تقدم الكلمة "مسرحية شعرية" لكاتب فلسطيني من الداخل، يعيش تمزق الهوية ويحورها الى شخصية متخيلة تحاول من خلال مونولوغ، بإيقاعات متعددة وملمس سوريالي وفنطاستيكي واضحين دون إغفال الحضور اللافت لبعض المفاهيم الفلسفية، إبراز سمات هذا التمزق والتشظي التي تعيشه. جاعلا من اللغة الشعرية وسيطا.

الأخرق (مسرحية شعرية)

أفنان القاسم

إلى الشجرة الوحيدة في رمال النقب

 

شخصية المسرحية

الأخرق

 

المكان

كوخ وشجرة عليها بعض الأوراق ذات أغصان ميتافيزيقية في صحراء النقب

 

الزمان

في الخمسينيات

 

الأخرق:

(خارج كوخه قرب الشجرة ومن أمامه صحراء النقب يخفض صوته عندما يلزم ذلك ويعليه أو يصرخ أو يضحك أو يغضب أو يفرح أو يحزن أو يبكي أو يهمس أو يهلوس أو يهتف أو ينادي... وينتقل هنا وهناك كما يشاء)

ينطقُ الرملُ لمّا أقولُ لهُ

أنتَ البحرُ

وأسمعُ ما يشبهُ نباحَ الموجِ

ونشيجَ الصواري

***

يرقصُ الرملُ لمّا أقولُ لهُ

أنتَ الخصرُ

وأشعرُ بالوقتِ يسيلُ بين أصابعي

وبالأيامِ تنثالُ على بابي

***

يبكي الرملُ لمّا أقولُ لهُ

أنتَ القبرُ

لأن أمي ماتت قبلَ موتِ روحي

وخنقِ الصورِ في مدنِ الجراحِ

***

يا أمي

ماذا أصنعُ بالبحرِ

وأنا مجدافٌ ملقى

على الرملِ وحيد؟

***

ماذا أفعلُ بالخصرِ

والخصرُ رمحٌ أعمى

عن مبادئِهِ لا يحيد؟

***

ماذا أزرعُ في القبرِ

لما تتركني الشجرةُ الحُبلى

أنادي على القمرِ البعيد؟

***

كان اختياري بعد أن لفظني الليل الدامس من جوفه

كما يلفظ النواةْ

في الظلام لم أكن أرى

إلا بصيص القرنفل

فعرفت أنه ذاتي

وفهمت أني المسؤول عن حياةْ

كل الحدائق

وفي الحال

واجهتُ الرياح في الحال

وأشعلتُ الحرائق

لم أكن أعلم أن العواصف سر من أسرار

الزنابق

وأن النيران أجساد الاشتياق

إلى الثلوج

على سرتك

فدمرتُكِ لأني كنت أحبك

ولأن في الدمار بداية النهايات

لمن لا يعرفني

ثم عرفتني الرمال

لماذا هذا الحزن الدائم عليّ

الذي كان

وبسببه أخذني الواجب منك

فالواجب يرادف الموت

في حالتك

واغتصاب

الإنسانِ الآليِّ لروحي؟

آه! يا روحي

الشمسُ في الصحراء

قلادةُ نهارٍ لا يعرف الموت ولا يعرف الحياةْ

نهارٌ هو اليوم نهاري

دون زنابقك

الدامية

زنابق الوقت الأحمق

وقتك الغالي على قلبي

الأزرق كالبرتقال

الأبيض كالليل

الأحمق كالارتحال

البنيّ كالحرية

أنا المرغم على أن أكون حرا

بقيمي

بقعٌ لحيضِ راقصةِ باليهَ قيمي

لكنها قيمي

قيمٌ تسيل من بين فخذين منحوتتين بإزميل أهوج

لكنها قيمي

عقاربٌ تقفز على المسرح

وتلدغ فاغنر

لكنها عقاربي

تطلق الموت أبيض كالليل

وتجمع العالم

ثم تحرق التُّلَّ لأني أعبد النار

لا شيء موجود غير النار

ودموعك عليّ

ولا شيء يُثبت وجودك غير النار

ووجودي

بعد أن تغدو قيمي رَوْحَ العدمِ المبدع

مبدأَ الحياةْ

ومرمى القوس

الطائرَ المتحجر

بين فخذي راقصة الباليه المبقعتين بالحيض

***

في النقب لا حاجة بنا إلى القيم

القيم في النقب قيم الرمال

وفي النقب نحن رجال فيما بيننا

كالعقارب فيما بينها

نحن عقارب الرمال

لا شرٌ أسمى هنا

ولا خيرٌ أسمى

ولا زنابقُ بقدْرِ الفجرِ في الصباح

ولا ثعابينُ للسلوى

ولا أقمارٌ في المساء

نحن ذئابُ أنفسنا

استتباعُ الوقت

وأسيادُ الفضاء

أسياد الكذب

فلا أحدٌ يرغِمُنَا على عدم الكذب

ومداهنة الخد للتفاح

لا شيءٌ شرعيٌّ هنا

نحن سلوكُ الألوانِ معَ الألوان

لا قَدَرٌ يمنعنا من ارتكابِ الذنب

يرغمنا

يدللنا

نحن المرئيُّ والمحسوسُ في السراب

كلسونُ عاهرةٍ ممزق

تفوح منه رائحةُ الجماع

وأفكارٌ كثيرة

أفكارٌ غزيرة

أفكارٌ بليلة

أفكارٌ جميلة

عن دمامة الأخلاق

كلسونُ عاهرةٍ ملوث

يحنو على كل ما يتركه الرجال

وينسونه

قيمتنا المطلقة

خيرنا الأسمى

كلسونُ عاهرةٍ ملون

يسيّر تصرفاتنا

ويجعلها شرعية

كشرعية الرمال

على خاصرة النقب

خاصرتك يا أمي

بعد أن زرعتِ كلَّ الأشجار

فما نمت منها سوى واحدة

شجرتُكِ الوحيدةُ التي قالت للتوراة

أنا موسى

وكلُّ الباقي كذبة

لهذا كان كلسونُ العاهرةِ حقيقتَنَا

الطاهرة

لهذا...

***

كان أبي قد مات في الحرب

فلم أبكِهِ

لا لشيء إلا لأني كالجذع الخشن

أوجع عند اللمس

ولا أتوجع

ولأني عندما اخترت الطريق التي اختارها

لم أعد مسؤولاً عني

لم أعد مسؤولاً عنك

لم أعد مسؤولاً عنه

والذئاب التي رضَعَتْ من ثدييك لم أعد مسؤولاً عنها

وحدها

كانت كل الإنسانية مسؤوليتي

أنا الجذع الخشن المبقع بلون القمع

والمناقير الصفراء

لما تفرض عليّ أن أكون لونها

قبل أن تتركني فريسةً للقلق

عليها

قلقٌ شديدٌ إلى حدٍ يقرأُ البدويُّ حروفه

على صفحات الرمال

قلقٌ لا يَرى ما وراء الأفق

إلا الأفق

وكآبةٌ أعمقُ من بئر

جَعَلَتْ منها سارة ابنةً وأحجية

يجب عليّ حلُّها

فهل تكونين سارة؟

وهل يكون إبراهيمُ أبي

وأنا البئرُ في ثوبِ إسحق؟

أم أني كسلُ المراهقِ في الصباح

وخوفُهُ من عناقِ الصورِ في اللوحات؟

هل تكونين أختَ أبي

وأنا حرامُكِ منه؟

أم أنني ابنُ فِرعون

عربيُّكِ الذي قتلتُهُ قبل أن آخذ الطريق إلى النقب

قبل أن أدفع جنودي إلى الموت؟

هل تكونين بقعَ حيضِ راقصةِ الباليه

التي ترشق العالم على أنغام موسيقى فاغنر؟

***

كان عليّ أن أتركك لحزنك

لا لأزيد من ألمك

وإنما لأكوّنني

للتفل طعمٌ غير طعم ثديك

وأنا لهذا أريدني

للتفل طعما

للملح طعمٌ غير طعم دمعك

وأنا لهذا أريدني

للملح طعما

للدم طعمٌ غير طعم جرحك

وأنا لهذا أريدني

للدم طعما

آه! يا أمي

دعيني أقطع الثدي وأحرق الدمع وأبحر في غائطٍ كان لآدمَ متعةَ خروجِهِ من الجنة

وأجعلني إرادةً سابقةً للفعل

دون أن أرتدي ثوب البوم

فلا أكون للعالم شؤما

آه! يا أملي

الضائع

أُسدلت الستارة على راقصة الباليه

فغرق العالم في بولٍ أبيض

وامتلأت القلوب يأسا

لم أتصور وجودي

بعد انتهاء اللحن

غير ما يريد فاغنر

فهل يكون فاغنر خالقي؟

هل أكون للعاهرة

في الليالي الباردةِ

لحافا؟

هل أكون كرامة الرمال

التي آثارُ قدميّ عليها؟

آثارُ عابرٍ لا يقبلُ بالاستقرار

ويقبلُ بقبلة؟

***

لم أحقق ما تريد الضواري

فأين جوهري؟

لم أجعل مني مشروعي

فأين مني مشروع غيري؟

لم أسرق بنكًا لأبي

لكني قتلت كأبي

فهل أنا مسؤولٌ عني؟

حقيقتي هي هذه الشجرة الميتافيزيقية التي في الصحراء

ليست حقيقة

وهي في الوقت نفسه ليست وهما

حقيقتي

وعيي

بدايتي

وأبدًا نهايتي

ككل لص لم يسرق بنكا

وسرق من الصحراء القلادة

دون أن يعاقبه أحد

لأنه الجريمة وحكم الحلمة

ولأنه الدم بين فخذين بائستين

تجوعان إلى ساندويتش شاورما

أو صحن سلطة مع حبتي زيتون

من بساتين المجدل

لأنه المني الممسوح بورقة

المتروك على مقعد في حديقة

يلعقه كلب

لأنه القيء

بعد حَرَدِ الحلقِ عن ابتلاعِ الذات

الأخرى

الذات الحمقاء

ولأنه عندما يأخذه التفكير يجد نفسه قذرا

ليس بقدر قذارة الحمام في ساحات لندن

لكنه يجد نفسه قذرا

وسافلا

ليس لأنه ترك أمه تموت من الشجن عليه

لكنه يجد نفسه قذرا

وسافلا

ليس لأنه كلما عاودته ألحان فاغنر عاودته صورة راقصة الباليه الملوثة بحيضها

لكنه يجد نفسه قذرا

وسافلا

ليس لأنه أراد أن يكون حرًا كالجوارح من الطير

لكنه يجد نفسه قذرا

وسافلا

ليس لأنه في جوهره قذرا

لكنه يجد نفسه قذرا

وسافلا

قذرًا وسافلا

قذرًا وسافلا

قذرًا وسافلا

***

باسمك ذهبت إلى القتال

وليس باسم غيرك

لكني دافعت عن غيرك في أرض لا تعرف الغير

والطير فيها لا يعرف الطير

جاء المجانين على شكل أباريق من نحاس

فظننتهم حواة الوقت

كانوا كلهم يلمعون في الشمس

ويتركون ألسنتهم تحيط بالورد

كي تحمي ألسنتهم الورد من قرصات نحل ما بعد الظهيرة

وكانوا لا يبدون مجانين إلا في عينيّ

كيلا أقتل من أجلهم

وأقتل من أجل قرطك

كانت طريقتي التي أحمل فيها إليك عطف الأميرة

وحنان الحذاء

وحرارة قبلات صديقي الذي أحبه دون أن أعلمك

بحبي له

فلا أكون حبك

ووعود ضباط

السجون

وهمسات زوجات سليمان على بابك

المصفح

وأحلام أجراس الكنائس بالقرع في الكنيس

هناك حيث تقومين بصلاتك

يوم تشعرين أنك بحاجة إلى عون الله

كبرتقال يافا المؤمن

بعد أن ذهبتُ بعوني إلى الغرباء

فكل غريب هو غايتي

كأحياء يافا الفاسقة

حيث تُباع اللَّذةُ كما تباع الأسماك

كأموات يافا الطيبين

الذين جعلوا من الموت وسيلتهم إلى أنفسهم

عندما سلبهم البحر رمال الشواطئ

كلصوص يافا القذرين

مثلي

أنا الذي لم أكن مثلَ أحد

كمواخير يافا المليئة بالحوافر

فالناسُ ناسٌ عند الدخول وظباءٌ عند الخروج

قدرةُ سعيرِ الاشتهاء

كمدارس يافا القديمة

منذ عهد الفاتحين الأوائل

إلى عهد فاتحي اليوم

دون أن يكون الأمر واضحا

بين الغاية والوسيلة

القَدْر والقدرة

القَدَر والقيمة

فلم أترك نفسي نهبًا للغريزة

في حالتك

وإلا ما قاتلتُ الوحوش

وما قاومتُ الشراسة

وما حفظتُ للورود

العطر

وإلا ما كنت عديم الأخلاق

وما نحرت على البطون مزاميرنا

وما تركت للحلمات قبلاتي

وإلا ما عبدت الظلال

ككل ملحد

يحب أمه أكثر من الله

لأنها أمه

وما استسلمت لأصابع الشمع

المذاب

وما انهرت كما تنهار أعمدة المعابد

على رؤوس الأبطال

في القصص

كان بإمكاني أن أكون شيئًا آخر

شيئًا أقرب إلى صورتي

الأخرى

تلك التي كانت لتمثال

أبوللو

فأقرض الشعر

وأبارك الجمال

كان بإمكاني أن أكون شيئًا مثلَ شي غيفارا

دون إشاراتٍ تعينني

وتقودني على الطرق الوعرة للجبال

في الأوديسة

كان بإمكاني أن أكون في الطرف الآخر

ثائرًا من الثوار

فأغدو مجرما

لكن الفشل اجتاحني

تلك الليلة التي قررت فيها ألا أنام

إلا بين فخذين منحوتتين عليهما بقعٌ من دمِ حيضٍ هما كل الوجود

يأسي لم يعد يأسًا وأنا من أمامي الرمال

كان يأس الأرامل

ويأس الرياح

من محو الكحل عن أعينهن

كان يأس الأساور

ويأس الأزاميل

من حفر أهواء النساء على أرسغهن

كان يأس الحوامل

ويأس الأجنة

من الفتك بحرية أمهاتهن

قبل الولادة

لهذا كان اختياري يا أمي

تركك ليأسك

فلا يتعدد يأسي

لهذا لم أوكل إلا لنفسي

مهمة يأسي

إلى أن يَئِسَتْ مني عينا يعقوب

وفساتين الراقصات في مصر

القديمة

لهذا أردت أن أكون أعصى من حذاءٍ بين أصابعِ ماسحِ أحذيةٍ مُصِرّ

رٍ

على أن يكون ألمعَ ما في نيويورك من أحذية

وتكون لي قيمة

العصيانُ كلُّ ما يكونُ وراءَ استثناء الفعل

فعل المتسكع كفعل جورج واشنطن

فالعصيانُ قيمة

الأَبَقُ كلُّ ما يحققُ إلحادَ الورد

كلُّ ما يحققُ نبوةَ النهد

فالأَبَقُ قيمة

التمردُ كلُّ ما ألهمَ رامبو

في الشعر

كلُّ ما ألهمَ بيكاسو

فالتمردُ قيمة

لهذا كان فعليَ فعلُ القتلْ

لِ

الأروعَ

ووردُ الجحيمْ

مِ

الأبدعَ

من كل ورود دانت

وقصائدُ رامبو

الدمَ المُضَوَّع

يكون التمردُ والأَبَقُ والعصيان

لئلا يكونَ اليأس

أكثرَ من يأس

ليكونَ اليأسُ أهوَنْ

نَ

من يأسِ مزهريةٍ دون وردْ

دٍ

أحمر

***

حياة القاتل هي القتل

وليس القتل إلا حياتي

المناديل الممزقة

الأكعاب المهشمة

أقلام الحمرة المكسرة

الكؤوس المحطمة

المرايا المصدعة

علب الشوكولاطة الفارغة

قناني العطور المسكوبة في المراحيض العطور الغالية

دبابيس الصدور المثلَّمة

أقراط البنات المكمَّمة

جِرار الصفديات المشققة

قناديل الأحلام المضببة

الأرحام الرحمان الغِلمان الشياطين

أعقاب البنادق المرصعة

بعبقريةِ صاغةِ الجحيم

سنجاتها الماورائية

والسكاكين

السكاكين

كل السكاكين

ما ينضاف إلى قيمتي

لهذا أقوم وأقعد مع السكاكين

بين السكاكين

فوق السكاكين

تحت السكاكين

سكاكينُ الفضة والبرنز

سكاكينُ الذهب

والحديد

سكاكينُ نحاسٍ لا يصدأ

لقطع التفاح والخشب

للحدب على أوردتي

ونحت الظلال

وحفر اللهب

وَجَبْلِ الأجسادِ في محترفي

سكاكينُ من أجل القبل

وإلهامِ ساقٍ بيضاء

تكتب القصص

والنفاقَ بلغتي

سكاكينُ تلمع في الظلام

كعيون ملائكة الرحمة

وشياطين الهلاك على حد سواء

شخوص ملحمتي

سكاكينُ أحن من قلبي عليك

وأرق من قلبك عليّ

أوسع من خاتمك

وأضيق من قبعتي

سكاكين تتحول إلى نساء

لهذا النساء هن غادرات

سكاكينُ تتحول إلى أشجار

لهذا الرمال تحب شرب الدماء

سكاكينُ تقفز كالعقارب

لهذا يتوقف الوقت عند منتصف الليل

سكاكينُ أمضى من القدر

وأحلى مما في الثمر

من بكاء

لهذا فتيات الملذات في القدس تطير فرحا

سكاكينُ تقتلني في المساء

بعد أن أُنهي تقبيل غيري عند منتصف النهار

كل ما أنا إليه أسعى

***

أخاف وأرجو وآسف وأندم

هذا أنا لما أفكر

ولما أنفي عني العدم

هذا أنا لما أكون عنك بعيدا

وأكون للرمال الأمل

ولا أحدٌ بيني وبين الرمال

وسيطا

غيرُ الرمال

وامرأةٌ ماتت من الأرق

امرأةٌ كانت شرط وجودي

وغدت عالمي الذي انوجد

في لهب...

ما وراء الأفكار

ما وراء الكمال

ما وراء الأنا

الخوف ما أروعه

والرجاء والأسف والندم

لما كان

لما تنفجر الفكرة

فإذا بالفكرة حماقة الوعد

وقوة جمال نهدْ

دٍ

روسيّ

أضاع الطريق إلى جسد أقل حماقة

فلم يأخذ الثلج معه إلى حيفا

لما يتكون الوجود من لا وجود

فإذا بالوجود جريمة الأنا

والمعرفة

ومهارة نذل يتقن كلَّ فنونِ الكيمياء

من أجل جائزة نوبل

لأجمل قُطْفِ عنبٍ من البلاستيك

تقضمه فلسطينيتان

لما يسطع الموقف

فإذا بالموقف موقف الخسيس الحاد الذهن

من فَراشٍ لا يتوقف عن التحليق في القدس القديمة

بعد المغرب

آه! يا أمي

أنا الندم والأسف والرجاء

وأنا الخوف

مما تخبئه الصحراء

لي

أنا الصراخ المختنق في حلق طفل رأى ظلي

ولم يرني

لأني كنت أخبئ نفسي في ظلي

وأمضي

أنا الهدير دون صدى لامرأة اغتصبها واحد منا مر من هنا

وأبى ألا يترك من ورائه غير ذكرى

واحدة

تنضاف إلى ذكرياتي

أنا قهقهة الوغد المتصادية في الآفاق

والمدى الحيويّ

على تَنْك أحلامي 

ما كل هذه الفوضى في انتظام الرمل؟

ما كل هذا الانتظام في النزوات؟

كل النساء زوجاتٌ لغيري

وأنا زوجٌ لرجل يتحول إلى امرأة تارة

وتارة إلى تمساح

أنا الغريب

الغريب في أرض الغير

الغريب في أرضي

الغريب على الأرض

زوجٌ لرجل يتحول إلى امرأة تارة

وتارة إلى تمثال

لا أطفال لي

فالتمثال لا يلد

والأطفال لا يأتون من فراغْ

غِ

بطنٍ كبطني

لكني مسؤول عن أطفالٍ أبوهم الإعصار وأمهم العاصفة

من بطون الرمال الهائجة سيكون مولدهم

كي أكون مسؤولا

أنا والد السراب

والإنسانية

فالإنسانيةُ خِداعٌ للحواس

وهذه هي أخلاقي

أخلاقٌ ارتبطت بساقين منحوتتين ملوثتين على مسرح الحياة

ثم أعطت نفسها لعقارب الوقت كي تعضَّها

وتجعلَ من سُمِّها جرعةَ شِفاءٍ للمخدرين

بالجَمالِ الدعيّ

جَمالي

لا قَدَرٌ هناكَ غيرُ قدري

ولا حتميةٌ هناكَ غيرُ حتميتي

الخطأُ مهنتي

والحبقُ مهنتي

***

سأختار الحرية لأني حرٌ في اختياري

النقب حرية

وما وراء النقب

حرية غيري

التي أختارها لغيري

سأهدم المعابد والمواخير

وأبني بدلاً منها المراقصَ والجامعات

وسلالمَ الشرقِ

هذه هي حريتي

وهذه هي أخلاقي

العابدون لصورهم في التوراة أنا من يختار لهم حريتهم

التي يرفضونها

قائلين ليست هذه أخلاقهم

ويلعنون أخلاقي

عاهرات القدس لهن ما لي من أخلاق

والعابدون لصورهم في التوراة ينكرون عليهن هذا الحق

الوجودي

أبوهن أنا الإنسان

القاتل

لا يَهُمُّ أن أكون القاتل

والكل عاشق؟

أنا الخالق

لقيمي

وقيم الورد الأحمق

أحمقٌ الوردُ الذي يقبل العيش ما بين الرمال

مثلي

لا معنى للحياة هنا

ولا طعم إلا على حواف المناقير الصفراء

لهذا سأكون منقارًا أصفر

وسأتركني في حضن ثعبان أنام

وتحت خف بعير أبني بيتا

أصادق جرذًا ضائعًا يبحث عن رجل يكون له أسرة

فأكون الأسرة

وأحتضن شجيرة صبار تريد أن تشعر بين ذراعيّ بكونها امرأة

فأكون الشعور

وأجعل من الملح رسالة للأنبياء لما يندر الملح في المدن التائهة

فأكون الرسالة

هل هناك إنسان أروع مني

بين أشياء الصحراء؟

أنظرُ من خارجي

فأراني كما يرى القمرُ الأرض

والشمسُ الأكوان

أتجاوزُ نفسي بالتفوق على نفسي

وبالتنافس بيني وبين الظلال

يوم تنعدم الظلال

لا فوق غيري

ولا تحت غيري

أنا مشروع نفسي

وبنفسي أخلق ما أشاء

الوجود يبقى الوجود

بي أو بغيري

الوجود وجود نفسي

تضيع فأجدها

ولا يجدها لي غيري

أحررها أنا

بقوتي أحررها

بفعلي وتفاؤلي

بيأسي

ويأس الرمال

***

ولما كانت سارة أخت إبراهيم

لم أكن أعرف إذا ما كنت ابنهما

الحرام

أم ابن سارة من فِرعون

عربيّها

كانت معضلتي معضلةً للهوية

لا للشرف

فليس للشرف حساب

بين نسل الطير

وأنا من نسل الطير غاق

لم تقل لي سارة شيئًا من حقيقتي

وتركتني نهبًا للصراع

كان عليّ أن أتخلص من عربيّ أمي

حتى ولو كان أبي

وأن أُخلص لمانهاتن

فحرامي لم يكن حراما

في عرفنا

لكني في أحد الأيام

وأنا أمضي من أمام كنيسة

في القدس القديمة

سمعت قصة أخرى عني

تقول إني ابن عيسى ومريم

لم يكن عيسى ابن مريم

كان عيسى زوجها دون شرعٍ يعطيه الحق

في أن يكون زوجها

فاختبأ الكل في ثوب العذراء

التي نفخ الرب فيها

كما كان ينفخ في بطون زوجات الملوك

من بُناةِ الأهرامات

ويقال

عنهن

ما قيل عن مريم

أمي

لكن معضلتي ظلت معضلتي

لا الشرف ولا العلياء

وإنما الهوية

فمن أنا؟

ومن هو أبي؟

يمكن أن يكون هناك ألفُ عيسى

ومريمُ واحدة

وبينما كنت أمضي

من أمام مسجد

في القدس القديمة

بحثًا عني

في يوم آخر من أيامي الضائعة

كان هناك

من يقول إني ابن خديجة من عبد المطلب

ابن الشمس الخضراء

والذهب

وإن أخي عَلِيّ

عليٌّ القمرُ كان

أخي

ولم يكن ابنَ عمِّ الظباء

حيرني القول حيرة القولين الأولين

وظل الأمر عليّ مبهما

كنت ابنًا للإبهام

وغدت حياتي أكثر تعقيدا

مما كان

هل أنا هوية كل الآخرين قبل أن أكون هويتي

أم بعدها؟

ولأَفْصِلَ في الأمر ذهبت إلى امتحان

الغريزة

في ميدان القتال

فلو قتلت من العرب أكثر

كنت يهوديًا

فقتلت من العرب الكثير

ومن اليهود بذات القدْر

بعد أن مات معظم جنودي

***

لكني عرفت هويتي

لما انتحرت راشيل التي كنت

حبيبها

ولم أكن حبيبها

عرفت أني امرؤٌ خاص

شأن كل امرئ غريب

يعيش بين غرباء لا يعرفون أنهم غرباء

ولا يعرفون قَدَرَ الغريب

الذي لي

قَدَرَ اللوطيّ

الحبل الذي قصم عنق راشيل هو قدري

رأسها المنكسر

ولسانها الزهريّ

المتدلي

لماذا يحب المرء يا أمي

حتى الموت؟

أنتِ كان موتُكِ من الشجن عليّ

وراشيل من الحب الذي أعطيتُهُ لشخصٍ

كان غيري ومثلي

ثم عَتَمَ الليلُ في شفا عمرو

يوم تركني من كان غيري ومثلي

كلسان راشيل الزهريّ

المتدلي

وغادر إلى "فينا"

كان يحب فاغنر أكثر مني

كان يريد أن يسمع الموسيقى في مدينة الألحان

وأن يشاهد راقصات الباليه

في كل زقاق

ملهم

كان يريد أن يبتعد عن الهوية

أكثر ما يكون الابتعاد

لأن الهويةَ كانت تسبب الخوف له من أناه

ووجع الرأس

ورعب المفصوم المحتار بين قضيب الله

وشرخ وردة

كان يريد أن يأكل هلال الإسلام في مدينة الحلوى

المصنوع بالزُّبدة

وصليب المسيحية المصنوع بالروم

واللوز

والعسل

والقِشدة

***

لم تكن لي بطولة أبي

لم أجرؤ على امتشاق

النجمة في علمنا

كي أغدو نجما

لم تكن لي تفاهة أبي

فالتفاهة والبطولة شيئان مترادفان

عند عبث الأشياء

وعدم الفهم

لم تكن لي إرادة أبي

المدمرة للذات

والذات هنا ذاتك أنت يا أمي

كان يسعى إلى تدمير ذاتك

لما تزول المدن

ويمّحي المقطع الثالث قبل الأخير من الكلمات

بإرادته

ولا بأس أن يدفع الثمن غاليا

كان يريد من العرب أن يقتلوه

فذهب بسلاحه إليهم وحيدا

لكنهم لم يتمكنوا

من قتله

ليس هذا لأنه أبلى بلاء حسنا

وإنما

لأن الأعشاب حنّت عليه

كان مريضًا بالأعشاب

يشربها عند كل وجبة

ةِ

طعام

يشمها

يترك لها كيانه نهبا

يضمها

يهيم بها

وأكثر ما كان عاشقًا لأعشاب كفر قاسم

حمته الأعشاب من الموت

وهو لهذا قتلهم كلهم

ناداه الموت عند ذلك

بثغرِ طائرٍ كان يكره الأعشاب

ويفضل التوت عليها

***

حزنتِ عليه يا أمي

قبل حزنِكِ عليّ

حزنتِ عليه لأنه مات خديعة طائر

وعليّ لأني سأموت

خديعة الرمل

في صحراء النقب

يظل الرمل رمل العرب

والرملُ في الصحراء ذهبٌ لا قيمة له

ككل شيء

كلسان راشيل الزهريّ المتدلي

لسان أشبه بلسان كلب

نفق على حين غرة

بسبب كثرة الوفاء

لصاحبه

كهلاليات فينا

كقبلات فاغنر

كأفكار ابن سينا

الصغرى

الأفكار الجامدة

الأفكار الخامدة

الأفكار الباردة

الأفكار الحاقدة

الأفكار البائدة

الأفكار الساذجة

الأفكار الزائفة

الأفكار

الأفكار

الأفكار

كالدقائق الضائعة على سرير أبيض في شفا عمرو

طال حزنك يا أمي قبل أن تستبدليه بالخوف عليّ

مما لا يُدْرَك

نعم اللامُدْرَك المتوقع

وطال انتظارك

لأني لم أتحقق بالموت

بالعدم

بالفناء

بخنق الوقت بكفي

فجاءك ذلك الطائر المحب للتوت

***

كنتِ تخافين من نار الجحيم

لكنكِ كنتِ واثقةً من دخول الجنة

لهذا ذهبتِ إلى الموت بدلاً من أن يجيء إليك

وأضاء الله للكلاب ولك الطريق المعتمة

كانت الكلاب كثيرة في تل أبيب

كانت تنبح على أبواب اللعنة

كانت الكلاب كثيرة

وكنت واحدًا منها

بلسان يتدلى

زهريّ اللون كلسان راشيل

ولم أكن ككل الكلاب

كل الكلاب وُلدت خاطئة

إلاي

ابن الخطأ أنا

لكني نبحتُ مع الكلاب إلى أن بُح صوتي

لم يسمعنا البحر في يافا

كانت النار تحرق القمر النائم بين أجنحة النوارس

وكان القمر عدو الكلاب

والسمكَ الفضيّ

وباسكال

وكيركجارد

وفتى شفا عمرو الأهيف

لهذا لم أمنع نفسي عن عض حلمته

معهم

فذقت طعم الرماد

لكني لم أبالِ

كان علينا أن نطفئ حريق القمر بشفاهنا

إذا أردنا الصعود إلى النجوم

وألا نهوي في وادي النسناس

***

ويوم كشفتِ لي عن حلمتِكِ يا أمي

وجئتني في الليل

لم أكن أجرؤ على ارتكاب المعاصي

لم أكن بعدُ قد صُنِعْتُ وغدا

لم أكن أقطع البراعم بسكيني

لم أكن أعلم عن المجرم شيئا

قضمت براءتي بأسناني

وغدوت قاتلا

داومت على الغوص في مستنقع بطنك

كي أظفر بأول ميدالية لي

من أظافر ورد لا ينبت في أريحا

كي تقول فخذك عني

ابن الحيرة أنا

كي تكتمل سيمفونية الشجن

التي لن يكتبها فاغنر

كي أصبح في قدمك

نعل السنين

فأركض فيك كغزال فقد الرؤيا

فيك يا أمي

أركض فيك وقد غدوتِ الصحراء

أركض فيك باحثًا عن صَدَفَةٍ ضاعت في البحر

كانت روحي

أركض فيك وأنا أئن من التعب

لكني أداوم على الركض

فيكِ

فيكِ

فيكِ

أداوم على الركض فيكِ

فأفهم أن صفاء الرؤية توجد في عتمة فخذين محرمين

لكنهما أروع من جنون الرمل في ليالي النقب

أركض فيك لأسبق أبي

ويصبح جبل جرزيم أبي

المستبد

أركض فيك ركضَ الأسْوَدِ الآبقِ في ملاعب الحكمة والفضيلة

ثم أبدأ في الصراخ كزمج الماء

لما أرى سفينة غرقى

وأنا في وسط البحر

***

راشيل أختي

أم لسانها الزهريّ المتدلي؟

في داخل الكوخ راشيل

أسمع نشيجها

وهي تبكي

يغدو النشيج قانونًا للوقت

كل هذا البكاء عليّ

أنا حبيب الرمال

والعقارب

الطيبة

طيبةِ صنادل البدو الذين يسكنون في السراب

هل حقًا أنت حبيبة هذا الوغد العاشق للغروب في صحراء النقب؟

نشيجك سيمفونية الموت

موت العالم

يبكي فاغنر عليّ

كما يبكي الذهب على الرمال

في صحراء النقب

كما يبكي الأطفال وفي أفواههم حلمات أمهاتهم

كما تبكي الآمال

أممَ النمل

لماذا نهدُكِ أبيض

ولسانُكِ زهريٌّ دون لون؟

لم أكن أعرف أن العنادل لا تشدو

نشيجُكِ لها غناء

ولي ندمٌ لم أعرفه إلا اليوم

على النساء اللواتي لم أحببهن

وأحببت دمعهن

وعلى القبلات التي لم أخشاها

وخشيت أقلام الحمرة

نشيجك إلى متى؟

للكون نهاية أما نشيجك...

سيارتي المحطمة تركتها في الكراج

لئلا يسافر نشيجك

ولا يخترق صدري

كنصل الأضاليا

الصفراء

نشيجك أصفر دون لون

لهذا تحب الرمال النشيج

لهذا الطيور الجارحة تبكي في آفاق

الكتب

لهذا كنت ضابطًا ولم أكن شاعرا

***

أيها الحقير يا أبي!

لم أرك تبكي يوما

أيها الحقير يا أبي!

تحبك أمي دوما

وأحذيتي

شوقُ المراكبِ إليك يصير شوقا

ما بعده شوق

لكنكَ يئست من الإبحار الدائم

في مكان ضيق بضيق الأرض

أيها العظيم يا أبي!

هكذا تقول المومسات في الليل

وهن يقفن في حارات يافا

بانتظارك

لأنك لهن عصا سليمان

نعم عصا سليمان يا أبي

والشرطة القادمة من المفوضية العليا للتوراة

وقِطَعُ السجقِ المبهر

لأنك لهن العبور السريع في كهوف الاختناق

ولأنني أكره أحزان أمي

أكرهني ابنًا للفكرة

فكرتك عني

أوروبا فكرة

مثلي

أنا الوغد

والقدس فكرة

مثلي

أنا الوعد

ومخيم قلنديا فكرة

مثلك

أنت الوجد

أيها الحقير يا أبي!

لم تعد شيئًا آخر غيرك

لم أعد شيئًا آخر غيري

كهذه الشجرة الوحيدة في صحراء النقب

المنتظرة لغيري

لم نعد نعرف الانتظار أنا وأنت

بعد أن خرجنا من الوقت

وارتقينا حافة عقرب الساعة

ننظر منها إلى المدن الغارقة في الضباب

إلى نيويورك منها ننظر

وإلى لندن

وإلى باريس وفرانكفورت

وإلى أمستردام

ولا أحد ينظر إلينا

نحن الانتهاء

المتجدد

في ذاكرة النسيان

أيها العظيم يا أبي!

***

(يأخذ بشرب النبيذ حتى... يثمل)

هذه الكأس أشربها نخب الرمال

لأذكر ما في العنب من تواريخ أضاعها القاطفون

وربما لأعرف ما لم أعرفه وأنا مركب يترنح بين مخالب كريستوفر كولومبس

النوارس بصاق السماء الأبيض

على وجهي

والصياح في الميثات

لما يضيع الأفق بين ثديي بينيلوبا

كيلا أجد طريقي في الزمان

لأدخل الزمان من عقربه المعطل

فأكتشف الصمت

وأقف على أسرارِ وقتٍ لم يبدأ

يموج كالأمواج

الساكنة

فما وراءها رمل يعبث برمل

كي تكون المعارك

والانتصارات

في الحروب

وكي تكون الملاحم

التي كُتب التاريخ بها

على جسد شهرزاد وعمرو بن العاص

كي أرى تاريخي الكبير بقَدْرِ منقار زمج الماء

في الخابية خمر كثير

ولا زائر غيري

وفي السراب بنات الهوى

أخواتي

هن كل من أذكر من برلين

قبل أن أغدو وغدا

أنا والممسوسون

وعشاقُ الجعة

ولحمِ الخنزير

ونعلٍ كانتْها أمتي

هن كل من أذكر من باريس

يوم تعلمت كيف أغدو وغدا

على يد عانس لا تحب الرجال

وتحب قضيب المرأة

هن كل من أذكر من مدريد

على صليب عيسى أبي

ومريم أمي

قبل أن يدخل على مريم البابا وأنا أقوم بالحراسة

على الباب

تعالي إليّ يا بنات الهوى

وكل منكن تحمل قضيبها بيدها

كي نحفر في الرملِ إسرائيلَ مِنَ النيلِ إلى الفرات

ولا تنسي أن تحضرن معكن كل قضبان العرب

من نساء ورؤساء

فانا أريد أن أبني جحيمي منها

وجنة هرتزل

تعالي إليّ يا بنات الهوى

فنركب الخيول

ونذهب للبحث عن كل ما تركه العرب

لفخرِ الذئاب

وذلِّ تدمر

هذه كأسي أقرعها بكأس صلاح الدين

القدس سقطت!

وقبل القدس عكا

وقبل عكا كل المواخير

هذه خمري أصبها على فخذين

بُنِّيين من المريخ

القدس انتصرت!

وقبل القدس حيفا

وقبل حيفا كل أرداف الملعونات والملعونين

الطرية

هذه حياتي أتركها لدين

يهوه

آخرَ من بروكلين

القدس انتحرت!

في برودوي مسرح من الرمل والدم والبنفسج

في برودوي يشرب الله النبيذ مع متسكع

في برودوي يمسك المرء بالعبث كما لو كان يمسك بضفيرتين

ويغدو إلهًا على باب فَرْج

يمارس السياسة والفلسفة

ويقطف زهور الأنين الفلسطينيّ

***

توقفي عن النشيج يا راشيل

توقفي

لم أقتل بعد كل الحمام

توقفي

لم أرمل بعد كل النساء

توقفي

لم أحبب بعد كل أحزمة الرجال

توقفي

لم أُكْرِهْ بعد كلَّ أمواج

البحر

ولا كلَّ أمواج الرمل

على كرهي

توقفي

لم أنادِ بعد على كل ربطات

العنق

من أجل الاحتفال

بنشيجك

توقفي

لم أدفن بعد كل الجياد

الميتة

توقفي

لم أكمل بعد نحت كل الوقت في عيبال

لأجعل منه تمثالك

توقفي

انتظري مرور الريح على أطياف الأبناء في قرى السراب

ثم عودي إلى النشيج

فالريح امرأة ثكلى

توقفي

اتركي الماء

يسيل

ثم عودي إلى النشيج

فالماء ملحه أحلى

توقفي

اجمعي المطر في الأباريق

ثم عودي إلى النشيج

فالمطر ثمنه أغلى

من أقراط

الخرز والفوضى

توقفي

هل أدخل إليك فأغتصب القاهرة والظهران

كي تتوقفي عن النشيج يا راشيل

يا حداد درعا؟

توقفي

هل أجعلك ترتدين ثوب راقصة الباليه الملوث بمداد

الأوردة

ولعنة تنانير التُّل

ثم أبعث بك إلى فينا؟

توقفي

هل أقص لك اللسان

لسانك الزهريّ المدلّى؟

توقفي

أوراق

الشجرة الوحيدة في النقب

تتساقط منك حزنا!

(تتساقط أوراق الشجرة)

توقفي

شهرزاد تغتصب داوود تمامًا كالسامرّاء

لَمَّا يؤثّرُ فيها النشيج

وتذرف الدم دمعا

توقفي

عائشة

صفوريا

أخت شهرزاد

كلٌ منهن قصة وأنت القصصُ كلها

توقفي

***

(يضرب الشجرة بالفأس دون أن يتمكن من قطعها، فينكسر الفأس، ثم يحاول اقتلاعها بذراعيه)

لم يبق لي شيء أفعله

سوى اجتثاثِ كلِّ هذا العبثِ من جذوره

وليس هذا لأني

في عالم كله رمل لا يعرف إلا التشابه

شكلاً وجوهرا

في برلين فعلوا ما فعلوا

لأنهم

لم يبق لهم ما يفعلون

فاجتثونا ككلِّ عبثٍ من جذورنا

وألقوا بنا في عبثِ العبث

هنا

غدونا عالمًا كله رمل

عدا

هذه الشجرة الوحيدة

كي نتذكر الموت

فنبتسم

ونتذكر قبلاتنا الفائتة

فنتبسم

ونتذكر

كؤوس الجعة التي كان يشربها الألمان نخب أراوحنا الضالة

فنبتسم

ذكرى كُلِّ ما هو لا معقولٌ نحن

لهذا كنا كافكا

والنجمة الحمقاء ولسان راشيل الزهريّ بلون الليل

في حيفا

ولهذا لم نفهم

الحلمات الفلسطينية لِمَ هي يابسة

لم نفهم

لم نفهم لِمَ في عبث العبث علينا

أن نحب عنب الخليل

لم نفهم

لم نفهم لِمَ قصص الحب لدى شكسبير

تنتهي دومًا بكارثة

لم نفهم

لم نفهم لِمَ البحر أزرق

والبرتقال أزرق

والليل أزرق

في حلم أبيض

من ثدي راشيل وثوب راقصة الباليه قبل أن يلوّث

لم نفهم

لم نفهم لِمَ الطائر أخرق

والعاقل أخرق

والمهرج أخرق

في سيرك أحمق

من ساق راشيل وثلج جبال الألب قبل أن يذوّب

لم نفهم

لم نفهم لِمَ الزيتون أسود

والنهار أسود

والقمر أسود

والأسود أبيض

أبيضٌ هو الأسود كالأحمر في نابلس قبل أن يلوّن

ويغدو أصفر

لم نفهم

وإلى الآن لم نفهم

***

(يصرخ)

أخرجي راشيل إلى استقبال موتانا

من الخيل

وحدي لا يمكنني امتطاء الرمال

تحت سمانا

تصهل الأرامل

وحدي لا يمكنني وضع اللجام

على أفواه الزنابق

أخشى عليها من الاختناق

وأنا أظن حمايتي لحدائق

الموت

من الحياةْ

هذه هي حريتنا

يا حبيبتي

ممارسة البغاء مع ما نعتنق

البغاء هو الاعتناق

هذا هو ديننا

يا حبيبتي

صنع الإذلال لمن يريد أن يحتمي

الإذلال هو الاحتماء

هذا هو جوهرنا

يا حبيبتي

ترصيع الأقاقيا بالماء لسمك الوقت

الأقاقيا هي الأزمان

هذا هو اينشتاين

يا حبيبتي

هلمي راشيل

أريدك

أشتهيك

لأول مرة في حياتي أشتهي فتاة

أسرعي

أريدك أن تغتصبيني

لتسعد امرأةٌ اغتصبَهَا

جنودي

أريدك أن تدخلي فيّ

أن تخترقيني

كرصاصة من رصاصاتي

أن تفعلي فيّ ما لم أفعل

وقد انتهت كل الأفعال

وأن تأتي بخيل الرمل

كي تبدأ الأفعال

على قبري

هلمي راشيل

تناديك الأفاعي

التي فيّ

لتحرريها مني

حرية الأفاعي بداية كل حرية

مختنقة

حرية الوديان والجبال

المغيبة ما وراء أنا

الأكوان

هلمي راشيل

عجلي

أنا موتك الذي لم تكوني تنتظرينه

وجاء

من تحت لسانك الزهريّ

ليلعق العالم من سرته

ويهبط

يهبط

يهبط

يهبط

في هاوية البركان

ثم يصعد

يصعد

يصعد

يصعد

على قمم المكان

سنخوض معًا تجربة الصعود الفذ

على أشلاء

جسدٍ مدمى

لم يفقد ثغره الابتسام

علينا

ثغرٌ فستقيٌّ دون لون

***

(يدخل الكوخ ولا يلبث أن يخرج في فستان راشيل)

من الجحيم نأتي

وإلى الجحيم نذهب

لم أكن أعلم هذا قبل موتي

وما هو أغرب

لم أكن أعلم أن سببَ موتي

الألمُ دونَ الحسد

وها أنا أحسدُ نفسي

وورودَ دمشق

والعصافيرَ الدورية

الميتةَ على كفي

الموتُ شيءٌ آخرُ غيرُ الموت

الموتُ قصيدةٌ للمتنبي

يجب ألا يكون التردد عندما تسمعُ صوتًا آتيًا من الجحيم

يقول لك تعال إلى حِضني

فأنت تجهل

أنك هناك ستكون مليكًا دون أن تعلم

دون أن تدخن مع الأفاعي

الزهور لا تعلمُ أنها ستكون مليكةً للحساسين

وللروابي

والطيور لا تعلمُ أن أعشاشها ستكون عروشًا للملوك

ولأكف السواقي

والقبور لا تعلمُ أنها ستكون فضاءاتٍ للقلوب

الغيورة

لما تنبض القبور...

هنا كل شيء رمل

الأرض رمل

والسماء رمل

والقرنفل رمل

ونحن نعيش عبثًا ما بينها

فالحياةُ هنا عبثٌ للرمل

الحاضر رمل

والماضي رمل

والمجون رمل

الرملُ قصصٌ للشمس

في الليل

لما تغرب الشمس

وفي النهار

لما يشرق الجنرال

فليل الرمل في الليل نهار

ونهار الرمل في النهار كمثرى

اليوم أعلمُ لماذا أحببتكَ

ليكون حبي لكَ دافعي

إلى الانتحار

وأفهمُ معنى الرمل

اليوم أعلمُ

كيف لا أنتظر لحظتي الفاجعة

طويلا

وهل الخلاص فاجعة؟

يغيب القمر في السماء الغائمة

وأتمنى لو يدوم الغيم

ففي الغياب خلاص

لا حزن للعشاق بعد اليوم

لما يكون المحاق وجهًا من أوجه الماس

ولا أسى

والأتراح للذئاب تستحيل إلى أفراح

لهذا تجدني اليوم أسعد ذئبة على وجه الأرض

(يأخذ بالرقص تعبيرًا عن هذه السعادة رقص العابد لقمر أسود)

تقرع الطبول وتتمزق أوتار

قيثارة من جهنم

الشياطين لا يؤذون أحدا

اسأل الأطفال

أرادوا أن يكونوا لي خدما

والملائكة أشرار

كل الملائكة

أشرارٌ لأنهم أخيار

الأحلام هي الأحلام

والأوهام أكاذيب التقوى

هذا النهد تقواي

وهذا البطن

وهذا الرخام

وهذا الزاحف على الرخام

كشفرة خنجر

خنجرٌ يكون الله

تارةً

وتارةً يكون صنعاء

وهذا المهيمن عليّ

المتماهي بي

المُمَوَّهُ فيّ

المموِّهُني

المريد إذا أردت

القوي بالشر

القويم

المدمر بالخير

الرجيم

لا أحدٌ اليومَ غيرُكَ من مدمر

للأساس

لصون الأساسي

بالأمس كان كل واحد منا مدمرا

لم يكن بإمكان كل واحد منا إلا أن يكون مدمرا

اليوم لا أحدٌ غيرُكَ من مدمر

في عالمٍ لا شيء فيه للتدمير

عالمٍ خالْ

لٍ

عالمٍ من رملْ

لٍ

خالْ

لٍ

فكرةً وجسدا

لهذا أنا فكرةٌ من رمل

كانت جنة

وجسدً من رملْ

لٍ

كانْ

نَ

سان فرانسيسكو

***

(يدخل الكوخ، ولا يلبث أن يخرج في زي أبيه العسكري، وتحت أنفه شارب كث أسود)

لماذا رائحة هذه الشجرة نتنة يا ولدي؟

هل جَذرها آتٍ من حيفا

أم من بيتِ بغاءٍ في برلين؟

كيف تجعلُ لها من صدرك وعاءً يا ولدي؟

الصحراء تكاد تختنق

والسين النائم على ثدي باريس

(يحاول اجتثاثها)

شيءٌ غيرُ معقولٍ يا ولدي!

عبث هي ومن العبث اقتلاعها

قدرٌ يواجه قدرنا

شيءٌ ميتافيزيقي

يزحف من الأرض إلى أعمارنا

ويكاد يقتلنا

لا نستطيع الهرب منه في الواقع

فنهرب منه في الحلم

ليكون لنا سلوك براند في مسرحية إبسن

المثاليّ الجامد واللامسئول

أمام لدغ النحل وانسكاب العسل من برج بج بن

شيءٌ غيرُ معقولٍ يا ولدي!

يذكرني بيعقوب الطيب

الذي كنتُهُ ذات يوم

وبكائي على يوسف

ولدي المتنكر

وسليمان الحكيم

يوم كانت للحكمة رائحة طيبة

يوم قال موسى عنا غير ما قال للمصريين

سارتر وتشرشل

هذا الرمل أمره غريب

الرائحة الكريهة تنبثق من أديمه

وكأنه أديمي

ربما لأني كنت مضطرًا إلى القتل

لكني كرهت نفسي يا ولدي

وعزلت نفسي

كان عليّ الخضوع لأوهامي

القديمة كلها

وكانت تصلني نفس الرائحة التي أشمها الآن

رائحة غائط وسوار دو باري

مزيج من عفن الإنسان وعفن روحه

كنت أشم رائحتي

ولم يكن يبدو عليّ الاشمئزاز

كنت قد نسيت أنها رائحة باريس ورمان اللد

وشيء من عفن الأفكار

أفكاري

كنت ضعيفًا أمام أفكاري

ضعفي أمام أمك

لهذا قبلت بكل عشاقها من الأعداء

وجلست وحدي أبكي

كنت أبكي عليّ من ضياع

العالم

وغرقه في غائط

الأخلاق

رائحة لم أشمها من قبل

كانت رائحة أمك

ورائحة سوسن المجدل

كانت رائحة المستنقعات التي نشأتُ فيها كتمساح

بلا أسنان

لكنه تمساح ٌيبكي

كنتُ لا أتوقف عن البكاء

وأمك لا تتوقف عن تطويل قائمة عشاقْ

قِها

كي أذرف الدمع إلى الأبد

كي أغدو واحدًا من العميان

فيزول بصري

ولا يزول شمي لنتانة أمك

والسوار دو باري

خلال ذلك كنتَ قد وُلِدْتَ يا ولدي

فجاءت أمك بك إليّ وأنا أكاد أختنق من شدة الرائحة الكريهة

ورمتك في حضني

ثم ذهبت غير آبهة بصراخي

ولما شممتك

كانت تند عنك تلك الرائحة الكريهة

فغسلتك بماء الورد

حتى أنني نقعتك فيه

فلم تغادرك الرائحة الكريهة

رميتك في نهر الأردن

فلم تغادرك الرائحة الكريهة

تركتك في حضانة للسمك

فلم تغادرك الرائحة الكريهة

علقتك على حبال الريح

فلم تغادرك الرائحة الكريهة

رائحة أقوى من رائحة رمال النقب

وأشد من رائحة أفكار جدك

ذلك العجوز الطيب

يوم كان شابا

رائحة تهب من مركز العالم الذي كنتَ تقفُ فيه يا ولدي

ثم كبرت

وكبرت الرائحة معك

هجرتك النساء

والأطيار هجرتك

والأشجار

والأسماك الحمراء

الزهرية

الأسماك البنية

الأسماك الشقراء

الأسماك البرتقالية

فأخذتَ تبكي معي

بكيتَ معي طوال قرنين أو ثلاثة

من عمر بنات آوى

العطوفات

وأخيرًا قررتَ البحث عن مصدر الرائحة

ومصدر الرائحة كان أمك

لم يكن بالإمكان الوقوع عليها والعالمُ كلُّهُ رائحتُهُ من رائحتها

كانت رائحتها تهب علينا من باريس ولندن وبرلين وفرانكفورت

كانت تهب علينا من كالكوتا

ومن بكين ومن سدني ومن طوكيو ومن مونتريال ومن نيويورك ومن لوس أنجلس ومن سان فرانسيسكو

من سان فرانسيسكو كانت تهب علينا

ومن موسكو

ومن البرازيل ومن الأرجنتين

ومن أوغندا

ومن ألجيريا ومن تونيزيا

ومن مورّوكو

حتى من القمر كانت تهب علينا

ومن زحل

ومن الزهرة

ومن عطارد

ومن الدلتا

التي في رؤوس الناس

وددتَ لو تقتل العالم كي تقتلها معه فتخلص

ولكن كيف تقتل العالم؟

وبقيت رائحتها الكريهة تزكم الأنفاس

شيءٌ غيرُ معقولٍ يا ولدي!

***

(يدخل الكوخ ولا يلبث أن يخرج في ثوب أمه)

عليكَ أن تكون فخورًا بأمك

كل عشاقها من الممحونين

الممحونين الملوك

والرؤساء الممحونين

كل عشاقها من الملعونين

الملعونين الزنوج

والفقراء الملعونين

انظر إذا ما كانت خيول الرمل دومًا هناك

قلتُ للحوذي أن ينتظر

لا بيتٌ آمن

ولا كلبٌ أمين

في كنف الرمل

كانت مغامرتي لليأس ابنة

وأنا ابنةٌ للصُّدفة

الرمل أبي

والساق

أمي

ذهب الحوذيّ وتركني

في ظل

الشجرة

خوفًا عليّ منه

لا أحد يستطيع اقتلاع الظلال

وكان من بين عشاقي ملكٌ هو أبوك

يشبه الظل القويّ

للهلال

انظر إذا ما كان هرتزل قد وصل

موعده معي أعز عليّ

من كل النقب

من كل الذهب

كان هو أيضًا واحدًا من عشاقي الممحونين

حمير الحرية

والدين

وبغال الوطن القومي الاشتراكي

الاشتراكي فيما بعد

فيما بعد

اليوم يوم التآخي

بين الشفرة والنصل

قال هرتزل للسكين

وهو يحفر بين فخذيّ قبرًا له قال عنه الجنة لشعبي

المسكين

الاشتراكي فيما بعد

فيما بعد

في حدائق بيسان قرنفل أسود

كان موتي

لهذا لم أشأ الموت من الشجن

كي أظل أبكي

وأسقي قرنفل بيسان الأسود

في الرمل لا ينبت القرنفل الأسود

في الرمل لا يظهر ما تخفيه الوكالة اليهودية

تخفي الوكالة اليهودية في الرمل جينيف وبضع قلادات

بقيمة القدر الأحمق

لئلا يقدمها بن غوريون لي هدية

لا، لم يكن بن غوريون من عشاقي

هل يمكنك النظر من نافذة الشمس إلى جبال عمان؟

من العادة أن أهرق هناك شبقي

أراد بن غوريون أن يجعل من أبيكَ عشيقًا للبتراء

فرفضته الصخور المنحوتة

بالدم

لهذا تزوج أبوك الهواء

تزوجني

وهو يعرف كل ما لي من عشاقْ

قٍ

و... عشيقات

أحيانا

بدافع الوطنية والمبالاة

حين تعني المبالاة الحريق

والهبوط في النار

إلى الأغوار

حيث يلد الملح الهدنة

ألم تعرف إلى الآن أنني المكان

وأنني القبلة؟

تعال أخرجك من الرمل

واطبع شفتيك على ثغري

لم أكن في يوم من الأيام أمك

ولا أختك

ولا جوربك

ولا أي شيء آخر

خذ ظلي بين ذراعيك كي تتأكد

من أني للنقبِ شجرتُهُ الوحيدة

كما أني لبيغالْ

لَ

عمودُهُ الوحيد

الذي أطفأتَ بفرجك فانوسَهْ

خذني من ساقيّ

لتعلم أني امرأةٌ من بينِ نساءٍ ضجراتٍ أردن أن يقضين الوقت بطريقة

أو بأخرى

ارفعني إلى أعلى

ودعِ العالم يراني عاريةً كتمثالْ

لٍ

أهوج

ثم حطمني

وأعدني أُما

***

(يدخل الكوخ ولا يلبث أن يخرج في ثوب راقصة الباليه مع موسيقى لفاغنر تبدأ خفيفة جدًا ثم تعلو شيئًا فشيئًا، نسمع بعض الطرقات)

أحدهم يطرق على الباب

من الداخل

فالقادم أنا لم أصل بعد

إلى فينا

أغلقت النوافذ بنفسي خوفًا من الرياح

وروحي هناك تنتظر مصيرًا شقيا

جسدي يرتدي جسد فاغنر وما في برلين من أسوار

تنهار من حولي رويدًا رويدا

الصور تحترق في نار

الثلج

فالأبيض فرح الموت

والقبل رماد الخد الذائب كالشمع شيئًا فشيئا

تعال معي يا أنت

تقول نفسي لنفسي كغريبٍ لغريبٍ من سوريّا

في حجرة الغاز أحدهم يطرق على الباب

طرْقَ الغاضبِ الغاضبِ الحانقِ الحانقِ الناقمِ الناقمِ على سكوتلندا

كيف ندخل من الداخل

والدخول لا يُسمح به إلا من نوافذ الثريا؟

هناك من يغني هل تسمع؟

هناك من يرقص على أنغام الموت هل ترى؟

(يرقص)

في فينا

هناك من يذرف دموع النار

آنسا

في فينا

هناك من يفكر في الغد

تعسا

في فينا

هناك من لا يعلم أن فاغنر

يموت معه

كموت العود لما يغدو العود تابوتًا وعودا

هنا كل موسيقى الموت والفرح

اللحن الأسمى

لما لا يكون الموت سببًا للحزن

ليس تماما

لما يقدّم أحدهم حذاءً لك

أنت لا تمتلك ثمنه

وتموت تهللا

(يتوقف عن الرقص)

في الخارج أقدام في الوحل أقدام دون أحذية وأياد في الوحل أياد دون أحذية الناس يمشون على أياديهم كما يمشون على أقدامهم يمشون دون أحذية دون خوف من الوحل الوحل لا يخيف إلا الوعول الناس ليسوا وعولاً هم ناس هم أقدام تمشي في الوحل هم أياد تمشي في الوحل الوحل يلطم أياديهم يلطم أقدامهم أظافرهم لا تبين على سطح الوحل أظافرهم تغرق في الوحل تخدش الوحل من جوفه دون أن تؤلمه تخدش الوحل يعجبها أن تخدش الوحل تخدش الوحل كمن يخدش جذع شجرة خشن تخدش الوحل دون أن يكون قصدها الحفر فيه تخدش الوحل كأن الوحل جلدها تريد أن تخدش جلدها لترتاح من النمنمة تخدش تخدش الوحل تسعى الآن إلى المتعة تخدش تخدش تخدش الوحل تخدش تخدش تخدش تخدش الوحل يسيل الدم من جلد الوحل تصاب بالكآبة كآبة ليست عابرة الكآبة في هذا الوضع لا تكون عابرة دائمة الكآبة دائمة جالدة خالدة أزلية ماردة الكآبة لازمنية دائمة كابية كآبة تخرج من الوحل تتسلل في كل أنحاء الجسد كآبة تدخل في الرأس تتحول إلى أحصنة من وحل تركض تصهل تنبح الأحصنة تنبح الكآبة في هذا الوضع كآبة دافعها أحصنة تنبح كالكلاب تنبح أحصنة كآبة كالكلاب كالإنسان يغدو حصانًا من وحل يغدو كلبًا يصهل يغدو كلبًا من وحل يصهل الكآبة كلبية الكآبة لا تتحول إلى كلاب تصهل الأحصنة تتحول إلى كلاب تصهل أحصنة تنبح أحصنة تركض كلاب تركض تركض أحصنة وكلاب تهرب من الوقت تركض تركض تركض الوقت كله كآبة وحل أظافر تخدش تخدش تخدش الوحل العالم تخدش تخدش تخدش تخدش تركض تركض تركض تركض الكآبة تبقى لا تتحول تبقى الرؤوس الآن هي التي تمشي في الوحل دون أحذية تنغرز في الوحل تريد ألا يقضي عليها القلق تقاوم رؤوس في الوحل طريقتها في المقاومة مقاومة القلق رؤوس رؤوس ورود في الوحل في-الوحل-ورود-رؤوس-رؤوس-رؤوس رؤوس في الوحل منغرزة كالأوتاد الأقدام إلى أعلى تتحرك توقع في الفضاء إيقاع أقدام راقصة الباليه رؤوس-رؤوس-رؤوس-رؤوس راقصة باليه ملوثة بالطين بحماقة أخرى باهظة الثمن ثمنها القلق الدائم ملوثة القلق ملوثة الرؤوس الأقدام رؤوس-رؤوس-رؤوس-رؤوس-رؤوس تخدش الكآبة كآبة قلق قلق دائم قلق كآبة مقاومة طريقتها في المقاومة تلك الرؤوس المنغرزة في الطين طريقتها في رقص الباليه الأقدام توقع فاغنر مقاومة شفا عمرو طين تخدش برؤوسها تخدش تخدش لرؤوسها أظافر تخدش بها تخدش تخدش تخدش تسعى من وراء المتعة الطين الوحل تخدش المتعة القلق الكآبة تخدش تخدش تخدش تخدش تخدش تخدش تخدش تخدش تخدش تخدش تخدش

(يرقص لمدة دون أن يفوه بكلمة)

المعارك تبدأ وتنتهي في مكان آخر

في السرير

أو في بلاط نابليون

المعارك هي المعارك

تبدأ وتنتهي كقصة في كتاب

محاصر

بين دفتي باب

ألقته يد عابثة في السين لئلا يقرأه سارتر

كل معاركنا مدفونة في الرمال

ومعاركهم

في رمال لم تَدُرْ عليها

وإنما على أرض الهناك

وبثمن بخس

اسأل واحدًا سيكون اسمه كارتر

كل أولئك القتلى من طيور الغاق

سقطوا على أرض الهناك بثمن بخس

كل تلك البجع

التي ذهبت إلى الموت في طائرة شارتر

محركُها تَعِبٌ كصدري

كل تلك الحمائم

التي قاتلت ببسالة

على قبري

كل تلك الأيدي النظيفة للغربان

وغدت قذرة

بالبياض

كل تلك المناقير الصفراء

المناقير الصفراء

الصفراء

كل تلك المناقير الصفراء

العازمة على أن تكون قدري

لينطلق بعد ذلك عويل الأطفال

من أجلِ ثَمَلِ الريح

واقتسام مهبل الزمان دون إنصاف

فكل الحروب كانت من أجل هذا

وهي لهذا يغدق التاريخ عليها بعطاء

ويجعل منها معارك ذات ثمن عظيم

عظيمٍ جدا

التاريخ وغد

وأنا وغد لهذا

هل تناول آيزنهاور قهوته ذلك الصباح؟

وعصيرُ برتقالِهِ هل شربه؟

وماذا قال عن هلاليات فينا؟

هل أعجبته؟

أسئلة للتاريخ صعبة

لا يمكنه الجواب عليها

كل الأجوبة هنا في الرمل مدفونة

كشفاه فتيات مخيم قلنديا

وحِفاظات فتيات كيبوتز أقيم في صحراء النقب دون كبير عمولة

وأوراق كلينيكس غابة بولونيا

التاريخ في حقيقته هو كل هذه التفاهة

المنتقاة

التفاهة التي اختيرت

فالظفر تفاهة

وشفاه فتيات مخيم قلنديا الأروع من الروع

تفاهة

تحت شرط الهزيمة

والحِفاظات التي لا تثقب

العذارى

تفاهة

وهل استقبل آيزنهاور فارس الرمل؟

وطربوش فِرعون هل استقبله؟

وماذا عن العباءات التي تنتصب الذكور من تحتها؟

هل باركها؟

أسئلة قرأتها في مجلة بليه بوي

وأثارتني جنسيا

لهذا تجدني هنا في صحراء النقب

كي أمارس العشق مع خُفٍ يبحث عني منذ ألف عام

ولم يجدني

تمامًا كأضاليا

صفراء

تبحث عن لونها

ولن تجده

وهل أرسل آيزنهاور لشفاهٍ أخرى لا تقل روعة عن شفاه فتيات مخيم قلنديا

احترقت في أوشفتز

تذاكرَ سفرٍ للسياحة؟

وأحذية نايك هل أرسلها؟

وماذا فعل مستشاره للشأن القومي بالأقدام الخادشة للطين؟

هل قلم أظافرها؟

كل هذا عبث اللاتاريخ

الليلك على المخدات

الهللويا المفتضة بين الفخذين المنحوتتين لراقصة الباليه

نشيد الأسوار المطوِّقة لبرلين

المطوِّقة لعكا

المعظِّمة لمسجد الجزار

أحمد باشا الجزار

هل هو أنت يا أبي؟

لا تجيب الرمال

هل هو أنا يا أبي

قبل ألف عام؟

الرمال

آه! من كل ما تخفيه الرمال

(يرقص تارة وحده وتارة مع الشجرة الثابتة في الرمل، يتوقف، يتأمل العالم، يجس أغصان الشجرة، يتناول مقصًا، ويقلمها، لا يلبث أن يلقي المقص، يعود إلى تأمل العالم، يقذف الرمل، ويأخذ بالرقص من جديد)

الرمال

فخذان ملوثتان

الرمال

روثٌ وجَمال

الرمال

قصيدتان

الرمال

جوادان

الرمال

تمثالان

الرمال

روحان

الرمال

عهرٌ وإيمان

الرمال

عِلمان

الرمال

هويتان

الرمال

شجرتان

(يحاول اقتلاع الشجرة، فلا ينجح)

بل شجرةٌ واحدة

وبلدان

(يأخذ بالرقص بجنون)

الرمال

حمامتان

الرمال

عقربان

الرمال

جوادان

الرمال

أحجيتان

الرمال

سرابٌ ووهمان

الرمال

ضفيرتان

الرمال

حاجبان

الرمال

عينان نجلاوان

الرمال

ثغران نحران بحران محيطان خلجان

الرمال

حلمتان مقطوعتان

مبتسمتان

مستفزتان

مستسلمتان

الرمال

بطنان

الرمال

ثلاثُ سيقان

الرمال

قدمان وقدمان

الرمال

صعودٌ وهبوطان

الرمال

نهايتان

ثلاثٌ

أربعٌ

خمسٌ

عشرٌ

مائةٌ

ألفٌ

أو أكثرُ

ألفان

الرمال

بدايتانِ للأحزان

الرمال

لوحانِ محفوظان

الرمال

تمساحان

الرمال

مستنقعٌ وضفدعان

الرمال

شيخٌ وحاخام سافلان

الرمال

نبيان أخرقان

الرمال

لوطيان

..........

(يستل المقص ويعود إلى الرقص بجنون على إيقاع سيمفوني هائل لفاغنر وعلى شاشة كبيرة تتموج الرمال وهي تأخذ أشكالاً مختلفة لخيول وكلاب وجِمال وذئاب وغزلان وعقارب وثعالب وأشجار صَبّار وصراصير وثعابين وملائكة وشياطين ودبابات ومدافع وخيم وقوافل وأفواه تصرخ وأخرى تقهقه وأثداء وأكفال وأفخاذ وموتى من كل نوع وخاصة موتى محترقين يزلزلون الأرض لعذاباتهم... يصوب المقص أولاً إلى ما بين فخذيه ثم يرفعه عاليًا عاليًا عاليًا جدًا والموسيقى قد وصلت الذروة في صخبها وتُسدل الستارة، وبينما الستارة مسدلة تُسمع صرخة مدوية يفوق دويها صوت الموسيقى، وفجأة يحط كل شيء في الصمت)

 

باريس الكتابة الأولى 2002

الكتابة الثانية الأربعاء 11 يناير 2012

 

ramus105@yahoo.fr

 

هامش:

  1. الصواب وغير الصواب وبكلام آخر المعقول وغير المعقول في هذه المسرحية الشعرية يعكسان الفلسفي والسياسي، إذ يوضع الفكر الوجودي تحت المجهر، فيكون نقده، والفكر السياسي، فيكون عرضه، وفي كلتا الحالتين السياسي غير ظاهر على الرغم من وجوده الكلي، والفلسفي تغطيه الصور والرموز والاستعارات والدلالات والإشارات والنماذج والأنماط على الرغم من وجوده الكلي أيضًا، وعلى عكس أبطال "الأيدي القذرة" يعمل "الأخرق" على استرداد فرديته في عالم مستلب ليس بدافع المسئولية، هذه المقولة الشهيرة للوجودية، وإنما الاختصام والتصدي والنقض والنقد والفضح والقدح وهدم السائد وقلب الوضع الراهن وتعرية النفس وتعرية العالم إلى حد أننا نخلط في بعض الأحيان بينه كيهودي إسرائيلي وبين الفلسطيني، فالمسرحية تعري الإنسان من "جواه" منذ ولادته إلى فعل الختام الدرامي. لا توجد مسرحيات شعرية فلسطينية إطلاقًا ولا عربية إلا نادرًا، وأفنان القاسم هنا من أجل المسرحة يكسر القافية الشعرية ليتحاشى السجع ونهايات الأبيات التفخيمية التي استقاها محمود درويش من التراث وكرسها في الوعي العربي والأدب العربي لتُماشي الفكر السائد، ولسيطرة محمود درويش التامة على اللغة كان على أفنان القاسم أن يحطم كل شيء، ويبتكر لغة جديدة، وكذلك أن يحل الموسيقى الذهنية محل التفعيلة، مما أوجب النغمة الجديدة المموسقة للفظة الجديدة تحت استعمالات جديدة وبالتالي إبداع صورة جديدة واستعارة جديدة ودلالة جديدة.
  2. أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له خمسون عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا...