يكشف الباحث المغربي هنا من خلال تحليله لنص مسرحي مغربي دال عن قدرة النص على التعبير عن أحلام المغرب المجهضة، منذ مرحلة الاستعمار، مرورا بمرحلة الرؤية السياسية التي أطرت النضال وحققت الاستقلال، وصولا إلى الوعي الشقي بأن الاستقلال الحقيقي لم يتحقق وأن الحلم بالحرية مازال يرود حركة المغرب حتى حركة 20 فبراير الأخيرة.

إجهاض أحلام مراكش

أحمد بلخيري

يلاحظ المتتبع لتاريخ المسرح المغربي الإشارة، في أبحاث ودراسات ومقالات لنقاد وباحثين مغاربة، إلى مسرح الهواة بالمغرب في سبعينيات القرن العشرين المقرونة بكلمات وعبارات تدل على حيوية ذلك المسرح ودوره في تطوير اللغة المسرحية وتفاعله مع الأحداث التي عرفها المجتمع المغربي خلال الحقبة المذكورة. لكن رغم تلك الإشارة لا توجد دراسات وأبحاث إلى حد الآن حللت تحليلا منهجيا النصوص المسرحية المنشورة التي أبدعها مسرحيون مغاربة هواة حينئذ إلا نادرا وبشكل انتقائي وجزئي. وتحليل النص الدرامي السبعيني هنا ما هو إلا مساهمة في هذا المشروع الذي قد ينجز مستقبلا. لهذا، يبدو أنه من المهام التي ينبغي أن يضطلع بها البحث المسرحي في المغرب الرجوع إلى تلك النصوص وقراءتها ثم تحليلها تحليلا منهجيا؛ أولا من أجل تحديد آليات اشتغال اللغة الدرامية في تلك النصوص، وثانيا من أجل تحديد وتحليل مضامينها. إن تحليلا من هذا النوع يتخذ موضوعا له جملة من النصوص المسرحية التي تعود إلى الحقيبة المذكورة سيغني، لاسيما إذا كان مضبوطا من الناحية المنهجية وموثقا، الثقافة المغربية، وسيمكن القارئ من التعرف على كيفية تفاعل المسرح المغربي عموما، ومسرح الهواة خصوصا، مع الواقع المغربي، وقد كان مسرح الهواة حينئذ متوهجا. استمد هذا التوهج من توهج المرحلة التاريخية التي تفاعل معها.

ومن النصوص المسرحية التي تنتمي إلى الحقبة المذكورة النص المسرحي (صعود وانهيار مراكش)1 ليوسف فاضل. يتكون عنوان هذا النص الأخير من ثلاث كلمات وأداة عطف، هي "الصعود" و"الانهيار" المرتبطتان بمدينة مراكش بوصفها فضاء دراميا وليس مدينة مراكش الواقعية. إن الفضاء هنا يتعلق بمتخيل درامي وضع هندسته وشيده الكاتب الدرامي. كلمة "انهيار" معطوفة على كلمة "صعود" وليس العكس. اختلاف الرتبة النحوية بينهما يقود إلى استنتاج أن الانهيار أعقب الصعود. لكن ما هي دلالة الصعود؟ وما هي دلالة الانهيار؟ ومتى كان كل منهما؟.لا يقدم العنوان، بطبيعة الحال ، الجواب. ولكنه يدعو إلى البحث عن تينك الدلالتين من خلال النص الدرامي نفسه.

هذا الأخير تم تقسيمه إلى أرقام، ثمانية أرقام، ولكل رقم عنوان. هذه الأرقام والعناوين كانت كما يلي بعد "ملاحظات "تدخل في إطار الإرشادات المسرحية:

1- احتفالات في الساحة العامة محاكمة الرحماني تاجر القمح صورة تذكارية بهذه المناسبة،

2- ثلاث محاولات لاعتقال علال،

3- من رأى علال؟ لاأحد من رأى علال لحظة اعتقاله؟ لاأحد؟ لاأحد،

4- المهرج يعشق فتاة من افران يعرض على أصدقائه مهمة صعبة،

5- الرحماني يبحث عن منقذ للبلاد،

6- حالات، وواحدة تشبه الحلم،

7- معالي الوزير وضيفه الفرنساوي يتجولان في المدينة: الأول يركب حصانا خشبيا والثاني يحمل آلة تصوير،

8- احتفالات في الساحة العامة عثمان يقول انه أصبح يسيل كاناء مثقوب.

في "ملاحظات"، التي استهل بها الكاتب هذا النص الدرامي، تم التركيز على شخصية بوشعيب الذي "يراقب ما يجري فوق الخشبة طيلة مدة العرض مكانه في مستوى خلفي. قد يكون قنطرة محطمة أو جبلا أو أي ارتفاع يحقق حضور هذه الشخصية المستمر. يرتدي ملابس الجند وبيده بندقية"2. العلامات المميزة لهذه الشخصية هي اسمها في حد ذاته، ومكان وجودها، وحضورها المستمر، الذي يخترق زمنين، زمن الاستعمار وزمن الاستقلال، ولباس الجندي والبندقية. هاتان العلامتان الأخيرتان تدلان على أن بوشعيب في وضعية حرب في الزمنين معا. والحرب تعني أن هناك عدوا. في "ملاحظات" تم التنصيص على أنه "من المستحسن أن يقوم ممثل واحد بتأدية أدوار الرحماني، الفسيان، الوزير"3. لماذا تم اختيار تلك العلامات لبوشعيب؟ ولماذا هذا الاستحسان؟

قبل الجواب عن هذين السؤالين، تجدر الإشارة إلى الزمن في هذا النص الدرامي يتكون من زمنين، هما زمن الاستعمار وزمن الاستقلال. يبدأ الزمن في النص الدرامي بزمن الاستقلال وليس بزمن الاستعمار. ولذلك فالزمن في النص الرامي موضوع التحليل ليس خطيا. وتتخلل هذا النص تقنية تكسير الإيهام عدة مرات. وهي ليست مستعملة من منظور شكلي تقني فقط، ولكن هذا الاستعمال يحمل بعدا دلاليا واضحا. من ذلك مثلا النفور من أداء دور الرحماني من قبل الممثلين لأنه كان عينا للمستعمرين. لهذا تجادل الممثلون حول من يؤدي دور الرحماني ، وقد رفض الممثل 4 في البداية أداء هذا الدور، لكنه قام بأدائه بعد أن تم إقناعه بأن من يؤدي دور الرحماني ليس بالضرورة جاسوسا (بياعا).

يعترف الرحماني بأفضال فرنسا زمن الاستعمار. لذلك خاطب الممثل3 بأنه لايخشى أحدا، وأن الوطنيين "مدوخون"4، وأن الخير الذي يمكن الحصول عليه من قبل المستعمرين لم يسبق للمغاربة أن شاهدوه ولن يشاهدوه في المستقبل. ويتساءل: متى شاهد المغاربة القطار حتى جاء "النصارى" حسب تعبيره؟ وهو تساؤل إنكاري الغاية منه تقديم الاستعمار في صورة إيجابية. لهذا أقسم بأن ذهاب المستعمرين يعني هلاك المغاربة. لهذا قال: "والله ويمشيو حتى تلفو. ما تعرفو ما تديرو"5. وكان واضحا من خلال لغته أنه يضع مسافة بين الوطنيين المغاربة وبينه، فهو يخاطبهم بضمير أنتم بدل ضمير نحن. ويريد مقايضة شيء من القمح، باعتباره كان يحظى بامتياز بيع القمح زمن الاستعمار، بأسماء المقاومين ليقدمها للمستعمرين، إذن القمح مقابل التجسس، الأكل مقابل الحرية والاستقلال.

كان الرحماني إذن عينا للمستعمرين زمن الاستعمار، لذلك استفاد منه. ولكنه استفاد أيضا زمن الاستقلال، يقول: "خرجنا من الأولى رابحين وها الثانية جات"6. في زمن الاستقلال غير وسائل العمل. فقد تقنع بعدة أقنعة منها قناع فقيه وقناع محسن. وكلمتا فقيه ومحسن ترتبطان بالمجال الديني الإسلامي. كان هدف الرحماني هو استمالة الناس والتأثير فيهم وعليهم. لهذه الغاية استعمل عدة أقنعة، ولكل قناع لغة مناسبة له. فحينما قال سآتيهم " في ثياب الفقهاء وأولياء الله"7، والثوب هنا قناع، وردت كلمات تدخل في الحقل الدلالي الفقهي. ومنها: توبوا إلى الله، استغفروا الله، فمن تاب فولائك هم المفلحون إلخ.8 ونفس الشيء بالنسبة لقناع الإحسان حيث وزع عليهم الخبز والحلوى واللعب، اللعب لأولادهم. لقد حاول جاهدا دفعهم للكلام لأنه يخاف صمتهم. ولما لم يفلح هددهم بأنه سيعذبهم أكثر من الجنود السينغاليين، الذين كانوا يعملون تحت إمرة الفرنسيين زمن الاستعمار بالمغرب. يقول الرحماني:" داك الشي اللي ما زال غادي تشوفو سالكان ماورهاش لكم. فينك الرحماني. أنت اللي كنتي كتحنت الريوس الكبار ديال الفرنسيس. المخير فيهم يدور حتى يعيى ويرجع يتشاور معاك. وليتي دابا خايف من الخيال ديالك. الدبانة إلى زنزنات حداك تبات الليل عساس"9.

هناك إذن تحول أساسي طرأ على شخصية الرحماني من القوة إلى الخوف، القوة زمن الاستعمار باعتباره عينا لهذا الأخير، إلى الخوف زمن الاستقلال. هؤلاء الذين يخاف منهم يوجدون قرب بيت عثمان المصور، وهو مناضل حزبي منذ الاستعمار، يعتقد بأن الحرية تحققت في عهد الاستقلال. وهو في هذا يختلف عن شخصية بوشعيب الذي بقي حذرا وغير مؤمن بأن الاستقلال قد تحقق فعلا من أول مشهد إلى آخر مشهد في النص الدرامي. رؤية حزبية تقابلها رؤية مقاومة؛ و الرؤيتان تختلفان في مفهوم الحرية. إن العدو، حسب بوشعيب ، مازال متربصا بالبلاد يتحين الفرصة. لذلك لما سأل عثمان بوشعيب قائلا في المشهد الأخير:" ياك جات الحرية؟!10 أعقبت هذا السؤال طلقات نارية. عبرت هذه الطلقات عن عدم وجود الحرية زمن الاستقلال، كما عبرت عنها أيضا نقطة التعجب ؛وكذلك الطلقات النارية التي سمعها الوزير وضيفه الفرنسي وهما يتجولان بمدينة مراكش. ولذلك فالعدو في هذا النص الدرامي هو الاستعمار الذي يرمز إليه الضيف الفرنسي. هذا الأخير يقدم وعدا بمساعدة السلطة الحاكمة ممثلة في الوزير زمن الاستقلال. وإذا كان هذا الأخير اعتبر أن مراكش ترحب بضيفه الفرنسي، وجعله يحضر فرجة لمروضي الأفاعي بساحة جامع الفنا بمدينة مراكش، فإن الطلقات النارية تدل على العكس تماما. وهذا يدل على إن هناك توافقا وانسجاما بين السلطة الحاكمة زمن الاستقلال وبين الاستعمار الفرنسي. وبالمقابل، تدل الطلقات النارية وشخصية بوشعيب على أن العداوة بين المقاومين والاستعمار مازالت مستمرة زمن الاستقلال، وأن الاستقلال الحقيقي، حسب بوشعيب، لم يتحقق بعد. وإذا كان يقال بأن دار عثمان، المناضل الحزبي، تحتضن اجتماعات أثناء الاستعمار وتوجد بها أسلحة، رمز المقاومة ، فإنه تحول زمن الاستقلال إلى مدمن على الخمر. تحول سلبي إذن يقابله ثبات على المبدإ من قبل بوشعيب.

في زمن الاستقلال هذا استوطن الخوف النفوس. يدل على ذلك في النص الدرامي موضوع التحليل المشهد الثالث المعنون ب:"من اعتقل علال ؟ لاأحد من رأى علال لحظة اعتقاله؟ لاأحد، لاأحد". وعلال بائع دجاج كان يمتلك بندقية، وهي رمز للمقاومة زمن الاستعمار. لكن كانت هناك رغبة في تجريد الناس من السلاح في عهد الاستقلال كما عبر عن ذلك "الفسيان". لكن علال أخفى بنديتقته، وهو يشك في أن زوجته أبلغت السلطة المعنية بذلك. يقول علال:

"مشيتي عندهم؟ قلتي لهم راها بقة عندو؟ واش ربحتي؟

السعدية: ما قلتشاي. ميات مرة وانت كتسولني. ميات مرة وانا كنقول لك ما قلتشاي.

علال: بصح؟ هي دابا غادي تبقى عندنا؟ها انت كتشوفي في المعيشة كيف ولات. الى مشات المكحلة حتى هي الواحد يموت احسن (لحظة) وزعمة غادي يجيو؟

السعدية: واش تسحاب

علال: ويمكن ما يجيوش؟ غادي نقول لهم ما عندي سلاح؟ ولا غادي نقول لهم صبرو علي واحد اليومين بينما قلبت عليه.

(لحظة)

آش غادي يديرو كاع إلى قلت لهم ماعنديش؟

السعدية: علاه هما ما عرفينش

علال: شفتي قلتيها لهم.انا عرفتك غادي تديرها.

السعيدة:والله اسيدي ما قلتها."11.

في زمن الاستقلال كانت هناك وعود انتخابية، منها قول المرشح1 بأنه " لأول مرة في تاريخ مراكش ستتمكن الطبقة العاملة المراكشية من انتخاب ممثلها الحقيقي"12. أما المرشح2 فقال "إن حزبنا يقدم لكم اليوم الممثل المثالي لربط كفاح الاستقلال بكفاح الديمقراطية. والدفاع عن الحريات العامة في الجامعات والثانويات. في الحقول وفي المستشفيات"13. ويبدو من خلال التساؤلات التي تعقب الشعارات أن العامة لا تمتلك وعيا سياسيا. يبين ذلك، على سبيل المثال، حوار بين الممثل5 والممثل 2 عن معنى بعض شعارات المرشحين.

ممثل5: واش قال في الاخر؟

الممثل2: ما عرفت.

ممثل5: وراك ماعرفتيش نيت.لاش كتنفخ؟."14.

لكن رغم عدم امتلاكهم وعيا سياسيا فهم غاضبون.هذا الغضب يكشف عنه حوار الممثلين الموجودين في المعتقل مع الشرطي.هذا الغضب مرده إلى عدم تحقق الأحلام، فعوض القصاص في عهد الاستقلال من جاسوس الاستعمار، أي الرحماني ، كانت الوعود والشعارات والتبشير بعهد جديد "عهد العدل والمساواة"15. أضف إلى ذلك البعد الرمزي للضيف الفرنسي الذي حل بمدينة مراكش زمن الاستقلال. وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى الإيحاء الدال الذي يعبر عنه هذا الحوار بين الوزير والمبعوث الفرنسي في المشهد السابع، وقد ركب الأول حصانا خشبيا وحمل الثاني آلة تصوير .

"المبعوث: حصان أصيل.

الوزير: لقد استسلم تماما. تريد أن تركب؟

المبعوث: مانخافش؟

الوزير:لا. ماتخافش. (يترجل الوزير.المبعوث يركب.يسيران)

المبعوث: لقد استسلم بالفعل. (يسيران) بالفعل.

الوزير: ها أنتم ترون.

المبعوث: حصان أصيل.(يسيران).

الوزير:مراكش ترحب بكم (يسيران).

   ماذا قررتم؟

المبعوث: ماذا قررنا!

الوزير: غادي تساعدونا؟ !

المبعوث:غادي نساعدوكم! نشوفو. (يسيران)"16.

إن الحصان الخشبي عديم الفعل والحركة، ومع ذلك وصف بكونه أصيلا. والأصالة هنا مقرونة بحصان خشبي، لذلك فقدت هذه الأصالة معناها المعجمي لتؤدي معنى إيحائيا يستفاد من سياق الأفعال الدرامية. فقد يفيد هذا المعنى الإيحائي السخرية. ولا يعقل أن يتجول وزير رفقة مبعوث فرنسي بمدينة مراكش وهو راكب حصانا خشبيا. هذا الحصان لم يكن مستسلما سابقا، وصفة خشبي قد تكون مرتبطة بالاستسلام. وبالمقابل، ترتبط صفة اللاخشبي بعدم الاستسلام أي بالفعل والحركة. لذلك خاف منه المبعوث الفرنسي، ولم يركبه إلا بعد أن تأكد بأنه استسلم وبأنه خشبي. ويمكن استنباط دلالة إيحائية من الركوب ذاته، سواء ركوب الوزير أم ركوب المبعوث الفرنسي. لكن الطلقات النارية بددت وهم الوزير والمبعوث الفرنسي. وقد ضلل الأول الثاني حين قدم له تفسيرا عن سبب تلك الطلقات النارية. كما يمكن النظر إلى آلة التصوير التي يحملها الفرنسي باعتبارها وسيلة توثيقية تساعد في التعرف على مدينة مراكش. ورغم حفاوة الوزير بالمبعوث الفرنسي، بهدف المساعدة، فإن هذا الأخير لم يقدم سوى التسويف (غادي نشوفو)"17.

هكذا يتبين أن المشهدين الأخيرين، السابع والثامن، يضعان مجموع الأحداث الدرامية في إطارها الفكري العام، ويقدمان مفتاحا لتحليلها وتأويلها؛ وكذلك تحليل وتأويل العنوان ذاته: صعود وانهيار مراكش. الانهيار أعقب الصعود وليس العكس. لقد صعدت مراكش زمن الاستعمار بفضل المقاومة، ولكنها انهارت بسبب عدم تحقيق الاستقلال التام. لهذا بقي بوشعيب المقاوم من أول مشهد إلى آخر مشهد حذرا ومحافظا على بندقيته، وهو لا يعتقد أن الحرية قد تحققت فعلا في عهد الاستقلال. أضف إلى ذلك، أن من علامات الانهيار إدمان عثمان، المقاوم والمناضل الحزبي، الخمر في عهد الاستقلال بعد أن كان بيته مراقبا من قبل المستعمرين، أثناء الاستعمار، بسبب الاجتماعات التي كانت تعقد فيه؛ ومحافظة الرحماني على وجاهته ومركزه الاجتماعي ونفوذه زمن الاستقلال، وهو الذي كان عينا يعمل لفائدة الاستعمار وكان يتعقب خطى المقاومين. ويمرر الكاتب موقفا فكريا من خلال اقتراحه قيام ممثل واحد بأداء أدوار الرحماني و"الفسيان" والوزير. إن هذه الشخصيات الثلاث ترمز إلى السلطة. ترمز شخصية الرحماني إلى السلطة في عهدي الاستعمار والاستقلال معا؛ أما شخصيتا "الفسيان"، وهو لقب عسكري، والوزير فترمزان إلى السلطة زمن الاستقلال. إن لغة كل منهما، فضلا عن موقعيهما، يدلان على ذلك. واقتراح إسناد هذه الأدوار الثلاثة إلى ممثل واحد يعني أن عهد الاستقلال استمرار لعهد الاستعمار بسبب عدم تحقق الاستقلال التام، حسب العلامات النصية الدرامية ، وبسبب الخوف.

وتتخلل النص جمل حوارية عديدة تتعلق بالتذكر، و أخرى بالحلم. فمن التذكر قول الممثل1 وهو في السجن : "كتعاود لي الوليدة بللي تزدت في أيام البون. وغير مرت القايد علال اللي عطاتها فاش لواتني. كان الكتان تقطع حتى هو. ومللي تزدت زادوها راسيون ديال السكر. وقالو لها الناس ولدك مبارك ومسعود. كانت عندنا حتى احنا الارض والفلاحة. مللي جا الاستقلال تشتات الفاملة"18. تجري الأفعال الدرامية في عهد الاستقلال، لكن يتم أحيانا ، عبر التذكر، ذكر أحداث درامية ترتبط بعهد الاستعمار. واستنادا إلى هذا، فالزمن الدرامي في النص الدرامي يتوزعه زمنان، هما زمن الاستقلال وزمن الاستعمار المستعاد عبر التذكر.

ومن الحلم، الحلم الذي لم يتحقق، قول المهرج موجها كلامه للعلام:" عقلتي شحال هضرنا! فين هي الجنة اللي حلمنا بها؟عقلتي؟ كنا فرحانين بحال الدراري الصغار. ولا قل كنا دراري صغار.كلشي ضاع."19. صار الحلم سرابا إذن في زمن الاستقلال. واستعملت فيه أيضا لغة استعارية (من الاستعارة) مثل قول المهرج:" أنا نبغي نكون زين.نبغي. ولكن بلادنا ما نقياش. تصور مثلا واحد عمرو ما شاف الشمس وما عطى الله غير هي. تصور الشمس ما عطى الله غير هي واحنا كنتزادو ونموتو في الظل."20 إن الشمس الأولى في هذا التعبير لا تتعلق بالشمس الحقيقية، وكذلك الظل. وقد يتم تبليغ المعنى بالحركة والصمت عوض الألفاظ. والحوار التالي بين بوشعيب وعثمان يوضح ذلك.

"- بوشعيب: مايمكنش.والى هجم العدو؟

- عثمان: مايقدرش. دابا شدينا الحرية.

 (طلقات نارية)

بوشعيب ! (صمت) بوشعيب!

- بوشعيب: (متأوها) شفتي؟"21.

إن الطلقات النارية تعني أن العدو، حسب المفردة التي استعملها بوشعيب، مازال موجودا. وقد تم التعبير عن هذا الوجود بتلك الطلقات. كما أن صمت عثمان وعلامة التعجب ساهما في إبلاغ الرسالة. هذا الحوار يلخص بعمق رأي عثمان الذي يعتقد أن الحرية جاءت مع الاستقلال، وكذلك رأي بوشعيب الذي لا يعتقد أن الأمر كذلك. لهذا بقي محافظا على بندقيته من بداية النص الرامي إلى نهايته. رأيان وتقييمان متباينان يتعلقان معا بعهد الاستقلال. هذا، وتجدر الإشارة إلى وجود تقنية تكسير الإيهام، وهي تقنية بريشتية. تقنية الغاية منها المحافظة على وعي المتلقي وفكره. وقد مكن تكسير الإيهام في النص الدرامي من التمييز بين زمن الاستعمار وزمن الاستقلال. يتضح هذا من خلال الحوار التالي:

"ممثل4: أنا ؟

ممثل 3: ايه

ممثل4: مثل أنت الرحماني.

الممثل1: كيف كيف.

ممثل4: لا. ما لاعبش. إما تمثل انت مول القمح ولا مانمثلوش.

علال: والله أسيدي الى جا معاك. ما شي دابا حينت غادي تمثل الدور ديال الرحماني راك بياع. هذا غير تمثيل. مالك خايف.

الممثل2:وزايدون، احنا باقي ما وصلنا للدور ديال الرحماني، دابا غادي نعاودو عليه غير في أيام الاستعمار"22. كما أن نفور الممثل من أداء دور الرحماني ينطوي، في حد ذاته، على موقف ينسجم مع الإطار الفكري العام للنص الدرامي. كما مكن تكسير الإيهام من تكسير الجدار الرابع، وهي تقنية مسرحية غير أرسطية. فقد ورد في النص مايلي:

"العربي:(للجمهور) غادي تسمحو لي واحد الدقيقة نفسر لهذا السيد علاش. وقدامكم غادي يعرف. وحتى انتم ماضيعينش.غادي تفرجو وفي الاخر حكمو (في اتجاه الكواليس) صيفطو لنا شي واحد"23.

إن طريقة بناء الأحداث الدرامية ، وتقنية تكسير الإيهام، وتقنية تكسير الجدار الرابع، ومخاطبة الجمهور مباشرة، وإفادته، والرؤية الفكرية المهيمنة في النص الدرامي، تشير كلها إلى ملامح بريشتية في هذا النص الدرامي. وهذا ليس غريبا، ذلك أن برتولد بريشت ومسرحه الملحمي كانا حاضرين في مسرح الهواة بالمغرب في سبعينيات القرن العشرين. لقد جرت الأفعال الدرامية في النص الدرامي في فضاء مدينة مراكش. وقد تم ذكر فضاءات أخرى في سياقات مختلفة هي: الدار البيضاء، والحوز، وتازة، وإفران. لكن هل المقصود صعود و انهيار مراكش/المدينة أم مراكش باعتبارها رمزا للمغرب؟. لاشك أن المراد هو مراكش باعتبارها رمزا للمغرب ككل. الدليل على ذلك هو أن الوزير تجول صحبة المبعوث الفرنسي في مراكش، ومنصب وزير منصب وطني وليس منصبا محليا. كما أن بوشعيب وعثمان كانا مقاومين ضد الاستعمار، والاستعمار لم يكن في مدينة مراكش فقط. ثم إن كلمة مراكش كانت تعني سابقا المغرب. وقد استعملها بالمعنيين معا، بالمعنى الذي يفيد المغرب، وبالمعنى الذي يفيد المدينة، مثلا ، كارل بروكلمان في كتابه " تاريخ الشعوب الإسلامية"24.

بناء على كل ما سبق، يتبين أن هناك ثلاث رؤى سياسية في هذا النص الدرامي. الرؤية السياسية الأولى رؤية انتهازية ومصلحية لا تهمها سوى مصالحها الذاتية أثناء الاستعمار وأثناء الاستقلال. هذه الرؤية تجسدها شخصية الرحماني. والرؤية السياسية الثانية أطرت النضال أثناء الاستعمار ولكنها ترى أن الاستقلال قد تحقق. وتجسد هذه الرؤية شخصية عثمان. أما الرؤية السياسية الثالثة فتجسدها شخصية بوشعيب. هذه الشخصية ترى أن الاستقلال الحقيقي لم يتحقق بعد في سبعينيات القرن العشرين بالمغرب. ويمكن القول بأن كل شخصية من هذه الشخصيات الثلاث ترمز إلى فئة اجتماعية معينة. فشخصية الرحماني بطريقة حصوله على الثروة، وتعاونه مع الاستعمار ومع "المخزن" زمن الاستقلال، وعدم تحقيق رغبة المواطنين في محاكمته عقابا له على تعاونه مع الاستعمار، وإخفاء القمح عن الشعب في عهد الاستقلال رغم المجاعة، واستغلال النفوذ، يمكن القول إنها ترمز إلى فئة الأعيان التي استفادت زمن الاستعمار وزمن الاستقلال على حد سواء. وترمز شخصية عثمان إلى نخبة حزبية كان لها دور في التعبئة الوطنية أثناء الاستعمار، لكنها اقتنعت بأن الاستقلال قد تحقق فانصرفت إلى تلبية نزواتها. أما شخصية بوشعيب، وهذا الاسم يشترك مع كلمة الشعب في عدد من الأصوات/الحروف، فترمز إلى شخصية المقاوم المغربي الذي يعتبر أن الاستقلال لم يتحقق بعد في سبعينيات القرن العشرين، لهذا بقي بوشعيب متمسكا ببندقيته في زمن الاستقلال. وقد سعت السلطة في النص الدرامي، ممثلة في الفسيان، أثناء الاستقلال من أجل جمع هذا السلاح. في هذا الصدد، قال "الفسيان": "وحفاظا على سلامتكم وأمن البلاد، الناس اللي عندهم السلاح يسلموه لأقرب السلطات. وخصنا نتاحدو..نتاحدو..نتاحدو.، ضعوا ثقتكم في اليانصيب عفوا في البرنامج الوطني، عاش الاستقلال"25 وزلة اللسان الدالة مقصودة هنا من قبل المؤلف الدرامي، من البرنامج الوطني إلى اليانصيب، وبعبارة أخرى من التنمية إلى تحقيق المكاسب والأرباح الشخصية عن طريق التلاعب بالبرنامج الوطني. كان السلاح عند المقاومين بهدف طرد العدو الاستعماري وبقاياه زمن الاستقلال، أما الهدف من جمع السلاح عند السلطة في عهد الاستقلال فمن أجل ضبط الأمن. وقد كان الهاجس الأمني لدى هذه الأخيرة حاضرا في النص، لهذا كانت شخصية الشرطي من شخصيات هذا النص الدرامي.

بناء على ما سبق، يمكن القول إن الرؤية السياسية العامة المؤطرة لهذا النص الدرامي رؤية سياسية، حيث تم النظر إلى المدينة من قبل المؤلف الدرامي انطلاقا من رؤية سياسية تنتقد الاستقلال المنقوص. فالعدو مازال متربصا بالمدينة/الوطن. والسلطة كما بدت في النص الدرامي، وقد كتب سنة 1979، متحالفة معه ، إذ طلبت منه المساعدة. والعدو، حسب النص ، لم يقدم سوى الوعود. يتبين مما سبق أن مآل أحلام وتطلعات مراكش/المغرب هو الإجهاض. أجهضت أحلام وتطلعات مراكش/المغرب في سبعينيات القرن العشرين حسب النص الدرامي. فما هو مآل أحلام وتطلعات المغرب بعد نهاية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين وظهور حركة 20 فبراير؟. هذا مع وضع في الحسبان اختلاف الظروف والسياقات، وكذلك اختلاف مضمون الأحلام ذاتها، من طرد الاستعمار وفلوله إلى الديمقراطية وغيرها من المفاهيم المرتبطة بالحياة السياسية العصرية. هذا علما بأن مكونات حركة 20 فبراير مختلفة ، كما أن المرجعيات الفكرية لهذه الأخيرة مختلفة أيضا .

كانت رغبة جزء من المغاربة في سبعينيات القرن العشرين، حسب النص الدرامي، هي الكفاح من أجل الاستقلال التام والحقيقي كما تصوره بوشعيب. أما رغبة السواد الأعظم من المغاربة اليوم، إن لم يكن كل المغاربة مع استثناء أصحاب المصالح الذاتية، المعبر عنها من لدن الحركة المذكورة من خلال مطالبها وشعاراتها، وهي ، أي المطالب والشعارات، سياسية واجتماعية، رغم اختلاف المكونات والمرجعيات، فتتمثل في تحقيق الديمقراطية الحقيقية، والالتزام بحقوق الإنسان قولا وفعلا ، والاحتكام إلى الإرادة الشعبية دون تدخل فيها، وتمثل مفهوم المواطنة والمواطن الذي له حقوق وعليه واجبات ... وغيرها من المفاهيم المرتبطة بالحياة السياسية المدنية.

 

الهوامش

1- يوسف فاضل، حلاق درب الفقراء صعود وانهيار مراكش (مسرحيتان)، مطبعة الأندلس، الدار البيضاء، المغرب، 1980.

2- نفسه، ص/76.

3- نفسه، ص/76.

4- نفسه، ص/81.

5-نفسه، ص/81.

6-نفسه، ص/108.

7-نفسه، ص/109.

8-نفسه، ص/109.

9-نفسه، ص/112.

10-نفسه، ص/136 .

11-نفسه، ص/91.

12-نفسه، ص/133.

13-نفسه، ص/132.

14-نفسه، ص/134.

15-نفسه، ص/84.

16-نفسه، ص/ /127.

17-نفسه، ص/ 128.

18-نفسه، ص116.

19-نفسه، ص/107.

20-نفسه، ص/114.

21-نفسه، ص/126.

22-نفسه، ص/80 .

23-نفسه، ص/90.

24-كارل بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، ط/9، 1981، نقله إلى العربية نبيه أمين فارس ومنير بعلبكي. طبع هذا الكتاب أول مرة سنة 1948.

25-نفسه، ص/86.