كان الروائي المصري الطيب يحيى حقي، يعطي دائماً مثل الذي يبحث عن قطة سوداء في ليل فاحم. ونحن لا نبحث عن الجمهورية الفاضلة في غابة الجمهوريات. ولكن يحق لنا البحث عن جمهوريات متصالحة، كما كان حال "الإمارات المتصالحة" في عصر القرصنة والبداوة ما بين ساحل عمان وبحر العرب. قال الشاعر بدوي الجبل يشرح(1) مفهومه للوطن: «إنه مبني على ثلاث قواعد هي: الحرية والملكية والكرامة، فإذا كنت أعيش في وطن قضى فيه رئيسه على حريتي وداس على كرامتي وسلب ملكيتي، فماذا يستطيع العدو أن يأخذ مني وأنا لا أملك شيئاً؟». كتب الجبل أجمل شعره من المنفى، ثم اكتشف أن الحزن الأكبر كان في منفى الداخل، حيث الناس شتات نفسي، والسلطة شطط، والكرامة الوحيدة في القاعدة الذهبية: الصمت زين والسكوت سلامة.
لم يألف العرب ثقافة الحرية، بل إن الاحزاب والحركات الطليعية رفعتها كشعار ووأدتها كمسار. وعندما وصلت الاحزاب أو الحركات القومية الى الحكم، وصلت برجل واحد وفكر واحد وقرار واحد، ولم يكن للحواريين حق النقاش أو الاقتراح. والذين تجرأوا على ذلك أُبعدوا أو أُقصوا أو أُدخلوا سجوناً بنيت بلا أبواب خروج. بقي هذا البلد يمارس حريات كثيرة، غالباً بعضه ضد بعض، وليس كمسلك موضوعي وحقيقي. يروي ضابط متقاعد أن فريق الجيش خسر مباراة في الكرة أمام منتخب الجيش المصري في المدينة الرياضية، ليس فقط بسبب تفوق المصريين، بل لأن لاعبينا أحبطهم هتاف الجمهور ضدهم. كانوا يهللون للمصريين.
هذه "حرية" لا يمكن أن تقع في بلد آخر. ولكن فيما انعدمت كل أشكال الحريات في العالم العربي، كانت الصحف هنا، والملاعب والمنابر والدوائر، تمارس حرية مثيرة، ضد سلامة الدولة وبقاء الوطن، وصولاً إلى الهزء بالاثنين. لم تدرك الدول العربية أن زرع الجرثومة في مكان لا يضمن إبعاد الأوبئة عنها. ومحزن أن نرى اليوم دولاً كثيرة تتحول الى جمهوريات داخلية كثيرة، أسوة بهذه الغابة التي تلاقى الجميع ذات مرحلة على احراقها. ما كان يسمى، سخرية وتحقيراً، "اللبننة"، صار يسمى الآن "العرقنة". وما كان خطراً طائفياً غريزياً في لبنان، صار رعباً وحرائق في شبرا وأسيوط. وليبيا التي موّلت "جيش لبنان العربي" هنا، تحاول عبثاً أن تقيم جيشاً وطنياً لنفسها الآن.
لا يخفف هذا جرم اللبنانيين، أمس واليوم وغداً. الدولة الوحيدة التي قامت هي ضد الدولة الأخرى. وكل دولة استعانت واستقوت، علناً، بخارج ما، وأحياناً بأكثر من خارج مرة واحدة، وصارت القاعدة العامة والمقبولة، أن من لا "حماية" له، لا وجود له. كان جورج ف. كنان سفير الولايات المتحدة في موسكو في ذروة الشدّة الستالينية: قد حدد السوفيات تحركاته، ملأوا جدران السفارة أدوات تنصت. منعوا الناس من محادثته أو حضور استقبالاته. ومع ذلك، كان هو صاحب نظرية الاحتواء بدل المواجهة. فقدنا هنا ثقافة الاستيعاب، كما يقول الوزير جان عبيد، فالقادر على الاستيعاب هو القوي، هو صاحب المعطف الواسع. لم تحقق 14 آذار ذلك في عز قوتها، ولا 8 آذار عندما صارت القوّة عندها، ولا ظهرت وسط هذا التجاذب البالغ العنف، قوّة سياسية ثالثة قادرة على الجمع بين فريقين يهدّد انقسامهما سلامة الوجود. لم يحدث في تاريخ البلد أن غيِّب المستقلون إلى هذه الدرجة العدمية. غيّبهم الاستقواء الخارجي، وهوس الانحيازات الداخلية. والاعتدال الذي كان عدالة الميزان، صار تهمة كباقي التهم، وعيباً جديداً كباقي العيوب التي لا تتلاءم مع نشيد التحاقد ولازمة التحقير. أقيم حصار تحقيري، تصغيري، مدبّر ومنظم، ضد فكرة الاستقلالية والمستقلين. وتقصّد المتعصبون إقصاء كل من لا تبهجه حلبات الملاكمة ومتعة الضربة القاضية.
ليس جديداً ان يبحث اللبناني عن وطنه في طائفته، لكن الجديد أن يدفعه التيئيس الى عدم التحرج من إعلان ذلك، كان هذا في الماضي دأْبَ ضعاف النفوس، فصار اليوم حلَّ ضعفاء المصير. وكان الخوف في هذا البلد السريع العطب، موجوداً دائماً، لكن الناس تخجل من الإفصاح عنه لئلا تتهم بوطنيتها وخلقها الوحدوي، فإذا بدعاة الوحدة العربية الكبرى يعلنون الخوف من تداعيات الوحدة الوطنية الصغرى. هل هو الخوف من المناخ العربي العام، أم من الشريك المباشر؟ هل هي ذريعة "مسيحيي الشرق"، أو بالأحرى "مسيحيي العراق"، أم هو أمر مسيحيي لبنان، الذين سعى كل فريق منهم إلى اللوذ بفريق "مسلم" ما؟ مضحكة اليوم ذريعة "مسيحيي العراق" هذه، ففي الثلاثينات كان ممنوعاً على "المسيحيين واليهود" دخول مقاهي بغداد، بلافتة مكتوبة على أبوابها(2). الحماية الحقيقية لا تتم هكذا على عجل في قاعة الطوارئ. من كان حقاً همه موقع المسيحيين في لبنان – دعك من الشرق – لا يقتلهم ولا يقاتلهم ولا يشردهم، وهذا تماماً ما فعله المسيحيون بعضهم ببعض، بلا تفكر أو رحمة، مسحوبين بهمٍّ واحد هو الكسب، وسلوك واحد هو إلغاء الآخر. تأخر الوقت، ليس عليهم، بل على الشرق برمته.
كان يفترض أن يجسدوا الدولة المدنية وليس الميليشيات العسكرية. وان يلتقوا شركاءهم الوطنيين في الفكر والتسامح والفكر الأعلى للدولة، وأن يكفوا عن كل عداء، وان يكونوا واسطة العقد الوطني لا شرابته المتأرجحة مع جهات الريح. ها هم في غرفة الطوارئ ولا يتحاكون. وفي الخارج قطعانهم التي سارت خلفهم الى المكاره ومباريات الرماية، تتساءل بلهفة: هل من أمل؟ يجب أن تسألوا المتفائلين. أو الذين خافوا قراءة التجارب كي لا يروا الحقائق. لست من بينهم. أنا استمعت كثيراً إلى الصدِّيقين، الياس سركيس وفؤاد بطرس، وعشت أرى من بعيد – والحمد لله – المستويات الاخلاقية في التعامل مع فكرة الوطن والنظرة إلى ديمومة المؤسسات. والفاجعة لم تكن هنا، كانت في أن الرجال الأعلين لم يروا حولهم أحداً. لعل الأشرفية تتذكر أنها أسقطت فؤاد بطرس. ولن يتذكر أحد أن الياس سركيس كان وحيداً، لا رفيق له سوى ميشال إده، يوم كان يدير شؤون الدولة وأمور البقاء في أصعب مراحل المصير وأقساها.
يبدو الوقوف أمام غرفة الطوارئ هزلياً لشدّة مأسويته. نبذ المسيحيون، كعموم وليس كقلّة، حكماءهم ومفكريهم وذوي العدل والاعتدال فيهم. والآن يبحثون عن مشروع انتخابي يؤمن لهم ما كرروه عبر السنين. فاتهم دوماً أن ينتقوا رجال "الاستيعاب"، أولئك الذين يطلبون رحمة لا ذبيحة. وطناً يبقى لا كرسياً يخلَّع. ثروة الطمأنينة، لا ثروة البخلاء وشايلوك، تاجر البندقية. استفاقوا بنباهة واضحة على "مسيحيي الشرق" فيما اندفع العالم العربي، مشرقاً ومغرباً، ما بين الاخوان المسلمين والسلفيين. وسوف يكون الصراع على النظرة إلى المسيحيين في ما بينهم، وقد بدأ ذلك في مصر حيث تعيش أكثرية المسيحيين العرب. ثمة اتجاه نحو الدولة الدينية، إما أسوة بالنموذج التركي، الذي أنهى الدولة العلمانية الوحيدة في العالم الاسلامي، وإما تقيداً بإيران، التي أعلنت الجمهورية الاسلامية. الحل كان في العثور منذ زمن على موقع قومي مستقل وليس على حقائب للمال وحقائب للسخرة وحقائب للسفر.
بدل اللجوء الى حماية الحياد في صراعات لا علاقة لنا بها، أولاً وأخيراً، ولا دور ولا حق، رمينا أنفسنا في الحلبتين، في جهل عارم للتاريخ وازدراء فاقع بالمستقبل. هذا خياركم. مسافته قصيرة، النظر القصير. كانوا في فلسطين ينتظرون خطاب الشيخ بشارة الخوري على الراديو، كما ينتظر اللبنانيون عرافي رأس السنة اليوم، ليقولوا لهم كيف سوف يحيون.
الأفضل تذكر الآية: كما تكونون يولّى عليكم.
هوامش:
(1) "حلم النهضة"، أدما ناصيف، دار الفرات.
(2) "من باب توما إلى بوابة بلس"، توما عريضة، "دار رياض الريس للنشر".