدب العربي. وما أن قرأت سلامة موسى حتى وجدت فيه الحل لأكثر مشاكلي كان يكتب عن داروين وعن ماركس وعن فرويد وعن اينشتاين. كان يكتب عن قمم الفكر الإنساني في عصرنا هذا وفي مقدماته كان يكتب عن ادلر ويونج وبرتراند رسل وغيرهم فنحس نحن الايفاع أننا لا نتابع فكر الماضي وحده ولكن نتابع فكر القرن العشرين. وكلما قرأنا له ازداد احساسنا بأننا نعيش في القرن العشرين، نشارك في أفكاره ونفكر مع مفكريه رغم نقص إلمامنا باللغات الأجنبية، وكلما ازداد احساسنا بأننا أحياء اشتدت قدرتنا على التفكير، وقوي شعورنا بأننا نقف على أرض صلبة لا تسوخ تحت أقدامنا.
لم نكن نعرف أن للإنسان عقلاً باطناً وعقلاً واعياً فلما عرض علينا سلامة موسى نظريات فرويد ارتدنا عالماً رحيباً كان محجوباً عنا. وبدأنا ندرك شيئاً كثيراً عن تركيب النفس الإنسانية المعقدة حين عرض علينا نظريات ادلر في مركب النقص ونظريات يونج في لاوعي المجموع. ولم يكن سلامة موسى أول من كتب في نظرية التطور وأصل الأنواع، ولكنه كان أول من كتب عن داروين ولامارك كلاماً مفهوماً ليست فيه فقاهة العلماء، كلاماً يفهمه طلاب الجامعة بل وطلاب البكلوريا ولم تكن بساطته بساطة في العلم بل بسيطة في التعبير هي ثمرة التفكير الواضح المرتب والبيان الواضح الدقيق.
وعلمنا سلامة موسى أن الاشتراكية ليست مذهباً واحداً بل مدارس متعددة لكل طريقة منها شيخها، فكان يخرج بنا من ماركس ليدخل بنا في برنارد شو ويخرج من برنارد شو ليدخل بنا في ولز، وكان واضحاً من كتابته أن أحب اشتراكية إليه كانت اشتراكية الفابيين أو اشتراكية التطور لا اشتراكية الطفرة. وهكذا وضع سلامة موسى أمام أبناء جيلنا أكثر القضايا العلمية والفلسفية والاجتماعية والاقتصادية متى كانت ولا تزال مدار البحث الإنساني في كل بلاد العالم المتحضر، وربطنا بتيارت الفكر العالمي الحي. فجعلنا نحس بأننا أحياء وأني لا أذكر كيف كنا نتجادل حول عام 1930 في مشاكل القومية والعالمية وفي فلسفة تنازع البقاء وبقاء الأصلح وتطبيقاتها على المجتمع عامة لا على البيولوجيا وحدها وفي تطبيق النسبية على الأخلاق والقيم.
أما اللغة العربية التي كان يعبر بها عن علمه وفكره فكانت لغة لا تقل جدة عما كان يذيعه من علم وفكر. فلكل كلمة عنده وظيفة في الجملة فلا زيادة ولا نقصان، والعبارة مفصلة على المعنى، والمعنى أوضح فالعبارة واضحة. ولا أقول أن كلامه كان يخرج من القلب فينفذ إلى القلب ولكن أقول أن كلامه كان يخرج من الرأس فينفذ إلى الرأس. وكان شديد الإيمان بتطويع اللغة العربية لمقتضيات الفكر الحديث والتعبير الحديث، فدعا لبلاغة المعاني وحمل على بلاغة الألفاظ حملات جبارة في زمن كان بعض كبار الأدباء لا يزالون يتمسكون فيه بالجناس والطباق والسجع وسائر محسنات علم البديع، ويترجمون القصص الأجنبي بلغة: "وطبع قبلة دون حس على فم الكونتيس". أما سلامة موسى وحده فمضى ينشر علمه وفكره "بالأسلوب التلغرافي" الذي أبدعته وعرفه بقوله هو التعبير عن أكبر المعاني بأقل الألفاظ وأني لأذكر كيف كان منذ عام ينهرني مداعباً لأني كنت، ولا أزال، أكثر من استعمال "قد" و"لقد" مع الفعل الماضي و"أن" النافلة وما شابه ذلك من ألفاظ الارتكاز والمحطات اللغوية التي لا تقدم في المعنى ولا تؤخر ولا يجني منها القارئ إلا تربية عادة الكسل العقلي فيه.
من أجل هذا كله ومن أجل غيره وغيره كنت كلما التقيت بسلامة موسى عاماً بعد عام أتفرس في وجهه الأسمر الضخم المركب على جسده القصير المتين البناء، فلا أرى إلا صورة ذلك الرجل الذي رأيته لأول مرة في 1931 سنة أخذت البكلوريا وجئت من المينا إلى القاهرة طالباً ريفياً منفتح العقل متأجج الوجدان وكأن ربع قرن من الزمن أو يزيد لم يبدل فيه شيئاً. فشباب وجهه من شباب فكره ومن شباب عقيدته المتفائلة في الإنسانية كلها، وصلابته في شيخوخته من صلابة الرواد الذين يرتادون الأقطاب والبحار والصحارى لا تثنيهم عواصف الثلج ولا زعازع اليم ولا زوابع الرمال.
فقولوا هذا الذي رحل كان رائداً شامخاً وكان محطم أوثان.
ولن تخطئوا في شيء فهذا ما سيقوله التاريخ.
(الحديث، ع7، س32، حلب، تموز 1958)