(حيث رأى الناس مهرةً بيضاء تعدو، ومسّهم سحرُ عينيها الجميلتين، فسكنتهم فتنةٌ وضلال).
«ها أنا أُرسلُ إليكم أنبياءَ وحكماءَ وكتبةً، فمنهم تقتلونَ وتصلبونَ، ومنهم تَجلدونَ في مَجامِعكم، وتطردونَ من مدينةٍ إلي مدينةٍ».
الإصحاح الثالث والعشرون. ق.
الغُرباء
الذين يعرفون طريقهم جيدًا؛ حتى في الظلام
نحن في مساء الجمعة، في تمام الثامنة والنصف، بالتحديد في تلك اللحظة التي يصدّق فيها الشيخ عبد الباسط؛ سنسمع بضع دقات لساعة الجامعة، ثم يعلن المذيع موعد نشرة الأخبار.
في نفس اللحظة تتثاءب الجدة. ربما تكون قد نعست فعلاً، وخطفت حُلمًا أو حُلميْن قبل بضعة آيات. فقد حصلت على جرعة روحانية تمكّنها من الحلم بالملاك الذي يقبلها وهى نائمة.
ذلك الجبان، الذي كلما أحس بها تفتح عينيها؛ يطير من نافذتها المفتوحة أو يختبئ في مكان ما.
تعرف أنه كان هنا؛ لهذا ستغمض عينيها بعض الوقت؛ لتمنحه فرصة الظهور، ثم تفتحهما فجأة. تلك حيلتها القديمة التي لا تنطلي علي ملاك شاب، لكنه ـ عادة ـ يترك لها شيئا من أثره: نفحة عطر في إحدى الزوايا، بقعة ضوء على جدار، أو ريشة يضعها ـ عادة ـ على سريرها، تحت النافذة تماماً، النافذة التي تطل منها؛ لتري في أي هيئة هو اختبأ، فلا يكون في مدى رؤيتها شيء غير أشجار الكافور التي تحيط بسور البيت المقابل.وبعض عصافير نائمة تتسلي بهسهسات خافتة، فقط.. ليمر الليل في سلام.
في تلك اللحظة سيكون كل شيء في نفق المحطة مُعدًّا لاستقبال الغرباء الذين وصلوا للتوِّ في قطار هو الأخير. وسيقف حصان بُنّي بغُرّة بيضاء في انتظار رجل يقول له الناس: يا حاج وهدان.
سيكون الحاج وهدان،هو آخر الغرباء الذين سيصلون الليلة.
على أية حال.. الغرباء يعرفون طريقهم ـ جيداً ـ حتي في الظلام،
ينزلون بضع درجات من الجرانيت الوردي، بضع درجات فقط ويصبحون في قلب النفق تمامًا. سيتجهون لليمين فرادى؛ ليخرجوا، فقط إلى اليمين، فليس في اليسار سوى خلاء يسكنه الذين دهسهم القطار يوماً. بعضهم فر إلي خلاء آخر، وبعضهم عاشوا فيه يعابثون المارة في الليل، أو يتآمرون علي سرقة بندقية حارس المحطة السمين، وفي النهار يحدفون القطار بالطوب كلما صفّر وأيقظهم من قيلولتهم. لهذا اعتادت القطارات أن تدخل المحطة، وتخرج منها في صمت.
في العادة، يكون النفق مضاءً بمصباح وحيد.
وحيد وخافت أيضا، مخنوق بالتراب والهباب وشخاخ الذباب، هكذا. لا أحد من الغرباء يلتفت إليه، لكنهم ـ الليلة ـ سيرون شيئاً مختلفاً يجعلهم يتذكرونه لبضع رحلات، حطباً مشتعلاً في قلب النفق يضيئه بقوة ودفء. عندئذ سينظرون إلى المصباح، ويجدونه مطفئاً تماماً.
في نهاية النفق سنرى العربجية بحناطيرهم متأهبين لاستقبال الغرباء، ويمكن أن نشم رائحة قديمة لروث وبول معتق. وربما نسمع نفرةً لحصان هيّج التبنُ منخاريْه، تعقبها شخللة لأجراس صغيرة، وربما نسمع حمحمات مكتومة.
الليلة، ولظروف استثنائية، سيدخلون النفق فعلاً، ويبقون قريبين جداً من النار.
العربجية مدربون جيدًا على التقاط دبيب القطار. فلن يخدعهم دخوله أو خروجه في صمت. يتحركون في النفق وحوله، وعيونهم على سلم الجرانيت الوردي في انتظار الزبائن تهل، يرفعون أجولة التبن من أمام الجياد ويلقون بها فوق العريشة، والجياد نفسها ستلتهم في عجالة حفنة أو حفنتين قبل الرحيل، وربما.. تضرب الأرض بحوافرها على سبيل الاحتجاج.
بعد قليل سيخلو النفق تماماً. الغرباء العائدون سيركبون الحناطير، والفقراء سيمشون على أرجلهم طبعاً. العربجية يعرفون أنه القطار الأخير؛ لهذا لا يفكرون في العودة إلى النفق مرة أخرى. هذه نهاية يوم عمل بدأ مع نجمة الصباح.
أما العربجي رجب، فسيبقي قليلاً في انتظار رجلٍ لم يظهر بعد؛ مع أنّ رجب جاء خصيصاً من أجله. سيغفو قليلاً فوق عريشته، وسيحلم ـ غالبا ـ بوجبة عشاء دسمة ومضاجعة خرافية تعوض خيباته السابقة.
عادة.. عندما يخلو النفق تماماً، يعطي ذلك الفرصة للذين دهسهم القطار يوماً أن يتجولوا بين أرصفة المحطة. يتآمرون كالمعتاد علي سرقة بندقية حارسها السمين أو العبث بأذرع التحويل في حجرة المحولجي، ربما يخرج القطار عن مساره المعتاد، ويذهب إلى مكان بعيد لا يعود منه أبداً.
نفق الغرباء مشهد يتكرر كل مرة بتعديلات بسيطة. لا غرابة في ذلك فهم غرباء هذه البلدة، الذين عاشوا فيها، أو الذين يتركونها يوم الخميس إلى قراهم وبلادهم، ويعودون إليها عندما تنام الجدة بعد بضعة آيات، أو عندما يعلن المذيع موعد نشرة الأخبار.
هذا موظف السجل المدني. ستتعرفون عليه بسهولة. بدين، أصلع، له بنطال واسع يتدلى حزامه تحت كرشه؛ فيترك براحا لخصيتين مصابتين بالدوالي، مبتسم بلا سبب، لا يكف عن الابتسام حتى لهؤلاء الذين يعرف أنهم يضحكون من مشيته، أو الأطفال الذين سيجهرون باسمه الحركي "أبو قليطة" في غفلة من الكبار الذين يحترمونه بالرغم من مخاوفهم أن تنخدع النساء بالذي بين فخذيه يتدلى.
سيبتسم، وربما يُحيّيهم بإيماءة، ثم يمضي مثقلاً بخصيتين كبيرتين بين فخذيه، وحقيبة صغيرة يعلقها في كتفه دائماً، بها أقلام "باسْطْ" مسنونة جيداً وبدرجات متفاوتة، تفيده في كتابة بطاقات الهوية.
الناس ـ عادة ـ تضع في درج مكتبه شِلِنًا أو بريزة تقديراً لخطه الجميل. وربما يعملون خاطراً لذلك الذي بين فخذيه.
مدير بنك ناصر سيراه الناس في شوارع البلدة كلما مروا هنا أو هناك. يتلفت يميناً ويساراً كأنما يبحث عن شيء ضاع منه. يضع نظارة سوداء علي عينيه ـ حتى في الليل ـ فلا أحد يدري لأي جهة يبصُّ، لكن سكرتيرته في البنك، تعرف جيداً أن نظراته تتجه دائماً لأسفل. من أجل هذا تنزع الشعر عن ساقيها في الأسبوع مرتين.
مدرب فريق مصنع الغزل الذي كان لاعباً في نادي طنطا، وتصادف أن أحرز هدفاً في عادل هيكل؛ فدخل التاريخ من غير قصد، خرج فريقه خسرانَ بستة أهداف. أما هو؛ فاز بصورة في جريدة المساء اعتبرت سبقاً صحفياً؛ لأن المصور سجل لحظة نادرة: عادل هيكل يطير في الهواء، والكرة تدخل المرمى، ومن وراء الشبكة ثمة نقاط بيضاء وسوداء كثيرة. كانت تلك جماهير ستاد طنطا تهلّل لحظة دخول الهدف الوحيد لهم، هكذا.. جمعت الصورة كل شيء إلا الذي شاط الكرة.
هو لا يظهر في الصورة. فقط.. قدم مكمورة في حذاء رياضي، مجرد قدم لا أكثر، لكنه قص الصورة بعناية وشالها في محفظته، وكلما جاءت مناسبة يخرجها.
هوـ في الحقيقة ـ لا يخرجها من محفظته، ولا يعرضها علي أحد إلا نادرا، إذ كان عليه في كل مرة أن يقول بحسرة:
ـ أنا الذي شاط الكرة. والله أنا.. بص.. دي رجلي.
ثم من هذا؟!
آه.. شيخ المعهد الأزهري في البلدة، المنتدب ـ أصلاً ـ من المعهد الأحمدي بطنطا.
الحقيقة هو لا يعود لقضاء العطلة الأسبوعية بين أهله سوى مرة واحدة كل أول شهر، وتصادف أنه أمضي أسبوعاً كاملاً بين أهله. ها هو ينهي أجازته؛ ليعود في القطار الأخير، لأن عليه أن يكون في صباح السبت بين الشيوخ الأطفال؛ ليذوب بينهم.
هو نفسه يشبه الأطفال تماماً.
قصير جدّاً،
ونحيف جدّاً،
وخفيض الصوت جدّاً جدّاً.
وهو فوق ذلك خجول، حتى لا يقوى على النظر في عيون تلاميذه.
هذه صفات لا يمكن أن تجتمع في شيخ أزهري إلا هو؛ لهذا فإن أحداً لا يشعر بوجوده، لا بسفره ولا بعودته، حتى إن العربجية المتحفزين لزبائنهم يخطئون وجوده عادة. ربما يفاجأ به أحدهم وهو يهم بالانصراف بعد أن يئس من الفوز بزبون، وغالباً لن يهتم به، فالشيخ الصغير لا يركب الحناطير إلا نادراً، وعادة يكون آخر الخارجين من النفق، يمشي بخطوات متعثرة ملاصقاً للبيوت والأرصفة. ينظر للأرض كأنماً يبحث عن ظله، يصل إلي بيته المجاور للمعهد الأزهري بعد عشرين دقيقة من المشي بحساب خطواته الصغيرة، غير أنه في ليلة مثل هذه، سيفكر بالتأكيد في ركوب حنطور، إنها ليلة باردة، والطرق موحلة، وهو حريص علي ألا يوسخ ذيل "كاكولته" التي يبقى فيها لشهر كامل قبل أن يعود في أجازة أخرى.
دعونا لا ننشغل به، فهو ليس الرجل الذي ينتظره رجب.
على أية حال، فهذا الشيخ الصغير سيختفي من الوجود تماماً بعد أيام قليلة من تلك الليلة. سيكون رجلنا الذي ينتظره رجب هو الأكثر غربة بين كائنات النفق هذا. سيكون غريباً حتى عن جسده واسمه. أما شيخنا الصغير، فسوف يختفي تماماً. هو ـ في الحقيقة ـ كان مهيّئاً للاختفاء. سيحدث هذا بعدما اتهمته صاحبة البيت بالتحرش بابنتها القاصر. طبعاً فضيحة. كان يحتاج لفضيحة حتى يشعر الناس به. فضيحة ستجعله حديث الناس لبضعة أيام وكأنهم فوجئوا بوجوده بينهم. سيختفي تماماً، لكن الناس ستذكره كثيراً، كلما مرت في شوارعهم بنت بعيون شقية ونَهديْن لَعوبين، لا بد أتعبا الشيخ الصغير كثيراً حتى يمسك بهما.
هذا القطار كان دائماً يأتي بغرباء هذه البلدة.
ذات مرة جاء بولد في الثانية عشرة، بدين وخجول، يرتدي "شورت" قصيراً وصندلاً، ممسكًا بحقيبة من الورق المقوى، جاء بصحبة امرأة جميلة تشبه هدى سلطان.
المصادفات تلعب دوراً كبيراً في حياة الغرباء. ففي العربة الأخيرة من نفس القطار الذي جاء فيه الولد الخجول وأمه، جلس رجل وبجواره طفلة خمرية ونحيلة، بفستان منقوش وقصير وشعر كخواتم نحاسية.
سيركب الولد الخجول وأمه الجميلة حنطوراً، وستركب البنت النحيلة وأبوها حنطوراً آخر، وستلعب المصادفة دوراً جديداً عندما يلتقي الحنطوران في شارع واحد يقال له: شارع بسادة.
سيكون أحدهما قد أفرغ حمولته بالفعل، وراح يستدير؛ ليعود إلي المحطة، وأثناء ذلك يلتقي الحطنوران؛ فيصهل جواد أحدهما على فرسة الآخر، لكن الولد الخجول لن يري البنت النحيلة إلا بعد بضعة أيام؛ وهما في طريق المدرسة.
ساعتها سيعرف أن البنت التي أشعلت خياله اسمها زينب سليمان، وأن لامبرر لوجودها ـ أصلا ً ـ إلا لتشعل خياله. إنها غريبة مثله، تعيش مع جدتها فلا يُسمع لهما حس. وستعرف هي أن وروده وأغانيه التي يدسها في حقيبتها المدرسية، ليست سوى دليل على حب مستحيل، أما الشيء الذي لن يعرفاه أبداً، أن كل منهما جاء في نفس القطار. فليس ثمة شاهد علي هذا سوى حصان بنّي له غرة بيضاء بين عينيه. صاحبه لم يطلق عليه اسماً، لكنه اعتاد يقول له: يا نجس.
كم سنة عاشها هذا الحصان ليكون شاهداً علي ليلتنا تلك؟ أو ليقف هكذا بجوار النار في انتظار غريب، يقول له الناس: يا حاج وهدان.
الولد
الذي يرسم الوجوه في حجرة مهجورة، كان مرصودًا للعشق، وممسوساً بالجمال
الولد الذي جاء بصحبة أمه، بدينًا وخجولاً كان، بحقيبة صغيرة من الورق المقوَّى، تكفي لاحتواء أشيائه كلها، فهو بسيط جداً حتى أنه لا يطلب من الدنيا شيئاً، سوى أن يبقى في حضن أمه وقتاً آخر، أن تقبّله من شفتيْه الممتلئتين قبل أن تلقي وصاياها:
ـ عليك أن تأكل جيداً، وتذاكر دروسك أولاً بأول، أن تسمع كلام الجدة ولا تتعبها.
في العيد سوف تأتي لزيارته، وتسعده بحذاء جديد، وبنطال طويل كما يرغب، وصندوق الحذاء سوف تُهيِّئُه لتضع فيه الكعك الذي يحبه.
ذات صباح استيقظ، فوجد نفسه وحيداً مع جدته. بكى نهاراً كاملاً. كان يعرف ما للمسافات البعيدة من قسوة. غير أنه كان من الحيطة بحيث احتفظ بعالمه داخله؛ فرسم شوارع، وبنى بيوتاً وجعل ناساً يسكنونها.
صعد سلماً خشبياً، ووجد فوق سطح البيت حجرة وفرناً وأشياء أخرى لا يعرف من أتي بها هنا. أخيراً جلس، وكتب رسالته الأولى إلى أمه.
قال لهـا: لا تنسيْ مجلاتي، وألبوم صُوري الذي تحت المرتبة.
كان بريئاً؛ فصدّق أنها ستزوره في العيد كما قالت. كان بريئاً؛ فلم يصدق أنها ستنساه لسبع سنين، بعدها عادت؛ فرأته شابّاً غريباً، وفي صوته شجن؛ فأدركت أن البنطال الذي اشترته لم يعد على مقاسه.
أما هو فكان قد رسم صورتها في خياله، ثم ثبَّتها جيداً، حتى لا يغيرها الزمن. سيظل يذكر أن فستانها كان أخضرَ، والحزامَ الأحمرَ كان مشدوداً على خصرها النحيل، ووردةً حمراءَ ـ أيضاً ـ علي صدرها تتفتّح في كل يوم ورقة، وحين تنحني؛ لتقبّله؛ فإن شعرها الأسود المضمَّخَ بزيت الياسَمين ينزلق عن كتفيها؛ ليلامس وردتها.
قال أيضاً في رسالته الأخيرة: أتمني لو تموت الجَدّة، فرائحة فمها نتنةٌ، وأصابعها الناشفة لا تتوقف عن اللعب بشعري، وحين تأخذني في حضنها، أشم رائحة العجين الحامض.
كتب الولد رسالته الأخيرة وبلَّلها بدموعه، ربما يحنن قلب أمه.
هدَّه الشوق؛ فدخل عالمه، ونام.
كلما هده الشوق، نام، وحلم بشوارع وبيوت وناس يسكنونها.
(يَحسُنُ للأولاد في سِنِّكَ أن يصادقوا أحدًا. أنت والله غريب، لا تبقَ محدِّقاً هكذا في صورك التي ترسمها في حجرة الخبيز، ثم أنها حجرة مهجورة، وربما محويّة يسكن فيها شيطان).
خاف الولد من الصوت الذي حادثه. تلفّت يميناً ويساراً. لم ير أحداً. كان الصوت هادئاً وحنوناً، شبيها بصوت أمه، غير أن الولد كان خائفا فعلا ـ حتى إنه ارتعد وتفصَّد عرقاً، وسمع كطنين النحل في أذنيه ـ جرى إلي جدته، وارتمي في حضنها؛ فوضعت يدها على رأسه، وقرأت في سرِّها شيئًا حتى تثاءبت، وفي تلك اللحظة؛ لمحت الملاك الذي يقبّلها، وهى نائمة، يفر من الشباك؛ فأدركت أنه جاء هذه المرة من أجل الولد. وربما سيصير صديقا له، فقالت في سرها: يا لك من ملاك عيّل.
هذا الولد صادق الملاك فعلاً، وساعده على ترتيب حجرة الخبيز؛ فهيأها له على قد خياله، ثم أوقد في سقفها الشموس والأقمار، وأوحى له أن احفُر الوجوهَ على حوائط الطين، وحادثْها؛ فإذا أُعجبَ بها الله سيمنحها أرواحاً ملونة.
رسم الولد وجه أمه. جعله جميلا كما يظن، ووضع بجانب فمها "حسنةً". هزّ الملاك رأسه وقال: إنها ليست كذلك.
قال الولد: ولكني أحبها كذلك.
فقال الملاك: ولكنك لا تحبها بما يكفي؛ لتصير حقيقةً.
بكي الولد، حتى أبكي الملاك معه.
الجدة تقول: إني أشبه أمي.. أنكر الجميل مثلها، وأعضُّ اليد التي تطعمني، وهى التي أخبرتني يوماً أن دودة نجسة في فرْج أمي تلتهم الرجال. هذه الدودة هى التي قتلت أبي. مصَّتْه، حتى جف على عوده.
قالت: انْسَ أُمَّكَ.. اعتبِرْها ماتت.
أمي تجلس على ركبتيها؛ لينحسر الفستان قليلاً، وتبقي وجهها الجميل قريباً من وجهي.
ـ عندما تكبَر ستعرف. فقط لا تنس أنك ابني. ابني أنا. أنظر.
عندئذ ترفع حريرها. سيفوح عطر، وتطير فراشات، وتسطع شموس، تَبْرُقُ لآلئُ صغيرةٌ تخطف الأبصار، ويسمع خريراً بعيداً وغناءً.
ـ هذا جرح بعرض البطن. جاء إثر ولادة قيصرية، والرجل الذي رأيته في سريري أحبني، كما أحبني أبوك وأكثر.
أنظرُ فأجد إخوة كثيرين لا أعرفهم.
الولد الخجول أصبح الآن رجلاً؛ فقدر على مواجهة الموت. دخل المغسلة، وأشِرف بنفسه على وضع اللمسات الأخيرة في لوحته الأولي، وعندما انتهى، تحسس بأصابعه جُرحاً طويلاً بعرض البطن؛ فوجده ما زال ملتهباً وناتئاً.
في الجنازة سيصافح امرأة خمريةً ونحيلةً. سيذكِّرها بأيام المدرسة ودروس الحصص الخصوصية، ورحلة القناطر في شم النسيم، وورود وأغانٍ دسَّها في حقيبتها المدرسية، لكنه لن يكاشفها بلحظات اشتهائه الأولى لها. فيما بعد سيتعلم كيف يكتب ذلك على الورق، غير أنه لم يحدث أن قرأته ولو لمرة واحدة.وكأنها، كانت موجودة ـ فقط ـ لتشعل خياله.
الولد الذي جاء بصحبة أمه، بدينًا وخجولاً كان، حتى إنه لا يقدر على رفع عينيه في الأولاد كلما راح أو جاء، وحقيبة كتبه تتأرجح على كتفه الصغير بحمل ثقيل. الأولاد الذين كلما رأوه، جروا خلفه يهتفون بحماس كأنهم يحرِّرون أنفسهم من الموت:
ـ ابن الحلوة أَهُهْ.
الولد الذي أصبح رجلاً، لا يدري كيف فقد ألبوم صوره الأولى؟.
كانت صوراً رسمها بنفسه لناس طيبين تملأ البراءة قلوبهم، لولا أن الشيطان كان "يوزّهم"؛ فيمشون في مُدنه؛ ويتسكعون في شوارعها بحثاً عن غواية، فراح يمشي معهم في الطرقات والشوارع القديمة. يبحث عن وجه يعرفه، أو جمال قديم في وجه امرأة مرت به.
كان مرصوداً للعشق، وممسوساً بالجمال.
فمن يحرِّر نفسه من الجمال؟.
الشيطان..
الذي كان كامنًاً لعليّ و"مَارْسا" تحت السرير
كانت مدرستُنا في آخر حدود المدينة، وكنا نحب "أبْلَةْ ذكية"، ونكره الأستاذ رزق الله. كنا أصغر من أن ندرك أن الثعالب حيواناتٌ ماكرة هكذا؛ فنهرب من حصة الأستاذ رزق الله، ولا نعود للبيت إلا متأخرين. نمشي حتى البراري. هناك بعيداً في أرض أبي خليفة. هناك لن يرانا أحد في أرض تغطيها الحلفاء.
الملائكة ـ طبعا ـ ستبقى في المدرسة ترافق الذين يخافون الأستاذ رزق الله، وتنفخ في كفوفهم الصغيرة بعد كل عصا، وقد تميل على أذن الواحد منهم، وتُسِِرُّ له إجابةً كانت بعيدة.
أما الشيطان فهو الذي يدلنا على جحور الثعالب الصغيرة. حيث خرجت أمهاتهم للسوق. حينئذ نطرق أبوابها ونقول:
ـ نحن أمهاتكم يا صغار؛ فاخرجوا ولا تخشوا شيئاً.
الشيطان هذا هو الذي نبهنا ـ بعد ذلك ـ إلى أن الشمس مثيرة كزينب سليمان. وحين قبس منها، ومرّرها في أصلابنا؛ نبت في عاناتنا شَعر، ثم دفع في جيب أحدنا صوراً لنساء ورجال عرايا وفي أوضاع يخجل الواحد من وصفها، قال:
ـ من منكم يملك عضواً أكبر؟. من منكم أكثر مَنيَّاً من أخيه؟. اخلعوا سراويلَكم يا صغاري. اخلعوها، ولا تخافوا الملائكة؛ فهى اليوم مشغولة عنكم.
الشيطان هذا كان كامناً لعلي ومارسا تحت السرير. وهو الذي قال لناشد على كل شيء، ودلَّهُ على سر جرح في شفة عليّ، والخدوش الطويلة في ظهره، وشرب معه ثلاث زجاجات عند شنودة، وشنودة أيضاً شرب معهما، وكان في الحقيقة مندهشاً. فناشد لا يشرب نهاراً، والشيطان أصغر كثيراً من أن يشرب كل هذا.
قال الشيطان، وهو واقف يتطوح: سيكون هناك دم.
الشياطين يا جدة لا تحفظ الأسرار؛ فليست لها آبار عميقة، وهى التي ترسل الريح في ذيل فستان زينب القصير أصلاً، وتفر صفحات كتاب الجغرافيا؛ فلا تفهم زينب منها شيئاً، وتوسوس لجدتها في تلك الساعة، أن اذهبي يا زينب لأم علي، واطلبي منها غربالاً ضيق الثقوب لا تنفذ منه ولا حتى العفاريت. وهو الذي أشعل الفرن فجراً، وبثَّ في جسد زينب صهدًا لذيذًا، وهمس في أذنها:
ـ أن دعي أصابع علي تتسلل تحت فستانك.
هكذا تمسُّ النار فخذيْها مسّاً رقيقًا ومرتعشًا، فلا تقول زينب شيئاً، فقط تغمض عينيها وتختلج لما تصعد النار إلى شفتيها.ومن يومها صارت، تشعل القلوب كلما مرت.
هل أخرسْتَها يا أيها الشيطان؟
أم تلك رائحة سعف النخيل الطري، عطناً وفواحاً بأنفاسك ياعلي، حتى لتحسُّها زينب حارة وذكورية؟!.
الشيطان هذا شاطر وابن وسخة. ظل يضحك طوال اليوم، فيما كانت الملائكة في انتظار زينب تطلع السلم، وتطوف على حواف سور سطح البيت؛ لتمسك بها في اللحظة الأخيرة، قبل أن تطير في الهواء. كانت خفيفة كريشة في جناح.
قالت الجدة للولد الخجول: أنت دائما تتخيل الحكايات، وتصدقها. كبرت الآن، وخطَّ لك شنب فلا تكذب، الشياطين لا تفعل كل هذا. الشياطين توسوس فقط. وعلي ولد طيب يمشي سرحان ورخياً، فلا تَحْكِ للناس هذه الأكاذيب.
العِفريت
الذي طارد امرأة تطقطق النار لما تراها
لكني سأحكي لكم عن بنت اسمها "مارْسا" بضفيرة واحدة، وعينيْن بنفسجيّتيْن، يفاجئها الحيض، وهى على دكة المدرسة.
تجلس، والبنات ينطلقن في أعقاب رواحها دون أن يلمسن رخاوتها. هذه البنت صارت امرأة تطقطق النار لما تراها.
ذات يوم، ذهبت إلى دكان زوجها، تحمل في يدها سلة أكل وفاكهة قليلة.
مارسا زوجة طيبة ترتبك كلما رأت رجلا وتحمرُّ وجنتاها، غير أنها في ذلك اليوم رأت عِفريتَها للمرة الأولى، فظل يطاردها خمسين شهرًا قمريًّا، وتروغ منه في حدائق روحها، حتى إذا فاجأها يوماً على سلم البيت؛ كان القمر في اكتماله، ويسقط ضوءاً رائقًا من فتحة صغيرة في جدار.
مساحة من الضوء تكفى؛ ليتألق بنفسج العينين، لما رأت ظله يلامس ظلها، ثم يحجب كلٌّ منهما الآخر.
لحظة كتلك التي أسميتُها لحظة الصمت المباغت، صمت يليق بإنصات دقيق؛ لتسمع غناءً وحشيّاً وسحيقاً.
في لحظة كهذه تراخت وقالت: ادْخُلْني يا علي؛ فدخلها غير هيَّاب، ولا مقتحم، دخولاً هيناً يليق بابنة العشرين.
ولما يزيد عن عشرين أخرى، ظلت تترقب اكتمال القمر فوق صحن الدير الذي حَبستْ فيه جسدَها؛ ليدخلها في أول الليل، ويغادرها في الصباح بعد أن يشعل شمسها، حتى خافت يوماً ألاّ يعود؛ فأحكمت سدادتها عليه، واحتفظت له بمرة أخيرة تأتيها مفاجئة كالموت فلا يمكنها أن تقاوم.
هل كانت تحتاج لمؤامرة من نوع كوني تبدأ بتوقف دورة القمر؛ لتخرج عفريتها لمرة أخيرة؟
ثم ترقب من فتحة جدارها اكتمال القمر، وتتخيل أنها في ركن سلم بيتها القديم تقبع لعله يعود؟!.
يا للمرأة التي تنسج أسطورتها عبر دخان ونار..
كان عليها أن تغسل عن جسدها عشرين عاماً من الوجع القديم بضوء شمعة ودخان، وظلال جسد وماء، وموسيقى ذات طبول وحشية، وفتى أسمر في قاع الوادي يلوح لها من بعيد.
الثعالب
وكيف تخدع الطيور الساذَجة حتى لَتظنُّه ميّتاً
ظل يحفر الوجوه على حوائط الطين، ثم يتحدث إليها. بعد أن يعجب بها الله يمنحها أرواحاً ملوّنة، لكنه لا يمنحها مصائر أخرى غير تلك التي حفرها في لوح مسطور.
فمثلاً: ذلك الفتى الذي يمشي في السوق، ويصدم مؤخرته بالفلاحين في الزحام لـه روح سمراء ونحيلة، والفلاحون لفرط سذاجتهم يعتذرون له، فيما يضحك الخبيرون بالسوق وحيل خولات البندر، وربما يشيعونه ببعض السباب والبصق. يغالون في ذلك، ويلتفتون حولهم؛ ليتأكدوا أن أحدًا رآهم وهم يفعلون ذلك. سيبدو ذلك مجرد إعلان أنهم أبرياء وليس لهم في الوساخة.
سيتبادلون معاً ابتسامات وغمزات لها معنى، وسيتحدثون من فوق ظهور الحمير وهم في طريق عودتهم، وسيشعر الواحد منهم بالفخر؛ وهو يحكي كيف فهمها وهي طايرة. إنهم مجهدون، وليس لديهم رغبة في أحاديث طويلة، ومع ذلك، يمكنهم التعليق. مجرد التعليق، كأن يقول أحدهم: رجالة آخر زمن.
لكن الأكثر شباباً منهم أو أولئك الذين لم تصبهم البلهارْسِيا بأورام البروستاتا؛ ستدق قلوبهم.
إنهم خائفون.
ويتمنون لحظة، لو أن الله غفل عنهم.
غير أن الفتى المعذَّب لا يَعدَم واحداً على الأقل أفلت من عيون الملائكة، أو زاغ منهم لبعض الوقت. هو لا يفكر أن يذهب به إلى أرض أبي خليفة، فالعيال الشياطين يلعبون هناك طول النهار، وصبيان مدرسة الصنايع يعرفونه جيداً، وليس بوسعه أن يصحبه إلى المقابر كالمرة السابقة، إذ إن حارس الجبانات هناك، ذلك العجوز المقزز يعرفه جيداً، ولن يفوت تلك الفرصة، وهو مهما كان، يكره أن تمس مؤخرته يد اعتادت تجوس في جثث الموتى.
لماذا هذه الأشياء البشعة الآن يا ولد؟
إنها بشعة ومخجلة، وسوف يحاسبك الله أن ذكرتها للناس.
ولو عرف أنك سوف لا تنساها لما لوّن أرواحها.
يا الله!
هل الولد شرير هكذا، حتى ليعجز قلبه عن الخفق إلا لصور يرسمها الشيطان؟!
فتلك المرأة التي تخلع ملابسها في الشمس، وتفرد شعرها، كثيراً قالوا إنها تستقبل الغرباء؛ ليفعلوا في بيتها أشياء يخجل الواحد من ذكرها.
وفتى يسير ـ ويـا للغرابة ـ في السوق بين الفلاحين، رافعاً ذيل جلبابه كاشفاً عن مؤخرته بلا خجل!
والواحد لا يعرف كيف يمكن لأشياء قبيحة أن تحيَا هكذا في نفوس البشر؟!
ثم هذا الولد الذي اكتشف المكان، وفيه ضاجع صوفيا لورين، واحتفظ بصور لفتيات عاريات، وأنصاف سجائر، وأشياء أخرى كثيرة وخاصة، من يراه مستلقياً على ظهره هكذا، وعيناه للسماء، متوسداً كومة حطب الخبيز، يظنه موقد الشموس والأقمار، غير أنه في تلك اللحظة، يفكر في الثعالب، كيف تخدع الطيور الساذجة، حتى لتظنه ميتَا بالفعل، ولولا أنك رحيم جدّاً؛ ما خلقت لها أجنحة.
زينب سليمان بنت رومانسية والله، تعشق الفراشات وطيور السما، خمرية ونحيلة، لها شفتان تنفرجان برخاوة دافئة كأنما تدعوك لتقبيلها في كل وقت، غير أنها رومانسية فعلاً حتى إنها لن ترى الشهوة في عيني الولد، وهو يرسمها عارية، وربما لا تعرف أن الثعالب ماكرة وشريرة؛ فتصعد درجات السلم الخشبي؛ لتحط في مكان عال فوق سطح بيتها، وتمشي على الحواف، تصطاد الفراشات وتطالع دروس الجغرافيا.
عندما تجيئها الريح من أماكنها السرية، وتطيِّر ذيل فستانها الواسع والقصير أصلاً، وتكشف كل الشموس والأقمار، يكون هذا من فعل الشيطان، لكنها بنت رومانسية والله. صحيح هي شهية، ولكن بلا وهج كزهرة قرنفل، ومباغتة بلا ارتعاش يسكن جسمها، ثم إنها لا تشبه صوفيا في شيء، لكن الشيطان هيأ للولد ذلك؛ حتى يعيش في الغواية. فنهداها طالعان بلا تفجر، وما في عينيها حزن وليس شهوة، ولو انسحبَ الآن إلى حجرته المحوية، ورأى صورتها التي علمه الشيطان كيف يرسمها؛ لتأكد له ما أقول.
النهود لها إيماءاتها الخاصة جداً ياولد. حتى إنها لا تتشابه في الصورالتى ترسمها، وجميعها تغمرك بالشهوة، فضع "الْمَنقَدَ" بين فخذيك، فإذا زلزلتك سعفة الوهج، تفكر طويلاً في مصير حيواناتك المنوية حين تقفز في النار.
قال الملاك وهو ينظر في وجه الولد النائم:
يا الله! لم كتبت علىَّ أن أرعى ولداً بهذا الشقاء؟!.
أنا نفسي أخاف أن يرسمني بعين واحدة، أو يضع على رأسي قرنين؛ فأصير شيطانا.
الغانية العجوز
التي صارت عَرّافة لعشاقها القدامى، فيدفعون لها لقاء حكايات قديمة تخبئها دوماً في فنجانها
رسمها بقلمه الرصاص فوق ورق "البريستول" الذي اشتراه خصيصاً من مكتبة المعاهدة. امرأة ورجل يتحادثان، وفتى نحيل بساقين مكشوفتين ينام بجوارهما، جعلهما في مساحة صغيرة من الظل، تحت مظلة خيش لا أكثر. تتوه بين عشرات المظلات في السوق. إنها ـ في الحقيقة ـ مميزة بطريقة ما. فلا أحد من رجال السوق يخطئها. النسوان فقط يتجنّبْن المرور بجوارها حتى لا يطولُهن شيء من لسانها الطويل. ثم جعل خلفية المشهد غائمة، كأنه عفار تسبح فيه رؤوس حمير وبقر وبشر.
هذا يعني أن السوق الذي طلب منه مدرس الرسم أن يرسمه لا وجود له من غير سيدة آلاجا.
الملاك الذي تعرّف عليه يوم كتب رسالته الأخيرة لأمه قال: والله أنا لا أفهمك يا ولد. كيف ترسم وجهاً فيه كل هذا القبح، وتظنه جميلاً؟.
حتى النساء لا يقلن عنها إلا سيدة القحبة.
الرجل ذّو الشارب الكبير الجالس يحادثها هذا، يقسم أن وجه سيدة كان أجمل من وجوه الخواجات، وأن ريقها مسكرٌ، وريحها معنبرٌ، والزمان هذا غادر وابن وسخة.
ـ اسألوني أنا عن آلاجا.
هذا الرجل اعتاد يجلس في خص البوظة ساعة أو ساعتين. هناك سيسمع شيئاً من أخبار السوق، ويرى وجوها لتجار قدامى يدينون له ببعض النقود. هو لا يطالبهم بشيء. فقط يشرب معهم قرعتين أو ثلاثاً حتى يُذهب ما بنفسه من سأم، وإذا ما انتهى من قرعته يلعق شفتيه بلسان طويل، ويمسح شاربه ببطن كفه، يغمز بعينه ويقول: يا سلام.. حلاوة رباني بنت الكلب.
يقف بجلباب أزرق يحدق بنظرة طويلة من باب الخص. نظرة مسكونة بوجع وحنين وذكريات تطير كعصافير رمادية. يوجهها مباشرة في اتجاه مظلة الخيش التي تجلس تحتها سيدة. يمد يده في السيالة؛ فتشخلل النقود قبل أن يخرجها ويمدها للواقف وراء البرميل. يجول بخاطره أن يقول بصوت عالٍ: لا شيء يبقى على حاله. فقط يتجشأ ويتحرك في اتجاه الباب. لكن لحنًا رتيبًا يتردد في نفسه بكلمات لها طعم الرثاء:
دنيا غرورة وكدّابة
زيّ السواقي القلاّبة
صوت ـ كهذا ـ يأتي رخواً وممطوطاً وخافتاً؛ فيتوه في أصوات الحمير والجمال والبقر والبشر التي تجعر في السوق.
هي ـ أيضاً ـ لا تبارح مظلتها في ساحة المواشي، تمر عليها؛ فتحيطها بالعفار والبول والروث؛ حتى يعفّ عليها الذباب، فتلعن أصحابها واحدًا واحداً. ربما تتحرك للوراء قليلاً، تتحرك ولا تجاوز مساحة الظل الصغيرة التي تصنعها مظلة الخيش والجريد.
الآن تقول لحسونة: إن يوم السوق هذا يوم خير فعلاً.
فهؤلاء عشاقها القدامى، تجار المواشي الذين ضاجعوها واحداً واحداً، يجيئون من كل البلاد، يحطون رحلهم على المرفأ المهيأ للغرباء. صحيح هم الآن عجائز مثلها، لكنهم إذا جاءوا للسوق لا يبخلون عليها ـ أبداًً ـ بما قُسم: هيييييه... لا شيء يبقى على حاله.
قد يجلس الواحد منهم بجوارها يرتاح في الظل قليلاً، يدخن سيجارته فيما تعد له فنجان القهوة على "منقد" لا تنطفي النار فيه أبداً، وعندما ينتهي من فنجانه يقلبه في الطبق ويقول:
ـ بختي يا سيدة.
ـ بختك من بختي يا خويا.
هذه عبارة تقليدية ترد بها قبل أن تمسك الفنجان، أو حتى تبصّ فيه. سيجلس صامتاً وكأن مصيره يتحدد الآن.
ـ حملك تقيل يا أبو العيال.
سيدفعون لقاء حكايات قديمة تخبئها دوماً في فنجانها.
يتنفس الواحد منهم بعمق؛ فتطير روائح بُنّ ودخان، وتطير أفكار وذكريات عن الأيام الخوالي.
سيبدأون ـ حتماً ـ بشيء من التأسي، ولكن حتى الذكريات الأليمة ستبدو من بعيد شيئاً طريفاً وربما مضحكاً. وفي غمرة نشوتها تغني بصوتها الذي ما زال صافياً:
يا سي عنتر يا غالي ..ياللي شاغللي بالي..
قد تحتاج فقط لتغير اسم الواحد منهم لكن الأغنية ذاتها لا تتغير. فالأغاني باقية، وصالحة لكل الأسماء، وإذا دمعت عيونهم، أو اهتزت رأس الواحد منهم، فإنها قد تنهي الأغنية بكلمات جنسية وقبيحة، وتفعل أشياء يخجل الإنسان من ذكرها. تغنج، وتلهث، أو تمص شفتيها. حتى يضحك أبو العيال ويلقي بحمله عن كتفيه.
وهذا كله لا شيء. فبإمكانها أن تمد يدها بين فخذي الواحد منهم. لكن حتى هذا لا يمكنه إيقاظ الحواس القديمة. فلا شيء يكون صوراً. فقط معان مجردة، وهواجس غامضة تسكنهم كمزحة قديمة، تثير فيهم الضحك بقهقهات داكنة، أو تشعرهم بالألم في مواضع حساسة.
سيدفعون الآن بسخاء، ويعودون إلى بيوتهم بأكتاف خفيفة.
هم الآن أكثر كرماً حتى من ذي قبل، من تلك الأيام التي كانوا يدفعون فيها لقاء أشياء حية، وهذا يمنحها الفرصة أن تشتري شيئاً قبل انقضاء السوق. عقداً من الخرز الملون، أو منديل رأس مطرزاً بخرج النجف، أو زجاجة من عطر الحبايب. بالتأكيد ستشتري حمل برسيم أو دراوية لأرنبين وليفين في بيتها، وربما تشتري لحسونة رغيفين وبعض الفلافل.
كالعادة سيقول حسونة:
ـ خيرك كتير يا سيدة.
ـ من عرق جبيني يا روح أمك.
ضحكت، فبانت أسنانها الذهبية، وضحك، وأزاح سلة السوداني في الشمس قليلاً؛ ليبقي ساخناً، ويعجب الزبائن. جلس في مساحة الظل الصغيرة بجوارها. مدد ساقيه، ورفع ذيل جلبابه قليلاً؛ فظهرت ساقان ناحلتان بعروق زرقاء نافرة.
هى بنفسها اشترت له كيلة فول سوداني، وأخذت سلة صغيرة من تاجر مقاطف أعجبتها طلعته، حتى إنها تمنت لو أنها لقيته وهى أصغر من هذا.
قالت له: حسونة ولد يتيم يسعي على رزقه.
فرد التاجر قرشين كانت قد دفعتهما وقال: ادعي لنا يا خالة.
تدعو له فعلاً، وكأن ملاكاً يقف خلفها يسجل ما تقول.
ما أحدثه الله من تعديلات مفاجئة،
يمكن احتواؤها في نفق صغير
ليس كمن يرسم على جدار أو لوحة. الولد البدين يرسم بالكلمات مشهدًا، سيجعله شيئاً ساكناً في مساحة من الزمن، وربما عالقاً هناك.
كل شيء في النفق ليس كعادته.
ضوءُ النار يرسم خيالات لجيادٍ وحناطيرَ وبشر تتراقص في دفء، وتتداخل على جدران غامت معالمها. سعلات وحمحمات وهزات رؤوس تشخلل. التماعات لبقع مياه ومشغولات نحاس تضوي في السروج وعلى جوانب الحناطير.
إنها احتفالات العام الجديد ـ رغم كل شىء ـ تعلن الفرح.
فوق النفق مشهد آخر يتشكل في إيقاع من الوحشة. غرباء تركوا زوجاتهم متدثرات بطاطين وألحفة، يسترجعن لحظات النشوة الأخيرة. بطاطين وألحفة تحفظ روائح المضاجعات العاجلة لأطول وقت ممكن، فيما كان الرجال ـ في تلك اللحظة ـ يواجهون البرد علي رصيف المحطة بحقائب ملأى برائحة البيوت، ويدفئون أنفسهم بخطوات نشطة على سلم الجرانيت الوردي.
لم يعد أحد من الغرباء في النفق. كلهم خرجوا. ركبوا الحناطير، وهم الآن في الطريق إلي بيوتهم، النفق خال إلا من نار كفت عن الطقطقة، وبدأت تترنح، وحنطور وحيد يقف بجوارها.
فوق الحنطور رجب العربجي يحاول يطرد نعاساً بهزة من رأسه تعلمها من حصانه. سيشعر قليلاً بالتوتر، ثم يثبت عينيه على سلم الجرانيت الوردي، ربما يظهر الرجل الذي ينتظره، فيناديه مثل كل الناس: يا حاج وهدان.
الآن ليس على رصيف المحطة سوى هذا الرجل. إنه متدثر في عباءة سوداء مقصّبة. يجلس على مقعد مواجه لعربة الدرجة الأولى. يدخن في صمت.
كم من الوقت مر عليه وهو يجلس هكذا؟!.
وقتٌ كافٍ ليشعر الذين دهسهم القطارـ يوماـ بالقلق، خشية أن يبقى طويلاً، فيفسد خطتهم الجديدة في سرقة بندقية الشرطي السمين الذي لم يعد يصلح سوي لحراسة الفلنكات.
هكذا قال له مأمور المركز، الرجل الذي فقد ابنته العام الماضي، عندما أطلق عليها زوجها ـ ضابط المباحث ـ ثلاث رصاصات لأسباب غامضة. فصار المأمور "يلوّش" في العساكر والضباط كالمجنون.
الذين دهسهم القطار يوماً، لن يتمكنوا أبداً من سرقة بندقية الشرطي السمين. الحقيقة أنهم فقدوا قدرتهم على خداع البشر يوم دهسهم القطار، وهو ـ مهما كان سميناً وغبيّاً ـ سيحتفظ بقدر من الحرص اللازم لشرطي أفنى عمره في حراسة الشوارع الخاوية.
إنه وقت كاف ليستمتع الحصان البني بعادته السرية سعياً وراء لحظة قذف هائلة، أو وقت كاف ليخلو النفق تماماً، فيشعر رجب بأنها ليلة غير عادية فعلاً، وفي تلك اللحظة التي فكر أن يطلع سلم الجرانيت الوردي ليرى بنفسه إن كان ثمة أحد على رصيف المحطة؛ يلمح وهدان يتهادى في خطوته فيقول في نفسه: عادي.. كل شيء يمضي كالمعتاد. إنها ليلة عادية.
غير أن وهدان لن يضطر ـ هذه المرة ـ لتدقيق النظر، أو التحديق في وجوه العربجية وحناطيرهم المتشابهة، فالنفق خالٍ إلا من حنطور وحيد، ومع ذلك سوف يندهش وهدان قليلاً عندما يرى الحنطور في منتصف النفق تقريباً والنار تخبو بالقرب منه. سيفهم بالتأكيد، أن كل ما أحدثه الله من تعديلات مفاجئة، يمكن احتواؤها في نفق صغير كهذا، لكنه سيفكر طبعاً، أن الطريق ستكون موحلةً بما يليق بليلة أخيرة في عام مضى، عندئذ سيتمنى ـ مثل الآخرين ـ أن بيتاً طينياً في الدرب الجديد يكون قد سقط هذه المرة.
يستطيع رجب العربجي أن يميز الحاج وهدان من بين ألف زبون.
مشيته المترنحة، جسده المكتنز، عباءته السوداء المقصّبة، نظارته الذهبية، وجهه الوردي وشاربه الأصفر وعيناه الرماديتان.
كل هذه الألوان يستطيع رجب أن يميزها حتى في ضوء المصباح الوحيد الذي يختنق في ظلمة النفق. سيفعل ذلك نتيجة لتدريب مستمر لعينيه عبر ليال عديدة.
يحاول رجب أن يتذكر منذ متى وهو يأتي إلى هنا في هذا الموعد ليكون في انتظار الحاج.. يااااه.. عُمْر.
أما الذي يسميه الناس "الحاج وهدان"؛ فعليه أن يدقق كثيراً ليميز وجه رجب، فوجوه العربجية وحناطيرهم وحتى جيادهم تتشابه في عيون رجل يرى نفسه غريبا ليس عن بلدته وحسب، بل عن اسمه وجسمه أيضاً. من أجل هذا سيعلن رجب عن نفسه حتى يهتدي إليه الحاج. يسعل، أو يتثاءب بصوت عال، أو ينهر حصانه بلا سبب.
عندئذ سينتبه وهدان ويتجه إليه. وقبل أن يركب سيقول بصوته الجميل: سالخير يا رجب.
ثم يبتسم تلك الابتسامة المغوية التي كلما رأتها أمينة الدكر تحركت فيها الشهوة وشعرت برعشة بين فخذيها.
عندما سيمسك وهدان بمقبض الحنطور النحاسي؛ لا بد سيميل الحنطور قليلاً، وعندئذ سيدرك الحصان ـ بخبرة لا يستهان بها ـ أن زبونا سيركب، وأن عليه أن يتحرك الآن، غير أن الليلة، لا شيء يمضي كالمعتاد. سيتلكأ الحصان قليلاً، وسيضطر رجب أن ينهره.
ـ خلّص بقى يا نجس.
في الحقيقة خبرة حصان شيء هين، وحواسه ـ أيضاً ـ قد ترتبك، لأن ما سوف يحدث الليلة، بل كل شيء في المشهد لن يمضي كالمعتاد كأنه رسم في لوحة بيد شيطان. والخبيرون بحكمة الله يدركون جيداً كم هو مبدع وجميل، وأن لا شيء يتكرر في مملكته تماماً. فبوسعه ـ سبحانه ـ أن يضع لمساته الرهيفة على كل شيء، وفي كل وقت. فمثلاً: يمكن لاثنين من العربجية أن يتشاجرا على زبون فيصير دم، أو أن تسقط حقيبة أحد المسافرين لسبب أو لآخر ويعاونه العربجية في جمع محتوياتها المخجلة، أو أن شابّاً مجنداً لم يتمرن كفاية علي السير بالبيادة ينزلق على سلم الجرانيت الوردي فيضحك الناس.
أشياء مثل هذه تحدث بالتأكيد، فقط لتؤكد أن الله مُحكم قبضته على كل شيء. أشياء كهذه ستحدث حتى لو أرسل كلباً ليعبر النفق بلا معنى يذكر، يعبر النفق وحسب.
الليلة، أشياء كثيرة مثل هذه ستحدث. ربما لأنها الليلة الأخيرة من هذا العام. فالله ـ في الصباح ـ أنزل مطراً غزيراً، حتى تذكر الناس بيتاً طينياً في الدرب الجديد؛ فقالوا: هذه المرة لا بد واقع لا محالة. كلما أمطرت يقولون هذا، لكنه دائما يفلت من سقطة أخيرة كما يتمنون.
الآن.. ثمة بقع مياه تتجمع على جانبي النفق، وكان يمكن أن نراها تلمع تحت ضوء المصباح الوحيد لولا أن شيطاناً مر منذ ساعتين ونفخ فيه فأطفأه وأراحه من اشتعال عبثي. ولأن ريحاً باردة تتجول في الشوارع منذ المساء؛ اضطر العربجية أن يدخلوا بحناطيرهم إلى النفق، ثم إنهم أشعلوا ناراً، فالناس ـ أيضاً ـ يمكنها أن تتحايل على تصاريف السماء.
هكذا.. يعود النفق مضاءً ودافئاً رغم كل التغيرات التي أحدثها الله وأنفق فيها نهاراً كاملاً. حتى إن الجياد شعرت بامتنان، فطأطأت رؤوسها ونعست في الدفْء. أما حصان رجب ـ وكان أقربهم للنار ـ فكان منتشياً جداً، حتى إن عضوه تمدّد فراح يضرب به بطنه في حماس. نشوة كهذه لا يدركها سوى عربجي أدرك بخبرته، أن حكمة الله تتجلى في قوة الطبيعة الحية، ثم إنها دليل واضح على أنه رحيم بمخلوقاته. ورغم ذلك لن يتوقف عن أن ينادي حصانه: يا نجس. والحصان نفسه سيقبل هذا في صمت وربما في خجل، لكنه سيتحرك فعلا بمجرد أن يقول رجب: خلص بقى يا نجس.
عندما أمسك الشيطان بيد عليّ،
ووضعها على ثدي "مَارْسَا" الذي فوق القلب
لا أذكر الآن مَن قال: الطيور لها روح أيضاً يا أبي.
ربما كانت تلك المغنية السوداء. كانت تقود خلفها الرجال والنساء عرايا، وتقبِّل امرأة من شفتيها وتغمض عينيها، ومع ذلك كانت قبيحة فعلاً، وأسنانها بارزة، حتى إن الأب ـ أيضاً ـ بكى، ومشى وسط الأجساد العارية.
هكذا "مَارْسَا" كانت جميلة وطيبة، وتحتفظ بين نهديها بصليب كبير، ولم تفكـر لحظة أنها سوف تقف أمام قسيسها وتردد وراءه:
إن اعترفنا بخطايانا؛ فهو أمين وعادل.
الآن.. لا يستطيع الواحد أن يخمن أين هى، ولا ماذا تفعل؟.
فالشياطين التي تنقل الأسرار وتتنصت على العشاق لا تدخل ديراً يقال له: دير السبع بنات.
مرة وحيدة رحتُ مع جدتي لتغسل أذنها من سدد جعلها لا تسمع صهيل مهرة الفخراني. عدت مع جدتي وهى تسمع دبة النملة.
مسموح لنا الدخول من باب يفتح على شارع البوستة يقال له: باب ملائكة الرحمة. ما زالت تلك الرائحة تسكن صدري، أظنها.. مزيجاً من الديتول وبخور المستكة.
لم تكن واحدة من ملائكة الرحمة اسمها مارسا، رغم أنها كانت جميلة وطيبة، وتحتفظ بين نهديها بصليب كبير.
ربما هى الآن تدحرج كرة بلاستيكية لأطفال الملجأ، أو تسترخي في ظل شجرة كافور عتيقة، تغزل شيئاً للقرابني العجوز الذي أشعل الفرنُ صدرَه بالدرن.
وحين تسمع سعلته الدموية؛ ستذكر ـ حتماً ـ أن ناشد كانت له نفس السعلة، وأنه عندما كان يغلق دكانه ليلاً، يمر على دكان شنودة ويخرج ثملاً، حتى إنه لا يعرف كيف يقوم من على صندوق البيرة، وأكثر من مرة كان عليّ راشد ـ الذي يبدو أطيبنا ـ يقوده إلي البيت، في الحقيقة ناشد هو الذي يطلب منه ذلك، في المرة الأخيرة حاول يقوم؛ فترنح وسقط على صندوق البيرة وأسقط ثلاث زجاجات دفع ثمنها لشنودة وهو يبتسم ويتطوح هكذا .. وهكذا، ثم قال لعلي: خذ بيدي يا فتى وأسندني فأنا تعبان.
في تلك الليلة قاده "عليّ" إلي البيت. كان ناشد يتطوح ويهذي: أنا أحبك يا علي .. وجميع أهل الشارع يقولون هذا ولد طيب ويتيم مثل نبي. سأحكي لمارسا عن شهامتك وأجعلها تصلي من أجلك. مارسا نعجة صالحة تطيع الرب.
غريب أمرك يا علي الليلة، أسندني وناد على نعجتي لتضعني في سريرها فأنا تعبان.
وفيما هو عائد؛ لحقت به على سلم البيت. نادته فتوقف قرب طاقة تسرب شيئاً من ضوء القمر، ثم إنها اقتربت منه حتى شاف حلمتيها تشفان تحت قميص الأوراجنزا، وشاف شفتيها ترتعشان وتقتربان حتى أحس صهدهما على وجهه، عندئذ أمسك الشيطان بيده ووضعها على نهد مارسا الذي فوق القلب، ولما أحس حلمتها في منتصف كفه ضغطها برفق، أما مارسا فجذبته إليها بقوة وصخب. إذ كانت مهيّأةً تمامًا للمسة واحدة، حتى إن عليًّا اضطُر أن يضع كفه على فمها، كي لا يسمع ناشد زفزفاتها.
فيما بعد ستعترف مارسا لقسيسها أنها كانت ليلة خطيئتها الأولى منذ باغت الدرن صدر ناشد:
ـ وبعدها يا أبتِ عملتُ بضع خطايا في ليال أخر، لكن الله آمين وعادل.
ناشد.. أحياناً تباغته نوبات السعال فيقيء كل ما شرب قبل أن يصل البيت، وسوف يكون القيء مصبوغاً بالدم، فيا سلام لو بقيت الأشياءُ البريئةُ بريئةً كما هي. ويا سلام لو أن الشيطان لم يتربص بعلي ومارسا في سلم البيت.
لو حدث ذلك فإن علياً لن يموت تلك الميتة البشعة في دكان صغير وقذر، ولن تطرطش دماؤه على البنك وهدوم الزبائن، والمانيكان القديم، ورِجْل ماكينة السنجر، ومكواة الفحم الساخنة جداً، ولن يصرخ تلك الصرخة الهائلة وهو يجري في الشارع، وأمعاؤه تتدلى، وكل الناس رأوه وهو يقوم وينكفئ، ويقوم وينكفئ، ثم يستقر أمام المعصرة حيث تشربت الأرض زيوتاً كثيرة لبذور عديدة سحقت حتى الرمق الأخير.
هؤلاء الناس لم يدركوا ـ في الحقيقة ـ لماذا يقتل ناشد عليّاً؟، ولماذا ولدٌ طيب مثله يموت ميتة بشعة كهذه؟، ولماذا صاحب المعصرة الشاب تركه يموت من غير شربة ماء أخيرة؟.
كما أن الأرض المشبعة بالزيت لم تتشرب دماه، فيما صنعت قرصاً قانياً وهلامياً لا يجف؛ فأهالوا عليه التراب.
بكتْهُ أمُّه أربعين ليلة حتى جف ما تبقى فيها من رواء. ذات صباح نادتها إحدى جاراتها فلم ترد، صعدت درجات السلم الطيني فوجدت باب حجرتها مفتوحاً، عندما دفعته رأتها ممددة على الأرض، كان خيطا من دماء يسيل من أنفها وفمها، وعيناها مفتوحتان. في تلك اللحظة كانت مارسا أنهت صلاتها، ومسكت لفافة من ورق الزبدة، مدتها للقرابني العجوز، وقالت: هذا من أجل شتاء قد يطول.
أخيراً.. ماتت الأرملة حزناً. والناس قالوا هذا بيت الحزن. أغلقوه بالضبة والمفتاح، ودفنوا سرَّه تحت عتبته.
ماتت حزنا؟.
غريبة!. مع أنها اعتادت الحزن، وعرفت كيف تتحايل عليه طوال عشر سنوات. فبعد موت زوجها كانت تقضي نهارها في صناعة القفف، تبيعها لتاجر يأتيها ليلة السوق ليأكل وينام عندها، أحيانا كانت تستقبل الغرباء والوافدين إلى السوق لقاء ريال أو خمسة تعريفة، والناس غفروا لها هذا، قالوا أرملة تسعى على رزق ابنها، غير أن تاجر القفف هذا كان يحظى بأكثر من وجبة ونومة في حوش البيت كما يفعل الآخرون.
عندما كان عليّ صغيراً؛ كانت تتسلل من جانبه فجراً، تغلق عليه باب الحجرة بالمفتاح، ثم تعود في الصباح بجسد مبلول ودافئ، وعندما صار علي شاباً وخطّ شاربه، سألها، قالت: إنه غريب ووحيد مثلي، ويحتاج لأكثر من لقمة وحصيرة ينام عليها.
كان علي يترك البيت في ليلة السوق هذه. كما أنه ـ في ليلة كهذه ـ عرف طريق المعصرة التي مات أمامها يوماً، ودخل مخزنها لمرة أولى مع سمير وهدان.
قالت مارسا لما رأت قسيسها يصلي: اذكر في صلاتك عليّاً يا أبتِ؛ فَرُوحُهُ عالقةٌ في بيت أمه.
زوج أرانب
يتناسلان تحت سرير الغانية العجوز ليلاً،
ويرعيان في الحلفاء نهاراً
عندما جلس حسونة بجوار سيدة آلاجا، سمعتْه يئن، ولمحت دمعة تسيل بين عماص عينيه. قالت:
ـ مالك يا خويا؟.
ـ تعبان.
ثم مال برأسه على حجر كبير وأغمض عينيه، فوضعت كفها على كتفه وطبطبت عليه.
صحيح أن سيدة ضاجعت رجالاً كثيرين، لكن الله لم يمنحها ولداً واحداً، وذات مساء قائظ أرسل لها حسونة حتى باب بيتها.
كان ولداً صموتاً اعتاد الصبيان أخذه إلى أرض أبي خليفة ليمنحهم متعاً سريةً بعيداً عن عيون الملائكة. رأته لأول مرة يشرب من زير جعلته سبيلا للمارين أمام بيتها، لعل دعواتهم تحنن قلب الله عليها، عرضت على الولد الصموت أن يبقى معها بشرط أن يسعى على رزقه، فهى لا يمكنها أن تحمل سوى هم نفسها وزوج أرانب يتناسلان تحت سريرها ليلاً، وفي النهار، يرعيان في الحلفاء غير بعيد عن البيت خشية الثعالب.
في الحقيقة هو لم يكن بيتاً، مجرد خص كبير جعله أبو خليفة على رأس أرضه، يقيّل فيه حتى اصفرار الشمس ويأكل لقمته، ولما مات، أهمل أولادُه الأرض؛ فأكلتها الحلفاء، وسكنتها الفئران والسحالي والثعالب والشياطين والأولاد الهاربون من عصا الأستاذ رزق الله.
الآن.. لا أحد يعرف متى سكنت سيدة الخص؟، ولا متى وسعته ودهكته بالطين وجعلت أمامه مصطبة وزيراً حتى صار في كامل هيئته كبيت يقول الناس عنه: بيت سيدة القحبة؟.
كل صباح ينفتح باب البيت ليخرج ولد صموت وزوج أرانب، يتحسسان الأفق في حذر ثم يمضي كل منهما إلى طريق. وفي المساء كثيراً ما يتفق أن يعودوا معاً فيما تكون سيدة على المصطبة تجلس في انتظارهم.
فقط يوم السوق، تضفي سيدة على المشهد تغييراً. تغيير طفيف ولكنه يخصها، ثم أنه سيكون محور كل شىء في ذلك اليوم، منذ الصباح تختار مكانها المفضل في مواجهة خص البوظة، لتكون في مرمى بصر الملطوشين في دماغهم، ستقاتل من أجل هذا المكان المميز، لهذا سيشهد السوق عدة معارك صباحية، تكون محوراً لمسامرات رجال البوظة وقفشاتهم، وهم يستعيدون المشهد الذي طاردت فيه الشيخ مرسي بائع الكتب، والشتائم الجديدة التي ابتكرتها هذا الصباح ، وسيتوقفون طويلاً أمام المشهد الذي خلعت فيه ملابسها، حتى لايجرؤ أحد على الاقتراب منها وهى عارية.
في طريق العودة سيكون ثمة أفق صامت، وظلمة خفيفة تذوب فيها الملامح، حتى الضوء الشحيح المنبعث من مبنى "الاسبتاليا" لن يكشف ملامحهما، غير أن تفاصيل أخرى لا تخطئها العين. امرأة قصيرة وممتلئة قليلا تزكُ في مشيتها، تمسك بُقْجَةً في يدها وتزكُ، وولد نحيل يعلق سلة في ذراع ويسند بالآخر حمل برسيم على رأسه، فيما يقعي زوج أرانب حذراً أمام الباب. ولولا فراؤُهما الأبيض، لما تمكن حسونة من رؤيتهما، وفيما هى تحدق بعينين متعبتين يقول:
ـ متخافيش.. ولادك قاعدين يا سيدة.
تضحك وتقول: يعني مين حيعرّص عليهم غيري.
في أمسيات مثل هذه، حكت سيدة للولد النحيل كثيراً من قصص العشق، كل عشاقها القدامى. وستتوقف كل مرة بتفاصيل أدق عند حكايتها مع عنتر عبد الهادي.
ستبدأ حكاياتها ـ عادة ـ هكذا:
ـ مش قلت لك يوم السوق ده يوم الخير.. تعرف زارني مين النهاردة..؟ ثم تحكي..
بالنسبة لولد بساقين نحيلتين وعروق زرقاء نافرة، فيوم السوق هذا هو يوم شقا ووجع قلب. غير أن الفتى المسكين الذي ينهكه اللف في السوق وتؤذي مشاعره رذالة الفلاحين، سيجد ملاذاً آخر النهار. فهناك سيدة بجوار ساحة المواشي تجلس، سوف تلقاه حتماً ببشاشة، تبتسم وتكشف أسنانها الذهبية، وسوف تمسح رأسه بكفها الخشن المصبوغ بالحناء، والأظافر الطويلة القذرة، وتلك الأساور البلاستيكية التي اشترتها من السوق ـ نفسه ـ تشخلل في يدها، وهى تهش الذباب عن عينيها الملتهبتين اللتين بلا رموش، وكحلة داكنة الزرقة حولهما، تطبطب براحتها على الأرض.. تعالى يا ضنى أمك.. استريّح يا خويا.
يقول: دوخة وحياتك يا سيدة.
ـ يا واد استرجل شويه.. مش كده.
يريح سلة السوداني عن ذراعه، يرفع ذيل جلبابه وهو يجلس.
وعادة تدس يدها في بقجة بجوارها، وتمنحه شيئاً يأكله، كثيراً يرفض ويقسم أنه غير جائع. في الحقيقة .. هو عادة يكون على لحم بطنه، غير أنه لا يحب أن يقول الناس: إن حسونة يستقطع ولية غلبانة ولا أحد لها في الدنيا.
ثم إنه لا يستطيع أن يمنحها شيئاً في المقابل، فأسنانها ـ حتى الذهبية منها ـ لا تقوى على طحن السوداني، ومع ذلك فقد يمنحها سيجارة أو سيجارتين. هو بالطبع لا يدخن، ولكنه أخذها من هؤلاء الذين اختلوا به في طريق جانبي، في وقت لا يسمح بحدوث شيء، غير أنه كاف لإثارتهم، بحيث يمكنهم إذا عادوا لبيوتهم، أن يستعيدوا تلك اللحظة، فيضفون على عاداتهم السرية شيئاً من الإثارة الحية، وهم في مقابل ذلك لا يبخلون بسيجارة، أو يشترون بقرش سوداني، والأهم من ذلك أنهم يغامرون ـ وهو في الحقيقة ثمن فادح ـ إذ يعرّضون أنفسهم لفضيحة لو رآهم من يعرفهم، وهو يقبل عطاياهم باعتبارها عربون محبة، وتهيئة لموعد آمن لا يجيئون فيه عادة.
خاتم فضي كبير
وعصا لها كعب نحاسي يلمع في الشمس
حين خرج من البوظة ووقف أمامها بجلبابه الأزرق وعصاه؛ امتد ظله طويلاً حتى غطاها. هي لم تلحظه وهو يتأملها بابتسامة غائمة.
الكحلة الزرقاء.
الأسنان الذهبية.
كفان مخضبتان بحناء أرجوانية.
وعطر ثقيل فواح في كل مرة كان يكلفه غطساً في الترعة، قبل أن يعود لبيته.
- إزيك يا ألاجا؟.
رفعت رأسها وضيقت عينيها حتى تراه. بدا في ضوء الشمس الذي يعشي عينيها مجرد قامة طويلة، وصوت عميق متهدج خفق له قلبها فابتسمت، ولما تربع بجوارها في مساحة الظل، وأراح عصاه على فخذيه، مد يده في صدره وأخرج علبة الدخان المعدنية.
ـ والله ما عرفتك يا عنتر.
ـ الكبر عبر يا سيدة.
قالها بإذعان وهو يهز رأسه، وينظر ناحية حسونة الذي بدأ شخيرُه يعلو.
- الولد ده لازق لك على طول كده؟.
- غلبان والنبي.
ـ إنت اللي طيبة وعلى نياتك. يكونش ابنك يابت!
ـ يعنى لو ابنى، حيكون أبوه مين غيرك ياعنتر!
تقولها وهى تضحك، كمجرد جس نبض، لكن نظرة غضب من عينين متعبتين، مازالت قادرة على تذكيرها بالعُلق التي أخذتها منه، كبداية مثيرة لمضاجعة مجنونة، ينشب كل منهما أظافره في الآخر، هذيان محموم بأصوات اللذة والألم، وسوائل تجري بينهما، لها طعم دموع العين وملمس لعاب الفم ورائحة الجسد.
مد يده بالسيجارة، فرأت الخاتم الفضي الكبير، وفصّاً أزرقَ مموهاً بخيوط دخانية، وأصابع طويلة جافة شوهها الروماتويد. صدت كفَّه بدلال فلامست الحناء زرقة الفص بخفة.
ـ خد مني واحدة ماكينة.. لساك بتلف؟
ـ اللف كيف يا سيدة.. مانتي عارفة.
قالت: طول عمرك كييف الحلو.
ثم رقصّت حاجبيها المزججتين وقالت: يا حلو أنت يا حلو.
ابتسم حتى بانت سنتاه الوحيدتان.
ـ ياه. لسه فاكره يا بت؟
كلمة السر بينهما كلمة واحدة فقط، كان يرددها، وكانت هى تردد نفس الكلمة. كلمة واحدة كانت كافية لتصاحب إيقاع لذة اللحظات الأخيرة، ستكون مسبوقة بلحظة صمت خاطفة، تنقطع فيها أنفاسها قبل أن تدخل في هزة عنيفة وصرخات متلاحقة، وبنفس الصوت العميق المتهدج يهمس في أذنها. حلو يا بت؟
وبنفس الصوت المرتعش تلهث تحته: حلو.
وفي لحظات ذروتها ترددها بسرعة.. حلو.. حلو.. حلو يا ابن الكلب.. حلو. وفي لحظة كهذه فقط؛ يَسمح لامرأة أن تشتمه.
فجأة قالت:
ـ إزاي مراتك يا عنتر؟.
ـ يوووه. تعيشي إنتي.
غالبت ابتسامة بمكر جميل، ونظرة انتصار قديم في عينيها، لكنه لم ينظر إليها، كان منهمكاً في لف سيجارته، أو هكذا ادعى، ولما وجدته صامتاً قالت:
ـ تلقاها ماتت بحسرة ليلتها.
وكادت الضحكة تنفلت منها، أما هو فظل صامتاً للحظة، مرر فيها سيجارته على لسانه، هز رأسه وقال:
ـ افتكري لها الرحمة يا ولية.
غالب ابتسامة شجية وهو يضع سيجارته بين شفتيه، يشعلها بهدوء، يحدق في اللهب الصغير قبل أن يلقي بعود الثقاب على الأرض، ينفخ دخاناً كثيفاً، ويسرح بعينيه في زمان بعيد.
ـ فاكرة يا سيدة لما عملتي لي عمل؟.
ـ أنا؟. تنقطع إيدي يا خويا. دا أنت الغالي.
يلملم شروده قليلاً.
ـ غريبة.. دا أنا قعدت تلات تشهر مربوط بعد الجواز.
تبتسم نفس الابتسامة الماكرة.
ـ مربوط ولا نفسك مسدودة. حد برضو بعد الحلو يروح للمش؟.
تضحك، ويضحك، ويتصاعد دخان كثيف، دخانه ودخانها، ويحوم بطيئاً تحت المظلة، فيهيج الذباب اللصيق بالخيش والجريد، ويحط حول فم حسونة المفتوح على آخره، تهشه فتشخلل الغوايش في يدها. ينظر إليها وتنظر إليه، لحظة طويلة تمر، أشواق قديمة تتفتح بدلال، فتلمع وراء زرقة الكحل في عينيها، ويلعق شفتيه بلسان فيه صفرة الدخان، ثم فجأة تنفجر الضحكة من جديد، واحدة عميقة متهدجة، وواحدة رنانة صافية، فيما كانت مساحة الظل تتراجع، والشمس تزحف نحومساحة الظل، فتطول ساقيْن نحيلتين بعروق زرقاء، ويد بخاتم فضي كبير ممسكة بعصا لها كعب نحاسي يلمع في الشمس.
الشيطان
الذي انتهز الفرصة ووقف يرسم صورته بنفسه فجعلها بعينين ليكذب كلام البشر
البنت التي تأوي روح البنات كلهن طلعت السلم، وجاءها الهواء حزيناً فلم يمسها، ومع ذلك فهي تضم فستانها بين فخذيها، كلما قاربت الحافات، وتتأمل طيور المساء تحوم في جماعات صغيرة، فيما يرقص الثعلب على سطح البيت المقابل، يرقص دون أن يلفت انتباه أي طير، ربما كانت مشغولة بجراحها اليومية، والشيطان الذي انتهز الفرصة وقف يرسم صورته بنفسه، جعلها بعينين ليكذب قول جدتي:
ـ الشيطان بعين واحدة فلا يرى غير الشر.
يا الله!
الشيطان يتوق لعين أخرى يا جدتي، ثم إنه لوّن وجهه بالمساحيق الجميلة. ومع ذلك فالله لم يمنحه روحاً واحدة، وهو بعد ذلك لم يعد يخيف الولد البدين الذي ظل يحلم بصندوق كعك العيد، وحذاء جديد، وأُمٍّ لم تعد من السوق بعد، ونسيت شياهها الصغار تلهو بنزق قرب جحور الثعالب.
ذات ليل جلس ولد أسمر في بيته الطيني يغني للقمر والعيون السود، غناءً وحشيًّا سمعته امرأة تتقلب في فراشها، فأحست ركض الذئاب في دمها.
عشرون عاماً من الوجع والخمش اليومي حبستها مارسا في الدير حتى انسكب عطرها يوما وهي تستحم. عطر ورديّ ذكّرها بأول مرة وهي على دكة المدرسة تجلس.
في هذه الليلة انسكب عطرها فلم تقدر تحوشه، غير أنها عوت وأنّت وتلوّت كما يليق بامرأة أربعينية.
في الليالي التي يأتي فيها بصحبة ناشد، كان عليُّ يلمسها عن قصد، ويلتصق بها حتى أحست عضوه ينتفض بين ردفيها فلا تعرف كيف تمكنت من صعود السلم ولا كيف ملكت أعصابها حتى وضعت ناشد في سريره، وفي ليال أخر، كانت تتفادى لمساته التي ظنتها عن غير قصد، حتى ليلة أخيرة تسلل فيها ضوء القمر، وأضاء بضع درجات من سلم البيت، فكانت مهيأة تماما للمسة واحدة.. لمسة واحدة لنهد مؤرق فوق قلبها تمامًا.
أما الولد البدين فكان لا يجيد الرقص كما يظن هو، أو كما ينبغي للرقص أن ينبه الطيور، ولما استعار كتاب الجغرافيا، وضع فيه وردة حمراء وأعاده لزينب سليمان، وكتب في الصفحة الأخير:
"دليل الحب.. فالورود الحمراء معروفة هكذا.. أنا وأنت غرباء، وكلانا عشق أسطح البيوت القديمة، والحجرات الموحشة".
فردت إليه وردته وقالت: نسيتها في كتابي.
واللهِ الواحدُ ليسلِّم بأن الروح دائماً تتوق لأجساد أخرى. فعليّ الذي سمع بكاء الحليب في نهدي مارسا؛ مال برأسه على صدرها هكذا وأغمض عينيه، ومارسا التي لم يتقوس ظهرها تحت رجل منذ باغت الدرن صدر ناشد، جذبته إليها وبكت، فتقاطرت الدموع على شعره، وعندما رفع رأسه إليها قالت: أنفاسك طاهرة يا علي.. فقرب مني شفتيك.
ومع ذلك كان عليّ يشاركنا سجائرنا أحياناً، ويقبل عزومة من ناشد بجرعة نبيذ. كثيراً حدث هذا، وكم من مرة طلب ناشد من علي إشعال مكواة الفحم. تلك التي تفذذ دمه عليها ذات صباح:
"أنا يا علي مريض وصدري لا يستحمل النار.. وصدرك هذا فتيّ يا ولد.. وقليل من النبيذ يقويك. سأعلمك يا عليّ كل شيء. يا سلام لو كان لي ولد مثلك".
كان عليُّ ينفخ النار، ومارسا تمد أنفها وتستنشق؛ فتجدها أنفاساً ذكورية لها رائحة خوص النخيل المبلول التي تغمرها بالفرح في آحاد السعف. تتذكر لما قرصتْها أمُّها من صدرها الصغير وقالت:
ابصقي..
فبصقت نسيلة السعف التي مضغتها.
قرب شفتيك منيّ يا عليّ، وضعهما بين شفتي ودعني أمصهما، وإن شئت فادفق ريقك في ريقي. واعملني مثل عجينة في يديك.
"ميلي يا مارْسا إذن بما شاء لك الربُّ لأن مَن له سيعطي، ومن ليس له فالذي يظنه له يؤخذ منه".
ما كان عليّ سوى ولد طيب يمشي سرحان ورخياً، فلا يكاد يلمس الأرض، ولا يحدق ـ مثلنا ـ في النساء اللاتي يحملن طسوت الماء، وينحنين بأعجازهن أمام حنفية الاسبتاليا، فتشف ملابسهن عما تحتها، ولا اعتاد يوماً يذهب للنهر، ليشاهد أفخاذ البنات وهن يدعكن أوانيهن حتى تضوي في الشمس.
كان عليّ ولداً طيباً بجد. لا يقول لنا سرَّه حتى يسألنا: السر في بير؟.
- في بيييرر..
ونمد الياء والراء ليكون البئر عميقاً.
فمَن أبلغ الأوسطى ناشد إذن، ودله على مكان الخدوش في ظهر عليّ؟ وسر عضة على شفتيه؟ حتى إنه لما دخل عليه قال: هذا نبيذك يا عليّ فأشعل المكواة إذن، فما قدر أن ينفخ النار ويقرب وجهه منها. فقال ناشد: من أي شيء جرحك الذي في شفتيك يا ولد؟.
وكان المقص الكبير أمامه على "البانك" مفتوحاً، فيما كانت مارسا في الحمام ترش جسدها بالماء الحار؛ فأحست لسعات الخدوش على ظهرها، ارتعاشة مباغتة وتنميلة في الجسد المبلول، والماء على زهرته يشف، فما قدرت على فتح عينيها، وهمست لنفسها. ابن الكلب.. أظافره طويلة.
ولما تحسست أظافرها، وجدتها طويلة أيضا، فركنت رأسها على الحائط المندّى بالبخار وابتسمت.
الملاك الذي صار شاباً،
وجلس يبكي على باب حمام المرأة التي تحولت إلى مهرة
كيف لنادية البريئة أن تدرك كل هذه الأشياء الغريبة التي تجري لها؟.
بطريقة ما تعرف أنها من ألعاب الشيطان. نوع من التخمين لا أكثر. فلا أحد يستطيع أن يدخل أحلامها ويعذبها بنشوة موجعة وغير مكتملة سوى شيطان، وكل حيلتهاـ عندما تستيقظ ـ أن تتف على يسارها وتقول: اللهم اخزيك يا شيطان.
هذا.. لا يغسل قلبها من الوجع الذي يسكنها كل هذه السنين، ويشغل أحلامها بمساحات من الصور الغائمة لرجل يضاجعها ثم يتركها قبل أن تنتشي أو تمتليء عيناها بدموع وألق.
هنا.. وفي هذه اللحظة تماماً، تصطخب اللذة بألم يدركها وهى تصرخ في ضباب الحلم، حتى يهزها النائم بجوارها، ويلعن أبوها واليوم الأسود الذي شافها فيه، ثم يواصل نومه، مع أنه لو لمسها لفتحت حدائقها وفاح عطرها بين يديه، إذ كانت حتى هذه اللحظة تحاول أن تعرف ملامح الوجه الجميل الذي يحتويها حتى تهدأ بين ذراعيه، ثم يغيب شيئا فشيئاً في انسحاب الحلم، تدرك أنها تعرفه، غير أنه يأتي من ذاكرة بعيدة وحضور مستحيل فلا يكتمل.
فقط شعور بلذة تسيل بين فخذيها حتى تغمرها برخاوة وصمت دافئ، وتسمع كخرير الماء يخرج منها، وترى فرساً عظيماً يطير في ظلام بعيد تاركاً خلفه مهرة مربوطة في شجرة تجلجل بصهيل مجروح.
تتسلل نادية من جنب النائم في سريرها يشخّر، وفي الحمام ستجلس لتغتسل وترى أثر الكرباج على فخذيها لم ينطفيء بعد، تمرر أصبعها عليه بشويش، وتحبس دمعة في عينيها. كثيراً فكرت أن تسرق الكرباج، لكنه يخفيه في خن فلا تصل إليه يداها أبدا. واحد من ميراث أبيه اعتني به أكثر من البيت الكبير الذي تآكلت أحجاره البيضاء يوماً بعد يوم، فيما ترك الكارتة في الفناء تضربها الشمس، وتسكن فيها الفئران والعُرَس. كم مرة فكّرت أن تحرقها؛ لتنتقم لدجاجاتها التي لا بد تتألم كلما لاحظت أن واحدًا من أفراخها اختفي.
تحاول تشغل نفسها بحماية دجاجاتها. تمرر الأيام بنصب الفخاخ والمصائد في جوانب الحوش الكبير. ذات صباح وجدت فرخاً ميتاً في مصيدة نصبتها بنفسها، هكذا.. كان عليها أن تُمضي نهارات عبثية، تحاول تحمي دجاجاتها، وليالٍ تسكنها أحلام لنشوة لاتكتمل.
هى الآن تفكر في الوجه الغائم الذي يزور أحلامها ـ فقط ـ ليطبطب عليها. كلما جفت ينابيعها يمنحها شيئا من رطوبة ورحيق. في كل مرة يتركها من غير أن تعرف من هو.
من هذا؟.
وكيف احتواها وهدهدها باشتهاء أبوي حتى هدأت في حضنه مثل قطة ضالة، واستسلمت لأصابعه تتحسسها وتلمس أوتارها حتى تصدح بالرنين.
يا الله.. نادية جميلة وبريئة إلي هذا الحد حتى لا تفكر سوى في الشيطان وعمايله السودة.
نادية لا تعرف أن ملاكها الذي صار شاباً يافعاً يجلس الآن أمام باب الحمام في انتظار أن تخرج؛ فيملأ صدره برائحة التوت الذي يتناثر منها.
في هذه اللحظة بالضبط، كان الملاك على باب الحمام جالساً يبكي:
يا رب.. أنت كلفتني بها، وإني لا أستطيع أكون معها في الحمام لأمسح دموعها، ولا أستطيع أظهر في أحلامها بهيئتي الشفافة تلك، بل إني لا أقدر أكون بدلاً من النائم جنبها لأصحّيها برفق في اللحظة المناسبة. كل ما سمحت لي به أن أخفي الكرباج عن عيون زوجها كلما أعماه الغضب. هذه حكمتك.. أنت حرّمت علىّ ما تسمح للشيطان يفعله.
طأطأ الملاك رأسه ونظر للأرض خجلان:
نعم أحببتها. منذ رأيتها أول مرة مع العيال تلعب تحت شجرة التوت. هي بريئة وجميلة. وعشقي لها مثل عشقي لجمالك وجلالك. على الأقل اسمحْ لي أَطير بها ولو لمرة واحدة.
والنبي يا رب. مرة واحدة على الأقل حتى أخلصها من خطيئتها التي كنت مسؤولاً عنها.
وجلس الملاك الذي أصبح ـ الآن ـ شاباً يافعاً يبكي يداري خجله من تلك الابتسامة البلهاء التي رسمها لما شاف العيال يزنقونها بجوار الميضة. وكان وقتها صغيراً ويلعب مع العيال، حتى أنه لم يعرف مثلهم، إن كانت تصرخ أم تصهل. عندئذ قال الملاك لما سمع نشيجها من وراء باب الحمام:
ـ هذا ليس عدلاً .. فنادية كانت بريئة وأطهر من قطرة ماء تنز من عرشك العظيم. فتلك المداعبات الصبيانية، ولمسات الولد الطويل لم تنل منها بعد. وما فعله شيخ الجامع معها لم يكن برغبتها، وهى كانت صغيرة وبريئة لا تفهم شيئاً عن شهوات الكبار، هو الذى يستحق الحرق بالنار، لماذا تعذبها من أجل خطايا الآخرين، وتترك زوجها يسكر كل ليلة ويضربها بالكرباج؟.
نادية بريئة. وأنا أشهد على هذا. إذ ظل شعرها ملموما وضفيرتها جزلة كما جدلتها أمها في صباح المدرسة. حتى خرج من الميضة عبدك الأعمى لما سمع صوتها، تصرخ وتجري من الأولاد، فضحك العيال، من كرشه البارز تحت فانلته القصيرة، ولباسه الساقط جداً حتى ليكشف شيئاً من عانته، وأنا نفسي ضحكت، ونادية أيضاً كادت تضحك.
كان يمكن أن يمر كل شيء مثل مزحة والسلام، لولا أنها اندفعت إليه، واختبأت في حضنه، وكان وتره مشدوداً من دفء الشمس التي يتمدد فيها حتى تحين صلاة الظهر، عندئذ أحسته لدنا ودافئاً ينتفض بين تفاحتيها المرتعشتين أصلاً من لمسة الولد الطويل، فسابت مفاصلها، حتى إنها لانت بين يديه وهو يسحبها إلي الميضة ويغلق الباب. كانت مهيّأةً لخطيئتها الأولى. فقط مهيّأة، ليس بما يكفي لاكتمال تبحث عنه في أحلامها فلا تجده أيضا. وكانت تسمع زياط الأولاد في الخارج يصرخون في نشوة ممتزجة برائحة التوت:
سيب النعجة يا خروف...
فسابها، وعادت إلي أمها ببقعة كبيرة على مريولها ظنتها المراة الساذجة من أثر الجرانيتا التي تشتريها نادية من كانتين المدرسة.
قال الملاك الذي جلس بالقرب من باب الحمام يبكي.
اغفر لي يا الله. نادية ما زالت بريئة وأطهر من قطرة مطر تنزل من سمائك الواسعة.
فنادية عندما لانت بين فخذي الأعمى كانت بلا تجربة وأرادت فقط أن تعرف. هكذا قالت لي في حلمها الأخير، وأنا شيء من مخلوقاتك، فأين لي بعلم الغيب؟.
اغفر لي يا الله إن شككت بحكمتك، غير أنني لا أصدق أن الشمس التي في سمائك هى نفس الشمس التي سكنت جسدها في الأيام الأولي، وفركته بدفء وحنين حتى طالت بوهجها مناطق لم تطلها أيادي الأولاد الذين زنقوها خلف جامع سيدي أبي طاقية.
قال الولد البدين للملاك الجالس على سور السطح يبكي.
ـ أما زلت تذكر يا ملاكي الصغير؟.
أنت نفسك تركتها تصرخ يا أيها الملاك، ورحت ترقبهم بابتسامتك البلهاء، وتركتهم يزنقونها وظهرها للحائط الذي سخنته الشمس، فمسّد ظهرها بحرّ فاتن؛ حتى خرج الصهد من شفتيها، ثم إنك ـ وربما بحسن نية ـ دسست في أصابع الأولاد سحراً، كما أنك ـ عندما لامسوا تفاحها ـ جعلتها ترتعش وترتبك، فصارت لا تعرف، إن كانت تبتسم للولد الطويل خشن الصوت هذا، أم تشتمه. ذلك الولد الذي تجرّأ ورفع ذيل مريولها القصير أصلاً.
صدقني يا ملاك، هى خطيئتك أنت، لأنك بسذاجتك تلك جعلتها مهيّأة للشيخ الأعمى.
كان بمقدورك ـ أيها الملاك ـ أن تضرب العيال أو على الأقل تحوشهم عنها بدلاً من جلوسك ـ هكذا ـ تحت تلك الشجرة.
تعرفها طبعا، الشجرة التي أمام الميضة.
تذكر؟.
لما رأيتك هناك أول مرة.
أنا لا أفهم ما الذي يجيء بملاك مثلك لمكان كهذا؟.
كل ما تفعله أنك تلعب مع العيال الشياطين هؤلاء!.
ثم أنك تكلف نفسك هذا العناء لتطلع الشجرة وتهزّ فروعها المليئة بالثمار لهم، مع أنك لو تركتها لسقطت من تلقاء نفسها.هل أنت مكلف بهذا؟ هل هذه وظيفتك ياملاك؟
أنت ـ حتى ـ لاتأكل التوت مثلهم، فقط تساعدهم في التقاطه، وتعلمهم أن يغسلوه من روث البهائم التي لا يحلو لها إلا الشخاخ هنا وهى في طريقها للسوق. كل ما تفعله أنك تحذرهم إذا دخلوا الميضة التي خلف الجامع وأحس بهم الشيخ الضرير، فقد يحدف الواحد منهم بفردة قبقاب تطير كيفما اتفق.
اسمع يا حضرة الملاك. إذا كنت تظن أن كل ألعابهم بريئة لمجرد أنهم عيال فأنت مخطئ. ماذا ستفعل لو رأيتهم يلعبون لعبتهم الجديدة التي اكتشفوها وراء أرض "أبو خليفة"؟ لعبة التباهي بالأيور الصبية، والعانات التي نبتت للتو!.
أنت لم تكن موجوداً هناك حتى تراهم، وهم يكتشفون أجسادهم ويلمسون حواسا تتفتح وتزدهي.
طبعا.
لك حق!
فالملائكة الطيبون أمثالك لا يذهبون إلى تلك الأماكن المهجورة خالص.
حتى لو رأيتهم، فإنك لن تفهم معنى الشغف واختلاجات القلوب الصغيرة عند الانتصابات الأولى. كنت ستغضب كعادتك أو تبصق عليهم كما بصقت عليّ وأنا أعملها لمارأيت نادية تعرى فخذيها للشمس.
لهذا.. اسمحْ لي يا حضرة الملاك.. أنت لم تفهم لماذا هاجوا كالزنابير لما شافوا بينهم بنتاً تنحني وتلتقط الثمار، ثم تزم شفتيها الشهيتين، وتنفخ فيها لتطيّر التراب من عليها. هي لم تكن تدري أنه يراها! ولا انتبهت إلى الولد الذي رصدها من بعيد، وشاف نظرتها البريئة للأولاد الفرحين بالتوت، فابتسم ونوى شيئاً، حتى إنه وبمجرد أن انحنت لتلتقط إحدى الثمار، رفع تنورتها القصيرة أصلاً، والعيال الذين شافوا لباسها، هاجوا كالزنابير.
ـ يا ولاد الكلب!!.
والله أنا لا أفهمك يا سيدي الملاك!.
إذا كنت طيباً بجد، فلماذا تركت الشيطان يوزّها؛ لتهرب من المدرسة أصلاً؟
ولماذا تركتها تأتي إلى مكان قصي ليس به سوى أولاد مدرسة الصنايع البايظين؟.
أنت تعرف شقاوتهم. وكنت تعرف أنها اشترت بمصروفها ستة ديدان قز، ووضعتهم في صندوق سجائر البلمونت الذي أخذته من عم شنودة خصيصاً لهذا الغرض.
ألم تلاحظ؟.
هذا العجوز بمجرد أن رآها وبصّ في عينيها ارتبك، وشم نسغًا طازجاً وشهياً حتى أحس بنبضة خافتة بين فخذيه؛ فرسم الصليب على صدره. كان ملبوخا حتى إنه لم يقدر أن يقول لها: لا صناديق فارغة عندي، فأفرغ واحدًا على عجل حتى تدحرجت سجائره على الأرض فلم ينحن عليها ولم يلمّها. فقط أعطاها الصندوق بيد مرتعشة من غير أن يرفع عينيه عنها، وعندما غادرته؛ تنهد وقال في نفسه: يا يسوع. هذه البنت تغوي الشيطان نفسه. وظل كلما رآها تمر بدكانه يرسم الصليب.
في الحقيقة هي ما جاءت هنا لتلتقط ثمار التوت مثل الأولاد الأشقياء. جاءت من أجل بضعة وريقات تطعم ديدانها الصغيرة.
أنت تعرف هذا، وإن كنت لا تعرف ها أنا أخبرك.
أرأيت يا ملاك؟!.
كان عليك أن تسقط لها بضع وريقات توت طازجة؛ لتطعم ديدانها الستة. فالأوراق الطازجة لا تسقط لوحدها. لكنك بدلاً من هذا أسقطت لها مزيداً من الثمار الشهية، حتى إن البنت المسكينة سال لعابها لما رأت التوت ينزل على رأسها وصدرها ويغمرها بالرائحة الحلوة، ثم بعد ذلك جلستَ جلستك هذه، ولم تحرك ساكنا لما رأيتَ العيالَ يطاردونها ويزنقونها عند حائط الميضة.
تصورتها واحدةً من ألعابهم البريئة التي تتفرج عليها في صمت.
أنا أعذرك علي أية حال، كيف لك أن تفهم الفرق بين الأولاد والبنات في مثل هذه السن؟!.
هي كانت تريد ورق التوت ولكنك غمرتها بالثمار يا جدع. ثم إنك تركتها تصرخ وتجري، وتركت الأولاد يطاردونها بفرح هستيري سرى بينهم كالعدوى.
بل أنت لم تفهم إن كانت تصرخ حقاً أم تصهل؟. تبكي أم تزغرد؟!.
فصوتها كان شيئا بين هذا وذاك. شيء لفت انتباه "أبلة زكية" لما سمعتْها تغني في طابور الصباح؛ فانتشت زكية حتى إنها مالت أكثر من اللازم على الأستاذ حسني، وهمست في أذنيه المليئتين بالشعر:
ـ البنت دي بلغت يا حسني!.
وهو كان ساهما يبحلق فيها فلم يرد.
هل خشيت فتنتها فتركتها تصرخ كما تشاء، وتركت العيال يزنقونها وظهرها للحائط، وتركت الشيخ الأعمى يقوم بمهمتك المقدسة، فمن أدراك أنه طيب حقًّا أو حتى يعرف ربنا؟؟.
ألمجرد أنه شيخ!. أم لأنه أعمى ولا يمكنه أن يرى ازدهار التوت على بعد أمتار من مسجده!.
كل ما عملته أنك ابتسمت ابتسامة خلقت خصيصاً لملاك طيب كلف بمراقبة الصبية العفاريت. تلك الابتسامة التي لم تفارقك أبداً، وكأن رساماً ماهراً وضعها على وجهك.
الأعمى ..
الذي أدرك صهيل البنت؛ فاحتواها من أجل قذفة أخيرة
أبداً. لم تكن مجرد نظرة لولد السطوح على امرأة تستلقي وتعري فخذيها للشمس.
كانت مكاشفة.
لما رأيتها بعينيك اللتين شافتا أكثر مما يجب لولد في سنك.
كانت يقظة الحواس الأولى التي ما زالت تخايلك بوخزاتها البرية.
فيما بعد ستقول جارتكم (أم طارق) لما ضبطتك تنظر إلى مؤخرتها من تحت لتحت:
ـ عينك تندَبّ فيها رصاصة يا واد إنت.
ومن قبل كنت تمرن عينيك على الجارات اللاتي يطلعن بنهودهن في الشرفات. وكنت ترى أن حمالات الصدر السوداء هي الأكثر أثارة لنهود البنات.
لماذا أنت مشغول بمبرر تقوله للملاك الذي بصق عليك لما رآك تهتز وترتعش وراء السور وأنت تبص عليها فتعصف من خلاياك نشوة ووهجًا؟.
يا الله!
ماذا تقول له الآن؟.
تبلل سروالك في نهار رمضان، ولا تقدر على مقاومة الهزيم الذي عصف بك بغتة.
انظر بعينيك يا أيها الملاك.. انظر.
إن كان لك عينين مثلي، وحدثني عمن تراها الآن تستلقي هكذا وكأن الشمس خلقت من أجلها. تغطي وجهها بطرحتها السوداء لكي لا يراها الولد الذي باغتها بصوته الجديد في الأسبوع الفائت حتى إنها ابتسمت له وقالت:
ـ أنت ابن سعاد؟. والله ما عرفتك. كبرت يا ولد واخْشنَّ صوتك.
قالتها هكذا. بصوت ليّن وابتسامة مغوية.
هو أيضا ابتسم، غير أنه لم يكن مهيّأً بعدُ لهديل امرأة. كانت تجاربه بدون مواجهة أو كلام. كانت مجرد تلصص، ولذلك لم يقل شيئًا سوى أن مر من حجرة نومها إلى شرفتها، ولم يقدر على أن ينظر في عينيها، ويشوف رعشة عابرة، فيما يجرجر فرع الزينة والفانوس الذي سهر عليه للصباح حتى كساه بالسوليفان الملون.
فكر أن يخبرها كيف اقترح على الأولاد الآخرين إعفاءها من المعلوم الذي جمعوه من كل بيت؛ لأن نادية ليس لديها أولاد مثل أمهاتهم.
وبشيء من الحدس فكر أن رمضان هذا العام سيكون له طعم جديد. وربما سيكون آخر رمضان يشارك فيه الأولاد تعليق زينة الشارع.
على أي حال مَنْ ِمنَ الجارات ستسمح له بدخول بيتها في العام القادم؟.
قال الملاك الذي جلس عن يمينه يبكي.
أنت يا رب خلقتها هكذا، وخلقت الشمس التي أنضجتها، وبخّت في مفاصلها شيئاً من الخدر واللذة الحانية، وبحكمتك أعطيت الأعمى فيضاً من حواس حتى إنه الوحيد بيننا الذي أدركه صهيلها الأول.
هكذا احتواها. وهكذا هيأتها لتقترب من خطيئتها الأولى. حواس تستيقظ للتوِّ، وفضول لا ينتهي للمس الحياة وهى تسري في الأعضاء، فما قدرت أن تحوش نفسها عن لمس المنتفض بين تفاحتيها، فدفست نفسها فيه، حتى إن خادم بيتك المقدس ارتعش، فقبل رأسها من أجل قذفة أخيرة جاءته بعد سنين العماء وخدمة المصلّين.
الناس من وقتها يشمون ريحها كلما جاءت أو راحت، ويقولون: نادية ناعمة وطرية، وفي عينيها شيء يدعو الرجال للمسها، حتى إذا ما لقيها الواحد منهم في السوق، أو في مكان ضيق فاقترب منها حتى لامسها، جفلت وارتخت، ثم تروغ بعينيها في فضاء وكأن المكان خواء من حولها، فلا تسمع سوى هديل غير مكتمل يغمرها كنثيث المطر، وعطر يفوح.
المرأة
التي عرت فخذيها للشمس، وتركت الكتاكيت تتقافز،
وتنقر شيئا بينهما
لو سألت واحدًا: أين شارع بسادة؟.
لَعَقَدَ بين حاجبيه، واحتار لحظة، أو زَرَّ عينيه ونظر للسماء كـأنما يستدعي الأسماء من أماكنها. وقد يمر وقت غير هين قبل أن يخبط جبهته ويقول: آه. تقصد شارع الدير؟.
للشوارع هنا أسماء وحيوات تشبه سكانها. ذكريات مخزونة في قلوب العاشقين، وأخرى متروكة في الطرقات تلهو بها الشياطين والصيع وكلاب السكك.
فقط. يذكّرهم الاسم بالدير القائم صامتًا في نهايته.
غريبة!!.
كيف فرض الصمت نفسه؛ فنسي الناس اسم الشارع الحقيقي وراحوا يقولون: "شارع الدير" لمجرد أنه يذكّرهم بمارسا، والولد الذي كَبَرَ وعشق قبل الأوان؛ فطشطش دمه على مكواة الفحم؟.
ومع ذلك لو سألت أحدهم: أين شارع الدير؟..
لقال لك بكل براءة ـ وكأن مارسا لم تخطر على باله ـ الشارع الذي يبتدئ من الدرب الجديد وينتهي عند زقاق السبع بنات.
للشوارع هنا حكايات، وأسرار مدفونة تحت عتبات البيوت.
فهل دفنوا حكاية مارسا وعليّ تحت عتبة البيت الطيني الذي غمرته الأمطار لثلاث ليال حتى لان وانبعج وانتفشت جدرانه، فظن الناس أنه ذائب لا محالة؟.
وبقى الناس ينتظرون اختفاءه في كل يوم، وفي كل صباح يفتحون نوافذهم، ثم يشعرون بشيء من القلق، لأن عليهم أن ينتظروا إلى صباح جديد يتمنونه مطيرًا جدًا.
البيت ظل واقفاً على حاله، غير أنه دخل في حالة من الصمت منذ ذلك اليوم الذي خرج منه فتىً أسمر، ومشى يوزع الابتسامات المغوية على النوافذ والشرفات؛ حتى وصل إلى نهاية الدرب الجديد.
إنه ـ في الحقيقة ـ مجرد منعطف يميل بشارع بسادة؛ فسمّاه الناس هكذا.. الدرب الجديد.
والمنعطف ـ نفسه ـ يميل إلى اليمين قليلاً قبل أن يمر الفتى بدكان الأوسطى ناشد الذي خرج بمجرد أن رآه:
ـ صباح الفل يا علي.
صافحه ونظر في عينيه فوجدهما زائغتيْن، بلا دليل على شيء، فنظر إلى شفتيه فرأى أسنان مارسا عليهما، تماماً كما أخبره الشيطان؛ فقال والدماء تغلي في قلبه المنكسر:
ـ لم لا تأخذ الاصطباحة معي؟.
مكواة الفحم مشتعلة والكنكة على النار.
ولما دخلا الدكان سعل ناشد سعلتين وفتح الدرج فأخرج المقص الكبير، ووضعه على البانك مفتوحًا.
في نهاية الدرب الجديد توجد المعصرة. على الناصية تماماً من ناحية شارع البوستة الذي في نهايته شارع المعاهدة، حيث يلتقي العشاق خلسة بين أشجار الفيكس والكافور، ويجلس الشبان على مقهى البورصة يعاكسون البنات وهن عائدات من المدرسة، وبعد الظهر يجلس مدير بنك ناصر بنظارته السوداء يدخن الشيشة لبضع ساعات.ويرقب سيقانالبنات.
المعصرة فعلاً كبيرة وتعمل طول النهار. المعصرة ـ أيضاً ـ لها بابان، واحد من ناحية شارع البوستة، وواحد ـ مغلق دائما ـ من ناحية الدرب الجديد.
هذا هو الباب الذي توقّف عنده عليّ ليموت، ولا أحد يمكنه أن يخبرنا إن كان عليّ قد فكر لحظتها في مارسا، أو أنه تمنى أن تشهد من شبّاكها موته المقدس.
على فكرةٍ.. مارسا لم تكن في شبّاكها. الشيطان وحده يعرف أنها كانت تتمرغ في سريرها مثل قطة تحلم برفيف الفراشات، لكن الناس شافوا خط الدماء الواصل بين دكان ناشد والمعصرة يتوقف قليلاً تحت شبّاكها.
البيوت في شوارعنا لا تصمت أبداً، إذ تظل تعيد على أذهاننا حكايات الذين سكنوها يوما. فالناس ما زالت تستيقظ كل صباح فتجد البيت الطيني ما زال واقفاً في منتصف الدرب الجديد، والذين مروا به في الليل أقسموا أنه ليس صامتا ولا يحزنون، فكأنهم سمعوا فيه ما يشبه رفيف الفراشات.
البيوت ـ أيضاً ـ لها صفات وأسماء أصحابها.
كل شيء هنا له حضور من لحم ودم.
فهذا بيت الفخرانية وقور كعادته، يتربع على ناصية الدنيا؛ فيضع ساقاً في الدرب الجديد وأخرى في شارع بسادة.
في أمسيات الربيع ستهب نسائم أشجار الكافور وتطيّر بعضا من ريش العصافيرعلى شباك الجدة. لهذا لا ينسى الناس حكاية الفخراني الكبير الذي تزوج التركية الجميلة، وبنى لها بيتاً من حجر أبيض، وجعل له حوشاً كبيراً أحاطه بسور عال، وزرع حوله أشجار تطول في كل يوم، وتضطر الولد البدين أن يشب كثيراً؛ ليرى من شبّاك جدته، ولما طالت الأشجار أكثر من اللازم صعد إلى سطوح بيته، وهناك اكتشف المكان، والتقى الملاك جالساً على سور السطح مدلدلاً رجليه يغني لنادية، ورأى نادية نائمة تغطي وجهها بطرحة سوداء، وتعري فخذيها للشمس، وسبعة كتاكيت تتمشى وتتقافز وتنقر شيئا بينهما؛ فاكتشف أشياء أخري لها طعم الرعشة ولذة الطيران.
قال الولد البدين للملاك الذي غمز له بعينيه وابتسم:
انظر عجائب الأقدار يا جدع. فأنا ما طلعت السطوح إلا لأشوف المهرة التي تسمع صهيلها جدتي في الفجر، وأري الكارتة المركونة بجوار السور حتى سكنتها الفئران والسحالي، وكنت أراها من شباك حجرتي، لكن الأشجار صارت أطول منه فلم أعد أرى.
ثم قص على الملاك شيئاً من حكاية الفخراني الكبير وزوجته التركية الجميلة التي لم ينكشف وجهها على رجل غير زوجها:
في الفجر كانا يمشيان بالكارتة لحد القناطر؛ لأن الطبيب نصح التركية الجميلة أن تشم الهواء وتشوف الدنيا حتى يذهب ما بنفسها من سأم. وذات مرة خرجا ولم يرجعا، فيما عادت المهرة بالكارتة خاوية.
ساعات تهب جدتي من نومها، توقظني وأنا نائم بجوارها.
ـ أسمعت شيئاً يا ولد؟.
الجدة هذه عجيبة والله، تسمع جرس الكارتة وصهيل المهرة وفرقعة كرباج الفخراني الذي لا يفارق يده. عبيطة جدتي يا أيها الملاك.
قاطعه الملاك غاضبا:
ـ هذه حكاية قديمة، ومملة خالص، وجّدتك هذه صارت تخرّف والله. والحقيقة أن المهرة التي تتحدث عنها فزّعها نفير مصنع الغزل، فجمحت ومالت للنهر، وفي الصباح كان مدرب فريق المصنع، وعشرة من لاعبيه، يجرون بملابس رياضية حذاء النهر، ولولا أني نبّهتم إليها ما انتبهوا أساساً. عندما أخرجوا الكارتة لم يجدوا بها أحداً. لا بدّ جرفهما التيار. فيما ظلت المهرة مرمية على الشاطئ تأكل منها الكلاب وطيور السما.
فقط الكارتة عادت. وبقيت من يومها في هذا الحوش الذي لم يغيره الزمن حتي خربت وسكنتها العرس والفئران والسحالي، وأنا ـ بيني وبينك ـ لم أعد مشغولا بحكايات جدتك التي لحست عقلك وأوقعتك في الغواية.
فما جئتُ هنا إلا لأخلصَ نادية من خطيئتها الأولى، وها أنت الذي لم تخرج من البيضة ترى فخذيها عاريتين فتعمل بيدك خطية.
أغثني يا الله. فلم أعد قادراً على كل خطايا البشر.
وكأن السماء كانت مفتوحة لدعاء الملاك الذي أثقلته خطايا البشر، فذات ضحى، انفتح باب بيت الفخرانية، ورأى الناس مهرة بيضاء تخرج منه وتعدو في شارع بسادة حتى وصلت آخره، تمهلت قليلاً، نظرت يميناً ثم شمالاً وكأنها لا تعرف ماذا تفعل بعد أن وصلت لهذا الحد، وكان دكان شنودة مفتوحاً وهو جالس كعادته في الشمس، غير أنه صار عجوزاً جدا فرفع يده بالكاد ورسم الصليب على صدره: "هذا عند الناس غير مستطاع، لكن عند الله كل شيء مستطاع".
رأت المهرة باب الدير مفتوحا؛ فدخلت، وكان عم " حنّا " البواب مشغولا بترطيب السعف وتجهيزه ليوم الأحد، فلم ير شيئا.
في الليل كان صمت غريب يجول في شارع بسادة، حتى إن شنودة أغلق دكانه بدري؛ فاحتار السكارى أين يمضون ليلتهم تلك؟.
أنهت مارسا صلاتها، ثم نزلت السلم الحلزوني إلى البدروم، ولما كان السلم مظلما؛ أضاءت شمعة وقالت: "ما دمتم سائرين معي فلا تخافوا الظلمة" حتى رأت نور المطبخ يمتد شاحبا إلى أول السلم، فشعرت بالونس، وكان القرابني وزوجته يعدان عشاء السبع بنات، فمالت عليهما وقالت: معنا ضيفة.. فاجعلوها ثمانية.
الولي
الذي بدّل جسد البنت بولد، ونسيّ أن
يبدل روحها فتسبب في عذابهما معاً
ـ حمد الله على السلامة يا حاج.
قالها رجب العربجي وهو يرفع يديه في الهواء، ويلمس حافة قبعته القش.
لكنه كان شاردا، فلم يرد، وربما لم يسمع أصلا، غير أنه وقف قليلا أمام الحصان وسرح. ضوء الحطب المشتعل يلمع في زجاج نظارته، فلم يتمكن رجب من رؤية وميض خاطف مر بعينيه ونظرة سهتانة إلى الحصان، غير أنه أدرك أن حصانه لم ينته بعد، فقال: خلص بقى يا نجس، ثم لسعه بالكرباج، فقال وهدان: سيبه براحته يا رجب ده حيوان برضو..
ثم ركب الحنطور ولملم عباءته وأشعل سيجارة جديدة.
اسمي سمير.
سمير وليس وهدان.
وهدان هذا اسم أبي.
لماذا يتجاهل الناس اسمي وينادونني باسم أبي؟.
ألم يكفهم أنه لخبط كل حياتي؟. سجنني في جسد ليس جسدي، جسده هو، فلماذا تسجنونني في اسمه أيضا؟
الناس تقول إنني أشبه أبي. فولة وانقسمت نصين. الناس لا تنظر إلي روحي. روحي التي لم يستطع أن يغيرها أحد. أنا نفسي مرتبك، ولا أفهم رغبتي في أن أضع رأسي على كتف رجل، أن أرتعش بمجرد لمسة منه، أو حتى نظرة إلي عيني تطال روحي، قليلون جدا الذين يدركون اغتراب الروح عن أجسادها. روحي التي لا تكف عن مناداتي بصوتها الخفيض كأنه صوت منسي يأتي من زمن بعيد، زمن كنت في رحم أمي بنتا مثل أخواتي البنات، وذات مرة بينما كانت أمي تبكي أمام ضريح الولي، مد يده في رحمها وأبدل جسدي بولد حتى تهدأ روحها، ويطمئن قلب أبي إلى مَن يرث معصرته.
صوت خفيض طالما سمعته يئن في أحلامي، ويخاتلني في لحظات ضعفي، حتى إنني في مرة كتبت في ورقة الامتحان سميرة وهدان السيد، حدث هذا دون قصد مني، مرة وحيدة أفلتت فيها روحي، ورفرفت حول مدرس التاريخ الشاب، حتى إن روحي باغتته وهي تقترب من أنفاسه وتهدأ بين شفتيه فصفعني وأعاد روحي إلى سجنها.
أنا الحاج وهدان.
علىَّ ـ في الصباح ـ أن أكون في المعصرة بين عشرين رجلاً ليس بينهم رجل واحد يلمس روحي. أجلس على مكتبي وصورة الحاج وهدان معلقة فوق رأسي تساعدني لكي أخيفهم وتؤكد أنني رجل من ظهر رجل.
لم لا؟. فاليد التي لخبطت حياتي أتقنت عملها وجعلتني أشبه أبي تماما. صورة طبق الأصل منه حتى إنها تخيف الرجال، وتجعلهم لا يتحدثون إلي إلا وهم على بعد خطوات مني وعيونهم في الأرض.
أنا أيضا أخاف اقترابهم حتى لا يتسلل عرق أجسادهم إلى روحي، فتبكي، وترتعش.
يدخلون إليّ بملابس العمل، صدورهم مكشوفة، أياديهم لفرط خشونتها لا تحسني إذا صافحوني.
حملنا اللوري يا حاج.. العتالون يريدون عرقهم يا حاج.. المخزن محتاج بضاعة يا حاج.. يلعن أبو الحاج.. لأبو أيامكم السودة. ما حدش حاسس باللي أنا فيه.
نفسي أهرب من كل البلد. أهرب ولا حد يعرف لي طريق جُرَّة. حكاية السفريات دي ما عادتش نافعة. اندس في مولد ولاّ في سينما ولاّ ألِفّ طول الليل على دورات المية في محطة مصر. أضحك للي يسوي واللي ما يسواش، وكلهم ولاد كلب.
ما حدش فاهمني. أنا مش خول يا جماعة. أنا محتاج إنسان يفهمني. واحد يبقى صاحبي.. صاحبي بجد.. يحبني وأحبه.
قال العتال الذي يشبه رشدي أباظة في طوله وعرضه: محتاجينك في المخزن يا حاج.
الحاج لا يقدر يدخل المخزن معكم.. أخاف.. طبعا أخاف.
أنتظر حتى يرّوح كل واحد فيكم إلي بيته وأدخل وحدي. هناك سأذكره ولن يراني أحد، وأنا أبكي وأبوس رجليه أن يسامحني.
علي راشد الذي مات أمام المعصرة. رأيته بعيني ينتفض، وينزف.
من منا الذي خان الآخر يا علي؟.
أنا الذي تركتُك تموتُ بلا شربة ماء؟، أم أنت الذي تركتني من أجل مارسا؟!.
أنت لا تعرف يا علي كم عذبتني. لا تعرف عدد الليالي التي جلست فيها لأنتظرك في المخزن ولم تأت.
بالنسبة لك لم تكن علاقتنا سوى تدريبات أولية على رجولة تُعدُّها من أجل مارسا.
أنت قتلتني أولاً يا علي؛ فلا تستكثر علىّ أن أهمس في أذن الأسطى ناشد، وأدله إلى عضة في شفتي مارسا. الليلة قتلني رجل آخر، أنا في الحقيقة قُتلتُ مرات بعدد الذين عشقتهم. أنا رجل يعشق قتله ويعطي بسخاء لقاتليه.
يد مَنْ هذه التي امتدت إلى رحم أمي ولخبطت كل حياتي؟.
أمي التي لم تجف مخدتها في ليالي المضاجعات المباركة بأحجبة الشيوخ وأدعيتهم ودماء الذبائح التي أريقت على عتبات الأضرحة، لا بد أنها يد الولي، أو على الأقل أرسل واحدًا من الملائكة الطيبين الذين يعملون على توصيل بركاته للمنازل ويودعونها الأرحام. لا بد أنه خجل من عطايا أبي، أو رقّ لحال أمي بعدما زارته هي الأخرى، وبكت تحت قدميه المقدستين. هو الذي مد يده وأبدل جسدي بالولد الذي يشتهون، ونسي أن يبدل روحي، ألم تعلم أيها الولي أن الله عندما يخلق جسدا؛ يخلق معه روحا له!!.
والله أنت ولي أعمى تخدعه الأشياء فلا يرى منها غير صورها،كل ما فعلته ، أنك منحت أمي فرصة أن تجلس في سريرها وتغني:
لما قالوا لي ده ولد.. انشدّ ضهري وانسند.
وفي المساء جلس الرجال المباركون يقضمون لحما على جسدي، فيما أبي يوزع ابتسامات الفوز بأنه أفلت، لم يعد أبو البنات كما تهمس الجارات كلما رأين عينيه الجميلتين تنظران للأرض.
أنت والله لا تستحق قطرة من دم العجل الذي ذبحه أبي على عتبتك.
بعد سنوات سيمشي في نفس الشوارع ولد جميل، بعينين رماديتين وشعر أصفر وجسد أبيض ممتلئ قليلاً. ستقول اللاتي رأينه يمشي:
هذا ولد جميل ورث عيني أبيه ومشيته، وأخذ صوت أمه الدافئ.
سبحان الله خالق كل شيء.. سبحان مقلب القلوب والأرواح بين أصابعه، هذا ولد سوف يقطع قلوب البنات بجماله، وقلبه لا يحن سوي لولد من سنه. ولد واحد فقط أخرج له روحهن، وتركها سخية بين يديه يقلبها كيف يشاء. هذه روحي يا علي، روحي التي نسيتها يد مباركة في جسدي الجميل فحولته إلى ثلاجة.
جسدي ثلاجة جميلة، تحفظ روحا لا تغني سوى بين يديك، أنا عاشقك وقاتلك. وأنت دفء روحي المنسية في جسدي.
أنا يا علي لست مثل حسونة. أنت لم تفهم، روحي منذورة لك، هكذا اقتضت حكمة ولي النفحات المباركة، وجسدي لا يتذكر ماضيه إلا بين يديك.
أنا عرفت ذلك يوم دخلنا المخزن لأول مرة، قلت لك اسمي سميرة وهدان؛ فضحكت، ولم تصدق مثلهم. أنت أيضا لم تفهم. مثلك مثل مدرس التاريخ الغبي. لكنك بدون قصد لمست جسدي؛ فأيقظت روحي المنسية.
أنت لم تكن سوي حيوان. مثلك مثل حصان يخرج عضوه كلما أحس شيئا من الدفء. لا فرق عندك بيني وبين حسونة، أو بين زينب سليمان ومارسا، كنت أعرف أنك غبي مثلهم لكنك قدري، روح منسية مثل روحي لا يوقظها سوى حيوان مثلك فيه رطوبة الطين ورائحة سعف النخيل.
والله أنا ـ الآن ـ محتار فلا أعرف أيهما لمستَ، روحي أم جسدي؟. بل حتى لا أعرف بأيهما تكون بداياتي ونهاياتي!.
تعرف يا علي.. يوم موتك أمطرت لسبع ليال حتى لان بيتك الطيني، وانبعج، وظن الناس أنه واقع لا محالة.
كنت أعرف أنه لن يقع. كنت أعرف. ولا بد أن كل الذين لانوا بين يديك كانوا يعرفون. أنا بنفسي رأيت زينب سليمان تحوم حول بيتك الطيني وتشم الرائحة التي فاحت منه، وظلت تهيج النساء كلما جاء صباح محمل بالندي.
أذكر أول مرة دخلته. كنا أطفالا، ولم تكن روحي قد استيقظت بعد، ولكني شممت تلك الرائحة، وعرفت أنها ستعلق بي أو أني سأعلق فيها. ثمة ظلام ورطوبة سحيقة، وأكوام المقاطف ما زال سعفها أخضرَ وطريًّا. كانت أمك ترشها بالماء لتحفظ طراوتها وتعدها للتاجر الذي يأتي يوم السوق ليحمّل جملين ويمضي. أنت نفسك قلت لي إنه كان يأتي قبيل الفجر، وكانت أمك تشعل الفرن من أجله، وتعد عيشا ساخنا وأكلا.
كنت صغيراً ولم تفهم لماذا أمك كلما ودعته في الصباح عادت واندست بجوارك، ثم احتوتك بقوة بين فخذيها ونامت حتي الضحي؟.
لكن شيئا نما فيك ممزوجا برطوبة الطين وسعف النخيل وصهد الفرن. إنه بيت مبارك بالعناق والشهوة، تسكنه أرواح الغرباء فلا تكف عن الرفرفة بين جدرانه. من أجل هذا كنت أعرف أنه لن يسقط، فقط.. بالمطر كان يغتسل، ويبدأ من جديد.
العفريت
يزور مارسا في دير السبع بنات، ويمنحها رعشة أخيرة .
ونهاية مفتوحة لرجل يكره جسده وتُوحشه روحه،
وملاك آخر يعصي الله ويغوي البشر
ربما كان من الضروري أن يحدث ذلك.
ربما يحتاج الأمر ـ بعد كل هذه السنين ـ لمؤامرة من نوع خاص ومتقن لأجل تلك المرأة التي وقفت تستحم؛ لتغسل عن جسدها عشرين عاماً من الوجع القديم، وقبل ذلك كانت تسأل نفسها في ليالٍ ذات ريح بارد تسكن زوايا الدير، إن كان بإمكانها أن تطلق عفريتها لمرة أخيرة.
كانت تندهش من دكنة السماء، وهي تعلم أن الوقت ضحاها، ثم تراه في قاع الوادي يلوح لها، ويتردد صوته النحاسي:
حط يا طير المسا على صدر اللي ناسيني
دا لما يسمع غنايا.. يمكن يناديني.
لذلك كان من الضروري أن ينقطع التيار الكهربائي فجأة، ويصمت الكون تماماً، هذه اللحظة التي تستيقظ فيها الحواس فجأة، حيث تتعطل قوانين القبض والبسط بما يتيح لعفريتها أن يزيح سدادته قليلاً، ليتسرب عطرها شيئاً فشيئاً في فضاء الحمام، ثم إنها وقفت عارية لوقت ترتعش، وهي تستنشق عطرها لمرة أخيرة. تماما كما فاجأها أول مرة وهي على دكة المدرسة تجلس.
كان عطراً معتقاً لربع قرن من الزمان، فداهمتها سكرة الحواس، حتى أمكنها سماع فقاعات الصابون، وهي تتنفس فوق جلدها لوقت هين، ثم تموت في صمت.
بعد كل هذا العمر أضاءت شمعتها، ربما لمرة أخيرة قبل أن تذوب، كما يذوب دخانها في بخار الماء الساخن، والعطر المعتق. في هذا المساء شافت ظلها على سلم الدير الحلزوني، وكان ضوء قمر يتسلسل من كوة في جدار، ثم شافَتْهُ..
شافته واللهِ.
الولد الذي اقترب من بحيرتها يومًا؛ فلامسها، وغنى لها، وما كان يدري أنها تحتاج لأكثر من لمسة؛ لتصطخب، فظل يلمسها حتى إنه رأى نجومها تغمز وتلتمع، فلم يقدر عودُه النحيل على اصطخابها.
الآن، وظله يلمسها على سلم الدير، لا بد سوف تميل مراكبها بعنف مباغت يسمح بانسكاب عطرها فوق درجات السلم، وسوف تحس عفريتها يموج في أسفل بطنها؛ فتقول: آه.. وتضطرب، فيضحك عفريتها الذي لم يصدق.. أبعد كل هذه السنين؟.
يمكنه الآن أن يطال روحها أيضاً، وسوف تمتلئ بلذة طازجة، وكأن كل شيء يكون بالحقيقة قائم، فتحس رطوبة الظلال والوهج، وينتشي جسدها المبلول والماء على زهرته يشف.
ستغمض عينيها قليلاً لتحفظ بقايا رعشتها الأخيرة، وفي الصباح ستهمس في إذن قسيسها:
ـ يا أبتِ.. صَلِّ لعليّ.
فروحه عالقة في ديرنا هذا.
***
سامحني يا علي.
سأعترف لك.
سأحكي عن كل الرجال الذين خلعت من أجلهم هدومي واسمي وملامح أبي، وقلت لهم اسمي سميرة وهدان، وسأذكر الوحيد الذي حمل ملامحك واسمك حتى شممتُ فيه رائحتك التي ما زالت عالقة بالمخزن.
أنا في الحقيقة كنت أبحث عنك.
في محطة مصر عرفت عشراتٍ أمثالي. عشرات من الباحثين عن عشق مستحيل. لهم نفس الابتسامات الخاطفة والإيماءات المغوية، ومع ذلك فلن تخطئ الروح المعذبة في صدورهم، هي روحك بالضبط. تكفي نظرة في عين أحدهم فتعرفه، تتبعه أو يتبعك.
ـ مساء الخير.
ـ سا النور.
ـ اسمك إيه؟.
تخاف تقول له سمير. تفكر في أي اسم تقوله. بعض الحذر مطلوب في اللقاءات الأولى. الحقيقة هي دائما لقاءات أولى. لهذا لن تكشف كل أوراقك مرة واحدة. ستقول له: أنا من طنطا.
وسيقول لك شي الله يا بدوي. أحلى ناس.
ستكون هذه الكلمة المناسبة، فرصة يجب أن تستفيد منها، وأيضا ببعض الحذر. تقول: أنت الأحلى، وتبتسم. وفي عينيك نفس النظرة الشرقانة، ستشعر بقلبك يدق، وريقك ينشف.
الآن هذه لحظة مهمة، فالجملة التالية ستكون أكثر اقترابا من الهدف، كل واحد منكم ينتظر كلمة واضحة من الآخر، وكل واحد منكم يقرب من الهدف ببطء. من سينطقها أولا، على العموم، كلما طالت المناورة كلما كان أفضل.
المناورة في حد ذاتها متعة، لحظة ارتجاف قلبك، وتهدج صوتك، وأنت تعري روحك واحدة واحدة، تعري روحك أولا قبل أن تعري جسدك، هذا هو المهم، وساعتها ستعرف أنت أيضا إذا كان يعري روحه أم يعري جسده مباشرة، الذين يعرون أجسادهم مرة واحدة كلاب. مجرد كلاب يسيئون لنا.
سيسألك الواحد منهم: إيه نظامك؟.
وستعرف أنه عرى جسده، عندئذ ستفكر في طريقة للانسحاب، ستدعي إنك كنت تشبّه عليه، ستعتذر له وتمشي.
بعد كل هذه الرحلات الأسبوعية من بلدك لمصر ستكون أكثر خبرة، والذي يحدثك الآن شكله ابن ناس، سيقول لك إنه مدرس إنجليزي مع أنه خريج علوم، وأن اسمه أحمد، وإن عينيك حلوة.
سيضحك، وسيفهم من ضحتك أنكما ستتفاهمان.
ـ أنت متجوز؟.
ـ لا..
ـ قاعد لوحدك؟.
ـ لا.. معايا الحاجة واخواتي.
ـ طب وبعدين.. حنفضل ماشيين كده؟.
ـ ممكن نقعد على قهوة هنا.. نشرب شاي ونتعرف أكتر. نسهر سوا يعني.. ولا أنت ناوي ترجع طنطا الليلة؟.
ـ لا .. أنا حاجز في لوكاندة هنا.. في كلوت بك.
ـ دي أماكن بيئة، والبوليس بيكبس عليها.
ـ بوليس..؟!.
ـ طبعا. اسمع. أعرف لوكاندة كويسة في المنيل، وصاحبها مننا وعلينا، يعني ممكن نبات سوا الأسبوع الجاي.. لو اتفاهمنا يعني.
ـ بصراحة أنا مرتاح لك.
ـ وأنا كمان.
ـ يعني مش هتزهق مني وتسيبني.
في المقهى ستلاحظ العيون التي تبص لكما، وهو يمسك بيدك ويضغط عليها ليؤكد لك أنه لن يتركك. ستلحظ أن عينيه تشبهان عيني علي راشد؛ فترتبك، ولا تعرف إن كنت تسحب يدك أو تتركها. سيضغط عليها أكثر. سيقول لك: لا تقلق.. دي قهوتنا. ستترك يدك وأنت تشعر بدماء حارة تصعد إلى وجهك، وخدر لذيذ يدغدغ أعصابك.
ستتنهد وتقول له: صحيح مصر أم الدنيا، وإنك بتفكر تسيب البلد وتعيش في مصر.
ـ علي الأقل ألاقي ناس تفهمني.. وكمان محدش هنا يعرف حد. حرية يعني.
سيحدثه عن نفسه، عن أبيه وعمله المقرف في المعصرة مع رجال كالبهائم، وتعليمه الذي لم يكمله بعد موت أبيه وأخواته البنات اللاتي يعتبرْنَه رجلهن الوحيد، ويطمعْن فيه وأزواجهن الذين يطالبون ببيع المعصرة وتوزيع الورث بشرع الله، وابنه المعوق الذي لا علاج له إلاّ في بلاد برة، وزوجته التي تشك في سفريات الخميس والجمعة.. فاهمة إني متجوز عليها.
سيضحكان.. ويطلبان حاجة ساقعة.
وفي تلك اللحظة سيفكر في علي راشد من جديد، فيما ينظر للميدان الفسيح بقلق.
***
أما الملاك الذي كان جالسا أمام باب الحمام يبكي، فلم يكن يفكر في شيء غير نادية وأحلامها التي لا يستطيع أن يدخلها في هيئته الشفافة تلك، ولو فعلها لمرة؛ لتمكن منها. فهو جميل وبهي كطاووس. وتلك الملامح التي يطالع بها الولد البدين وجدته ليست سوي شيء من تخيلات البشر.
أنا يا أيها الولد بلا كثافة أو جسد، وليس بمقدورك أن تلوّن روحي كما لونت أرواحهم، فلا تتعبني أكثر من ذلك وتشغلني بحكاياتك التي لا تنتهي. أنت رسمتها هكذا، جميلة ومغوية وتذوب من لمسة واحدة.
وحتى الكتاكيت التي لا تفهم، تعشق أن تنام بين فخذيها وتنقّر فيها. فلا أنا ولا أنت نقدر أن نمنحها اكتمالا، فالخيالات هكذا تكون بلا جسد، ولا كمال لغير الله.
يا رب. افعلْ شيئًا من أجل ملاكك الطيب. أعيتني مكائد الشيطان، وحيرتني حكمتك، فاغفر لي.
أنا لم أكن ـ وقتها ـ سوى ملاك صغير يلعب مع العيال، ولم أدرك صهيلها كما أدركه الأعمى، وليس لي جسد يرتعش، فكيف أعرف بيقظة الحواس وأنا لم أجربها؟!.
أنت يا رب لم تدخلني في تجربة، وهذه أشياء لا تفهمها الملائكة، حتى إني تركتها بين فخذي الأعمى، وانشغلت بجمع الديدان.
ديدان القز التي سقطت من صندوق سجائر البلمونت، وكادت أقدام الأولاد تدهسها، وهم يصخبون أمام باب الميضة المغلق. هذه الديدان كادت تموت لولا كنت هناك، فمن يحمي مخلوقاتك الصغيرة من الهلاك غير ملاكٍ صغير؟.
أما الآن وقد أصبحتُ شابًّا يافعًا، فامنحْ لي جسدًا حتى أسكن أحلامها فلا أتركها حتى ترتوي، لأخلصها من خطيئتها الأولى، أو أني ـ وعزَّتِك وجلالِك ـ لأُغْوِيَنّهم أجمعين.