عندما يبدأ الطفل في التعرف علي العالم من حوله .. يبدأ بالتعرف علي جسده، ومن خلاله تبدأ علاقته بالغير. وإذا كانت الرواية السعودية لازالت في بداياتها، فإن المشهد الروائي السعودي يحيلنا إلي بدايات ذلك الطفل . حيث سادها الحديث عن الجسد وعلاقاته، السوية منها والشاذة . وبحكم انغلاق المجتمع، تركزت نسبة كبيرة من تلك العلاقات حول العلاقات المثلية (بنات الرياض) لرجاء صانع، (الأخرون) لصبا الحرز، (خاتم) لرجاء عالم .. وغيرها) كثورة علي المسكوت عنه من التابوهات والمحرمات، ثورة علي الوهم المعاش وكشف للمستور تحت القاع. وإذا كان الكثير من تلك الروايات قد اعتمد في مادته علي تلك العلاقة، لم يتجاوزها لأبعاد أكثر عمقا، سواء تم إرجاع ذلك لضعف في الخبرة القرائية والحياتية، أو سعيا وراء الانتشار، أو لهاث الناشرين والقراء، ومعتمدة علي استخدام ضمير المتكلم، الذي يوحي بالبوح الجاذب لإشباع نهم القارئ – العربي خاصة – للتلصص علي خبايا الآخرين، خاصة الخبايا المتعلقة بالجنس والجسد. إلا أن الكثير منها أيضا تجاوز الوقوف عند المشهد الخارجي، وأحادية الشخصية والرؤية، سعيا نحو إيصال فكرة أو رؤية أو وجهة نظر محددة، تجاوزها إلي محاولة الغوص إلي ما هو أبعد من السطح.
وحيث أن الرواية هي المؤرخ الحق والصادق لحياة الشعوب وتطوراتها – الاجتماعية علي وجه الخصوص- فإن الكثير من تلك النماذج يمكن من خلالها قراءة الحياة الاجتماعية في المملكة العربية السعودية، بل ويتخطاها إلي الكثير من البلدان العربية، للتشابه الكبير بين تلك البلدان، مثلما في كل مجتمع تم التعبير عنه من خلال رواياته ومحيطها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. إذ أنه مثلما الحفار يخترق سطح الأرض كاشفا عما هو مخبأ بأعماق التربة، يكون الكاتب في اختراقه لسطح المجتمع، كاشفا عما يعتمل في باطنه من أبخرة وغازات تبحث لها عن مخرج، يكون هو البركان الذي لابد يأخذ الكثير في وجه فورانه. ومثلما حفرت الرواية المصرية في أعماق المجتمع لتكشف المخبوء تحت السطح في العديد منها، وعلي سبيل المثال لا الحصر، ما قدمه الأديب المصري مكاوي سعيد في روايته (تغريدة البجعة) وتقديمه لأبناء الشوارع / القنابل الموقوتة، والجاهزة للانفجار. والأديبة السعودية رجاء الصانع في روايتها (بنات الرياض) بتناولها لعالم المرأة التحتي في مواجهة الكبت الضاغط علي الرغبات المتأججة، كاشفة عن أن وراء الباب الضيق للمغارة عوالم واسعة تموج وتهدر، باحثة لها عن خلاص ينقذها من فورتها الهادرة. وهو ما نستطيع تتبعه بوضوح أدبي ممتع في في رواية (ترمي بشرر)(1) للأديب السعودي عبده خال، متفقا مع مكاوي سعيد في الكشف عن ذلك التناقض الحاد بين من يعيشون في القاع ومن يعيشون في القمة، بين من يملكون كل شئ، المال والسلطة، واهل الشوارع الذين لا يملكون إلا أجسادهم المغروسة في طين الفقر، ووحل العوز، ويكون هو سلعتهم التي غالبا ما يتعيشون منه، والذين يشكلون وقود الثورة الحتمية علي الأوضاع الاجتماعية غير السوية. فها هو الراوي في (ترمي بشرر) يٌعرف نفسه «هكذا، ألفاظ عارية أكثر عريا مما نتحدث به نحن من يُطلق علينا أبناء الشوارع.» ص132. ويٌعرف الوسط الذي نشأ فيه : «اسم حيينا الحفرة، أو الملاحة، أو قاع جهنم، أو النار، وكلها مسميات للعذاب، ولحياتنا.» ص45. ليشكل بذلك قوة مطحونة تبحث لنفسها عن فرصة للعيش، في مواجهة قوة أخري، تعبث بها وتسخرها لخدمتها، وتخضعها لإرادتها جبريا، ويقول عنها الراوي: «ملل إتيان الفواحش خرج من أنفاس سيد القصر حتي أنه خصص جائزة لمن يأتي بسلوي جديدة لقلبه. اقترف كل المتع، وكلما عبر إحداها، وجد أن الحياة تضيق به، ليتمتع بتشويه خدمه، واستمتع مع أخيه بشراء النكت، وجلب الراقصات، والمغنيات من أصقاع الأرض، وتراهن علي الزواج بالمشهورات من الفنانات، والمذيعات، واقتعد أكبر صالات القمار في العالم، وكانت مشاهدة إتيان خصومه آخر المبهجات التي وصل إليها» ص137، 138. لنصبح أمام طبقتين في المجتمع، طبقة من يَملكون، ومن يٌملكون، وليقوم الصراع الداخلي، غير المعلن عنه، ولتنشأ الحركة المحركة لفضول القارئ، ولتساهم مع القدرة علي التشويق واللغة الشعرية في الإمساك بالقارئ حتي النهاية، التي تنفتح معه – القارئ – وتسير به إلي ما بعد صفحات العمل المتجاوز للأربعمائة صفحة من القطع المتوسط.
يعيش الراوي (طارق) في حارة شديدة الفقر والبؤس، وعلي الجانب الآخر ينبني القصر الباذخ في ابهته، الصامت علي من فيه، ليصبح الغموض المحيط به، هو المحرك الأول لفضول أهل هذه الحارة، للتعرف علي ساكني القصر، وحياة أهل القصر. وطريق الصدفة هو الذي قاد أحد أبناء هذه الحارة (عيسي الرويني) للدخول في القصر، وليصبح كأحد أبنائه، لدي سيد القصر، وأحد أهم خدمه في عهد ابن صاحب القصر(السيد) الحاكم فيه بعد رحيل والده. ويسعي (عيسي) وينجح في إدخال أهل الحارة إلي القصر كخدم للسيد وملذاته، إما خدمة لهم لينتشلهم من الحالة الإجتماعية البئيسة، وإما انتقاما منهم لمواقف له معهم، بما يملكه من قرب للسيد، سيد القصر. ومن هنا، من هذه المواجهة، تتكشف لنا أبعاد العتبة الأولي في القراءة، وهي العنوان، المستوحي من الآية الكريمة في سورة المرسلات [ترمي بشرر كالقصر ...... ] والتي شبه فيها الرحمن عز جل الشرر المتطاير من النار بالقصر، ليصبح القصر هنا ليس إلا شرارة من نار جهنم تقذف حممها علي ساكني الأحياء الفقيرة – رغم المفارقة في تسمية القصر بـ (الجنة)، وتسمية الحارة بقاع جهنم أو ( النار) – وسنعود إلي ذلك فيما بعد. وهو ما صورته الرواية . فلم يدخل القصر داخل إلا وأصابه منه اللهيب. وما دخله داخل إلا وكان وسيلة من وسائل اللذة الحسية والنفسية لساكن القصر. وما كان صاحبنا (طارق) إلا واحدا من هؤلاء.فعبر عن ذلك في : «حياتي بقع من الأحداث تومض في ذاكرتي، فأخلط أزمانها ومواقعها، كل الذي أذكره أني غدوت عبدا حينما فتحت لي بوابة القصرلأدلف منها إلي حياة متبخرة.» ص268. فلم تكن وظيفة صاحبنا/ الراوي في القصر، إلاشرارة إلقيت علي كومة حطب زادتها اشتعالا، وما كانت رمية عشوائية، ولكنها اختيرت بعناية، ووظفت بعناية، فما كان فيه الراوي من قبل، كحياة ملوثة، وفحولة أختبرت في العديد من التجارب، كانت كلها تصنع منه كومة قمامة جاهزة للإشتعال، وما شرارة القصر إلا مزيد من اللهب.
بدأت تلك الحياة الملوثة، بربط الكاتب بين التلوث الواقعي والتلوث المعنوي، في صورة كاشفة عن التلوث الخارجي في الحارة، والمتمثل في بركة الماء القذرة التي سقط فيها بملابس يوم العيد، والتلوث الذي اعتري نفسه وسخطه علي الحارة وحياة الحارة وساكني الحارة. لم يكن سكان الحارة – كأي طبقة فقيرة- يملكون إلا فحولتهم التي تصبح هي الميزة الوحيدة للتباهي، فيرث صاحبنا الراوي تلك الفحولة عن والده الذي عبر عن فحولته في جملة مركزة معبرة في سياق حديثه عن نفسه: «أنا البكر خرجت من رحم لم يطق أن يتكور مرة أخري، لينطلق أبي ساكبا مياهه في ثلاثة فروج، اقتدي كل منها برحم أمي» ص90، ومن هذه العبارة نتبين ليس فقط فحولة والده الذي كان يأتي نساءه الثلاث كل ليلة، ولكن أيضا ليضع البذرة التي تؤدي إلي الكارثة المأساوية التي تتكشف في نهاية الرواية. كما لم يكن الوالد فقط هو الذي يتمتع بهذه الفحولة، وإنما أيضا جديه (لأبيه وأمه)، ليس لينسج من ذلك أحد أبعاد شخصية الراوي وتعميق أبعادها، وإنما ليسوقه إلي (قدره) المحتوم والذي لا مهرب منه، للوظيفة التي اقتاده (عيسي) إلي القصر من أجلها، والتي أخرجته من حياة الفقر إلي حياة الغني – المادي- والقذارة المعنوية. فلم تكن وظيفته في القصر سوي وسيلة في يد سيد القصر لإذلال وكسر رجولة خصومه، أو من يغضب عليهم، بإتيانهم في رجولتهم، والتي لم يسلم منها (عيسي) نفسه عندما أراد سيد القصر أن ينتقم منه في النهاية.
بناء الشخصية
من المآخذ التي تؤخذ علي الرواية السعودية في مهدها، الشخصيات النمطية والمسطحة التي تعتبر في النهاية مجرد دمي يحملها الكاتب/ة بَوْحَه الروائي. غير أننا نستطيع القول بأن عبده خال قد تجاوز ذلك كثيرا. ونتخير شخصيتين اثنتين، نجح في رسمهما بأبعادهم التاريخية، ليضفي عليهما عمقا زاد من تجسيدهما، وخروجهما عن النمطية والسطحية، حتي كادتا أن تصبحا شخصيتين حقيقيتين، وهما طارق/ الراوي، وعمته خيرية. حيث سعي بين الحين والآخر علي امتداد صفحات الرواية أن يضيف (معلومة) جديدة تزيدنا معرفة بالشخصية، وتعطيها المبرر التاريخي والنفسي، لتشكيلها علي النحو الذي جاءت عليه. فعلي مدار الصفحات، نتعرف علي شخصية الراوي، الفقير، العائش علي هامش الحياة في بيئة أشد فقرا، والساعي للخروج من بئر القذارة التي يعيشه. ساعده في تكوين كمية القذارة التي عليها عمته (خيرية)، تلك الشمطاء العانس التي لم يفكر رجل في الاقتراب منها، لسلاطة لسانها، وما سلاطة لسانها إلا للجفوة التي تعيشها بعيدا عن إشباع ذاتها كامرأة، يزيدها اشتعالا، رؤيتها لزوجة أخيها – أم الراوي- التي لم يكن زواجها منه يروق لها، حيث تعلم تلك الحقيقة التي أصبحت بؤرة في صناعة الشخصيتين معا، الراوي وعمته، وهي أن والدة الراوي، قبل أن تتزوج والده، كانت علي علاقة حب مع ابن عمها "غيث" لكن أباها وقف دون زواجهما، وأصر علي تزويجها لوالد الراوي. الأمر الذي رسخ في ذهن العمة عدم صدق وأمانة تلك الزوجة مع أخيها (والد الراوي)، وفي ذات الآن رسخ في ذهن الأبن (الراوي) عدم أمانة المرأة عامة، وهو ما انسحب علي علاقته بحبه الوحيد "تهاني" حيث أوحي له ذلك أن "تهاني" كامرأة كانت أيضا تفكر في ابن خالتها "أسامة" وهي معه. وهو الذي أحال حياته كلها إلي عملية اقتصاص، «وهل فعلا اقتصيت لأمي، أم اقتصيت من النساء مجتمعات في صورة عمتي بتقطيع أجزاء منها، أو في تهاني بهتك عذريتها، أو أمي بنسيانها، أو بإتيان الرجال كاكتفاء وعدم حاجة للمرأة؟» ص237 . خاصة إذا ما أضفنا إلي ما ذكره، سعيه في النهاية أيضا للإقتصاص من "السيد" الذي كان له الدور الأكبر في زيادة إحساسه بالقذارة. فضلا عما لعبته عمته، منذ الصغر، في تكوين الشعور الدفين في الكره، وفي القذارة. حيث كان هو الوسيلة التي تستخدمها عمته للإنتقام من الآخرين أو الأخريات، وهكذا كانت في عينيه: «فكل كلمة خرجت من فمها، وجهتني نحو الانحراف بصورة ما» ص 148، «لم يعد لي في هذه الحياة من فجوة أفرغ بها كل حقدي وغيظي فيها سوي هذه البيارة التي علمتني السباحة بين القاذورات» ص161. و«كانت عمتي خيرية تضعني طعما لشهواتها العدوانية. عمتي هي الداء الذي تسلل إلي داخلي وأصابني بمرض الكره المزمن، فغدت ضحية تلك التغذية المستمرة» ص292
ومثلما تري نظريات علم النفس فإن التعليم في الصغر كالنقش علي الحجر، يظل عالقا بالإنسان طوال حياته، يؤثر في سلوكياته وتصرفاته، وما الإنسان إلا مجموعة من السلوكيات والتصرفات. إلا أننا نظلم الرواية والكاتب إذا ما اقتصرنا في حديثنا عن الراوي وعمته في بناء الشخصية وتعميقها، لذا كان لابد من الإشارة إلي بعض الإحالات التي يعرج إليها الراوي بين الحين والآخرن ليعمق لنا الشخصيات ويمنحها المبرر والمنطق لتصرفاتها، مثل تلك الحكايات الصغيرة التي ترد علي الهامش في الطريق، دون أن نحس بالنقلة، وتضيف إلي أبعاد الرواية، وتساهم في نحت الشخصيات، وتدفع بالحدث إلي الأمام مثل حكاية سميرة وتزويجها من العجوز قاطع الطريق، وكيف أدي بها ذلك إلي الارتماء في براثن الراوي (طارق). وكذلك بدايات حكاية "مرام" التي كانت قد بدأتها مع الراوي ودخولها القصر رغبة في الانتقام – أيضا- من "عيسي الرويني". والرغبة الدفينة الراسخة في أعماق "أسامة" بحثا عن السبب القاتل لبنت خالته ومحبوبته "تهاني" وغيرها وغيرها مما يؤكد قدرة عبده خال علي تخطي مرحلة البدايات الروائية السعودية، والسير بها نحو النضج. خاصة إذا ما تأملنا أيضا الحبكة المتقنة والاحترافية والتي نسجها بتوأدة وصبر، دون أن يفقد ارتباط القارئ أو تململه.
الحبكة الروائية
يسير السرد في طريق، يعلمه السائر، غير أنه (الكاتب) يخفيه عن قارئه ليظل مشدودا إليه بخيوط غير منظورة، وكلما سار القارئ مع السارد وجد إناسا (شخوصا روائية) علي جانبي الطريق، وكلما مر السارد علي منعطف، وقف يتأمل من به، وربما سار فيه بضع خطواط، ليتعرف القارئ علي شخوص جديدة، أو يتعرف علي ذكري كانت لأحد الشخوص أو بعضهم عند هذا المنعطف أوذاك، فيزداد القارئ تعارفا علي شخوص العمل، ويظل العدد في تزايد، وتشتد الأضواء المسلطة علي الشخوص، ويزدحم الشارع (الرواية) بالشخوص والعوالم. وتصطخب الحياة من حول الراوي/ السارد، ثم يبدأ الجمع في الانفضاض من حوله، واحدا، أو واحدة، إما بالموت أو غيره، وعند النهايات، يجد الراوي نفسه وحيدا في مواجهة بين ماض يكرهه، ومستقبل هو له أشد كرها بين عمته "خيرية"، تلك التي قد تمثل له الماضي بكراهيته وجنايته عليه، حيث كانت هي الدافعة له لكل القذارات التي انساق إليها كالقدر، فقد أصبحت مجهولة المكان، وكأنها الماضي الذي صار إلي المجهول ولم يعد بالإمكان الإمساك به، للإنتقام والاقتصاص منه فلا الماضي مات، ولا هو بقادر علي الإمساك به. فلا العمة ماتت فيعرف مصيرها بعد كل ما أذاقها من صنوف انتقامه منها، ولا هو يعرف أين اختفت فيذهب إليها. و"السيد"، سيد القصر الذي أعفاه من العمل، والذي أصبح بالنسبة له (الراوي) هو التخطيط القادم للإنتقام، حيث بات الحلم هو الخلاص منه، بعد أن قتله في خياله آلاف المرات، وبطرق متنوعة، ولم يقدر لأي منها أن تصل إلي الفعل الواقعي. وليدور في دوامة الانتقام العنيفة يعتصره فيها الماضي والمستقبل معا، بعد أن وصل الحاضر لقمة مأساويته، باكتشافه للموقف التراجيدي الذي تعرف فيه علي أن من هام بها إلي أن أصبحت معشوقته، وعد نجاحه في الوصول إليها، انتصارا علي "السيد". حيث كانت هي المحظية الأقرب منه، ولم تكن هذه المعشوقة، وهذه المحظية إلا أخته "مريم" التي لم يرها من قبل والتي تحول اسمها في حياتها الخفية إلي "مرام".
كما تتكشف النهاية عن مواجهة أخري. حيث ظل القصر، وساكن القصر(السيد) موجودا ولم يتحدد مصيره، أو نهاية محددة بعد، ويظهر في مواجهته، وكأنه يظهر من خلال الظلام، وينسحب الضوء عليه خفيفا وتدريجيا، وهو أخوه الشيخ إبراهيم وأنجاله وابن أخته "أخيد" ابن مريم /مرام، يذهبون إلي المسجد، ويمثلون الجانب الخير في البيئة الفاسدة، ولنصبح أمام الواجهة الأبدية والتقليدية، الخير، صامدا وممتدا، والشر في القصر الموجود والممتد. بل من خلال هذه المواجهة، نتعرف علي مواجهة ضمنية، أو مستترة، بين "أخيد" وبين طارق/ الراوي. حيث عندما يذهب الراوي مكرها مع أخيه إبراهيم إلي المسجد مصطحبا أبناءه، وابن أخته (أخيد) يسلط أخيد نظراته علي الراوي، والراوي يتهرب من نظراته التي لابد تشعره بالخطيئة الكبري مع أخته (مرام).
اتساع الفضاء الروائي
لاشك أن الموقف التراجيدي في النهاية، والذي يتعرف فيه الراوي علي أن معشوقته، محظية السيد الذي يعمل تحت إمرته، ليست إلا أخته مريم، يعيدنا إلي أجواء أجوء التراجيديا الإغريقية، التي تنضاف إلي الرؤية الواقعية المريرة، فتنأي بالعمل عن المباشرة من جانب، وتنأي بالكاتب عن الوقوع في المساءلة، في ظل الحكومات العربية التي – في تصورنا - كتب العمل للتنديد بها، وبدكتاتوريتها. فضلا عن إضفاء الدهشة، والمفاجأة التي تضع القارئ في حالة من الحيوية والمتعة. خاصة أن تلك الرؤية، ليست ببعيدة عن ما ساد الرواية من نظرات فلسفية تأملية في الحياة، وما بعد الحياة. ولنتأمل هذه النظرات الدالة علي هذه الرؤي: «كيف تكون مسلوبا، وسالبا في لحظة زمنية واحدة؟ وهذه هي الحياة – أيضا- فحين تحدث فعلا من الأفعال، فأنت تحرك الزمن، وإقلاعك عن اتيان الفعل، توصد الباب علي متواليات من الأحداث» ص116 و«مساحات الظل، والضوء هي اللعبة التي تجيدها الحياة باتقان، لكل شئ وجهان، يعتركان، ولا يمتزجان، تقلبهما الحياة بنسب، وتصبح مواقعنا هي قواعد اللعبة، أيهما يبرز، وأيهما يختفي، والمحظوظ من يأتي علي الحرف الجامع لوجهي الحياة!» ص120 و«فلم يمر أحد قط علي هذه الحياة، اختار قدره!» ص 121. ولاشك أن اتساع الرؤي والزوايا - مع توظيفها في السياق- يؤدي إلي اتساع مساحة فضاء الرواية، ويبرر بشكل منطقي طولها –النسبي- ويخرج بها عن الرؤية الأحادية التي إلتصقت بالعديد من الروايات السعودية في بداياتها خاصة أن هذه الرؤي المتعددة لم تأت زائدة أو دخيلة علي العمل.
وقد يعتبر من أساليب إتساع الفضاء الروائي أيضا، فتح باب الإسقاط علي عديد الدول، خاصة الدول العربية، حيث عمد إلي أن المعاناة التي يعانيها سكان الحارة، أو قاع الجحيم، ليسوا وحدهم في هذه المعاناة، فحشد عددا من الجنسيات في الحارة، وكأنهم جميعا يقعون تحت طائلة الظلم الاجتماعي والقهر الإنساني: «ظل الحي متمسكا بساكنيه الأصليين في جهة واحدة بينما ترك أجزاء منه للقادمين إليه، لفيف من جنوب المملكة ... وجاليات من يمنيين، وشوام، ومصريين، وسودانيين، وصوماليين، وارتريين، وهنود، وأفغان، وجاويين، وتشاديين، وصينيين، وأكراد،.......، كل هذه الأعراق تم عجنها، وتسويتها في مساحة شاسعة، قذفت داخل الحفرة، وتشاطر القاطنون فيها كدح العيش، وحلم الخروج منه.» ص 139
الواقع المتخيل
إزاء اتساع الفضاء الروائي، وتعدد المسارات، خشي عبده خال علي قارئه من الانسياق وراء ما هو متخيل، وتضيع منه الرسالة المبتغاه، والتي –في نظرنا- الرسالة الثورية التنويرية، فعمد إلي ما يربطه بالواقع بأكثر من وسيلة. أولها تعمد ذكر الأسماء بذاتها، وربما الثنائي أو الثلاثي ليضفي الكثير من الواقية علي الأحداث، فضلا عن استخدام إسلوب السارد المشارك، والذي يقترب من السيرة الذاتية بما تضفيه من حميمية وتشويق لإشباع غريزة التلصص. كما أن ما يمكن اعتباره الجزء الثاني من الرواية "عتبة ثانية" أتبعها بتحديد صارم للزمن «العاشرة والنصف صباحا – الأثنين 8 أغسطس 2006» ص 265، «التاريخ السري لعيسي الرويني – 1957 – 2007» ص277، ليزيد من الإيحاء بواقعية الحدث. باستثناء شخص واحد ظل حتي النهاية دون اسم محدد، هو (السيد) "صاحب القصر" حيث ظل "السيد لقبا لا اسما، لينفتح علي كل صاحب سلطة ومال، ولينفتح علي كل الحكام العرب – والذين بسببهم ثارت الشعوب العربية في أكثر من بلد - أولئك الذين حولوا الشعوب إلي عبيد مسخرين لخدمة أغراضهم ونزواتهم المريضة. وتحولوا إلي ماكينات طحن تطحن كل من يفكر – مجرد التفكير – في المساس بهم أو بالاقتراب من سلطانهم. مرورا بإذلال رجولة الكثيرين من معارضيهم - وهي المهمة الرئيسية للرواي الذي تحولت فحولته الجنسية إلي وسيلة للثراء، إرضاء لرغبات "السيد" وإشباعا لنزواته المريضة.
كذلك استخدم الكاتب حيلة جديدة لزيادة الإيهام بالواقعية من جانب، والربط بن التخييل الروائي والواقع المعاش من جانب آخر، وحتي تدفع الرواية قارئها إلي ضرورة التفكير فيما وراءها، ولتصب الزيت علي الحطب كي تشتعل الثورة علي الواقع بمراراته وسوءاته، وكي تنضاف إلي مصاف الأعمال الروائية العديدة التي ساهمت في إضاءة الواقع العربي المرير، وأصبح لها دور فعال فيما يحدث من ربيع عربي. تلك الحيلة هي إيراد بعض مقتطفات يفترض أنها منتزعة من الجرائد السيارة في زمن كتابة الرواية – وإن كان الكاتب المصري "صنع الله إبراهيم" قد استخدم ذات الحيلة، إلا أن صنع الله لجأ إلي ما تم نشره بالفعل، أي أنه صنع ما يمكن تسميته بالرواية الوثائقية، أما عبد خال فقد صنع هذه المقتطفات من صنع الخيال، وهو ما يمكن تسميته بالواقع المتخيل، لزيادة الإيحاء بواقعية الأحداث، وكأنها منتزعة من أرض الواقع بالفعل، حاول أن يكون بينها تشابه أو تقارب مع بعض أحداث الرواية، مثل: «بسالة ويقظة حارس الأمن ترديه قتيلا: مقتل معتوه داخل أحد القصور حاول الاعتداء علي ساكنيه بالقتل». "جريدة الوفاق" العدد 1412» ص388. «مانشتات لصحف محلية: ضحايا انهيار السوق: رجل يسير عاريا بعد أن فقد عقلهز جريدة "الوفاق" العدد 29462» ص391 وهو ما يتوافق مع مقتل "عيسي الرديني" الذي قضي "السيد" – بعد علمه بزواجه من أخته "موضي"، دون علمه ولا رغبته- علي رصيده بالبنك ليصبح صفرا حتي جن عيسي وسار في الشوارع متجردا من كل ملابسه، ويوم عاد عيسي إلي القصر، أراد "السيد" أن يؤدبه، فأصدر أمره لطارق "الراوي" ليذل رجولته، ثم سار به إلي خارج القصر، وعند البوابة، أطلق السيد (بنفسه) عليه طلقتان أردياه قتيلا، وطلقة ثالثة علي كتف الحارس، وأمر الحارس بالشهادة بأن هذا ال عيسي حاول دخول القصر ليقتل السيد وأطلق عيارا (هذا أثره علي كتفي)، وبالفعل خرج الحارس من المحكمة لأنه كان في حالة دفاع.
إن ما قدمه عبده خال في (ترمي بشرر) لا يعد فقط خطوة كبيرة في مسيرة حياته الروائية، وإنما خطوة كبير في مسيرة الرواية السعودية. كما أنها (ترمي بشرر) لا تعد فقط صرخة في وجه الظلم والاستغلال وغياب العدالة الاجتماعية في بلد بعينها، وإنما هي صرخة ترسل صداها علي امتداد الكرة الأرضية.
shyehia@yahoo.com
___________________________
(1) - ترمي بشرر – عبده خال - دار الجمل – الطبعة الأولي 2009