يتناول الكاتب والروائي العراقي الذي يقيم في الدنمارك، تجربة الجيل الجديد من أبناء الجالية العراقية في هذا البلد كما تتجلى في الرواية التي يتناولها هنا، ويكشف فيها عن كيف أن حيرة أبناء الجاليات الإسلامية في الغرب قد تركت بصمتها الدامغة على بنية الرواية السردية التي جاءت في نهاية الأمر، برغم تصويرها لحياة دنماركية، رواية ملفوفة بالحجاب حسب تعبيره.

عن التكوين الفكري والأخلاقي لأبناء الجاليات الإسلامية

في الغرب في رواية «تحت سماء كوبنهاجن» لحوراء النداوي

سلام إبراهيم

تترجم رواية (تحت سماء كوبنهاجن) للعراقية حوراء النداواي الصادرة عن دار الساقي 2010 معاناة الجيل الأول من اللاجئين العراقيين في الغرب الأوربي – التجربة الأسكندنافية – من وجهة نظر كاتبة من الجيل نفسه، ومن هنا تأتي أهميتها، فهذا الموضوع أي معاناة اللاجئين تناوله العديد من الكتاب والكاتبات أذكر منهم عالية ممدوح في روايتيها (المحبوبات)، و(التشهي)، ودنى طالب في روايتها (عندما تستيقظ الرائحة)، وجنان جاسم حلاوي في (هواء قليل)، وعلي عبد العال في (أقمار عراقية)، وشاكر الأنباري في (موطن الأسرار) وأسعد الجبوري في (التأليف بين طبقات الليل والنهار). وجميع هذه النصوص تناولت إشكالية الأبوين مع المجتمع الجديد ومع أبنائهم الذين ولدوا في الغرب في صراعهم مع المنظومة الأخلاقية الغريبة في وسطها الاجتماعي المختلف تماما عن منظومة وعادات وتقاليد مجتمعهم القديم، أو صورت معاناة أولئك الأبناء من وجهة نظر اللاجئ.

مع نص الكاتبة – حوراء النداوي – نقع على وجهة نظر مختلفة تماما، ألقت الضوء على طبيعة تلك الإشكالية العميقة التي لم يستطع الكتاب اللاجئين في نصوصهم سبر غور الجيل الأول، ومعرفة الطريقة التي يفكرون فيها، كذلك لم نستطع كوالدين الإحساس بها، بل كنا نتوهم بأننا فعلنا خيراً بجعلهم يعيشون في مجتمعات مرتبة تحترم حقوق الإنسان، ولا يكاد يوجد بها عوز وفقر، كما هو الحال في الدنمرك رحم الرواية كمكان. فالساردة الرئيسية – هدى – عراقية ولدت في – كوبنهاجن – من أبوين عراقيين هربا بحثا عن حياة آمنة عبر شمال العراق، تاركين ولدهم الكبير - عماد – الذي يكبرها بعشر سنوات لدى جديه، وصار لهما في الدنمرك بنتين، الكبيرة أسمها – نخيل – تكبر الساردة بسبع سنوات والصغيرة التي من خلالها نكتشف عالم جيل المنفيين الأول الأكثر تعقيدا، والذي لا يعنيه مبررات ترك المكان الأول مهما كانت، وغير مشغول بأسئلة الآباء الذين هربوا من جحيم أوطانهم: «ولدتُ هنا في كوبنهاغن – الدنمرك، من أبوين عربيين عراقيين، هاجرا إليها من العراق بسبب ظروف أخبراني أنها صعبة .. ظروف لم اهتم كثيراً بمعرفتها، وإن كان اغلبها قد حُشر في رأسي عنوةً من كثرة الحديث عنها حتى ليخيل إليّ أحياناً أني عاصرتها» (ص 22- 23). من أولى صفحات صوت – هدى – تعلن أن لديها شأنها المختلف تماما، إشكالية وجود ستتجلى رويدا .. رويدا مع توالي فصول الرواية.

معاناة الجيل الأول أنهم يقعون تحت ضغط العائلة والجالية بقيمها الثقافية المورثة من بيئة موجودة في المخيلة بالنسبة لهم، وضغط قيم المجتمع الغربي الذين ولدوا وترعرعوا فيه. فعائلة – هدى – نموذج للعوائل العراقية المتنورة التي تفتحت على جو الحرية النسبي في أوائل سبعينات القرن العشرين، إذ يخبرنا السرد أن الأب تعّرف على الأم في بغداد حينما لجأت إلى محله – بيع أدوات كهربائية - هاربةً من الشرطة التي كانت تقوم بصبغ سيقان الطالبات اللواتي يرتدين الميني جوب موضة تلك الفترة. فيقوم بتوصيلها وتنشأ علاقة حب، تعيد على القارئ ما سمعته من والديها في معرض رصدها للتحولات الجديدة التي طرأت على الأم مع طول فترة النفي وشعور اللاجئ بعزلته في المجتمع الجديد، فيرتد نحو تقاليد الجالية وأعرافها المستقاة لا من الواقع بل من تقاليد مجتمع موجود بالذاكرة، أي ليس لها تحقق واقعي بل تتضارب مع قيم المجتمع الحاضن فتنعزل ناسجة علاقات مغلقة، وهذا ما صارت إليه أم – هدى – في علاقاتها بالعائلة العراقية المهجرة إلى – إيران – والذين سكنوا قرب بيتهم. إذ بدأت الأم بارتداء الشال ثم الحجاب، فشراء لوحات الآيات القرآنية وتعليقها في غرف البيت، بينما بقى الأب يشرب يوميا ولا يؤمن بهذه التقاليد. ومن هنا يبدأ الضغط على الجيل الأول، ولاسيما أن الأخ الأكبر – عماد – الذي لا يبادل الأهل مشاعرهم، ولم يسامحهم لتركه في العراق، والذي يضغط بدوره على أختيه وأمه باتجاه التقاليد والأعراف العراقية، فتستسلم الأخت الكبيرة – نخيل – حالما تحصل على زوج عراقي وتتحجب محض إرادتها. بينما تبقى – هدى – تقاوم ثم تستسلم هي الأخرى إلى الحجاب تحت ضغط أمها. لكنها تكتشف لاحقا أن أمها تتستر على معاشرة أخيها مع دنمركية تكبره سناً وتشاركه السكن، حينما يجلب ملابسه لغرض غسلها فتجد ملابس داخلية نسائية. فيدور حوار حاد مع الأم حول هذا الموضوع. متسائلة:

- لا يمكنك منعه مما هو خطأ وحرام، وتمنعينني من أمور عادية هي من حقي (ص 165).

فبيئة الجالية وضغطها على عائلة – هدى – يوقعها في أرباك سلوكي وأخلاقي، مما يخلق منها شخصية غير واثقة بنفسها مترددة، لا تحزم شيئاً، تسلك عكس ما ترغب. ومن ناحية أخرى تواجه ضغط قيم المجتمع الدنمركي؛ البيئة الواقعية الحقيقية، بيئة من دم ولحم تنظر نحو تحولها إلى الحجاب وتقليص العلاقات مع زملائها وزميلاتها الدنمركيين بنظرة تعتقد الساردة – هدى – أنها نظرة ازدراء، مضاف إلى ما يصادف الأجنبي في هذه البلدان من نظرة الحركات العنصرية المعادية للأجانب التي استفحلت خلال العشرين سنة الأخيرة في أوربا بشكل عام وفي الدنمرك بشكلٍ خاص، وهذا ما أشارت إليه الرواية في أكثر من موقع وحدث. شخصية تشعر باغتراب مركب، فهي غريبة وسط العائلة والجالية بقيمها، وكذلك في المجتمع الدنمركي بنمط حياته اليومية الذي تمارسه وتتنفسه هواء ولغة في المدرسة والشارع، وهنا لابد أن نشير إلى السرد يصور حياة – هدى – منذ الطفولة وحتى إكمالها مرحلة الإعدادية. هذا الوضع الجحيمي يجعلها تصرخ في حيرة باحثة عن وسط اجتماعي يقبلها دون أن تعثر على جوابٍ (ص75). شخصت الساردة الكثير من ملامح التخندق العراقي وسط الجالية، تخندق طائفي، عرقي، قومي، حزبي، جعل من أفراد الجالية المستقلين يشعرون بالمزيد من الاغتراب، كما هو حال والد هدى. تشظي الجالية العراقية هو الوجه الحقيقي لما جرى للمجتمع العراقي عقب الاحتلال الأمريكي 2003. إذ كشف الأمر عن هشاشة التعايش السلمي في بنية المجتمع العراقي الذي يبدو انه كان قائما بفضل قوة السلطة المركزية في تاريخ العراق الحديث (ص90).

بنية النص واللعبة السردية
تقوم بنية النص على فكرة علاقة تنشأ عبر النيت بين – هدى – الشخصية المحورية التي كتبت روايتها باللغة الدنمركية، تراسل – رافد – وهو عراقي يكبرها سنا، أعدم أخيه الشيوعي في العراق، ونشأ في عائلة ليس فيها إناث، وهرب إلى الدنمرك وهو كبير عبر تركيا، يعمل مترجما عاديا، ومتزوج من امرأة يصفها بالرقة – شذى. تصله رسالة في الفصل الأول عبر البريد الالكتروني من هدى فيها الفصل الأول من روايتها، أما الفصل المرقم 2 فيكون صوت – هدى – الراوية وهي تسرد تجربتها التي قدمنا لها، وتتوالى الفصول الـ 19 – بين صوتي رافد، وهدى. نكتشف من خلال تقدم الفصول أن – هدى – متعلقة بـ - رافد – دون أن يدري حينما لمحته مرة في مطعم تركي وسط شلته العراقية، بينما كانت هي بصحبة زميلتها – زينة – العراقية التي مارست تحررها بطريقة تناسب البيئة الجديدة، ودخلت بعلاقة عاطفية مع عماد. ولا يعلم – رافد – بتعلق – هدى – به إلا بعد الزواج وبفضل الرسالة وترجمة فصول الرواية فصلا .. فصلا ..

أصابت اللعبة السردية بنية الرواية بالضعف، فشخصية – رافد – تقليدية ضعيفة لم تقدم ما يغني النص فنيا وفكريا، بل استخدمته الكاتبة كرافعة لسرد تجربتها فبدا باهتا، رغم أنها جعلتهما يلتقيان مرتين، كان الأول فاتراً، شاحبا غير مبرر ولا حرارة فكرية ولا فنية ولا عاطفية فيه، في محطة للوقود ليلا في وسط كوبنهاغن. واللقاء الثاني فصل 15 على شاطئ البحر كان أكثر افتعالا، فيه صناعة وحذلقة لغوية في الوصف، والحوار الذي بدا مضحكا، عمومياً معني بأفكار عامة فبدت العلاقة لا حياة فيها. وبذا انتفى مبرر السرد الذي ارتكزت عليه اللعبة الروائية فأصيب هيكلها بنقص يشعر القارئ بأن الكاتبة لم تحبك روايتها جيدا إذ لم تستطع أن توهمنا بوجود حقيقي للشخصية المحورية الأخرى – رافد – والذي أعطته ما يقرب من نصف صفحات سرد الرواية البالغة 392 من القطع الكبير. كان من الأفضل للنص كبنية ولعبة سردية أن يقتصر على ما سردته – هدى – وبتعبير أدق يقتصر النص على روايتها دون الحاجة للترجمة، ورافد، والعلاقة الخيالية التي يصعب تصديقها في بلد مثل الدنمرك، وبمواصفات عائلة كعائلة – هدى – غير متدينة ومتحررة. وهذا أدى إلى كثرة المقاطع الإنشائية والثرثرة التي ليست لها علاقة بثيمة النص وأفكاره وأحداثه، مثل الثرثرة المكررة في الحديث عن المدينة والنساء وهو موضوع أكل عليه الدهر وشرب من كثرة ما تناوله الكّتاب. والكاتبة لم تأتي بجديد بل كررت مشاعر وأحاسيس مكتوبة مسبقا. وأسوق هنا نموذجا:

«ولهذا، لم يكن بإمكان مدينة غير كوبنهاغن أن تجمعني بها. لهذا يستحيل على بغداد أن تتمخض عني وعنها لتجمعنا معا.. لا يمكنها لضخامتها، وعراقتها، وجمالها، وندى نهرها، وسحر تاريخها.. بغداد هذه بكل عظمتها تعجز عن جمع امرأة مثل هدى برجل هو ابنها. النساء وحدهن يمكن أن يعّرفنك بمدينة.. هؤلاء يشبهن المدن التي يقطنّها .. تماما كما تشبه هدى كوبنهاغن، وكما لا تشبه بغداد» (ص 144). والكثير من هذه الثرثرة المرتكزة على البديهيات المستقاة من القراءات لا من التجربة الحسية وأغلبها في الفصول التي يكون فيها الراوي – رافد –

أو نموذج عن أفكار عن الأحاسيس مصطنعة:

«ولكي أشفي من إحباطي وأقبل على حياتي الجديدة بصدر منشرح، كان عليّ أن أصنع لنفسي ذكريات جديدة، احشرها عنوة في رأسي.. أدشن نساء جديدات وغريبات، أختبر معهن حبا لا أفقهه .. أستمع إلى أغانٍ جديدة» (ص143) والنص فيه الكثير من المقاطع الشبيه التي كان من الممكن تشذيبها وحذفها لولا اللعبة السردية التي صاغت بنية النص إلى هذا المنحى الهش.

رسمت الكاتبة أبعاد شخصية – هدى – من الطفولة إلى نضجها بعد إكمالها الإعدادية بكيفية بدت فيها لا تتناسب مع بيئة عائلتها المتحررة ولا مع بيئة المجتمع الذي تعيش فيه، أي بنتها بطريقة متحفظة، طهرانية، تشعر بذنب من قضية الجنس، وتعتبره نجاسة ووساخة كما تصفه في الكثير من الصفحات ص240، إذ تعتبر نفسها في مقطع خطابي يمتد إلى ثلاث صفحات محاصرة بكل ما يفتقر إلى الطهر، وتعتبر كل ما يحيطها حكايات ساقطة، وتتمنى أن يكون العمر من مرحلتين نصفه طفولة ونصفه كهولة، دون أن يعكر صفو حياتنا الشباب، على حد تعبير الساردة ص241. ومثل هذه الأفكار والأحاسيس لا تناسب إطلاقا عراقية مراهقة تعيش في بيئة حرة ومحاصرة في البيت بقيم ليست شديدة الصرامة. فالتجربة الواقعية هنا تقول غير ما جاءت به الرواية، يضاف إلى أن مسار السرد يكشف عن أرتباك بناء الشخصية فنيا إذ رغم علاقتها الحميمة والمنفتحة بأبيها تجعلها الكاتبة تقيم علاقة غريبة عبر النيت مع دنماركي – توربن – عمره 56 سنة، تتشهاه بصوتها السردي، وهي تصف صوره التي بعثها وتبوح له بهمومها وأسرارها وتواعده في محطة – كوبنهاجن – والدعوة لعلاقة جسدية، فتوربن رتب اللقاء كي يأخذها إلى غرفة في الفندق، لكنها حسب ما باحت به علنا في النص تقول أنها ذهبت فعلا إلى المحطة، ورأته ينتظرها لكنها تراجعت في اللحظة الأخيرة. مضاف إلى علاقتها برضا ابن جارهم وهربها إلى ليل كوبنهاغن في ليلة عيد ميلادها بسيارته، وهذه البيئة السرية التي ممكن أن تقيم فيها علاقاتها الحرة دون رقيب في وضعها هو ما نعرفه فعلا في واقع التجربة ضمن مقولات أصبحت بديهية عن الممنوع المرغوب، ولاسيما في بيئة حرة، أعرضت الكاتبة عنها. ليس أعرضت فحسب بل أدانت كل سلوك لم تبح به في مقاطع إنشائية فكرية أشرنا إليها مما زاد من بنية شخصية – هدى – افتعالاً فبدت غير مقنعة وملتبسة. وهذا متأتي برأيي من التباس ثقافة الكاتبة، لذا بدت متحفظة في البوح عن تجربة الجسد وجسد المرأة بالتحديد، والذي هو محور الصراع بين ثقافة الوطن الغاربة، وثقافة المجتمع الغربي. فالمراهقة في العراق تمارس بالسر الكثير من المباهج الممنوعة، فكيف بخصال شخصية تروى لنا رواية عن أصغر خلجاتها. أجد أن النص متخلف جدا من ناحية تحرره الأخلاقي بالمقارنة مع كاتبات عراقيات لم ينشأن في هذه المجتمعات كنصوص عالية ممدوح الشجاعة، ونصوص دنى طالب. وهذا متأتي من تحفظ الأجيال الجديدة الظاهري إذ عبرت الساردة في الصفحات الأولى عن خشيتها من البوح باسم عائلتها التي تقول مخاطبة إياها: «لكنني لن أذكر أسم أسرتي.. ليس لخوفي من الألسنة التي تنالني، ولكن احتراما للأسرة التي لم أنل منها شيئا سوى ذلك الاسم. أن انتمائي إليكم لا يعدو الاسم واللقب» (ص22). لذا بدت الشخصية مضطربة أخفت علينا كقراء تجربتها الجسدية التي دارت عليها كل معاركها مع الجالية والعائلة التي حاولت أحجام الجسد عن ممارسة حقه في البيئة الدنمركية التي يكفل المجتمع والقانون والتقاليد هذه الحرية. وبهذا المعنى فالنص كشف عن تخلف التكوين الفكري والأخلاقي لأبناء الجاليات الشرقية والإسلامية، مدى تحفظاتها الأخلاقية لحدود جعلت كاتبة عراقية شابة تكتب رواية ملفوفة بالحجاب.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الرواية ضمن قائمة البوكر العربية الطويلة 2011