هنا تتبدى صورة المثقف الملتزم بقضايا الحرية والتي اعتدناها من الكاتب الاسباني المرموق، فكلماته تحفر في بقايا الموت، وهو يحدق في ضواحي المدينة السورية النازف وفي ذاكرته ما عاشه في البوسنة وكوسوفو. تمور من سطوره مأساوية القصف وهول القذائف والدخان، ليختم نصه بغروتسكية حنظلية تظهر رجس البغاة.

حمـص الشـهيدة

خوان غويتسولو

ترجمة: الحدرامي الأميني

 

كما في سراييفو، يعانون من القصف اليومي لمدفعية وقذائف هاون الجيش وطلقات القناصة. كما في الشيشان، ينبغي عليهم إخفاء الجرحى في ملاجئ مُرتَجَلة أو في أقبية بدون أية مواد طبية جرّاء الخوف من تعرض هؤلاء الجرحى والقائمين على رعايتهم إلى الاعتقال والاختفاء في مراكز التصفية المريعة. أتكلم على سكان حِمص، الذين نقرأ عنهم يوماً بعد آخر في الصحافة، أو نشاهدهم على الانترنت أو على شاشات التلفزة بفضل بطولة بعض المراسلين الذين يغامرون بحياتهم في كل لحظة في هذه المدينة المحاصرة من قِبَل قوات بشار الأسـد وأفراد الميليشيات الذين بإمرته، بدون أن يتوصل المجتمع الدولي إلى توفير الوسائل اللازمة من أجل وضع حد لهكذا عذاب. بخلاف ما حصل في المدينة الجارة حماة قبل ثلاثين عاماً بالضبط عندما قُتِل أكثر من عشرين ألفا من أبنائها على يدي حافظ الأسـد، والد الديكتاتور الحالي، وتم إخفاء الأمر بشكل حريص من قبل أجهزة رقابته الحديدية وبالكاد وصلت أخبارها - إذا كان الإعلام يشكل سلطة رابعة فإن عدم وجوده يعني وجود سلطة أكبر بشكل غير متناه - فإن صور الهواتف المتحركة والشبكات الاجتماعية وكذلك شجاعة أولئك الذين يخاطرون بالتحدث بصراحة للإبلاغ عن الوحشية التي تنكِّل بها السلطة السورية بمواطنيها هي تحت مرأى مئات ملايين المشاهدين والقراء ومستخدمي الانترنت في العالم كله.

لكن رغم ذلك، تستمر المذبحة: في كل يوم يتم تزويدنا بصور جديدة مروعة. جثث مضرَّجة بالدماء يتعذر دفنها بكرامة، ذلك أن القناصين، كما في سراييفو، يطلقون النار على مواكب المشيعين. أجسام، انتَزَعتْ منها قنبلة يدوية أو انفجار قذيفة قدماً أو ذراعاً، ممددة على الأرض بدون أي عون طبي. عيادات خالية من الوسائل الأساسية لتقديم الإسعافات الأولية. لا أحد يستطيع توفير الأوكسيجين، التخدير، والأدوات الجراحية. جيش بشار الأسـد وأتباعه موجودون هناك للحيلولة دون ذلك: يستهدفون أية مركبة تنقل الجرحى. أما المستشفيات الخاضعة لسيطرتهم فقد أصبحت الآن مراكز للاستجواب! حيث الضحايا والمعتنون بهم يمكن أن يتم إرسالهم إلى السجون السرية للنظام، أو، بعد أن يصبحوا جثثاً بالفعل، يتم تقديمهم على أنهم عملاء متسللون من الخارج يعملون في خدمة مؤامرة مبهمة.

لا يهم كثيراً أن يعبِّر المجتمع الدولي عن غضبه، أو أن يرسل مراقبين في جولات مخطط لها، أو أن يسحب دبلوماسييه. هذه الضغوط لا تجدي شيئاً. فالطاغية يتشبث بالسلطة محذراً تحذيره البغيض بأن البلاد من دونه ستغرق في حرب عرقية - طائفية كتلك التي حدثت في العراق. في الحقيقة، إنه لا يتطلع إلا للبقاء على حساب نزف دماء شعبه. لقد تجاوز بشار الأسـد آخر الخطوط الحمراء وهو يعرف أن لا إمكانية للتراجع. فإما القضاء على السكان المنتفضين أو نهاية سلالته "الجمهورية" الحاكمة والعسكريين الذين يدعمونها.

في العام الماضي، عندما كنت أعلِّق في هذه الصفحات نفسها على قمع الاحتجاجات في تونس ومصر وليبيا لاحظتُ متهكماً أن درجة حب الطغاة العرب لشعوبهم تتجلى في نوع الأسلحة التي يستخدمونها لإسكاتهم: من الغازات المسيلة للدموع إلى المدفعية الثقيلة. وعند رؤية ما يجري في سـوريا، فليس هناك أدنى شك في أن قصب السبق في هذا السباق الفريد من نوعه سيكون من نصيب الأسـد، عاشق حِمص.