هناك عدد محدود من الرجال الذين قاموا في نصف القرن الآخير بدور قيادي ووطني كبير دفع بمصر إلى الأمام وأمن سلامتها وحفظ وحدتها وكانوا تجسيداً للعبقرية المصرية على مستوى الزعامة الوطنية والمسؤولية العامة، على رأس هؤلاء الزعيمان عبد الناصر والسادات، ومن بين هؤلاء قداسة البابا شنودة، الذي قاد الكنيسة القبطية أربعين عاماً واحتضن وطنه مصر فأحيا مقولة الزعيم المصري مكرم عبيد أن مصر ليست وطناً نعيش فيه لكنه وطن يعيش فينا، حتى أصبحت هذه المقولة المعبرة أكثر التصاقاً بالأنبا شنودة منها بقائلها الأصلي.
ولكن البابا شنودة لا يحتاج لهذه العبارة لكي يثبت وطنيته الصلبة، فقد كانت أفعاله هي الأقدر على التعبير عن وهج هذه الوطنية المتأججة، التي بدأت منذ صباه وشبابه واشتراكه كمجند في الجيش المصري في حرب فلسطين عام 1948، مما جعله يظل وفياً للقضية الفلسطينية حتى آخر نفس في حياته، ومن المعروف أن الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات لم يكن يزور القاهرة إلا ويزور قداسة البابا، الذي وقف موقفاً وطنياً مشرفاً وجريئاً حين رفض اصطحاب الرئيس السادات في زيارته للقدس بل وأصدر تصريحاً يحرم على الأقباط جميعاً زيارة القدس قائلاً إن الأقباط لا يدخلونها إلا يداً في يد إخوتهم المسلمين. وهو موقف أثار عليه غضب السادات البالغ مما أدى إلى قيام السادات بمحاولة "عزل" البابا وتعيين لجنة بابوية تقوم بأعماله مع الأمر "باحتجازه" أي سجنه في الدير وذلك ضمن قرارات سبتمبر 81 الشهيرة، وحتى بعد اغتيال السادات بعد شهر واحد ومجيء الرئيس المخلوع مبارك لم يسمح للبابا شنودة بالخروج من محبسه والعودة إلى مقر البابوية إلا بعد أربع سنوات كاملة بلا مبرر واضح، إذ أعطى مبارك وقتها "الملف القبطي" للأمن المركزي ووزارة الداخلية، وهي من مهازل منظومة القيادة البائسة الفاشلة للمخلوع مبارك، وعلى مدى الأربعين عاماً التي قاد فيها البابا شنودة الكنيسة القبطية واحتضن فيها وطنه مصر تجلت عبقريته القيادية على ثلاثة أبعاد هي البعد الوطني والبعد الكنسي والبعد الشخصي.
البعد الوطني
ذكرت موقف قداسة البابا من قضية العرب الأولى وهي القضية الفلسطينية مما دفع الكثيرين من القيادات الفلسطينية والعربية بتلقيبه بـ"بابا العرب" وهو لقب لم يطلق على بطريرك مصري أو عربي آخر، وكان من بين الصعاب التي واجهها البابا على مدى قيادته الروحية والسياسية الاضرارية هي اختلاف موقفه الوطني ورؤيته القومية عن تلك التي كانت للرئيسين اللذين عايشهما، السادات ومبارك، إذ كانت رؤية البابا شنودة وروحه الوطنية وأفكاره القومية والشعبية كلها أقرب إلى الرؤية الناصرية منها إلى رؤية السادات و"لا رؤية" مبارك (إذ لم تكن له أية رؤية)، وكنت أحياناً أهرب من واقع مصر المزري في السنوات الأخيرة للسادات وطيلة سنوات مبارك إلى تخيل حال مصر لو كان الله قد مد في عمر عبد الناصر وكان البابا شنودة هو بابا الأقباط في عهده الذي كان عهداً وطنياً وقومياً متوهجاً لا تختلط فيه السياسة مع الدين ولا تدخل الدولة بأجهزتها الأمنية - كما فعلت في عهد مبارك - في لعبة توازنات وتحريضات ومؤامرات طائفية خسيسة وبشعة تتواطأ فيها مع قوى التطرف وتيارات الإسلام السياسي المتشددة في صفقة شيطانية تمنح فيها الدولة الشارع المصري للتيار الديني في تغييب للجموع المسحوقة ومزايدة على الدروشة الدينية بشرط الابتعاد عن كراسي ومغانم السلطة والتسلط، ووجد الأقباط أنفسهم ضائعين ومستباحين ومهدرة حقوقهم ودماءهم بين طرفي هذه الصفقة الضالة والضارة والتي أدت إلى تقسيم الوطن وطعن وحدته الوطنية في القلب.
وجد البابا شنودة نفسه في خلاف فكري ووطني أساسي مع السادات الذي أطلق الجماعات الإسلامية المتشددة على الشارع المصري وبدأ تحويل مصر إلى مجتمع ديني متشدد خالعاً عنه ثوب الوسطية المصرية التقليدية، ثم في خلاف فكري ووطني أيضاً مع مبارك الذي أدت غيبوبته القيادية إلى استمرار تصاعد تطرف الجماعات الإسلامية التي راحت تجذب المجتمع المصري تدريجياً إلى الوراء تحت دعاوى رجعية وسلفية تعادي العصر وتعادي الآخر المختلف عقائدياً. ووقع الصدام مع السادات واستمر مع مبارك، وقد تجلت عبقرية البابا شنودة في قدرته الفائقة على إدارة العلاقة المعقدة مع أنظمة الأمن الملوثة التي كان مضطراً للتعامل معها في غياب قيادة سياسية مسؤولة بسبب غياب مبارك عن الوعي السياسي منذ يومه الأول حتى أن المصريين كانوا يتندرون على مبارك وقلة حيلته وتواضع موهبته منذ أن أعلن رئيساً.
يمكن القول إن للقيادة الرزينة الهادئة والمتزنة للبابا شنودة كل الفضل في عدم انزلاق مصر إلى حالة من الفتنة الطائفية الدائمة والصدع النهائي بين عنصري الأمة خاصة وقد كانت تتصاعد طوال الوقت أصوات متطرفة من بعض الإسلاميين كالدكتور محمد عمارة الذي كان يهين البابا إهانة علنية في التليفزيون المصري بأن يقول عنه "شنودة" بلا أي لقب رغم أن التقليد المصري هو مخاطبة الجميع بألقاب مثل أستاذ أو بك أو دكتور أو فضيلة أو قداسة، كما نشر نفس الدكتور عمارة كتاباً أعاد فيه قول الغزالي بوجوب إهدار دم الأقباط. في الجانب الآخر تصاعدت أصوات متطرفة لأفراد أقباط في المهجر تطالب بتقسيم مصر وقيام دولة قبطية على جزء منها. وفي هذا المناخ الهمجي الملوث لم تكن لدولة المصرية تتعامل مع الأقباط إلا من مدخل أمني بحت، مع بعض المهرجانات الإعلامية لحفلات تقبيل اللحى بين شيوخ وقساوسة.
الحكمة السياسية البالغة للبابا شنودة هي من قاد السفينة المصرية الداخلية بأقل قدر من الخسائر والجراح والإصابات عبر البحار الهائجة لتيارات التطرف من جانب ونظام الدولة الفاشلة الفاسدة من الجانب الآخر فله الفضل في الحفاظ على أمن مصر القومي الذي لا تقوم له قائمة إلا بالوحدة الوطنية الداخلية التي كانت هي الهم الوطني الأول له، ولذلك لم يكن غريباً أن قامت مصر بواجبات تشييع ووداع وجناز هذا الزعيم الوطني الكبير بشكل ضخم ومهيب إذ إستمر الإعلام المصري في حالة حداد ثلاثة أيام منح فيها العاملون الأقباط عطلة للمشاركة فخرج ما يزيد على المليونين من البشر معظمهم من الأقباط ولكن معهم عدد من المسلمين ملأون الشوارع المحيطة بالكاتدرائية بالقاهرة في مشهد يذكر بخروج المصريين لتشييع الزعيم جمال عبد الناصر، ومن المشاهد المؤثرة بعد هذا وقوف عدد من السيدات القبطيات بملابس الحداد السوداء أمام صورة كبيرة للبابا شنودة تحمل كل منهن لوحة عليها كلمة واحدة حيث تتكون من الكلمات عبارة "حبكم وصل..شكراً إخوتنا المسلمين".
البعد الكنسي
استطاعت الكنيسة القبطية في عهد البابا شنودة أن تصبح كنيسة عالمية، لها تواجد قوي ومتزايد خارج مصر في أوروبا والولايات المتحدة وأستراليا والبلاد العربية، وقام قداسة البابا بتشجيع هذا الانفتاح والتواجد العالمي وقام ببناء المئات من الكنائس وبعض الأديرة بهذه الأماكن، وكان يزورها سنوياً ويرسل إليها بمندوبيه من الأساقفة والكهنة، كما اهتم بتطوير الخطاب الديني والاهتمام باختيار الكهنة من المتعلمين تعليماً عالياً، واهتم بالكلية الإكليريكية وبالصحف القبطية وكان هو نفسه رئيس تحرير مجلة "الكرازة"، كما كانت مقالاته تظهر باستمرار في عدد من الصحف القومية والخاصة، وظهرت في بداية عهده "الهيئة القبطية" في الولايات المتحدة على إثر حادثة حرق كنيسة الخانكة بالقاهرة عام 1972 وكانت هي باكورة عمل ما سمي بأقباط المهجر، وكانوا وما زالوا يعملون خارج النظام الإداري الكنسي ولا يخضعون لأحد من القيادات الكنسية بمن فيهم البابا نفسه بل كثيرا ما اتخذوا مواقف مضادة لمواقف القيادة الكنسية، مع ولائهم الروحي ومحبتهم الطبيعية لقداسة البابا.
ليس معنى هذا الازدهار الكنسي أنه لم توجد مشاكل كنسية للأقباط في عهد البابا فقد تصاعدت أصوات عدد متزايد من المتضررين من الموقف المتشدد للكنسية في المسائل المتعلقة بالطلاق والزواج الثاني، كما تصاعدت أصوات لمجموعة من العلمانيين تطالب بحركة إصلاح للنظم الإدارية الكنسية، التي يحتاج الكثير منها بالفعل للإصلاح حتى لا يستمر النظام الكنسي في وضع يدار فيه بشكل فردي وليس بشكل مؤسساتي عصري، كما أنه يدار أيضاً بشكل لم يعرف بعد الأساليب الديمقراطية الحديثة، رغم أن نظام انتخاب البابا نفسه هو نظام ديمقراطي إلى حد معقول.
كما قام البعض - ومنهم كاتب هذه السطور- بانتقاد الإعلان الذي صدر عن المجمع المقدس الذي يرأسه قداسة البابا يؤيد الرئيس مبارك في ترشيحه عام 2005 ثم في طلبهم ألا يخرج الأقباط في 25 يناير 2011 ونحمد الله أن الكثيرين من شباب الأقباط لم يستجيبوا لهذه المطالب وهم يدركون أن البابا والمجمع المقدس كان يوضع دائماً تحت ضغوط هائلة ومقايضات رهيبة من أمن الدولة لحمله على تأييد النظام، فالبابا لم يسع للعب دور سياسي وانما فرض عليه النظام ذلك فحين طلب منه السادات زيارة القدس إضطر إلى إتخاذ موقفه السياسي الرافض لهذا، وحين قام الرئيس المخلوع مبارك بتفريغ الحياة السياسية في مصر من كل أشكال العمل السياسي الحقيقي لم يترك للأقباط فرصة ظهور قيادات مدنية تتدرب على العمل السياسي وكان أمن لدولة يذهب إلي القيادة الكنسية في كل شؤون الأقباط ولم يكن أمام الكنيسة سوى القيام بهذا الدور.
البعد الشخصي
لم يكن ممكنا أن يظل البابا شنودة محتفظاً بذلك القدر الهائل من الشعبية الذي تمتع به طيلة حياته، خاصة مع الأحوال الصعبة للأقباط ومع قراراته الصارمة بخصوص منع زيارة القدس والتشدد في موضوع الطلاق، إلا لأن شخصية البابا نفسه كانت جذابة وبسيطة وجميلة ومرحة ومثقفة إلى أبعد الحدود، بشكل يندر أن تجده مجتمعاً في شخص واحد، ويمكن القول أن شخصية البابا كانت نموذجاً بديعاً لشخصية المثقف المصري الصميم. فأول ما يجذبك إليه هو روح الدعابة المصرية المحببة التي تدعوه إلى اللجوء للدعابة والضحك في كل مقابلة أو حديث أو عظة، حتى يلطف من الأجواء ويقرب بين الناس وكأنه يؤكد بهذا أيضاً مصريته الحميمة التي لا شبهة فيها، فالمصري سواء كان قائداً أم مقوداً الذي يفتقر إلى روح الدعابة ليس مصرياً خالصاً ولا ينتمي انتماءاً حقيقياً حضارياً وتاريخياً للثقافة المصرية والوجدان المصري.
وقد كان قداسة البابا يطعم عظاته الدينية التي اعتاد إلقاءها في اجتماعه الأسبوعي المفتوح بالنكات والطرائف والتعليقات الضاحكة، حتى راح البعض يجمع هذه النكات باعتبارها من مآثر البابا، وأحد أشهر هذه التعليقات الساخرة ذات البعد السياسي كانت في الثمانينات حينما تصاعد تيار الجماعات الإسلامية المتطرفة التي قامت بالاغتيالات والاعتداءات على شخصيات سياسية وأمنية ودينية وعلى الأقباط وتصاعدت معها موجة الهجرة للأقباط ولجوءهم للولايات المتحدة وكندا وغيرهما، وكانت بين هذه الجماعات المتطرفة واحدة اسمها جماعة التكفير والهجرة فكان تعليق البابا في أحد اجتماعاته هو: "هما عندهم التكفير والهجرة، واحنا عندنا التفكير في الهجرة"، وكانت هذه نكتة وشكوى سياسية مرة في نفس الوقت.
ولكن البابا شنودة لم يكن مصرياً مرحاً فقط كمعظم المصريين، وإنما كان أيضاً مثقفاً ثقافة موسوعية لا يتمتع بها سوى القليلين وخاصة بين معظم المحيطين بالسادات ومبارك، ولم يكن متمكناً من اللغة العربية فحسب، بل كان شاعراً جميلاً كتب عشرات القصائد التأملية لإنسانية والروحية المؤثرة، التي نجد فيها بعضاً من أسلوب مدرسة أبولو في مصر، وخاصة ابراهيم ناجي وأيضاً شعر المهجر وخاصة إيليا أبو ماضي، وليس أجمل من الشعر أختم به مقالي هذا عن قائد روحي ووطني عظيم لا يجود الزمان بأمثاله كثيراً، و نرجو أن ينعم الله على مصر خلفاً له بقائد آخر يسير على نهجه الحكيم، يحمل الشعلة ويكمل مسيرة الكنيسة القبطية المصرية التاريخية القوية التي لا تضحي بالدين على أرض الوطن ولا تضحي بالوطن على مذبح الدين.
كاتب مصري مقيم في نيويورك