ينشأ في المجتمعات غير المتطوّرة أو الّتي تتقاعس عن بذل الجهود لنموّها الفكريّ والاجتماعي، سلوكاً يتّجه بها نحو التّمسّك بفكرة ما، قد تكون مستوردة أو محليّة وذلك بهدف إثبات الذّات أو الاحتماء بهذه الفكرة. كما قد تكون هذه الفكرة وليدة أحداث معيّنة نتيجة لعدم انفتاح الشّعوب على بعضها، وعدم التّمييز بين الانفتاح والتّقليد. والانفتاح هو الاطّلاع على ما هو مختلف واختيار ما هو مناسب لنموّ الإنسان الفكريّ والاجتماعيّ والنّفسيّ، دون أن يعيق مسيرته الحضاريّة ودون أن يلغيها. أمّا التّقليد فهو أن يمارس الإنسان ما هو مختلف عن محيطه وبيئته بغض النّظر إذا ما كان سليماً أم غير سليم. وبالتّالي يستقدم عادات وتقاليد غريبة عن مجتمعه، ويدخلها في صلب الحياة اليوميّة باعتبار أنّه يتطوّر. وإن دلّ التّقليد على شيء فهو يدلّ على عدم النّضج والثّقة بالذّات، وعدم القدرة على ابتكار ما هو جديد. وهذا يعيق حرّيّة الإنسان الشّخصيّة، إذ إنّه يمارس ما هو منافٍ لطبيعته ولكنه متأثّر ومنبهر بما هو جديد، دون استخدام العقل والتّحليل فيما إذا كان مناسباً أم لا.
لا ندعو طبعاً إلى نبذ كلّ ما هو مختلف وجديد، ولكنّ المطلوب أن نعي ما هو مهم ومفيد لمجتمعنا، وما هو مضرّ أو ما يتسبّب في انحلال حضارتنا. عندما انفتحت شعوبنا على الغرب، انحصر اهتمامها إلى حدّ بعيد بما هو سطحيّ، وقلّة قليلة هي الّتي استقدمت ما يساعدها على التطوّر الذّاتيّ. فمثلاً، سيطر الإعلام الغربيّ على مجتمعاتنا بشكل اتّخذ فيه مساحة كبيرة من حياتنا اليوميّة وبتنا نقلّد ما نراه، بل أكثر من ذلك توهّمنا أنّ ما نراه هو الحقيقة. ممّا أثّر بشكل سلبيّ على تقدّمنا الفكريّ والنّفسيّ. ثمّ جاء الإنترنت وساهمت إلى حد أكبر بتعزيز غرائزنا وإثارة فضوليتنا اللاعلميّة، وعزّزت كسلنا في البحث والتّقدّم. وبدل أن نستخدم تلك الوسائل بشكل إيجابيّ بتنا نسعى إليها لتزيد من تخديرنا العقليّ والنّفسيّ.
وأهمّ ما نتج عن تخديرنا الفكريّ والنّفسيّ، حالة التطرّف الّتي نحن عليها. والتطرّف لا يعني التطرّف الدّينيّ وحسب، وإنّما يشمل أيّ نوع من التطرّف المتعلّق بالتّمسّك السّلبيّ بفكر معيّن إلى حد اعتباره الحقيقة الكاملة، ومحاولة السّيطرة على الآخر من خلاله. والمتطرّف هو الشّخص الّذي تجاوز الاعتدال في رأيٍ أو عمل وهو الّذي تمسّك بعقيدة أو فكر حزبيّ أو سياسيّ .. إلى أقصى حدّ. والتّطرّف، هو حالة مرضيّة، سواء أكان على المستوى النّفسيّ أم على المستوى الاجتماعيّ.
إن تحدّثنا عن التطرّف الدّينيّ، فسوف نرى أنّ المتطرّف الدّينيّ، هو شخص مرتبك اجتماعيا، متشبّث بفكرة عقائديّة معيّنة، ويفرضها على الآخر. ليس لأنّه مقتنع بها وحسب، وإنّما لأنّه يعتبرها حقيقة كاملة، ويعتبر نفسه سيّد هذه الحقيقة. كما وأنّ المتطرّف الدّينيّ، وإلى أيّ دين انتمى، يعاني نوعاً من اضطراب نفسيّ، ولا أقول مرضاً، ينتج عن نقص في الثّقة بالذات. وبالتالي يحاول إثبات ذاته من خلال الدّين لأنّه الأشمل والأقوى. هذا الاضطراب النّفسيّ يقلّل من أهميّة التّحليل العقليّ، فيصبح العقل في حالة اكتساب فقط، دون العودة إلى المقارنة، كما يمتنع الشّخص عن الحوار والنّقاش بهدف اكتساب الأفضل. فتسيطر عليه حالة الانغلاق على الذّات، ويسجن نفسه داخل عقيدته، عن تعصّب وليس عن إيمان، والفرق شاسع. لأنّ الإيمان هو علاقة مع الله ومع الآخر، ولا علاقة مع الأوّل دون الثّاني. أمّا التّعصّب فهو التّمسّك بالفكرة كفكرة، دون الغوص فيها، وبالتّالي تبقى الفكرة قشوراً غير قابلة للتطوّر.
وإن تحدّثنا عن التّطرّف الالحاديّ، ولا أقصد الملحد الباحث عن الحقيقة، وإنما الملحد الّذي يتبع موضة الإلحاد. هذا النّوع أيضاً يرفض بشكل مطلق الآخر ويستهزئ به، ومتى ادّعى الحوار يسخر من كلّ معتقداته مفتقداً النّقاش العلميّ والمنطقيّ. ولأني أجزم، أنّه إذا ما سيطر التطرّف الإلحادي يوماً ما، فسوف يكون أشدّ قسوة على المجتمعات من التطرّف الدّينيّ. ولسوف يضّطهد الآخر لأنّه يتشبّث بفكره ليس عن قناعة، إنّما عن ردّة فعل، وسيسلك طريقه بناءً على ردّات فعل وليس عن قناعة حرّة.
ونأتي على ذكر التطرّف السّياسيّ، الّذي يستخدم سياسة التّخوين، والمزايدة على حبّ الوطن وإلى ما هنالك من ادّعاءات كاذبة. فالتطرّف السّياسيّ هو الأخطر لأنّه يستبعد أيّ فكر حرّ، ويتّهمه بالعمالة والخيانة إذا لم يتّفق معه، من هنا نشهد الاقتتال ما بين أبناء الوطن الواحد، والطّرفان خائنان، لأنّهما يدمّران وطناً، ويدمّران حضارة بأكملها. والتطرّف السّياسيّ، يشمل كل أنواع التطرّف، فهو يتكلّم باسم الدّين والعلمانيّة والإلحاد .. إلخ. ونشهد حروباً كلاميّة مقيتة، وشجاراً إعلاميّاً رخيصاً، لا يثمر العقل ولا يفيده. وينتفي من عقولنا أسلوب الحوار وعرض الأفكار، وطرحها بشكل منطقيّ بهدف التّكامل وبناء بعضنا البعض.
ليس المطلوب أن ننصهر ببعضنا البعض ويفقد كلّ منّا حرّيّة فكره الشّخصيّة. المطلوب أن نعمل على تثقيف ذواتنا من خلال الآخر، ومحاورة الإنسان فيه. كما علينا أن نتخلّى عن فكرة امتلاكنا للحقيقة الكاملة، وادّعاء أنّنا المخلصون والمخلّصون للمجتمع أو للوطن. كما علينا أن نسعى لتثقيف عقولنا حول كيفيّة الحوار وأصوله. ونحن بعيدون عنه كلّ البعد، فما نسمّيه حواراً، ليس إلّا ثرثرات وتعبيرا عن غضب ورفض لفكر الآخر. ونطالب بالحرّيات ونرفض حرّيّة الآخر، على المستوى الفكري والدّيني والاجتماعي، ومتى اختلف عنّا نخوّنه أو نكفّره.
من حقّ كل إنسان أن يفكّر على طريقته، ويمارس فكره شريطة ألّا يتعدّى حدود حرّيّة الآخر. فليس من شأن أحد إن آمن هذا أو ألحد ذاك. وليس من شأن أحد إن اختار أحدهم الانتماء لحزب معيّن أو اختار آخر أن يكون مستقلّاً .
1- الـتّطرّف الدّينيّ
لعلّ أكثر المواضيع الّتي نواجه فيها الكثير من الصّدامات، هو موضوع الدّين. وذلك لأنّه موضوع بالغ الحساسيّة، لا بل يطرق مشاعر الإنسان وكرامته. ولعلّنا نخلط كثيراً بين ما هو حوار دينيّ عقلانيّ يتضمّن عرض الفكر العقائديّ وبين محاولة إقناع الطّرف المحاور بالحقّ. وما زلنا في مجتمعاتنا نفتقد كثيراً للحوارات الدّينيّة الرّاقية والعقلانيّة، إذ إنّنا ونحن نحاور، ندافع أكثر ممّا نشرح قناعاتنا، كما أنّنا نمزج بين الإيمان كعلاقة شخصية حميميّة مع الله، وبين الدّين الّذي هو وسيلة تعبير عن هذا الإيمان.
نشأت الأديان نتيجة انغلاق مجموعات معيّنة على بعضها، وخلقت منظومة دينيّة تتوافق وظروفها الاجتماعيّة والنّفسيّة، متأثّرة بمحيطها، وتتوق إلى معرفة السّامي والمطلق، ولكن باختلاف طرائق التّعبير. إنّ كلّ مجموعة انغلقت على نفسها خوفاً من الآخر فخلقت منظومة اجتماعيّة هي "الدّين". وأذكر مثالاً على ذلك "المسيحيّة". إنّ المسيحيّة لم تنشأ كدين في البداية، وإنّما هي الخبر المفرح المعلن للعالم أجمع، ألا وهو الخلاص. ولم يكن بعد قد أطلق على من اتّبعوا هذا الفكر تسمية "مسيحيين". إلّا أنّهم فيما بعد لقّبوا كذلك لأنّهم يتبعون المسيح. ولمّا انغلقت المسيحيّة على نفسها خوفاً من اليهود والوثنيّين نشأت كديانة، أي كمنظمة. ولم يعترف بها كدين رسميّ إلّا في عهد الملك قسطنطين. كذلك اليهوديّة، فاليهود انغلقوا على أنفسهم خوفاً من الحضارات الوثنيّة. ولا يمكنا التّحدّث عن ديانة يهوديّة إلّا مع الملك داوود... ولا أدخل في تاريخ الأديان لأنّه خارج عن موضوعنا.
إذاً، فالخوف والانغلاق نتج عنه مجموعة دينيّة معيّنة وبالتّالي تمسّكت هذه المجموعة بفكرها على أنّه الحقيقة المطلقة، ومتى استلمت زمام الأمور، وامتلكت السّلطة، فرضت ما تعتقده حقيقة مطلقة، ونسيت الجوهر الحقيقيّ للعقيدة. كما استخدمت هذه الحقيقة المطلقة وسيلة ترهيب أو ترغيب لمحاولة السّيطرة على الآخر دون احترام فكره وعقيدته وقناعاته. والتّاريخ حافل بالممارسات المسيئة بحق الإنسان من المجموعات الدّينيّة باسم الله والدّين. فمتى استخدم الدّين كوسيلة ضغط على الآخر من حيث أن نفرض عليه ما نعتقده حقيقة مطلقة، واستبعاد أي فكر يخالف قناعاتنا، ومتى استخدمنا الدّين كسلطة تدير شؤون المجتمعات، أعتقد أنّنا نكون قد وصلنا إلى التّطرّف الّذي هو اتّخاذ أقصى طرف في قناعة معيّنة والتّمسّك بها كحقيقة مطلقة، وكلّ ما دونها يكون باطلاً. لا أحد يملك الحقيقة المطلقة، ولا أحد يحقّ له أن يفرض قناعاته على الآخر بحجة إعلان الحقّ. فكلّ واحد منّا يسعى إلى معرفة الحقّ، ولا نعرفه بشكل مطلق، إنّما نحن في بحث دائم ومستمرّ إلى أن نلامس الحقّ وبالتّالي ندخل تدريجيّاً في سرّه لنتأمّله ونعيشه. ولا يدعينّ أحد أنّه يعلن الحقّ، فكأنّه يقول: إنّه هو الحقّ.
ذكرنا سابقاً أنّ المتطرّف هو شخص يعاني من اضّطراب نفسيّ، نتيجة النّشوء في محيط معيّن، ونتيجة تربية معيّنة، وغالباً ما تكون قاسية، وتفقد الفرد ثقته بنفسه. فيحاول إثبات ذاته من خلال الانخراط في فكر معيّن، يتمسّك به، ويحاول فرضه. كما يسعى إلى النّجاح في ذلك على أن يحسّن من صورته أمام ذاته. أمّا المتطرّف الدينيّ، فهو يحاول أوّلاً إثبات ذاته أمام الآخر، وثانياً يقتل حاجز الخوف من الآخر من خلال اعتباره على ضلال. فيأتي هذا الشّعور بالتّعالي الّذي يعزّز نظرته لذاته ويؤكّد له ثقته بنفسه. إن الخطير في الموضوع أنّ المتطرف دينياً يمارس قناعاته وضغوطاته باسم الله. فيتمسك بالله الحرف، وينسى تماماً الله الجوهر. فالله الحرف هو مجموعة نصوص وكلمات، وتكاليف تملي على الإنسان منهج عيش معيّن. أمّا الله الجوهر، فهو أن يدرك الإنسان أنّ علاقته بالله تكون متينة بمقدار ما تكون علاقته مع الإنسان قويّة. المتطرّف الدّينيّ يستبعد الإنسان، أو بمعنى أصح، يستبعد كلّ من يخالفه قناعاته الدّينيّة، ويستخدم النّصوص الحرفيّة في حقّ الآخر، ولا يخلو الأمر من إهانات وشتائم والأخطر، أنّه يصل به الجنون الدّينيّ إلى القتل باسم الله.
من خلال حواراتي مع الكثير من المتطرّفين دينيّاً، ولا أحصر الموضوع في دين معيّن، وإنّما أتحدّث بشكل عام. يخلو قلب المتطرّف الدّينيّ من الإنسانية التي جاء من أجلها الدّين. وبالتّالي ينحصر عقله بما هو متمسك به. لا يصغي وإنّما يفكّر كيف سيملي ما حفظه من نصوص وشروحات على الآخر. لا يفعل ذلك بدافع الحبّ، إنّما بدافع كسب النّجاح الّذاتيّ، وتحسين الصّورة أمام الذّات. لا يحاور وإنّما يقمع. ومتى نفذ صبره استخدم سياسة التّرهيب والتّهديد إلى أن يصل إلى جرح كرامة محاوره. هذا على المستوى الفرديّ. أمّا على المستوى العام، فنشهد تلك الجماعات الدّينيّة المتطرّفة، والموجودة في جميع الأديان، كيف تغذّيها منظمات شتّى وتدرّبها على قمع الفكر الحرّ. والقمع إمّا يكون باستخدام الوسائل الإعلاميّة، وحدّث ولا حرج عن انحطاطها الفكريّ، وإمّا باستخدام القتل، وإنهاء حياة كلّ مخالف.
التّطرف الدّيني هو موضوع أبعد ما يكون عن الدّين، حتّى ولو أن الأفراد يعتقدون أنّهم يدافعون عن الدّين. إنّما على مستوى الكبار فهو مدخل واسع لتحقيق مصالح شخصية، وامتلاك السّلطة. وهو وسيلة لحرب فكريّة تبيد حضارة أجيال بكاملها. فالحروب الفكرية أخطر بكثير من الحروب الّتي يستخدم فيها السّلاح. السّلاح يقتل وانتهينا، أمّا السّلاح المستخدم في قمع الفكر فهو يتغلغل في خلايا الإنسان الدّماغية، وفي سلوكيّاته لينشّئ جيلاً على العنف والعداء والكراهية. ليس من حقّ أحد أن يفرض معتقده، وليس من حقّ أي معتقد أن يسعى إلى الحكم والسّلطة مدّعياً إعلان حق الله. وأيّ دين ومهما كان متسامحاً، متى وصل إلى السّلطة سيكون في قمّة الظّلم إذ إنّه يكفي أنّ يفرض عقيدته كسلطة أو كقانون. من حقّ كل إنسان أن يعبّر عن فكره الحرّ، وأن يقتنع أو لا بفكر معيّن. كما أنّه من حقّه أن يعلن انتماءه لله أو لا. وليس دورنا كمؤمنين أن نقنع الآخر بما نعتقد أنه حقّ، وإنّما دورنا أن نكون في خدمة الإنسان، أي إنسان، لنكون بالتّالي في خدمة الله.
2- التّطرّف الإلحادي
الإلحاد هو الميل أو العدول عن الشيء، وهو وصف لأي موقف فكري يرفض التّصديق بوجود صانع (خالق وفق الفهم الديني) واعٍ للوجود، أو بوجود "كائنات" مطلقة القدرة (الآلهة).لأن شرط العلم (بحسب أفلاطون) هو أن يكون المعلوم قضيّة منطقيّة صحيحة، مثبتة، ويمكن الاعتقاد بها. ولما كان ادّعاء وجود إله، بحسب الملحد، غير مثبت (ادّعاء كاذب) فإن التّصديق بوجود إله ليس علماً، وإنّما هو نمط من "الإيمان" الشّخصي غير قائم على أدلّة، وما يـُقدّم بلا دليل يمكن رفضه بلا دليل. ومن هذا فإن الإلحاد الصّرف هو موقف افتراضي، بمعنى أنه ليس ادّعاء ولكنّه جواباً على ادّعاء بالرّفض. ويعرّف الإلحاد من وجهة نظر كثير من الأديان بأنه إنكار للأدلةّ العلميّة والعقليّة ونحوهما على وجود صانع واعٍ للكون والحياة ومستحقّ للعبادة (الله). وإن طالعنا قاموس (لسان العرب)، فسوف نقرأ باستفاضة التّعريف عن الإلحاد. وبغضّ النّظر عن التّعريفات، فكلمة "ملحد" المتداولة بين النّاس، تعني من يرفض وجود الله.
وإنّي أرى في الملحد باحثاً عن الحقيقة. إن كان يرفض الله أم لا، أو إن كان يعترف بوجوده أم لا. هو يبحث عن الحقيقة انطلاقاً من فكره وخبرته الشّخصيّة، وهذا حقّ مشروع لا جدال فيه. وأعتقد أن ما خلق الفكر الإلحادي أو الاتجاه الإلحادي، هو ما قدّمه الفكر الدّيني من مغالطات ومن قمع لحرّيّة الإنسان. بمعنى أنّه لم يغص سابقاً بما يكفي في دراسة النّصوص الكتابيّة دراسة علميّة أوّلا واستسلم لإيمان أعمى. ثانيّاً قدّم الله بحسب ما فهمه على أنّه سيّد جبار مخيف يقمع حرّيّة الإنسان الفكريّة ويعيق انطلاقه الفكريّ. كما عكس صورته كمحرّك الخير والشّر ولم يعطِ الدّين بالمفهوم الإنساني جواباً واضحاً لأمور كثيرة تحصل، ويحار بها الفكر الإنسانيّ. لا بل هناك الكثير من الأجوبة المبهمة يرفضها الفكر الإنسانيّ الحرّ. والأخطر المواجهة العنيفة لمفكّرين كثر حاولوا تحليل ما يدور حولهم بعيداً عن الدّين أو نقد النصوص الكتابيّة. حاربت المؤسّسات الدّينيّة من أطلق عليهم اسم "هراطقة"، وأفضّل أن أسمّيهم مفكرين يحاولون إيجاد حقيقة ما. كما شرّعوا إعدامهم أو نفيهم، وهذا انتهاك للإنسانيّة باسم الله. فأي نقد بنّاءٍ لنصّ كتابيّ أو لجوهر عقيدة، لا يضرّ العقيدة بشيء ولا يزعزعها. كما أنّه لا يمس الله بشيء. ولا أُدين أحداً ولا أتّهم أحداً، كما أنّي لا أدافع عن الإلحاد، إنّما أعترف له بالحقّ في البحث عن الحقيقة، وفق منظوره الشّخصيّ وخبرته الشّخصيّة.
كما أنّه لا يجب فرز النّاس بين مؤمن وملحد. وأعتبر هذه التّسميات، مجحفة بحقّ الإنسان. لقد قابلت ملحدين، ملء قلبهم الحبّ والصّدق، وقابلت متديّنين أشدّ إلحاداً من الملحد نفسه بحسب تعريفنا للملحد. أرفض أن أسمّيه ملحداً، إنّه إنسان يبحث عن الحقيقة. وإن كان الإلحاد هو الميل عن الدّين أو العدول عنه، فكثير منّا، نحن من نلقّب أنفسنا بالمؤمنين، يعدل أحياناً عن الدّين ويطعن به، ولكنّ الفرق بيننا وبينه، جرأته على إعلان ذلك. ولمّا انفتح الحوار بين الملحدين والمؤمنين، أخذ أغلب المؤمنين بالدّفاع عن الدّين أو عن الله دون مناقشة عقليّة متّزنة. ثمّ استخدموا سياسة التّهديد والتّرهيب، الّتي تحرّر منها الملحد أصلاً ولا تعني له شيئاً. وأعتقد أنّنا لم نعرض غالباً فكرنا وعقائدنا بشكل راقٍ ومتّزن. فالفكر يواجه بالفكر، وليس بالشّتائم والرّصاص. وننظر إلى الملحد وكأنّه كائن مخيف أو إنسان دون مستوانا. وهذا ينفي إيماننا كلّ النّفي ويطعن الدّين في الصّميم. بالمقابل، فمن المرفوض أن يتّخذ الملحد أقصى طرف إلحاده ويمارس قمعاً فكريّاً وإنسانيّاً على فكر المؤمن. وليس من المقبول محاربة الفكر الدّينيّ والاستهزاء به، وشتم رسول أو شفيع أو من يعتبره المؤمن مقدّساً. هذا ليس من شأن أحد، لكلّ منّا حرّيّته الشّخصية في التّعبير والفكر. وكما أنّ الإيمان بالنّسبة للملحد غير يقينيّ، كذلك الإلحاد ليس يقيناً. وما يقرّب المسافة بين فكر وفكر مضاد هو الحوار وليس الحرب.
إنّ التّطرّف الإلحاديّ كما الدّينيّ، يستخدم شتّى الوسائل لخوض حرب شرسة يثبت فيها الواحد للآخر فكره. مع العلم أنّ الحروب تبيد ولا تبني، تقتل ولا تبقي على شيء. كما أنّه يستفزّ المؤمن باستهزائه بالدين والإيمان، وهذا ليس إنسانيّاً وليس فعلاً حرّاً، إنّ سيطرة التّطرّف الإلحادي يوماً على العالم، فسيكون أشدّ قسوة من التّطرّف الدّينيّ. وسيحكم ويقمع بما يراه حقيقة مطلقة. وسيعتقل ويعدم ويرهب. ذلك لأنّه سيستخدم نفس الكرباج الّذي جلده به من يخالفه فكريّاً، ولأنّه سيتصرّف غرائزيّاً وليس وفق منطق يقتنع به. ولقد استُخدِم التّطرّف الإلحادي كما الدّينيّ لمحاربة الفكر والحدّ من نموه وتطوّره. فأيّ محاربة لفكر ينتج عنها إبادة فكريّة للطّرفين ويخلق مكان الإبداع العنف والقمع.
3- التّطرّف السّياسيّ
السّياسة هي فن الممكن وهي من "ساس"، وتعني: تولي أمر الناس وإرشادهم إلى الطريق الصالح. ولابد من التّفريق بين السّياسة باعتبارها علماً له مفاهيمه وقواعده وبين السّياسة باعتبارها ممارسة وتصرّفات وقرارات. وإن كان من المنطقي أن تستند الثّانية على الأولى، ولكن جرى العمل على الانفصال بين السّياسة العلميّة والسّياسة العمليّة.
هناك اتّجاهان في تعريف علم السّياسة وهما:
الأوّل: يعرفّها بأنّها علم الدّولة أي ذلك العلم الّذي يدرس الدّولة: مفهومها، وتنظيمها ومؤسّساتها، وتشكيلاتها، وممارستها، وسياساتها.
الثّاني: يعرّفها بأنّها علم السّلطة أي ذلك الّذي يدرس السّلطة باعتبارها مفهوماً شاملاً يمتدّ إلى الاجتماعات البشريّة كافة، فمنذ وجد الإنسان على ظهر الأرض والعيش مع الآخرين ظهرت ضرورة تتطلّبها الطّبيعة الإنسانيّة وهي بدورها تفرض ضرورة وجود علاقات مبنيّة على أساس التّفاوت والاختلاف. ممّا يتطلّب وجود حقوق وواجبات والتزامات واختلافات بصدد كلّ هذه ممّا يفرض وجود سلطة. فالسّلطة وضع اجتماعيّ وهي علاقة بآخر. السّلطة إذن، هي إحدى مسلّمات الطّبيعة البشريّة، يكمن سبب وجودها من شرعيّتها في الهدف الّذي تشكّلت من أجله في المجتمع .
والسّياسة ليست كما يعرفها الجميع زعامة أو وراثة أو إقطاع أو مناصب وهي ليست محصورة لا بأحزاب ولا جمعيات ولا مؤسّسات. إنّ السّياسة بمفهومها الحقيقيّ والمغيّب هي إدارة شؤون الدّولة والوطن والمواطن. وأعتقد أنّه اليوم بات مفهوم السّياسة بعيداً إلى حدّ ما عن مفهوم السّياسة الرّاقي. إذ بات مفهوم السّياسة، اللّعبة الأساسيّة للسّيطرة على الشّعوب، وتسييرهم وفق مصالح معيّنة وأهداف خاصة تحكمها السّلطة ويستأثر بها المال. والسّياسة، إن على المستوى العالمي أو المحلّي، فقدت قيمتها كخدمة للشعوب وباتت خططاً تحاك بعنايةٍ ودقّة وحرص لفرض سياسات عالميّة على الشّعوب من خلال منظّمات سرّيّة أو علنيّة، تهدف إلى السّيطرة المحكمة على كلّ ما لا يتوافق وأهدافها الاستراتيجية، والسّياسيّة، والماليّة. وما نشهده اليوم في مجتمعاتنا العربيّة، وأحصر الموضوع في مجتمعاتنا كي لا يتشعّب كثيراً، خير دليل على أنّ السّياسات العالميّة هي الّتي تقودنا ونُساقُ خلفها، إمّا عن جهل وإمّا عن قناعة، وإمّا عن مصلحة وهذا الأخطر .
لا أريد أن يفهم القارئ أنّني أستخفّ بالشعوب العربيّة وإنجازاتهم، أو أنّني أقلّل من شأن أحد. جلّ ما أريده هو تسليط الضّوء على بعض الأمور الّتي أراها خطيرة جدا، ونحن نتعامل معها بعاطفة وردّات فعل. لقد تحدّثت سابقاً عن التّطرّف الدّينيّ والتّطرّف الإلحاديّ، اللّذين يدخلان في صميم التّطرّف السّياسي، وليسا بعيدين عنه، فهما يتشكّلان ضمن نفس الهيكليّة ولكن مع اختلاف الأهداف والمضمون. ولا شك أنّهما يستخدمان ضمن اللّعبة السّياسيّة. ليساهما بتدمير ما تبقّى من فكر راقٍ في مجتمعاتنا، ولقمع الحرّيّة الفكريّة. ومن يستخدمهما، يعي تماماً مدى تأثيرهما الخطير والفعّال في شعوب لا تفقه بعد معنى الحرّيّة بشكل واضح، ولا تؤمن بعدُ بحرّيّة المعتقد وإن ادّعت ذلك. ولا تحترم الفكر الحرّ الّذي يخالفها. ولا ننسى الإعلام السّياسيّ الموجّه، الّذي يُنفق عليه المليارات من المال السّياسيّ، ليساهم في هذه الحرب الفكريّة البغيضة. إنّ دور الإعلام أرقى من التّحريض والانحياز إلى فئات معيّنة. كما أن دوره إيصال الحقيقة وليس إيصال نصفها. فمن أوصل نصف الحقيقة، كان كاذباً بامتياز. السّياسات العالميّة تدرس منهجيّة تفكير الشّعوب، وعلى أساس ذلك تبثّ سمّها، ونحن نبتلعه متهلّلين على أنّه شراب فاخر ومستورد.
التّطرّف الديني المستخدم في السّياسة لمحاربة الفكر الحرّ وقمعه:
إن الجماعات المتشدّدة سواء أكانت مسيحية أم إسلاميّة أم أيّاً كانت، لهي جماعات هدفها الأساسيّ تدمير الدّين بغض النّظر عن قناعة الأفراد، وهي المنهجيّة العامّة الّتي يجهلها الصّغار ويهدف إليها الكبار. إن البدع الّتي نشأت لمحاربة المسيحيّة، جذورها واحدة وهدفها واحد هو تدمير المسيحيّة ولا أعلن سرّاً في هذا الموضوع. ولقد ساهمت إلى حدّ بعيد في تضليل البعض عن جوهر المسيحيّة الأساس، كما أنّها تركت انطباعاً عامّاً عند السّذّج والكسالى في البحث عن جوهر مسيحيّتهم، أنّها المسيحيّة الحقّة. ولا يُخفى على أحد التيّارات المسيحيّة الصّهيونيّة الّتي تنشر فكرها البغيض، وتستقطب السّذّج وضعيفي النّفوس وتستخدمهم في تنفيذ مآربها. وهذه التيّارات يندرج تحت لوائها أهمّ حكّام العالم، ويتحفوننا كلّ يوم بأفكارهم البغيضة. لا أحد ينسى يوم أعلن "جورج بوش" الابن بغباء الحرب الصّليبيّة على العراق، والأغبى من ابتلع هذه الجملة وجنّد جماعاته للدّفاع عن القيم الدّينيّة. وتركت الدّولة الأميركية العراق يتخبّط بأبشع وأعنف الجماعات المتشدّدة ولا أفهم أين الحرّيّة في ذلك. وهجّرت النّاس من بيوتهم وشرّدتهم باسم الدّين وباسم الله. وخلقت جيلاً تسري العدائيّة في دمه. وها هم العراقيّون مشتّتون في العالم، بلا وطن وبلا أمان، لأن السّياسة العالميّة أرادت أن تحرّرهم من "صدّام".
ثمّ التّيّارات الإسلاميّة المتشدّدة والمتعجرفة، الّتي شوّهت جوهر الإسلام، الّذي هو حرّيّة الإنسان، وجعلت منه بعبعاً يخيف النّاس من الإسلام الكريم. هذه الجماعات الّتي انحدرت بالدّين إلى مستوى الحزب. ولا أهين الأحزاب ولا أمقت الفكر الحزبيّ، إنّما الدّين وربّما يتّفق معي الجميع، هو رسالة إنسانيّة، وليس فكراً بحاجة إلى دعاية في الانتخابات، ومن لم يلتزم به يكون كافراً. وحدّث ولا حرج عن الجماعات الدّينيّة وسلوكها طريق الخلاص باسم الله والدّين، وهي بعيدة كلّ البعد عن المفهوم الإنسانيّ للدين. فمن يفقه في المسيحيّة والإسلام يفهم تماماً ما أقول. أمّا من يريد أن يهدي النّاس إلى الحقّ لأنّه يعتبر أنّه يملكه وحده، فورقته هذه الأيّام خاسرة، وإن كانت تُستخدم لأهداف سياسيّة. فهناك طبقة مفكّرة لا بأس بها وتستحقّ كل الاحترام، تسعى لنشر الوعي بين النّاس، إن كان وعياً دينيّاً أو إنسانيّاً.
ومع احترامي وتقديري لكلّ الثّورات العربية، وللشّعوب المعبّرة عن رفضها للقمع والاضطهاد الفكري، ومحاربتها للفساد، إلّا أنّه سبق هذه الثّورات تحرّكاً لافتاً للجماعات الدّينيّة، ونراهم اليوم وكأنّهم صنّاع الثّورات ويطالبون بالتّفرّد بالحكم، مع أنّهم يطالبون بالحرّيّة والديمقراطية. يكفي أن ندخل الغرف الصّوتيّة ونشهد قمّة الانحطاط في الحروب الكلاميّة المقيتة الّتي تتبادلها أفراد الأديان، لا بل الطّوائف. ويكفي أن نمرّ على بعض الفضائيّات لنشهد أبشع أنواع الصّور عن الفكر الديني. كلّهم يعلنون الحقّ والخلاص، وكلّهم يهدون إلى الحقّ، وكلّهم يكفّرون .. والمأساة أن نرى جيلاً يتربّى على هذه الأفكار المقزّزة. هؤلاء تسلّلوا إلى الثّورات وادّعوا أنّهم يطالبون بالحرّيّة، وهم فعلياً ينتقمون لأنفسهم، ويودّون السّيطرة والتّفرد بالحكم ليعيدوا أمجادهم. وهذه الجماعات تحضّر نفسها من سنين طويلة، وليست ضعيفة، وإنّما زادت قوّة بمن يقوّيها. لكنّها ستقع في فخّ اللّعبة السّياسيّة يوم يتمّ الاستغناء عن خدماتها، وستفقد الأصوليّة هالتها المقدّسة.
أمّا التيّارات الإلحاديّة الّتي تستخدم في اللّعبة السّياسيّة، فإنها تشوّه أيضاً الفكر الإلحادي. فليس الملحد إنساناً كما يظهره لنا التّطرّف الإلحادي. هناك مجموعة من الملحدين الذين يتمتّعون بالخلق الرّفيع ويستحقون كل الاحترام. أمّا من ينشرون فكرهم على أنّه حقيقة مطلقة، ويستفزّون مشاعر النّاس ليعزّزوا الحقد والكراهية، فهؤلاء أيضا سينتهون مع الوقت لأنّ أهدافهم فارغة. التطرّف الدّيني والإلحادي على السّواء ورقة خطيرة يستخدمها التّطرّف السّياسي في إبادة الفكر، في قمع الإنسان الحرّ. ونحن شعوبا نتصرّف بردّات فعل أكثر ممّا نعقل الأمور، فنتأهب فوراً للدّفاع، بدلا عن قراءة ما بين الأسطر.
لم تكن هذه المقالة إلّا لتسليط الضّوء على ما يدور من حولنا علّنا نعي ما يحاك لنا ونستيقظ من غفوتنا، ونسعى إلى حبّ بعضنا البعض واحترام بعضنا البعض كي يحترمنا العالم.
كاتبة من لبنان