الكاتب العراقي يكتب شهادة كائن رقمي تحرر من صفات تحد من رؤيته، ليبصر ويحذر من هول ما يلاقيه وطنه. ويكشف عما يجب أن يتسلح بها قومه لمواجهة الفظائع وأشكال الدمار المتعددة. ينفتح هذا النص بحيث لا يسكن نوعا بعينه، فالصرخة لا تقف عند حدود بعينها بل تتجاوزها لتوقظ من يسمعها.

في مَدار الطُوفان

«نص عند حافة الوَجل والشراسة- شهادة كائن رقمي»

باسم المرعبي

ها أنا أقف وحيداً أمامكم على هذه الصفحة البيضاء أو عندها.. وربما أنا الذي أقف في الوقتُ ذاته على بلاطِ غرفة وحيدة نائية في بيت منسي بين بُيوت منسية، أو أقفُ في أرض عارية مكشوفة للريح والنجوم وتبدّلات المواسم... أقفُ في محطة، كمتشرد يتذرّع بانتظار القطار، وأفكاره نهباً للبرد والجوع والضجر. أقفُ عند نهر يتكرّر...

أنا سينٌ من الناس لامٌ من الناس كافٌ من الناس. ليس مهماً اسمي أو هويتي، لا أهمية لأية صفة فقد تشَيّأ الإنسان إن لم يكن قد تحوّلَ الى كائن رقمي وهي مرحلةٌ أبعد من الآلي. فاذا كان الآلي في الأقل مجسّداً فإنّ الرقمي هو افتراضي أو وهم. ولتلطيف الصدمة، أقول: وهمٌ ايجابي.

لا شيَ صار يدل على وجودي أنا الرقمي. تطلعاتي وأحلامي افتراض، العلاقة بالآخر افتراض. الحب، الكره، الشجاعة، الجبن، الخوف، والروائح افتراض. سوى العزلة والحزن، ما مِن شيء مؤكد أو له قابلية أن يُلمس، لكأنّ الحياة تتسكّع بعيداً عن شاشة الكومبيوتر وأثير الإنترنيت، صحبةَ دمعةٍ تتنزه طليقة في الأحراش أو شوارع المدن.

.....................

أنا الشاهد اللا حيادي: أرى حصاناً يتمرّغ في ما تبقى من بقعة تراب محاصرة بزحف الإسمنت والحديد. فيما شاشات البورصات تضج بالأرقام المتبدلة كالبرق.

أرى طفلة تعدو بضفائرها على رمل ستُصكّ منه الأسلحة.

أنا الشاهد اللا حيادي، أقولُ لكم ستكون القطارات وكل وسائط النقل بإهاب من المسلحين، إذ لا شيء سيمضي بسلام. ستكون الأقنعة زينتنا في هواء فاسد. سنخطرُ بملابس معدنية وقلانس من فولاذ لدرأ ما قد يطالنا، فلا شيء في مأمن. تدرّعوا بالسلاح لا الصبر والحكمة. هذا عصر العمى والجنون الغبي والبذاءات. لا مكان فيه لأسطر من الكتاب.

صارت قوائم اللوتو ونشرات البنوك كتبنا المقدّسة. الدمُ يرصّع الماس وبقية الأحجار الكريمة زائفةً كانت أم حقيقية. والقتل التسلية الوحيدة لشعوب يقتلها الضجر والفراغ.

القتل هو مهنة العاطلين.

.....................

أُطفئُ التلفزيون لئلا يحملهُ موجُ الدم. لم أعد أعرف أهذا أحمر شفاه يلطّخُ أفواه المذيعات أم الدم يسيل وهنّ يسردن وقائع القتل. كم جثة ستحول بين فم المذيعة وقبلتها!

وكم مدية ستستدرج القاتل الى حفل مقابلة الضحايا في حديقة الموت.

المُدى، السيوف، الغازات بأنواعها، الناسفات بأشكالها وكلّ أنواع الحديد والمعادن المُفعّلة

صارت هوية دخانية لعالمنا المعرّف بروائحه الضارية كأعتى المداخن.

.....................

كأنّ الوجوه ترى الى نفسها في صفحات السكاكين، في التماعة النصل، في السمّ المُعدّ لصقلها. الوجوه تركن إلى شحوبها فقد اصطفاها الرعب موزّعاً عليها أعطياته التي لا تُردّ.،

بكلمات تطفر من فمِ الأرق يؤكّد أن النهار ما هو إلا ظفرُ الليل... ينشبُ كلماته في جدار العالم، شاهداً على كوكب يتقدم بفؤاد ضرير وبعينين لهما صفاقة الأظفار والمخالب لتدمى صفحات التواريخ.

أجرؤ على تدوين فظائع العالم أو مراقبتها بقلب له هشاشةُ الفراشة لكن بروح مفعمة أو مثقلة بشكيمة الأسد، متسائلاً كم محبرةَ دم، بل كم نهراً أو بحراً يحتاج التاريخ كي يثبت زهوَه وصلاحيته للتداول..!

.....................

أتحيّنُ الظلال، وجِلاً، كمن يمشي قرب جدار سينقضّ، كمن يرى المصابيح محجوبة بأجنحة سود.

مهددٌ بالذكرى إذ كلما مالتِ الشمس تذكّرتُ انعكاسها على لوح الزجاج العريض الذي صادفني قبل أيام ولم يكن ثمة أي حجر على مقربة رغم بحثي الطويل.. وها أنا صرتُ أرِقاً، ممزقَ النوم، لكن ما ان يغالبني النعاس، وإن لثانية، حتى أسمع صوت زجاج يتهشم آتٍ من مكان بعيد وأُفيق على قبضتي مضمومةً ترتجف من الغيظ.،

قبضتي واجمة أمام سيل الأخبار والدماء والكوارث. والكوارث نسبية أيضاً. فسقوط عشرات الضحايا في بلد ما يمضي كسطر غير مرئي بين آلاف السطور في جريدة وسقوط مواطن واحد يُعلنُ يوم حداد وطني في بلد آخر. الخدشُ كارثة. انطفاء شارع الرشيد كارثة. وأن يفرّ شعبٌ من نفسه شيٌ يتخطّى الكارثة.

لكننا نبقى نَشتقّ الأمل، فما من خيار أمامنا سوى ذلك. لفتتني عبارة لعبد الوهاب الدايني¹ في لقاء سريع معه إذ يقول، "كم تفرحُني ابتسامة طفل وإن كان على المزبلة".

.....................

ها هو جُرح بغداد بطول دجلة، بطول الفرات بطول حافة تطلّ على دمع لا ينضب. نقف هناك بمناديلنا ننشّ عن وجه بغدادَ الغبار والسخام والبرقَ والهتافات الكاذبة. نسألُ نجمةً عائمة في سمائها أن تنظر بمائها الى عطشنا، و تمسح بشُعاعها ما تراكمَ على وجوهنا من رمال الأزمنة وأن تتلطّف بالفراشات المتحدّرة من أجساد الضحايا..

أيّ رعب وهول وكلّ ما لا يُروى قد خبرهَ الضحايا تحت بأس جلاديهم بأقنعتهم السود وأدوات القتل أو التعذيب الشيطانية؟

أية أجواء نشرها القتلة في أقبية السلخ البشري..

شيءٌ لا يمكن حتى للسيد هيتشكوك أن يتنبّأ به أو يمكن له أن يتصوره مهما بلغ به خياله الجامح نحو هندسة الرعب، حيث لم يشتط به خياله، على وحشيته، نحو حزّ الرقاب بصفائحَ مسنّنة.

ما يستلزم ذلك خيالٌ أسود مريض بامتياز وليس أي خيال آخر.

الأخ يسقط بمدية أخيه

والأم على يد ابنتها

والتلميذ على يد معلمه...

إذاً أيّ مستنقع شيطاني يغطس به العالم

يا كوكب شعبي التائه في مدار الطوفان، أي قارب نجاة تأمل؟

من سيصنع الفلك وأنت بلا يدين!

كيف لك أن تزيح الستارة عن الشبابيك لتعرف أن كانت الدماء قد انحسرت عن النوافذ

هل انشققتَ نصفين: قتيلٌ وقاتل؟

وفي الأيام التي اتضحتَ فيها أكثر كضحية كنتُ أتذكّر عبارة "بريخت" عن الشعب الألماني إبانّ هتلر بأنه تحول الى نصف مُراقَب ونصف مراقِب.

والآن.. هل تحوّلتَ يا شعبي الى قطيع من عبَدة السكاكين والرصاص.. الرصاص هو ذهبك المُموّه. يقول ستيغ داغرمان² على لسان الضحايا: "لم يكن الرصاص هو الذي خطف حيواتنا بل الرجال، رجال آخرون. لا تلعنوا الرصاص. العنوهم.... في البلاد تمدد الموتُ على كلّ طاولة، في القصر الكبير جلس الموت على الكرسي وتحدّث الى الشعب".

لكن البلاغة المسنّنة لنصيف فلك³ تقول المسألة بطريقة أخرى مباغِتة في غضبها وحزنها وتقريرها إذ كتب يقول "تحول الوطن الى جثة والشعب الى دود". هل ثمّة ما هو أفجع من ذلك. هل ثمة، بَعدُ، ما يرمّم هذا الشرخ-العار؟

علينا أن ننكأ الجُرحَ لا أن نخدّره. أن ننظفه، نطّهره بالنار.

لا مكان لكتابة تُغضي على الأذى والقيح.

يا شعبي العظيم! التعاليم التي لكَ في الألواح طُوّحَ بها في الهواء فكم من عجل اتخذتَ في غياب النبيّ وكم من سامريّ استعذبتَ، كأنك صدى خوار العجل، ولا يمّ قربك لنحرّقَ أو لنَنسفَ...

.....................

ليس لسوى كائن رقمي، المقدرة، على أن يرى ويروي عالماً حائزاً كلّ هذه الفظائع ومتوجاً بجنونه الأسوَد.

 

03 ـ 08 ـ 2010

 

1ـ عبد الوهاب الدايني ممثل ومؤلف وكاتب سيناريو عراقي معروف.

2ـ ستيغ داغرمان ١٩٢۳-١٩٥٤ شاعر وروائي وصحفي سويدي والمقطع المختار هنا من قصيدته،

"محادثة بين الأحياء والموتى"، بترجمة ب. م.

3ـ نصيف فلك شاعر وروائي عُرفَ بروايته الجريئة خضرقد والعصر الزيتوني.