ما خبَّأَهُ ابنُ طفيل في قماطِ حيِّ بنِ يقظان
رُميتُ وحيدا بتلك البقاعِ القصيّة
فلا أحدٌ جاورَ الكوخَ أو مرَّ بي زائرا
قلتُ للوحشةِ التي داهمتْني: ألا تستريحينَ قُرْبي
نقاسمُكِ الخبزَ والماءَ والريحَ حتى تحينَ المنيّة
وهذي السماءُ لحافٌ لنا
والأديمُ مهادٌ لأحزاننا
والحماماتُ في الغابِ تشدو مع الفيءِ نشوى
وتسمعُني زغرداتٍ شجِيّة
وحين يجيءُ الظلامُ بقفّازهِ الأسودِ الصوفِ
يسلبُنا الدفءَ ، نعرى كما خلقَ اللهُ حوّاءَ
من طينةِ الإثمِ ثمّ استوى على عرْشِهِ
وغطّى على الفورِ آدمُ عورتَه ورقاً
من نثارِ الشجيرات حتى استكانْ
ونام رغيدا ، سعيداً ، مُحِبّاً سريرَ الحياء
واحتوى زوجَهُ باحتضان
***************
أنت يا حيُّ من غذّ فيك النوى والأنين
أراكَ ثملْتَ من الظبيةِ التي أرضعتْك الحنين
كبرتَ وعظْمُك صار صوانا
وقلبُك مرعى لأحبابِك الصابرين
كفاك تعيشُ وحيدا يسامرُك اليأسُ
طولَ الصباح وطول المساء
أكنتَ تناجي الإلهَ العظيم
أكنتَ تقول:
أنا الحيُّ أبهى من الشمسِ
أشرقُ في القلبِ ضوءاً ودفئا
أغطِّي السوادَ بزرقة وهْجِ السماءْ
ورغم مكوثِك في غيهبِ الغابِ عمرا طويلا
فما زلْتَ حلْوَ المُحيّا، شهِيّ المذاق
ونبعُكَ عذْبٌ يُريحُ العليلا
لأنكَ أحييتَ لحْنَ المسرّاتِ
زيّنتها بالليالي الملاح
أكنتَ ترددُ دوماً "أنا"
نرجسيّ الصفات
أنا عنفوانُ الشباب
أنا الساعدُ الصلْبُ
والعينُ والقلبُ
والحزنُ والندبُ
والشوقُ والحُبُّ
والشدّ والجذبُ
والجدّ واللعبُ
هذا مكاني الفسيح
أنا السيّد الرأسُ
والجأشُ والفأسُ والقوةُ القاتلةْ
سكنتُ الجزيرةَ وحدي
عافني سيدي ابنُ طفيلٍ رضيعاً كزغب القطا
يحوط بيَ الماء ُ
والعقلُ صار صديقي
يجاورُني أينما رحتُ
يوقظُني من منامي
ويشعلُ فيّ لهيبَ التسامي
أرى في النجومِ عيوني
أرى مولدي ، محتدي في الشتاتِ البعيدة
فغرناطتي استبدلتْ أهلَها
والعشيرُ تشرّدَ بين السهولِ وبين الجبال
أخي وابنُ عمي استراحا بعمق البحارِ
وماتا غريقَين في العاديات
أبي مات أيضاً على مُتَّكاهْ
ولكنما الريح قد أنقذتْني
رمتني بعيدا إلى جزرِ الهندِ
منعزلا في الفيافي
أكلتُ من الثمرِ المُرِّ حتى تقطّعَ قلبي
مشيتُ على الحَسَكِ الوخزِ حتى تَمزّقَ دربي
رجفتُ من البردِ والخوفِ
في حالكاتِ الليالي
ولكنني... ما شكوتُ لصحبي
فأهلي الظباءُ رعتْني
ومن ضِرْعِها أرضعتْني
كبرتُ بتلك الفيافي
وعقلي علا شأنُه
ورُحتُ أقلَّبُ فكري
أغوص مع النفسِ غورا عميقا
قنعتُ من العيشِ وحدي بلا رفقةٍ أو حميم
سوى اللهِ والريحِ والألقِ المستديم
أفسّرُ كُنهَ الحياةِ وسرَّ الممات
أعيشُ طويلا مع الصلوات
أصومُ عن الزادِ والماء والموبقات
ليكثرَ شوقي إليك
يخالجُني خاطرٌ في خيالي
وأرحلُ مثل السنونو
لأذرعَ كلّ المسافات حبَّ الحياة
حزمتُ فؤادي
وأطلقتُ ساقَيَّ للريحِ
أبغي الطوافَ بحضرةِ ربّي
وشذّبتُ عقليَ توقاً لمرآك يا خالقي
صقلتُ قرارةَ نفسي
ردمتُ الشقوقَ
قصصتُ العقوقَ
محوتُ الكبائرَ من داخلي
وقلتُ لعلِّي أفكُّ حصارَ الجزيرة
فززْتُ وعدتُ لصحوي
رأيتُ الجزيرةَ تبكي
وقالتْ بصوتٍ كسير :
سيبلعُني البحرُ إنْ غِبتَ عني
لاأرى الشمسَ في قاعِهِ
سأغفو ببطنِ البحارِ
كما غابَ يونسُ ردحا طويلا
وأغرقُ في التائهات
فدعْنا نعشْ وحدَنا
أنا أرضُك الخصبُ
ملعبُك الرحْبُ
مطرحُكُ الحضنُ والقلبُ والناظرَين
فخيرُ البلادِ التي حملتْ مَن أتاها
محِبّاً لها ، يستطيبُ شذاها
ومرَّغَ خدَّيهِ في ترابِ ثراها
وطيّبَ أيّامَه في رُباها
أريدكِ نافذتي ... شُرْفَتي المشرَعة
أريدكِ غيمةَ بيتي
تشاركُني ريَّ صبيانِنا
وظِلاً ظليلاً لنا وحدَنا
ولاتعبئي حين ينتابُني الحزنُ والصمتُ
حدّ اشتعالِ الفؤاد
تميلين عني جَفاءً
أنا عائمٌ بالأسى والذهولْ
أصرْتِ زفيرا ثقيلا يضيقُ بصدري؟؟
والشهيقُ العميق يعانق أحبابَنا في المنافي
فكيف أنوشُ الحروفَ و أصطادُ تلك القوافي؟!
أريدكِ وضّاحةَ ، ناصعةْ
كقلبِ صبيتِنا العاشقة
أريدكِ نافذتي...شُرْفتي المشرعةْ
تطلعين كما الشمسِ دافئةً ، ساطعةْ
تُجفّين بردَ الثلوج التي عمّت الدارَ والساكنين
يخالجُني هاتفٌ بأن أسبرَ السرَّ في أصغريك
وأصقلَ قلبَك صفوَ الأمومةِ
إني أراهُ علاهُ الغبار
في ركام السنين المديدةْ
متى تعشقينَ رؤى شقوتي؟
أراكِ ارتحلتِ بعيداً !!
أهذا الوداعُ الأخير ؟
ولكنّ عطرَك لامسَني في المساء
واعتراني كذكرى الفتوةِ
يلتفُّ بي كالوشاحِ الذي ظلَّ ابيضَ
منذُ اشتريناهُ قبل المشيب
منذ كنّا صغار
وصيّرني عاشقاً رعشَ القلبِ
حاني اليدين
تذكرين الدروبَ التي ضيّعتْنا؟
وكنتِ دليلي ، مساري الأمين
وحين يُشتتني العمرُ
صرتِ يدي وعكازيَ الصلبَ في الطُّرقات
حائطي ، سنَدي حين طاحَ بيَ المخبرون
ومتَّكأًً لشيخوختي حين تغادرُني قُوتي
كنتِ سقفاً حماني ، من لصوصِ النهار
من لصوصِ الجنون
من ندامايَ أيام عشتُ المجون
ومن قاذفي الرعدَ والبرقَ بالمنجنيق
أريدكِ إطلالةً دائمةْ
أطلّ على أصدقاءِ الزمانِ الجميلِ الحنون
أرى شرفتي، شهقات القصيدةِ تسلب لبّي
أريدك حرْزاً يصونُ وجودي
تميمةَ عمري الذي ضاع بين الشكوكِ وبين اليقين
وبين الطّهاراتِ والموبقات
وبين المطارقِ في الرأسِ
تنقرُ أحلامَنا بالعذاب
وبين المناجلِ وهي تحزُّ الرقاب
أريدكِ أمْناً وسِتْراً وصوْناً
لِنبعدَ عن شوكةِ الحاسدين
عن الضامرينَ المكائدَ من صلْبِ أهلي
أناجيكِ يالفحةً من هواءٍ عليلْ
تشرحُ الصّدْرَ
أغنيةً عطفتْ في تخومِ البقاعِ البعيدة
كي أرى منبتي ، نسليَ الشاردين
وأحفاديَ الكثرُ غابوا زماناً طويلاً
تولَّوا لأوطانِهمْ مدْبرين
مسرّاتُهم سافرَتْ مع الريحِ والسندبادِ
إلى السندِ والهندِ
والْجزرِ والمدّ
والشرقِ والشوق
والغرْبِ والندْبِ
والبعدِ والنأْيِ والاغتراب
فكيف ألمُّ الشتاتَ بهذي البلادِ اليباب
وخطُّ استوائي امّحى في خرائطِ هذا الغياب
وبوْصَلتي اعوَجَّ عقربُها مثل ذيل الكلاب
أضعتُ اتجاهي
فما من ذهابٍ ، ولا من إيابْ
ولم يبقَ إلاّ محياكِ مِنِّي
ويُرْجعُني لاشتعالِ الشباب
صعدْنا الجبالَ ، ارتقيْنا الأعالي
هبطْنا معاً في البوادي
سكنّا الصحاري
عصبْنا البطونَ ، نخافُ الطوى
فهلاّ شددْتِ الوصال
وثقْتِ الحبال
فكأسي مليءٌ دواءً
معيني حواهُ السراب
أنا المجدِبُ الآنَ
هلاّ رششْتِ السحاب
وبئري خلا ماؤه ُ
ودلْوي صدِيءٌ علاهُ غبارُ السنين
يدايَ من الضعفِ مهزوزتان
فكيف ارتوائي بصحراءَ ما مسّها الماءُ يوما!!
غمامُك يأبى الهبوطَ إليَّ
فمن ذا يطوّقُ صدري الحزين؟
أسيدتي..... تذكرين؟؟
تأنسين لضمّيَ بين يديكِ
وفي لَهَفٍ ....تركضين
يعتري قلبيَ الوهْنُ إذْ تعثرين
و قارورةُ العطرِ تسقطُ عند التفافِ العناق
يثملُ الحيُّ والناسُ كالحالمين
تراكِ العصافيرُ مقبلةً
إذ تداري الحنين
وتنشدُ نزفَ تسابيحِها حالما تشرقين
تنامين والعشْب جذلى
يعمّ السرورُ وتخضرُّ تلك الحدائقُ نشوى
يضحك النحلُ زهوا، يَدُرّ مع الشهدِ مَنّاً وسلوى
والحصى صار قنْداً وحلوى
تطأُ الأرضَ رجلاك مهلاً
ويغدو الجفافُ صديقَ النماء
سلامُكِ حرية المتعبين
ومشيُك غيمٌ كريمٌ على الظامئين
ووجهُك طلعةُ سعْدٍ على اليائسين
يداك حنوٌّ حذتْ حذوهُ الأمهات
خطاكِ جهادُ الأبوةِ ، كدحُ الحياة
دعاؤك ما يبهجُ الأنبياءْ
يرون رعيّتهمْ مؤمنين
ويا فَزَعي حين ينتابُني الذعْرُ عند اللقاء
أخافُ أموتُ بسكتةِ قلبي
فما شدّ أزري سوى أنتِ
يا جهشتي.... حين يحلو البكاء
انتباه ... قيادةٌ في المزالق
في الطريقِ إلى المنحدرْ
وقف َالشِّعرُ هاتفاً في الجموعْ
هنا تتناسلُ تلك المطبّاتُ
والعثراتُ الجسام
يُمنَعُ السيرُ
كنْ حذراً
فالطريقُ إلى مدنِ الشعر مملوءة بالمزالق
تمهّلْ قليلا
هناك استدارةُ قافيةٍ نزِقة
لاتسُقْ كلمةً
مقطعاً من قصيدةْ
حتّى يُصرّحَ لكْ
اقرأْ اللافتة
اقرأ الشارةَ الشاخصة
إن أردت المرورَ هنا
عليك التزام الهدوء
تفحّصْ عيونَك ،قلبك َ
مرمى شِباكِكَ
لا تنسَ أن ترتدي
حزامَ التجاربْ
ولا تستدرْ كيفما شئت
لأنّ الأخاديدَ مغمورةٌ بالوحول
ويسكنها عبقرٌ أهوجٌ
ينشبُ أظفاره كالوحوش
*************
خفف السرعةَ الآن
فالمريدون كثرٌ هنا
والعنيد العنيد من يصدح الشّعر
في الأودية
والقليل القليل من يستقرُّ
على حافة الهاوية
يشدُّ يديه
ويمسك جلدَ الزمام
ويُثبتُ أقدامه في الرِّكاب
ويقرأ ما في خفايا الكتاب
رابط الجأش
ثابت الخطو
يبحرُ في سدفة الليل
يغفو مع البحر
يصحو مع التيهِ
يقنصُ مفردةًّ ، دُرّة تائهة
في خبايا المتاهة
*************
خذ المقودَ الآن
في قوّةٍ صارمة
ولا تتراخَ
توخَّ الوقوعَ سريعاً
بطوفانِ مفردةٍ شاردة
فالكلماتُ لها وخْزُها
مرّةً توجعُ القلبَ
تدمي العيونَ
تؤرقُها
وتنسلُّ فيك شهوراً طوال
**********
تستريحُ المعاني بأرصفةِ القلب
تبحثُ عن صائدٍ
يتغنّى بها
ولكنّها تتمرّدُ حين تعانقُها ...
المفرداتُ القصار الهزيلة
فلا ترتقي عالياً
إذا انكسرَ السُلّمُ المتهالكُ
في لحظةٍ من جموحِ القصيدة
أمامك دارُ استراحةْ
فخذْ نفَساً واسترح
ريثما تعودُ المعاني لأوكارها
ريثما تعودُ العصافيرُ
في أول الليلِ
تحضنُ أعشاشها وتنام
وإياك إياكْ
أن تقُودَ القصيدةَ في عنوةٍ
ودعْها تسير الهوينا إليك
تلمُّ شتاتَ المعاني
وتنسابُ كالحُلُمِ الغضِّ
في هدأةِ النومِ
في ارتخاء الزّمام
في انصياع الحروفِ
لمملكةِ العقل
وارتماء العِبارةِ وسْط الفؤاد
ألم ْ تستمعْ لِجَدِّكَ
حين دنا منكَ مسترسلاً في الحديثِ
وقال :
" الشِّعْرُ صعْــبٌ وطويلٌ سُلّمُهْ
إذا ارتقى فيــه الذي لايعلَمُــهْ
زلّتْ بهِ إلى الحضيضِ قَدَمُهْ "
شاعر من العراق