يكشف لنا الناقد المغربي في هذه الدراسة عن الجدل المستمر بين سرد الواقع وواقع السرد وطبيعته في مجموعة قصصية يتريث عبرها عن العلاقة بين السرد والواقع الاجتماعي والسياسي والنفسي في هذا الجنس الأدبي الأثير. ويكشف عبر تحليله التفصيلي لقصص المجموعة عن أن هواجس الواقع لاتزال الشاغل الأول للقصة.

سردُ الواقع وواقعُ السرد

في القصة القصيرة المغربية المعاصرة: مجموعة «الإهـانة» لسعيد عبيد نموذجاً

فريد أمعضشو

يعد الواقعُ، بشتى جوانبه وأبعاده، أحدَ المواضيع البارزة التي استأثرت باهتمام قصّاصينا منذ عقود بعيدة؛ لإيمانهم برساليّة الأدب في الحياة، ولاقتناعهم بضرورة أنْ يكون الأديب ملتزماً مندمجاً في مجتمعه، قريباً من هموم الناس وانشغالاتهم وتطلعاتهم، معبِّراً عن ذلك كلِّه فيما يُبْدعه تصريحاً أو تلميحاً. فقد احتفلت القصة القصيرة العربية، منذ نشوئها، بالواقع، أيّاً كانت طبيعته، ونقلت تحولاته واختلالاته، وصوّرت عيوبه ومُشكلاته، وسلطت ضياءً كاشفة على مظاهره الحياتية المختلفة وعلاقاته المجتمعية ونحْو ذلك، بغير قليل من الصدق والأمانة. وهي بذلك تتقاطع مع فن القصة كما مارسه أعلامُه في موطنها الأصلي، وتسايره في الاهتمام بالموضوع الواقعي والاجتماعي منذ انطلاقتها الأولى. وقد أكد عبد الله العروي هذه الفكرة بقوله إن الأقصوصة "تحتفظ بمغزى اجتماعي محدّد ورثته عن منْشئها في أحضان المجتمع الغربي، وتبْذره في كل عمل يتخذها وعاءً له أيْنما ومتى أُنجز".(1)

ولم تكن القصة القصيرة بالمغرب، على حداثة عهدها في أدبنا، بدْعاً من هذا التوجُّه المُلِحّ على متانة التعالق بين القصصي والواقعي، بل إنها التحمت بواقعها، والتزمت بقضاياه، وكرّست نصيباً وافراً من متْنها الإبداعي للتعبير عن آلام الناس وآمالهم، وعن حياتهم بعامة، باعتماد قوالب فنية وأساليب متعددة. ولنا في إبداعات القصاصين إبراهيم بوعلو، ومحمد زفزاف، ومحمد شكري، وإدريس الخوري، ومحمد زنيبر، وغيرهم كثير الدليلُ الواضح على التعالق الذي أوْمأنا إليه. وإن الوقوف، بالتحليل، عند هذه الإبداعات جميعِها مُحْوجٌ إلى دراسات مستفيضة، وإلى حيز زمني أطول، بل وإلى تضافر جهود باحثين. لذلك، ارتأيتُ أن أقف دراستي هذه على أحد الأعمال القصصية المغربية، الصادرة مؤخراً، والذي توافرت فيه كثيرٌ من ملامح النضج الفني، والفَرادة التعبيرية، فضلاً عن الحُفول البَيِّن بالواقع، في أبعاده الاجتماعية والسياسية والثقافية، تصويراً ونقداً، معتمِداً طرائقَ تعبيرٍ تنوس بين التصريح والترميز، ولغةً رصينة راقية تمتح من عدة سِجِلاّت معجمية، ونسيجاً أسلوبياً متنوعاً وخادماً لمقصدية القاصّ. ويتعلق الأمرُ بمجموعة "الإهـانة" لسعيد عَبيد، وهو من مُبدِعينا الشباب الذين بصموا على انطلاقة قوية في مضمار الإبداع تعكسُها، بوضوح، مجموعته التي بين أيْدينا، وديوانُه الشعري الذي أصدره قبل بضعة أشهر بعنوان "مكابدات في الطريق إلى النور" (98 صفحة)، ضامّاً بين دفتيْه سبع عشْرة قصيدة منظومة على النمطين التقليدي والتفعيلي، علاوة على عدد من المقالات الجادّة التي نشرها في منابر صِحافية وطنية وعربية، ورقية ورقمية، وعلى دراسة عن مشروع د. محمد مفتاح النقدي شاركه في إنجازها باحثون مغاربة آخرون. وقد رأى المبدع نورَ الحياة ذات يوم من خريف 1972، بمدينة وجدة؛ شرق المغرب، وحاز، عام 2004، دبلوم الدراسات العليا المعمقة، من كلية آداب وجدة، ويشتغل، حالياً، أستاذاً مبرّزاً بالمركز التربوي الجهوي بمدينة مكناس.

تقع مجموعة "الإهانة" في 94 صفحة من القِطع المتوسط، ويبلغ تَعدادُ نصوصها القصصية الثلاثين، تتفاوت فيما بينها من حيث الطول، وتحمل عناوينَ دالةً، وقد اختار القاصّ أنْ يُهديَها "إلى القابضين على جمْر الغربة في أتّون الوطن المستعِر".(2) وتحتل وجهَ غلاف المجموعة الخارجي صورةٌ معبِّرة، وثيقة الصلة بالمضمون السائد في نصوص العمل، تظهر فيها وردة جميلة ذابلة مُلقاة، بلامبالاة، على أرض جافةٍ يحيط بها لون السواد، مما يُعطينا الانطباع الأولي بما قد تنصرف إلى تناوله تلك النصوص الماتِعة التي "تجذب القارئ، بكل رفق، ليدخل عوالمها، ويَغوص في هموم موضوعاتها، ويبدأ مغامرة البحث عن موضوعة الإهانة، باحثاً عن بعض الأبعاد والإشراقات، وهو ما يطرح تساؤلات تِلْو التساؤلات: عن أي إهانة تتحدث المجموعة القصصية؟ كيف عالجت كل قصة موضوعة الإهانة؟ ما علاقة الإهانة بحياتنا اليومية؟ ما الدلالات الكامِنة وراء اختيار موضوع الإهانة؟"(3) 

لقد تبيّن لنا، عقب قراءة قصص المجموعة بتأنٍّ، أنها واقعية، وإنْ توسّلت أحياناً بلغة الرمز والإيحاء، وأن موضوعاتها مقتطَعَة من الواقع المَعيش، سواء أكان اجتماعياً أم سياسياً أم ثقافياً، تستثير الإبداع المُلتزم الجادّ، وتستحثه على تناولها وتصويرها ونقدها كذلك؛ ما دامت تعكس اختلال الواقع العربي، وتضع الإصبع على جملة من سَلبياته التي يلزم التصدي لها، بحزم، إذا أريدَ، بالفعل، انتشال ذلك الواقع من الوضع الذي يعيشه منذ زمان ليس بالقريب، والانتقال به إلى طور التحديث والنماء والتقدم الحضاري المأمول. فقد لامستْ قصة "المفعول به" واحداً من أبرز "الأمراض" المُسْتشْرية في مجتمعاتنا، وهو الرشوة، على الرغم من الجهود التي تُبذل لاستئصال شأفتها من أوطاننا على امتداد الأمة العربية. فهي تنقل لنا، ببراعةٍ، جدالاً مطوّلا بين سائق حافلة كانت متوجهة صوب مدينة "ق" وجُمْركي هَمَّ بأنْ يسجل عليه مخالفة ارتكبها، ولكنه عَدَل عن ذلك بعدما دخل معه السائقُ في مفاوضة انتهت بتسليمه رشوةً نظيرَ الكفِّ عن تسجيل تلك المخالفة وَفق ما ينص عليه القانون المعمول به. ووجد رُكّاب الحافلة في طول مدة الجدال فرصةً استغلّوها لمفارَقة مقاعدهم والنزول من الحافلة لاستنشاق هواء آخر، ولقضاء أغراض أخرى. ولم يجرؤ أحدٌ منهم على الاقتراب من المتجادِليْن سوى طفل صغير قاده فضوله إلى الدُّنوّ منهما، فسمع من حوارهما لفظاً يتواتر على لسانيْهما، وهو الأكل، في عبارات من قبيل: "أنت تأكل ونحن نأكل"، و"أتريد أن تأكل وحدَك؟". ولما عاد الركاب إلى مقاعدهم، واستأنفت الحافلة طريقها، سأل الطفل أباه عن الفعل "أكل" هل هو لازم أم مُتعدٍّ، فاستغرب الأبُ من هذا السؤال الوارد في سياق غير ملائم في نظره، وعدّه – في الوقت نفسه – علامة على اجتهاد ابنه واعتنائه بالتحصيل العلمي؛ لذا أجابه بأنه متعد يحتاج إلى المفعول به ليَتمّ معنى جملته. ولكن الطفل سأله مرة أخرى، ببَراءةٍ، عمّاذا كان يأكل السائق والجمركي، فاندهش الأب، وهو لا يدري حقيقة ما جرى بينهما، وأحسّ بحرج، وخلد إلى النوم، تاركاً صغيرَه مستغرقاً في التفكير واللعب. 

وعالجت قصة "حارس السيارات الليْلي" مشكلَ التفاوُت الطَّبقي الصارخ الذي ما زال سمةَ كثير من المجتمعات المتخلفة، والذي يخلق هوة سحيقة بين فئةٍ قليلة تعيش البذخ في أعلى مستوياته وشريحةٍ عريضة تعيش البُؤس والفاقة التي تصل أحياناً حدَّ الإدْقاع؛ ممّا ينمّي لدى الفئة المستضْعَفة مشاعرَ الحقد تُجاه المُوسِرين. فالقصة تتحدث عن حارس سيارات ليلي أمضى حوالي أربع عشرة سنة من عُمره يحرس مرْأباً – في الليل – قبالة عمارة راقية يقطنها أثرياء، لم يكونوا – من شدة ترفعهم وتكبرهم – يكلفون أنفسهم حتى تحية ذلك الحارس، وأجرتُه الشهرية كان يتوصل بها من يد خادمة سوداء لقاءَ حراسته سياراتهم الفارهة؛ ممّا ولّد حنقاً وكراهية لدى الحارس تجاههم، فقرر أن ينتقم منهم ذات ليلة باقتناء سيجارة من النوع الكوبي الفخم، بما يقارب أجرة نصف شهر، وبضعة براميل من البنزين، وأشعل النارَ في تلك السيارات المركونة في المرأب كلها، ولبث في مكانه يتابع، بلذاذةٍ، ألسنة النار وهي تلتهمُها التهاماً! ولم يحفل حتى بالتفكير في الفرار بسبب لذة التعويض عن الحرمان التي تولدت من شعور عارم بالنقمة المشتعلة... وكأنه لم يفعل ما يُوجب الإدانة!

وتطرق سعيد عبيد، في أقصوصة "... ماتت..."، إلى آفة أخرى تعرفها كثيرٌ من المجتمعات العربية نتيجة اختلالٍ على مستوى أخلاقها وقِيَمها، لأسباب عدة، وهي الخيانة بين الأزواج. فبطلُ هذا النص اعتاد على الخروج مع امرأة أجنبية عنه، متزوجة هي الأخرى، وممارسة الرذيلة معها. وقد امتدّت هذه العلاقة غير المشروعة بين الخائنيْن زمناً، إلى أنْ قصد يوماً، كعادته، المقهى المُقابل للعمارة حيث تسكن، منتظِراً نزولها، وإذا بالهاتف يرنّ في جيبه رنيناً خاله، في البداية، مجردَ إعلام منها ليستعدّ للجولة معها كما المعتاد، ولكنّ رنين هاتفه لم يتوقف هذه المرة، وحين أخرجه لمَح على شاشته الصغيرة رقم هاتف منزله، فحسب الأمر مجرد طلبات تريدها زوجته، فغضب لاتصالها به في ذلك الظرْف بالذات. ولكنّ الحقيقة كانت غير ما ظنّ تماماً، فقد أخبرته، بصعوبة، بخبر غير سارّ فحْواه موتُ أمه للتوّ؛ فتسمَّر في مكانه، واستولى عليه حزن عميق، واتخذ من ذلك الموقف نقطة إقلاعه إلى الأبد عمّا دأب عليه من خيانة الزوج، مُبْديا ندماً على ما بَدَرَ منه سابقاً في هذا الإطار من سلوك سيّء. وانقاد – بالمقابل – تلقائيا إلى المسجد، بعد أن سمع أذان العصر، وكأنه يستمع إليه للمرة الأولى. ومع نفض يديه من آخر قطرات ماء الوضوء، كان قد نفض ذهنه من آخر صورة للعشيقة التي لم يبق لها مكان في كينونته الجديدة، ولا لاسمها مكان في هاتفه؛ ويظهر ذلك من ردّة فعله على اتصالها به في تلك الأثناء؛ بحيث إنه بمجرد ما عرف هُوية المتصل، لم يترددْ في مسْحِه بالمرّة من لائحة الأسماء التي يختزنها في ريبرتوار هاتفه النقال.

وتسلّل موضوع الإجرام والاعتداء الممارَس على المستضعفين، أحياناً، إلى بعض نصوص المجموعة التي استطاعت أن تنقل حكائياً لقطاتٍ من الحياة المَعيشة بكثير من الأمانة والصدق التعبيري؛ كما في قصة "النذل" التي تروي حدثاً يتواتر في واقعنا، ولاسيما في ظل الوضعية الاقتصادية والاجتماعية الحَرِجَة التي تعيشها أكثر البلدان منذ سنوات، وهو إقدام لصٍّ كهْل على سرقة عقد ذهبي من سيدة كانت تزيّن به عنقها، في مكان عمومي، فأغْمِيَ عليها في الحال، وتحلق من حولها أناسٌ كُثرٌ، منهم ذلك الكهل الذي عرض على السيدة حين استعادت وعْيها أشكالاً من المساعدة، بل ونصحها بأنْ تقصد منظمات الدفاع عن حقوق المرأة للوقوف بجانبها في مثل هذه الحالات، ولكنها اعتذرت له، بلباقة، وأعْرَضت عنه بعدما شكرته على ما بدر منه من عروض مسانَدَة، وذلك قبل أن تنتبه إلى أن ذلك الكهل هو سارق عقدها بالذات، فصرخت عالياً، وحاولت اللَّحاق به، ولكنه كان قد طار وغاب في أحد الدروب الضيقة! وتحكي القصة الخامسة في المجموعة تجربة شخص، بضمير التكلم، كان في طريقه إلى المكتب الشريف لأداء واجب ضريبتي الدم والمال، فاعترض سبيلَه، وسط غابة، بعضُ الوحوش المفترسة، التي ترمز إلى الجَوْر والعدوان هنا، فاعتدت عليه، وأساءت معاملته على الرغم من أنه أكد لها أنه مواطن صالح، وأبْرَزَ في وجهها بطاقة تعريفه الوطنية. وأشارت عليه بألاّ يكرر تجربته هذه، وإلا فإنها ستعامله بقسوة! وقبل إخلاء سبيله، سأله أحد تلك الحيوانات الغابوية/ المعتدين إنْ كان من مشجِّعي الفريق الوطني، فأجابه من الفور بالإيجاب طبعاً، قبل أن يستدرك قائلاً إنه يشجعه إنْ كان ذلك يروقه ويروق جماعته!

ونالت تيمة المدينة الحصة الأكبر من نصوص المجموعة بالنظر إلى ثقلها وتأثيرها في الإبداع العربي المعاصر بصفة عامة، وإلى حجم المشاكل التي تطرحها في الواقع. فالمدينة الحديثة تحضر، في الإبداع المذكور، بوصفها كِياناً فقد كثيراً من مظاهر أصالته، ويَرين عليه البؤس والاضطراب، ويعجّ بالمُتناقِضات والاختلالات وغير ذلك من السلبيات. لذا، لم يكن بمقدور مبدِعينا، في الغالب، خلق ألفة وانسجام معه، فاستشعروا، بدلَ ذلك، الاغترابَ بين أحضانه، وأحسُّوا بالاستياء والتذمر واليأس والقلق في مدنهم الإسمنتية الجَهمة.

ولعل أوضح قصص المجموعة تعبيراً عن وجه المدينة القاسي أقصوصة "مدينة بلا قلب"، التي يذكِّرُنا عنوانُها بعنوان ديوان أحمد عبد المعطي حجازي الشهير؛ إذ يصف فيها القاصّ جوَّ المدينة القاتم، وحياة الناس فيها، وعلاقاتهم التي تفتقد إلى الدفء والعطف، فضلاً عن كثير من مظاهر البؤس والفقر والعطالة والشقاء. الأمرُ الذي جعل بطلَ الأقصوصة يقرر ترْك عالم المدينة، والأوْبَة سريعاً إلى قريته الهادئة التي يحْدِبُ أبناؤها على بعضهم بعضاً، وينعمون في كنفها بحياةٍ مِلؤها الوئام والتضامُن، على الرغم من بساطتها. وألمّت قصة "تأويل الرؤيا"، التي تعد أطولَ قصص المجموعة، بجملةٍ من هذه المظاهر السلبية التي تسود حياة المدينة، علاوة على موضوعات أخرى ذات صلة بها؛ من مثل عدم احترام قانون السير من قبل كثيرين ممّن يستعملون وسائل النقل في الفضاء المَديني، والإقبال على أعمال الشعْوَذة من لدن شريحة من الناس، ووصْف جحيم الروتين الذي يحس به الموظف والعامل يومياً، حيث ينطحن الجميع انطحانا ماحقا بين الإدارات والمعامل ووسائل النقل التي لا تكل، من أجل توفير لقمة عيش بلون الرماد، وبنكهة الحنظل. ولم تغفلْ نصوص المجموعة عن التطرق إلى ظاهرة التسوُّل التي تكتسح المدينة العربية المعاصرة لعدة أسباب معروفة؛ أبرزها انتشار الفقر، وتوالي سنوات الجدْب مما يدفع أهلَ البوادي إلى النزوح إلى المدن بحثاً عن لقمة العيش، مع ما يرافق ذلك من مشكلات اجتماعية وغيرها. فهذه قصة "أمّانِ" تتحدث عن امرأة شحّاذة عجوز دأبت على الجلوس لدى باب المسجد تسْتجدي الناس، بعدما أنفقت كل ما تملك لتأمين مصاريف هجرة ابنيْها إلى كندا التي لم يعودا منها مطلقاً، فاستولى عليها الحزن والبكاء المستمر. وذات يوم، مرت بها امرأة مصحوبة بابنها، يظهر عليهما أثرُ النعمة والرفاه، فجرى في اتجاهها ذلك الصغير، واستعدت لاحتضانه بحرارة، وقد أيْقظ في دواخلها مشاعر الأمومة، ولكنّ أمه المتأنقة "العَصْريّة" صرفتْه عن وجهته بداعي تأخره عن موعد المدرسة؛ مما ضاعف حزنَ العجوز، وجعلها تغرق في البكاء. وتحكي قصة "المباراة" جانباً من حياة شابّ فقير جائع، لم يقدر حتى على توفير مقابل مالي يسمح له بمتابعة مباراة لكرة القدم، يتواجَه فيها منتخبُ بلده مع فريق آخر، في مقهىً، لذا ارتأى  متابعتها من وراء زجاج شركة كبيرة لبيع المُعدّات الإلكترونية ولوازمها. وخلال المقابَلة، سدّد أحدُ لاعبي فريقه الوطني ضربة ارتطمت بالعارضة، فتعالت أصواتُ المشجِّعين في المقاهي التي اكتظت بهم على طول الشارع الذي يقف فيه الشاب، على حين سقط هذا الأخير أرضاً مَغْشياً عليه من شدة الجوع، فحُمل إلى مستشفى عمومي لإسعافه، ولكن أطبّاء المستشفى لم يلتفتوا إليه، بل انشغلوا بأحاديث جانبية، واستغرقوا في الضحك واللامبالاة! وكأني بالقاصّ، ها هنا، أراد أن ينتقد مثل هذه الحال التي تعرفها مراكز الاستشفاء العمومية في كثير من مجتمعاتنا.

والواقعُ أن القاص لم يكن هدفه من تصوير مظاهر المجتمع العربي المعاصر وتحولاته مجردَ تشخيصها ونقلها وحكْيها، بل توخى، علاوة على ذلك، انتقادَ جملة منها، ضمناً، في الغالب الأعمّ، آمِلاً في اختفائها من واقعنا إلى غير رجْعة. وقد لازم هذا الملمح النقدي المُنجَز القصصي العربي، ومنه المغربي، منذ بداياته في أدبنا الحديث؛ كما أكد أحمد المديني في قوله: "إن القصة المغربية، ومنذ خطوة التجربة الأولى في نسْجها، انصرفت إلى التماس موقف الفحْص والنقد الاجتماعييْن، وإلى ترصُّد ظواهر الواقع وما يطرأ عليه من تغير. ومن ثمَّ، كانت القيم الأخلاقية والاجتماعية هي مُجْتلى هذه القصص، ومسرح بروزها، لا تكاد كتابة قصصية تخلو منها، بل إننا لا نعْدم وجودَها في أي مشهد وصفي أو حوار أو سواهما مما يكوّن بنية القصة أو عالم القصة".(4)

ولم تقتصر المجموعة على تصوير الواقع عامة، وعلى كشف العلاقات بين أناسه، بل ألفيْنا ضمنَها أقصوصةً نقلت مشهداً ذا مرجع واقعي؛ أي يمكن أن نجد له صدىً في الواقع المَعيش إلى حد ما، يُبرز العلاقة بالحيوان، والتي تختلف باختلاف انتماء الطرف البشري فيها. وقد عَنوَن القاص هذه القصة القصيرة بعبارة "فرس في حديقة الأطفال"، ونقل فيها مشهداً أثار الساردَ في إحدى زياراته لحديقة أطفال مجهَّزة بعدد من اللعب الكهربائية، كانت ترْبِض بينها فرس مسالِمة. بحيث رأى رجلاً بدوياً سكن المدينة حديثاً يقترب من تلك الفرس، ويُناولها قبضة عُشبٍ، ثم يضمّها بحرارة، وهي تقضم العشب سعيدة، ولمّا أبْصره ابناه اللذان كانا يلهُوان ببعض اللعب المذكورة، أسْرعا نحوه ليُناولا الفرسَ العشبَ كذلك. وعندما تركوها، تقدّم نحوها رجلٌ مهندَم أنيق وزوجته الموظفة التي كانت تتأبّط ذراعَه، فوقفا على جانبيْها لالتقاط صور فوتُغْرافية تَذكارية مع الفرس، وبعدها أخذ الأب ابنته، التي تربّت في كنف أسرة من الحاضرة، وأقْعَدَها على ظهر تلك الفرس ملتقِطاً لها، هي الأخرى، صورة تذكارٍ، قبل أن يتابع الثلاثة سيْرَهم في اتجاه محلّ يقدم شطائر الهَمْبورغر والوجبات السريعة دون أن يعبأ أحد منهم بـ"مشاعر" ذلك الحيوان الأصيل النبيل، وكأنه مجرد تمثال للديكور والتقاط الصور التذكارية. ولكنّ المنظر الذي أثار السارد، ولم يكن بالإمكان أن يلحظه أحد، هو أنه "كانت في عيني الفرس، وهُمْ ماضُون، دمعتان متأبِّيتان"!(5) وفي ذلك إيماءةٌ إلى موقف السارد من هذا التعامل الفِجّ مع بهيمة آثر أنْ يُؤنْسِنها الكاتب ليستطيع تبيان موقف الرفض لهكذا سلوك، بخلاف ما ميّز علاقة البدوي الأصيل بها كما ذكرنا آنفاً.

وسلطت قصة "الإهانة" الضوءَ على علاقة الجيل الجديد من أطفال المدينة بالطبيعة المحيطة بهم، بأسلوب يقترب من الشعريِّ؛ لذا ارتأى الكاتب وَسْمَها بـ"القصْقَصيدة"، وهو مصطلحٌ منحوتٌ من اسمي فنين معروفين، تدل عليهما عبارته بوضوح، وكان للمبدع سهمٌ في كليهما معاً كما أسْلفنا القيل. فأولئك الأطفالُ، ومنهم لبنى، نشأوا في بِيئة يغلب عليها الآلات الإلكترونية، ووسائل الاتصال الحديثة، بخلاف البيئة البسيطة التي تربّى فيها نظراؤهم من الجيل السابق، الأمر الذي يترك أثراً في نفسيتهم وأخلاقهم، فيجعل علاقتهم بمحيطهم، أحياناً، أفْتَر وأمْيَل إلى العدوانية، لاسيما وأن كثيرين منهم يواظبون على مشاهدة أفلام العنف والرعب التي تقدِّمُها قنوات تلفزية عدة. وقد جسّدت القصة علاقة لبنى بما يُحيط بها من خلال تخيُّل محاوَرَة بين عصفور وزهر غار تعرضا معاً إلى إهانتها؛ بحيث إنها أساءت إلى الأول بضربه بالأحجار، وإلى الثاني بالبصْق عليه وتعفير خدّيه في الأوحال؛ وذلك بعد أنْ تغيّرت طباعُها، وأضْحَت أكثرَ عُبوساً وانطواءً لإدمانها اللعب بتلك الألعاب الإلكترونية الحديثة وما شابَهَها، ورغم تأثر المُهانَيْن بسلوكيات الطفلة، فقد كان يحدوهما أملٌ في انبعاث إحساسات أخرى مغايرة تماماً في قلب "لبنى المأساة" (وهو عنوان ثانٍ اقترحه القاص لهذه القصة)، وهو ما يتضح من خلال الابتهال الذي اختتمت به القصقصيدة بعد خيبة الأمل في المدينة التي لم تسمع نشيج الغابة بكل كائناتها التي بكت لبكاء زهر إكليل الغار:

خمدتْ أجراسُ الإنذار لدى الأعتابِ، كما ماتت بائعةُ الكبريت كآبهْ، فارتدَّ الرجعُ إلى الغابهْ:

"قد مات الناسْ

قد مات الناسْ

آلافٌ من لبنى ماتوا من زمنٍ بين الناسْ

يا أهل الغابهْ، قوموا فادْعُوا من يَفْلقُ عن ماءٍ صَلْدَ الأحجارِ

ومن يُخرج حيَّ الفطرة من صُلب الأمواتْ

أن يبعثَ في الناس الإحساسْ

أن يبعثَ في الناس الإحساسْ".(6)

وإلى جانب القصص التي نقلت لحظات ومواقف من الواقع الاجتماعي المعيش، خصَّ سعيد عبيد عدداً من نصوص مجموعته بتصوير جوانب مختلفة من واقع مجتمعاتنا، ثقافياً وإعلامياً وخُلُقياً، تصويراً ينوس بين التصريح والإيحاء. ففي قصته الموْسومة بـ"المنتحِل صاحب البيريه" يروي القاص واقعة نجد لها نظائر في مشهدنا الثقافي المعاصر الذي يمتزج فيه الغثّ بالسمين، ويملأ أرجاءَه المُدّعون ممّن تواضعت إمكاناتهم في دروب الإبداع الحقّ، مُضَمَّنُها أن السارد حضر يوماً أمسية شعرية في مقهى أدبي بالعاصمة، يَؤمّه كثيرٌ من المثقفين ومن المنتسِبين إلى حظيرة الثقافة في مجتمعاتنا العربية، وتعاقَب خلالها على منصّة الإنشاد شعراء قرأوا أشعارهم، منهم رجلٌ متفرنس يلبس قبّعة (بيريه) بُنّية داكنة، ويدخن غليوناً فرنسياً، ولا يكف عن الاستشهاد، في أثناء كلامه، بأدباء الغرب ومثقفيه. وقد ادّعى للسارد أنه شاعر فذ لا يُقارَن قصيدُه بباقي مَنْ أنشد قريضَه في الأمسية، بل أسَرَّ إليه بأمرٍ غاية في السِّرِّية بالنسبة إليه، وهو أنه قال أول قصيدة حين كان في رحم أمه، وعمرُه سبعة وثلاثون يوماً فقط، فتعجّبت الملائكة التي كانت حاضرة هناك في تلك اللحظة! وقد اندهش السارد لهذا الخبر وانبهر، وأنجز عرضاً، فيما بعدُ، عن ذلك الشاعر "العبقري" في سنة من سنوات تعلمه في المدرسة. إلا أنه سيُحسّ بخيبة وشماتة حين بدأ يعي الأمور جيداً، إذ أدرك أنْ لا روح للجنين في مثل ذلك العمر! ولمّا قصَّ الواقعة لصديقٍ له، صدّق ما سمعه من الرجل، قبل أن يضيف بأن ما أنشده، وكل ما يحْسبه من كلامه شعراً، لا روح له! وزاد تهكماً من المتشاعر قائلاً إن البيريه – في الأصل – لباسُ بائعي البصل! وهنا أدرك السارد أن الرجل، وأمثالُه في واقعنا من الكثرة بمكان، ليس بشاعر قط، بل ينتحل صفة "شاعر" ليس إلاّ!

وتكشف قصة "الترجمة" الستار عن واقع الاستلاب والانبهار الذي يميّز نظرتنا، عادة، إلى ما يأتي من وراء البحر، ومن الغرب المتفوق عموماً، وإنْ كان أحياناً يعاكس تطلعاتنا، ويخالف غاياتنا ومقوّماتنا الحضارية. فالقصة تتحدث عن ترجمةٍ أنجزها مركز دراساتٍ يهودي للقرآن الكريم إلى اللغة العبْرية، فرحّبت كبْرياتُ الصحف الغربية – ثم العبرية نقلا عنها – بهذا العمل الذي عَدُّوه إنجازاً جبّاراً "من شأنه أن يبذر بذورَ التفاهم والوفاق بين الأمتين،(7) مما يُعتبر ضرورة في سبيل تعايُش إنساني مبني على معرفة الآخر، واحترام خصوصياته".(8) ولما اطّلع العرب على تقارير هذه الصحف، انبهروا بالترجمة – وإلَّمْ يقرأوا نصَّها – وأعلنت جهات عربية عن رغبتها في الاحتفاء بالعمل، وتكريم مُنجِزيه، وقررت تخصيص اعتمادات مالية لمَنْ ينوي القيام بمبادرات مشابهة. ولكن الصدمة أتت من ترجمةٍ علمية أمينة قامت بها إحدى المشاركات في الترجمة لمقدمة ذلك العمل إلى اللغة الألمانية، وكشفت فيها – بنص الأصل المترجم - أن خدمة مجْد إسرائيل كانت الدافع الوحيدَ إلى هذا العمل الترجمي، لا غَيْر! ونجد الاستلابَ والتشبُّه بالغرب المتغلِّب، أيضاً، في أقصوصة "السائحة" التي تصف ظاهرة ما زالت منتشرة في مدننا الكبرى خاصة، وهي الاستمرارُ في التخاطب بلغة الاستعمار رغم تحقق استقلالاتنا السياسية عن المستعمِرين الأوربيين منذ أواسط القرن المنصرم؛ بحيث يحكي السارد اللابس لباس دليل سياحي موقفاً حياتياً شاهده صُحبة سائحة سويدية – وهو يُطْلِعُها على ضريح قديم – فأثاره وأشْعَرَه بالأسف، وهو مرور رجل مغربي مصحوب بابنه، بهما، وهو يكلم ابنَه بلسان فرنسي بدل العربية، مع أنهما عربيان يعيشان في وطن عربي استقل عن فرنسا منذ ما يقرب من النصف قرن! وللتخفيف من صدمة الموقف على السارد، أخبرته السائحة بأن بلدها عانى مثل هذا الاستلاب منذ عقود بعيدة، والآن أمْسى ذلك مجرد تاريخ يذكره مواطِنوها للتندُّّر به في المجالس. قالت ذلك وهي لا تخفي إعجابها الكبير بروعة جمال فسيفساء مدخل الضريح، وبمخطوطات الفقه والأدب والرياضيات والفلك التي تركها الولي الصالح خلفه، وجمعت في خزانة ضريحه، كل ذلك وهي في حالة انبهار حدَّ السُّكْر بروائح التاريخ المعتَّق التي كانت تستنشقها بملء ما تسعه رئتاها... لقد كانت تضع قدمها بشغف عند عتبة اكتشاف حضارة عامرة، وهي الحضارة نفسها التي ألغاها ذلك المتغرب بجرة قلم، وألغى معها ذاته، حين ارتأى عن لغته الأم بديلا، وأيّ بديل؛ لغة المحتل!؟  

وقدّم القاصّ في نصه "العرّاف والجريمة" صورة حيّة عن الإعلام الرسمي في مجتمعاتنا من خلال حكْي حدث متخيَّل برع في نسْج خيوطه سردياً، يتمحور حول شخص عُثر عليه ميتاً أثبت تقريرٌ أعدّه طبيب شرعي حول وفاته أنه مات مسموماً عبر جُرَع مركّزة تلقّاها بانتظامٍ على امتداد ثلاث وعشرين سنة، فانطلق المُخبرون والمسؤولون عن الأمن بحثاً عن الجاني، ولمّا أعْياهم بحْثهم دون جدوى، ارتأوا الاستعانة بأقدم عرّافي البلد، الذي استجاب لطلبهم؛ فقام بطقوس وأبْخرة وإجراءات من صميم عمله المعتاد، توصَّل منها إلى أن الفاعلَ هو "التلفزة الرسمية" ببرامجها المُمِلّة الرديئة التي تنفّر المشاهدين من متابعتها في كثير من الأحايين، في عديد من مجتمَعاتنا، علماً بأنهم مَن يُموِّلونها!(9) وتعكس قصة "الوصية" موقفاً من البنوك الرِّبَوية العصرية المُنتشرة في الوطن العربي، بوَصْفها آلة جهنَّمية للاقتصاد الرأسمالي الذي يُعيد إنتاج قيم التفقير، ويَعتصر الناس – ولاسيما  الطبقة المتوسطة – اعتصاراً، لصالح وحْش شَرِه دائمِ الجوع لا يرحم؛ وذلك من خلال وصية أسْداها رجلٌ ستيني إلى شاب خرج من "البانكة الكبيرة" فرِحاً بعدما اسْتَلَفَ مالاً آخرَ، رغم أنه لم يُؤدِّ بعْدُ حتى نصف أقساط سلف السيارة التي أخذت تبدو عليها آثار التقادم، ليجد قرب سيارته في الخارج ذلك الشيخ المُجرِّب الذي نصحه بالإقلاع عن التعامل مع مثل تلك المؤسسات المالية، أيّاً كانت الظروف، قائلاً له في شبه حكمة معتصَرة من تاريخ طويل: "يا بني، لا تستظلّ بظل بنك، ولو لفحتْك شمسُ الهجيرة، وشَوَت قدميك الرمضاء".(10) وانصرف إلى حال سبيله، في الوقت الذي كان مديرُ ذلك المصرف ينظر إليه، بحقد، من خلف زجاج مكتبه المكيف الوثير؛ لأن نُصحه ذاك قد يؤثر على مدخول البنك إنْ وَجد آذاناً صاغية في الواقع.

وتصور قصة "السجن" نموذجاً من أبناء المجتمع يعِزّ لهم نظير في مجتمعات اليوم في الشرق والغرب معاً؛ نموذجاً مسؤولاً يُقرّ بالخطإ، ويتمسّك بواجب العقاب؛ وهو ما يجعل أحداث القصة أقرب إلى المثال، وأبعد عن الواقع المعيش. فبطل القصة (أشرف قدير) أدمن على مشاهدة أفلام السجون مدة خمس عشرة سنة، حتى تولَّد لديه اقتناعٌ راسخ بكون المساجين كلهم مظلومين، ليس من النَّصفة أن يُحرَموا من حريتهم؛ فقرر أن يكون عَمَلياً بأنْ يطبق بعض ما تفرج عليه في تلك الأفلام، ولاسيما فيلم "سبارتاكوس"، ممارسةً، مع أنه لم يسمع أبداً بإقدام أحدٍ على تنفيذ عملية فرار واحدة من سجون بلده الكثيرة! فبدأ مغامرته بالاستيلاء على شاحنة جنود مصفحة، اقتحم بها السجن المركزي من سُوره الخلفي، الذي أحدث فيه، نتيجة ذلك، ثلمة كبيرة تمكّن السجناء من الفرار، وكانت فرحته غامرة حين وجد نفسه وسط ساحة السجن، ونُزَلاؤه متجهون بسرعة نحوه، ظانّاً أنهم سيُكْبِرونه ويشكرونه ويَحْملونه على الأكتاف لقاءَ تخليصهم من السجن. ولكنْ ما جرى لم يكن بحسبان أشْرَف، ولا غيره، ألبتّة؛ إذ إنهم بدلَ أن يستغلوا الفرصة للهَرَب والتحرر، ألقوا القبض على سائق الشاحنة، الذي صَدَمَه تصرفهم هذا، وقدّموه إلى محكمة السجن ليُحاكَم بتهم إتلاف الممتلكات العمومية، ومحاولة زعزعة النظام، والتحريض على الفرار، وأوْدَعوه في زنزانة انفرادية تحت أرضية السجن، بعد النطق بالحُكم عليه بإحدى عشْرة سنة سجناً نافذاً. على حين انقطع السجناء إلى بناء ما هُدِّم من سور السجن، بهِمَّة وسرعة، دون أن يهرب منهم أحد! وفي زنزانته، فكّر أشرف في تخصيص نصيبه من الإرث، لدى إطلاق سراحه، لإخراج فيلم تكون نهايته مخالفة تماماً لنهايات جميع أفلام السجون التي شاهدها في حياته؛ بأنْ يجعلها مشابهة لنهاية مغامرته هو. وبينما أشرف يقضي عقوبته في زنزانته، أوْصى مرصد التتبُّع بالاحتفاظ به هناك حتى يتقادَم بحْث الجنود، الذين سرق منهم الآليةَ وسيلةَ تنفيذ الجريمة، عنه؛ لأنه لوْ وقع بين أيْديهم فسيكون مصير حياته أسوأ من حياته في الزنزانة؛ إذ قد يعاملونه بقسوة شديدة لا يُستبعَد أن تصل حدَّ التصفية. فالقصة، إذاً، مثالية إلى حد كبير، ولكنْ هدفت إلى تثمين الخُلُق الرفيع الذي قد تجده بين صفوف المساجين مُقترفي الجرائم.

ونال الواقع العربي السياسي نصيباً من اهتمام القاص سعيد عبيد، فحاول أن يعبر عن بعض ظواهره وقضاياه، قبل أن تهبّ عليه، منذ بضع سنوات، نسائم الحداثة والديمُقراطية وغيرهما ممّا يطْبَع الممارسة السياسية في البلدان المتقدمة. فالنص الأول في المجموعة يحكي قصة أستاذ، صُنف على أنه مُنتمٍ إلى تيار راديكالي، وَشَوْا به إلى السلطات العمومية؛ لأنه اجترأ على أن يضع فوق صورة الرئيس، داخل قِسْمه، صورة أخرى، وإنْ كان مكتوباً عليها لفظ التكبير فقط. فاسْتُدْعِيَ للاستجواب والتحقيق، ووُضع تحت الحراسة في حالة سراح مؤقت، قبل أن يُحكم عليه بعقوبة روعي فيها جملة من ظروف التخفيف، قدِّرت بثلاث سنوات سجناً نافذاً، مع تحميله الصائر. وغير بعيدٍ عن مضمون هذه القصة، تجد في المجموعة نصّا آخرَ يتقاطع معها في جملة أمور، خلاصتُه أن شابّاً ذا أصل بدوي قصد العاصمة ليُودِع ملفا لدى مكتب الاتصال بوزارة الداخلية. وبعد وصوله إلى مبنى هذه الأخيرة، توقف عند بابها دون أن يجْرؤ على الدخول إليها، مفضِّلاً العودة أدْراجَه إلى قريته البعيدة من غير أن يحقق وَطَرَه هناك. ولكنّ المفاجَأة أنه في صباح اليوم الموالي، جاء "مقدّم" القرية إلى أمه حاملا استدعاءً موجَّهاً إلى ابنها، من القائد بناء على مراسلة من وزارة الداخلية، ثائراً في وجه الأم وابنها معاً، مذكِّراً إياها بنصيحته القديمة لها بألاّ تبعث ابنها إلى الجامعة لمتابعة دراسته، وإرساله – عوض ذلك – للعمل في مزرعة أحد إقطاعيّي القرية المشهورين، الذي عُرف عنه اعتناؤه بالعاملين لديه!

وتتمحْور القصة الخامسة عشرة في المجموعة، وهي من أرْوَع نصوصها وأنْضَجها، حول شخصية أسْماها الكاتب "السي مطيع" – وهو اسمٌ أدلُّ على المسمّى به على نحْو ما سيتضح لاحقاً – اعتادت على الانحناء منذ حداثة سِنِّها حتى تقوّس ظهْرُها، وتنكّست هامتُها، وأضْحى عمودها الفِقْريّ أكثرَ تمرناً على الانحناء دون أنْ يجد أدنى صعوبة في ذلك. بل إنه كان ذا طريقة متميزة في الانحناء، حَرَص على تلقينها لكل من له سلطان عليه بالترغيب والترهيب معاً، مما أهّله لأنْ يكون زعيم مدرسة متفردة في الانحناء بشهادة كبار علماء الانْحِناؤولوجيا في البلد! وحدثَ ذات يوم شنآنٌ بين السي مطيع؛ بطل القصة، ومالكِ إحدى الصحف الذي حرَّض صحافيّيه على توجيه الاتهامات، وتَعداد مساوئ البطل ونقائصه، وفي مقدمتها تعْييره بجسده المقوَّس من كثرة الانحناء وتقبيل الأيدي والأرجُل. فلم يترددْ السي مطيع في الاتصال بكبار مسؤولي الحكومة ليَرُدوا الاعتبار إليه بمعاقبة المُسيئين إليه، فأبدوا تعاطفهم المبدئي معه، وأشفقوا لحاله، ولكنهم اعتذروا عن التدخل المباشر في هذه القضية، في تلك الظرفية حيث أعْيُنُ الصِّحافة الدَّولية ومنظمات حقوق الإنسان تراقب كل صغيرة وكبيرة في بلده الذي كانت سُمعته مُستهدَفة كما زعموا، وأكدوا  له بأنهم يتحيّنون الفرصة "القانونية" السانحة للانتقام له، وقطْع لسان تلك الصحيفة؛ لأن مَنْ تجرأ على السي مطيع اليوم، لا يُستبعد أن يتجرأ غداً على أسياده.(11) ولكن هذا الوعد لم يكن ليُقنع السي مطيع الذي أحسّ بمرارة الإهانة التي تعرض إليها على يد صحيفة تافهة، لذا فكر في طريقة أخرى لرد الاعتبار، وهي الاتصال بالمسؤولين عن الإعلام في بلده ليَحْجزوا له ساعة كاملة من البثّ المباشر في أوقات ذُرْوَة المشاهدة لعقد ندوة صحافية "تاريخية" يدْحض فيها اتهامات تلك الصحيفة المُغرضة، بالدليل الساطع، ولاسيما دعْواها بأنه "كائن انحنائي" لا يَقوى على الوقوف والمشْي مستقيماً. فلبّوا له طلبه، واستدعى – من باب الإشهاد – عديداً من الصحافيين للحضور؛ وحاول – تفنيداً لدعوى الصحيفة المزعومة – الانتصابَ وإقامة ظهره على هيأة مستقيمة، وإذا بالمفاجأة الأليمة تحدث أمام أعين المدعوين والمتفرجين الذين كانوا يتابعون الندوة التلفزية؛ إذ إنه بمجرد ما هَمَّ بإعادة جسده إلى استقامته الطبيعية تكسرت عظامُه المتيبِّسة التي ألِفت الوضع المُحْدَودَب المتقوِّس، فتدلّى رأسُه على كتفه كالمشنوق، ليفارق عقب ذلك مباشرةً الحياة، دون أنْ يتقدم أحدٌ لنجدته، بمنْ فيهم أولئك الذين أخذوا عنه فن الانحناء، بل تنكَّر له الجميع، فانتهى كالمجهول تماماً. والموقفُ الإيجابي الوحيد المسجَّل بخصوص قضيته صدر من وزير الداخلية والإعلام الذي طلب، في الحين، إيقاف تلك "المهزلة"، واستئناف بث المسلسل المكسيكي ذي الشعبية الواسعة بين الناس!

ولا شك في أن مثل هذه الظواهر صارت الآن من الماضي، وإنْ كان قريباً، في أكثر مجتمعاتنا التي دشّنت مرحلة الانتقال الديمقراطي، محاوِلةً القطْعَ مع ممارسات الأمس التي كانت تفرض رقابة شديدة على المواطن بشتى الطرق، ربما تجاوزت أحياناً المنظورَ إلى الأحلام؛ كما تدل على ذلك قصة "مجرد أسْوار" التي تحكي تجربة شخص في مجتمع قامع، يسوده الاستبداد، يضيّق الخناق على الحريات تضييقاً يصل أحياناً حدَّ فرْض أسوار ورقابة حتى على الحلم لدى الناس، وزعم فيها السارد أنه حكم عليه بحكم، غير قابل للاستئناف، بالمنع من أي حلم، أو تحالُم، في اليقظة والنوم والتناوم، طَوال حياته، وبعد مماته بثلاثين سنة لتجرُّئه على كتابة قصة رمزية، في أول عهْده بالإبداع، وإرسالها إلى صحيفة وطنية لنشْرها، ولكنها – عوض تلبية طلب الكاتب – وَشَتْ به إلى السلطات ترجيحاً لصالح الوطن، وحفظاً لاستقراره!

وركزت قصص أخرى على وصْف تحولات الواقع وتغيُّراته في الاتجاه السَّلبي؛ مما جعل الناس يتأففون منه، ويحنّون إلى حياة الماضي رغم بساطتها. ففي نصه "الغرباء"، يروي القاصّ جانباً من حياة "المنسي" الذي استولى عليه إحساس عميق بالكآبة في مدينته البئيسة القاسية، حالَ دون اندماجه الطبيعي داخل فضائها؛ مما دفعه إلى الاشتياق إلى الأيام الخَوالي الجميلة، وإلى قريته التي يعيش أناسُها على الكفاف والرضا والقناعة، ولكنْ بسعادة واطمئنان، فأوصى صديقَه "هموش" بدفنه، حين يموت، بمقبرة القرية بين البئر والتلّ. وإذا كانت هذه القصة واقعية كما هو بادٍ، أو لها مرجع في الواقع المعيش بالأحْرى، توسلت بأسلوب التصريح في نقل رسالتها، وإنْ لم تخْلُ من نبرة انتقادية لواقع مدننا الكبرى المعاصرة، فإن ثمة قصصاً أخرى صوّرت واقعنا وتحولاته السلبية تصويراً رمزياً غيرَ مباشر. ومثالها القصة الحادية عشرة في المجموعة التي تحدثت عن نساء مدينة صِرْن يلدْن الصبّار في الغالب الأعمّ؛ بحيث لم يعد بينهن من تلد مولوداً في أحسن تقويم إلا في النادر من الحالات، بعدما كُنّ في السابق لا يُنجبْنَ أولاداً أسْوياء الخِلقة فقط، بل كُنّ يُنجبْن ورداً جميلاً، بل باقات ورْدٍ توائم دفعة واحدة. وقد أثار تعاظم هذه المُسوخ يوما بعد آخر السكانَ، فراح يجتمع شيوخهم في المساجد بين العشاءين لقراءة اللطيف متوسِّلين إلى الله عز وجل أن يَرأف بهم، ويخلّصهم من البلاء الذي حلّ بمدينتهم. وتكوَّن من أولئك المواليد جيل، وَسَمَه الكاتب بـ"جيل الشوك"، بدأ يكبر، ومشاكله تتفاقم، وكان الشوك وحشياً عنيداً؛ بحيث يُفضي قطْع واحدة من الصبار إلى قيام ضِعْفِها مكانَها!... غير أن الهول لم يبلغ ذُرْوته إلا في نهاية القصة لمّا خرج المدْعوون إلى حفل زفاف رهيب، اقترن فيه – لأول مرة – اثنان من تلك الكائنات الشوكية، مما يعني الامتداد والاستمرار؛ لذلك "خرج المدعوون إلى الزفاف وهم في غاية الخوف والتوجُّس والقلق من المستقبل القريب، حتى إن بعضهم لم يغمض له جفن، ولم يهنأ بطرفة عين، طيلة ثلاث ليال تباعاً!".(12) إن قصْد الكاتب من تخيُّل هذه الحكاية الرمزية التنبيهُ إلى العواقب الوخيمة التي قد تنجم عمّا تشهده كثير من مجتمعاتنا المعاصرة من اختلالات قِيميّة، وانحرافات خُلقية، وتمرُّد على الأصول والثوابت بذريعة التحرر، وتزايد المُوبقات. وبذلك، يظهر حضور الثقل العَقدي في إبداع القاصّ هنا، وتفسيره التحول الطارئ على مدينته من زاوية شرعية مَحْض.

ولم تقتصر قصص المجموعة على تصوير الواقع العربي الداخلي فحسبُ، سواء الاجتماعي أم الثقافي أم غيرهما، بل ألمّت بعضُ نصوصها، كذلك، بالعلاقة اللامتكافئة بين الأمة العربية والأمم الأخرى، ولاسيما المتفوِّقة في الغرب كما في الشرق، مع ملاحظة أنها ذات صبْغة رمزية واضحة. ففي قصته الرائعة المُعَنْونة بعبارة "في الغابة العالمية" تصويرٌ ممتع، فنياً، لتهافُت الدول الكبرى على خيرات أمتنا، وفي طليعتها الثروة النفطية الآخِذة في التناقص، بحكم عدم تجدّدها، وقد أحسن وصْفها، في قصة رمزية أخرى إذ وَسَمها بـ"بقرة العم بوعلام" التي أنهكها حالِبوها حتى جفّ ضرْعُها، فصارت تدرّ، بدل مادة الحليب، الدم! ويتلخص المتنُ الحكائي للقصة الأولى في صراع جملة من الحيوانات الكبرى (ترمز إلى قُوى الاستكبار العالمي)، داخل "الغابة العالمية" (ترمز إلى منظمة الأمم المتحدة)، حول الجمل العربي (يرمز إلى الأمة العربية وخيراتها النفطية وغيرها)، بعدما اختلفت حول مَنْ له الأحقية في الاستئثار بأكل لحْمه المكتنز الوفير. وتتجلى تلك الحيوانات/ القوى المتنافسة حوله في الدب الروسي، والذئب الياباني، والنسر الأوربي، والنمر الصيني، والفيل الهندي، والأسد الأمريكي الذي تجبَّر، ودافع عن أحقيته في أخْذ الجمل العربي كاملاً، دون غيره، فتقدم إليه، بينما هو يرعى هانئاً نشوانَ في مَرْج أخضر ممتدّ، يرافقه ثعلبٌ ذو أربعة أوجه في رأس واحد وحيّةٌ بستة رؤوس (ترمز إلى اليهود)، وتهيّأ للانقضاض عليه رغم محاولات القرد الإفريقي المتواصلة لتنبيه الجمل بالخطر الذي يدنو منه!

لقد صورت قصصُ المجموعة المدروسة، إذاً، الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي المَعيش في كثير من أوطاننا، في الوقت الراهن، وعبّرت عن لحظات مختلفة، ونقلت تجارب ومواقف متعددة فيه، ذات مرجعية واقعية واضحة، وجسّدت ملامح من الإهانة في حياتنا اليومية، وسلطت الضياءَ على بعض تحولات مجتمعاتنا التي تعكس اختلالَ المعايير والقيَم، والانحراف عن الأصول والجادّة أحياناً كثيرةً، لعدة أسباب كما هو معلوم. وتشي القصص المذكورة مجتمعةً بالتزام المبدع سعيد عبيد، وبالتحامه الأصيل بواقع أمته الذي يطبعه التخلف عموماً، وبإيمانه الراسخ برسالية الأدب في الحياة، لاسيما في عصرنا الحاضر الذي تدعو الحاجة فيه إلى الاندماج الإيجابي في المجتمع، وتشخيص أمراضه ومشكلاته بكثير من الصدق الشعوري والتعبيري، وإدانتها بنُقودٍ بنّاءةٍ تجعل غايتها الرئيسة الإسهام في إصلاحها وتجاوزها نشداناً لمجتمع أفضل وأرقى. واعتمد الكاتب، في ذلك كله، لغة متينة تنِمُّ عن تضلُّع من النسق اللغوي العربي قلَّ نظيره في ميدان الكتابة وأدواتها اليومَ، تستقي ألفاظها وتعبيراتها من سجلات لغوية شتى، وتزاوج بين التقرير والإيحاء. وتوسل الكاتب بأساليب الحكي المختلفة في نسْج خيوط قصص مجموعته، من سرد ووصف وحوار، راكناً، في بعضها، إلى السرد المفصّل الذي يتتبَّع جزئيات الموقف أو الحدث المَحْكي، وعامداً، في أغلبها، إلى التكثيف والتركيز. وآثر الكاتب تناولَ موضوعات بعض قصصه بتوظيف أسلوب رمزي يلمّح ولا يصرح.. يُشير ولا يُبِين، للارتقاء بلغة التعبير من مستواها الأول إلى آفاق أرْحَب تُضفي على النص جماليات أخرى، وتستحثُّ متلقيها على التفاعل معها إيحاباً، ومشاركة المبدع إنتاجَ الدلالة النصّية.

إن العالم أو الواقع الذي شكل موضوع نصوص المجموعة، والمليء – كما تقدَّم – بمظاهر الخلل والأزمة والبؤس، كان لا مناص من أن يدعوَ إلى البحث عن سُبُل خلاصٍ وإنقاذ له. ولعل هذا ما جعل الكاتب يختم مجموعته المدروسة بأقصوصة اختار عَنْونتها بعبارة أدلّ على ما ذُكِر نَصُّها هو "أمَا في هذا العالم أنبياء؟"، ونقرأ فيها حواراً بين أفراد أسرة صغيرة انصبّ على ما آل إليه حالُ الكرة الأرضية اليوم من تردٍّ ووسَخ واختلالات ونكبات وحروب، وتدخلت الأمُّ في آخِره متمنِّيةً ظهور مخلِّصين ينقذون عالمنا ممّا يعيشه من المظاهر التي أوْمأنا إلى بعضها سابقاً!

 

هوامش

(1) – عبد الله العروي: الإيديولوجية العربية المعاصرة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط.1، 1995، ص 244.

(2) – سعيد عبيد: الإهانة، مطبعة  آنفو – برينت، فاس، ط.1، 2010، ص 5.

(3) – رشيد سوسان: "الإهانة" مجموعة ترصد تجليات الإهانة في حياتنا اليومية، جريدة "المساء" المغربية، ع.1202، الإثنين 02/08/2010، ص 12.

(4) – أحمد المديني: الكتابة المفقودة بين سلطة عقدين (الاجتماعي والأتوبيوغرافي)، مجلة "الفصول الأربعة"، ليبيا، ع.29، س.8، 1985، ص 322.

(5) – الإهانة، ص 66.

(6) – نفســه، ص 45.

(7) – يقصد العرب وإسرائيل.

(8) – الإهانة، ص 29.

(9) – أخبرني القاص سعيد عبيد أنه سيُنشَر له، قريباً، عمل سردي بعنوان "الرجل الذي قتل تلفزة!" (قصص قصيرة جدا)، أكثرُ نصوصه مكرَّسٌ للحديث عن واقع الإعلام في مجتمعاتنا العربية.

(10) – الإهانة، ص 63.

(11) – نفســه، ص 48.

(12) – نفســه، ص 36.