تهدي الكلمة في هذا العدد لقرائها ديوانا لشاعرة توزعت كتابتها بين عوالم الشعر والترجمة. في ديوانها الصادر حديثا ورقيا ورقميا تواصل الشاعرة حوارها مع الأمكنة والزمن والشخوص والذاكرة، وقد أسهمت الترجمة في "حواريتها" الخاصة في إخصاب عوالم قصيدة الشاعرة وجعلها أكثر انفتاحا على أفق الشعر ومجازاته.

صانعُ الفرح (ديوان العدد)

فاطمة ناعوت

 

إلى كلِّ الأشرار في العالم:

كونوا كالزهور

صانعي فرح

ولا تكونوا كأبطال الحكايا

سارقي فرح.

             فاطمة ناعوت

 

 

الخُلاسيةُ

هي أنا

الخلاسيةُ

التي تركتَها سنواتٍ تُربّي شَعرَها

في ضواحي إشبيليّة

وتغزلُ مع الغجريات

فساتينَ واسعةً

بكرانيشَ زرقاءَ

تناسبُ أحزانَ الفلامنكو.

 

بشرتُها

لوّحتها الشمسُ،

والنجومُ سقطتْ

لتُرصِّعَ جدائلَ

جاوزتِ الخِصرَ

تتماوجُ في الهواء

مع قدمين

تدقّان الأرضَ

على إيقاع الكاستينيت.

 

هي أنا الخلاسيةُ

ترقصُ في دوائرَ منذ دهور

فمتى يعودُ إليها الفرحُ

كي تُحرّرَ الضفائرَ

من شرائطها؟

 

القاهرة / 16 يونيو 2011

 

 

يومُ الساعاتِ العشر

هذه البسمةُ

لي

والأنفُ العالي

والعينان اللتان

تعكسان لونَ البنِّ

تحت شعاع الشمس.

 

هذا الذقنُ

لي

ذاك الذي سرقَ رائحةَ أبي

وخبّأها من أجل أنفي

وتلك الشفاهُ التي أخبرتني أني امرأة

فطارت جدائلي.

 

هذا الشاربُ

لي

وتلك الكفُّ التي تهصرُ.

والصوتُ

الذي ربَّى صبايَ القديم.

 

الإيماءةُ الصموتْ

تحكي ألوفَ الحكايا

التي أنسانيها الزمنُ،

القِرطُ الذي شبكتَه بأُذني

الشموعْ

والساعاتُ العشرُ التي ركضناها في رحاب الأرض

بعيدًا عن عيون أمي.

 

كلُّ ما فيكَ

لي

....

ماذا تبقّى منكَ إذن

للأخريات؟

 

القاهرة / 9 مارس 2011

 

 

في بيتكم القديم

الزهراتُ اليانعاتُ

اللواتي تركتُهنّ في بيتكم القديم

يُشرقن

خلف وهج الشموع

مثل مريم البتول،

متى غدون جَدّاتٍ

يتقافزُ حولهنّ الحَفَدَةُ

والسنوات؟

وكيف؟

 

البيتُ الذي بناه البلجيكُ في بداية القرن

المفتاحُ الضخمُ

الذي كمفاتيح القلاع

وشوَشنا إليه أسرارَنا

النوافذُ العالية

تُدخِل الضوءَ

بقَدر ما تحتملُ دفاترُ الجامعة.

 

تحت يديك

دوائرُ الكهربية وقانون إديسون،

وتحت يدي

كنيسةُ نوتردام

وصندوقُ الفرعون في جوف الهرم،

عمارةُ الفراعين تبتلعُ القوطيين

وقوانينَ الاتزان

ولا شيءَ يعلقُ في عقول طلاب الهندسة

إلا قانونُ:

الحبّ الأول.

 

ينفتحُ البابُ العالي

تدخلُ صينيةُ الشاي

تحملها صبيةٌ صبوحٌ،

وشمعةٌ

تتقدّم طابورًا من الصبايا

مثل البجعات البيض

يتحلّقن حول الشقيق الأمير

الذي وقع في هوى الخُلاسية.

 

الخُلاسيةُ ضاعتْ في الزحام

والصبيُّ يجوب الطرقات

يسألُ المارّة:

هل رأيتم حبيبتي؟

تقول السابلةُ:

لا،

لم نرها!

 

كان لابد أن تنتفضَ الثوراتُ

ويسقطُ الطواغيتُ

كي تصعدَ الخلاسيةُ فوق تمثال الشهيد

رافعةً علمَ طِيبة

الذي بعدُ

لم يحمل عينَ حورس!

 

يراها الفتى من آخر الميدان ويهتف:

ها أنا ذا

حبيبُكِ القديم!

عودي إليّ!

 

القاهرة / 16 يونيو 2011

 

 

قُرطبة

حين نُسلِّمَ الأرضَ إلي الله

سيكون علينا أن نُعيدَ الكونَ سيرتَه الأولى:

نزرعُ الغاباتِ التي أحرقناها

وننفخُ من أرواحِنا

في الهياكل العظميّة

التي وأدنا الروحَ فيها،

نُعيدُ للطير أمانَه

وزقزقتَه

تلك التي تعلّمَ أن يُسكتَها

كلمّا مررنا

-نحن البشر-

جوارَ شجرة،

نُعيدُ الصحراءَ

صحراءَ

والمروجَ فراديسَ

ثم نلصقُ التفاحةَ المأكولةَ

في شجرة الخطيئة الأولى

كي يحبَّنا الله،

ندرّبُ أنفسَنا

أن نسيرَ فوق الرمال

دون أن تدهسَ أقدامُنا الطولى

أسرابَ النمل الطيبة،

 

سيكونُ علينا

أن نفكِّكَ نهرَ قرطبةَ

ونمنحَ شِطرًا منه

اسمَ: جوادا

والشطرَ الآخر: الوادي الكبير

ثم نعيدُ الكاتدرائيةَ مسجدًا

والمسجدَ

كنيسةً رومانيةً.

 

سيقفُ "ابنُ رشد" بين المذبح والمحراب

ليقول:

"الحقُّ لا يضادُّ الحقَّ!"

ثم نقف أمام الله في صفٍّ طويل

لنشهدَ

كيف نحنُ

جعلنا الحقَّ

يُضادُّ الحقّ.

 

قرطبة/ أبريل 2010

 

 

عصفور

هنا يتعلَّمُ العصفورُ

كيف يُزقزِقُ

كلّما فتحنَا له كتابَ التاريخ

ممحوَّ الأسطر.

 

لدينا شموعٌ كثيرةٌ

مُطفأة

وعلبةُ ثِقابٍ

تكفي لنقرأ ما محوناه

من كتابِنا.

 

شمعةٌ

وعودُ ثِقاب

لكلّ سطرٍ.

 

في كلِّ سطرٍ حكايةٌ

من حكايانا القديمة التي طارت

من حقائبنا.

 

هل تذكرين الآن

-أيتها البنتُ التي تنسى-

معنى أن يحبَّ رسامٌ

شاعرة؟

 

نعم:

تطيرُ قصائدُ ملوّنةٌ

فتضحكُ الملائكةُ من وراء الغَمام

وعلى الأرض تنثرُ

المَنَّ والسلوى.

عصفورُكِ

يَخفقُ بجناحيه،

سنعلّمه بعد برهة

كيف يطير.

 

القاهرة / 24 أبريل 2011

 

 

زهرُ أيلول

مع ثورة العسكر القديم

يتسلَّلُ العشّاقُ

وراءَ الأقنعة

ينثرون الورودَ على شرفاتِ الحبيبات

فلا تعرفُ الحبيبةُ

وجهَ حبيبها

لأنه مخبوءٌ وراءَ علم الوطن.

 

تغضبُ البنتُ

لأن حبيبَها اختلطَ بآلاف الأحبة

اسمُه لم يعد اسمَه

ووجهُه

صار يشبه وجهَ مصرَ.

 

تُطرقُ البنتُ برهةً

ثم تُغلقُ الشرفةَ

وتركضُ إلى الميدان

لتهتفَ مع الثوار:

“بنحبك يا مصر.”

 

ويومَ تطيرُ الأمهاتُ

إلى حيث تطيرُ الأمهاتُ

مع ورق أيلول الأصفر،

يقفُ العشَّاقُ تحت شرفاتِ الصبايا

يُغنّون:

“ماذا لو لم أترككِ تمضين؟!”

وتغني البناتُ:

"ماذا لو لم أترككَ تمضي؟!"

فيجيبُ الصدى:

“رجِع أيلول/ وأنتَ بعيد/ بغيمة حزينة/ قمرها وحيد".

 

الحبيباتُ مشغولاتٌ

بعدِّ اليماماتِ التي تطيرُ من الشجر

وعند الأصيل

يُخاطبن المرايا

ليعرفن إن كانت ظلالُ العاشقين

قد مرّت في الصباح.

 

لكن المرايا

تُعيدُ صوتَ KATE WINSLET

“ماذا لو لم تتركن الأحبةَ يمضون؟

ماذا لو حاولتنَّ مرةً أخرى؟"

 

التاريخُ لا يُعيدُ التاريخَ

لأن الحبيباتِ سوف يتعلَّمن

أن المرايا لا تكذبُ

ولا تعبأ حتى بقول الصدق،

المرايا

-وحسب-

تراقبُ الظلالَ السابحةَ على صفحتها

لكنها أبدًا

لا تخبرُ عن مكان العاشقين.

 

القاهرة 19 سبتمبر 2011

 

 

زهرُ القرنفل

بوسع الفتى

أن يأتيَ في قميصِه الأزرق

حاملاً شمسًا صفراءَ

وعودَ ريحانْ.

 

بوسعه

أن ينزعَ الريشةَ

من تاج "ماعِت"

فيرتبكُ الميزانُ في أرضِ طِيبةَ

ويثورُ النيلُ،

وفي الجزيرة العربية

تخضعُ "النساءُ" راضياتٍ

في كتابِ قريش.

 

بوسع الفتى

أن يجعلَ وجهَ حبيبتِه

يتلفّتُ من جديد

يفتّشُ عن وجهه

بين الزحام

فتشرقُ ضحكةٌ

على وجه طفلٍ يبكي

عثر على عيني أمه

بعد ضياع.

 

بوسع الفتى

أن يدخلَ البيتَ الصامتَ

فترقصُ الموسيقى

وتطيرُ الفراشات.

بوسعه

أن يجعلَ من دخان سيجارته

غيمةً

تتكثّف على سماء الغرفة

فيهطلُ المطرُ

وينبتُ القمح.

 

بوسعه

أن يبسطَ ذراعيه

فتنامُ البنتُ المُتعَبةُ

ويهدأ قلبٌ واجفٌ.

 

وبوسع الفتى

أن يحملَ زهراتِ القرنفل

فتنسلُّ الستائرُ السودُ

عن وجه القمر.

القاهرة / 23 مايو 2011

 

 

شارعُنا القديم

هذا شارعُنا القديم

وإسكافيُّ شارعِنا

يدقُّ المساميرَ في أحذيةِ المارة

بيدٍ،

وبالأخرى

يعلِّمُنا الشطرنجَ

ونحن صغار.

 

صغارًا كنّا

أكبُرُ في هذا البيت

وفي شرفةِ غرفتي

تواطئتُ مع مربيتي

على الهرب

لألتقي بك خلسةً

عند باب الجامعة.

 

الجامعةُ التي احتضنتْ صبانا

مُدرّجُ "فلسطين"

الأبنودي وجوابات "حراجي القط"

منير

"شبابيك"

طيّرتْ أحلامَنا التي كنّا نُحيكُها

بعيدًا عن عيونِ أمي.

 

عيونُ أمي

اتّسعتْ دهشةً

حين شاهدتْ وجهيَ بالفحم

على لوحةِ رسمِك.

 

لوحةُ رسمِكَ

وشوشتْ لي:

يا بنتُ

فارسُكِ يجلسُ أمامي كلَّ مساءٍ

على هذا الكرسي

في يده ريشةٌ

وباليتُ ألوان

واسمُه

ستعرفينه بعد أيامٍ تسعة.

 

تسعةُ أيامٍ

وبنتٌ تجلسُ في مدرّج الجامعة

تفكّرُ

وتخُطُّ في كشكول العمارة

ملامحَ غامضةً

يا تُرى

كيف يكونُ الفارسُ؟

الفارسُ اسمُه

"صانعُ الفرح"

يعلّمُ البنتَ الهوى

ثم يمضي

يطوي سنةً

إثرَ سنةٍ

إثر عقدٍ

إثر عقدين.

 

بعد عقدين

يعودُ

يفتِّشُ في نوافذِ الحيّ

عن أحلامِه القديمة

حاملاً بالوناتٍ

وقطَعَ حلوى

وحكاياتٍ كثيرةً

حول فتى

وفتاة.

فتاةٌ

تجلسُ وحيدةً

تُضفُرُ جدائلَها

وتُحصي العابرين تحت شرفِتها

يطلبون يدَها،

ليس بينهم

حبيبُها!

 

حبيبُها

يصلُ بعد رحلة السفر

يخطِفُها

ويركضُ بها إلى حيث:

شارعُها القديم

وبيتُها القديم

والإسكافيُّ "عم سعيد"

وسلالمُ الجامعةِ العتيقة

وبابُ حانوتٍ

ابتاعا منه هدايا عُرسٍ

أبدًا

لم يتمّ.

 

القاهرة / 24 أبريل 2011

 

 

أوزّتان

من باب الحديقة

تدخلُ الأمُّ

تحمل ربطاتِ الخضار

وديكًا

وإوزّتين.

 

تنادي

هاتي سطلَ الحليب

يا التي اختارُكِ قلبُ صغيري

كي نصنعَ كعكةَ العُرس.

 

تقول الإوزّةُ لصاحبتها:

"أنا صاحبةُ البيت!"

وتقول الأخرى:

"بل أنا!".

 

الأمُّ تحسم:

التي منكما

تجلبُ الحليبَ

أولاً.

 

القاهرة / 16 يونيو 2011

 

 

صَخَب

الوردةُ

لأيِّ سببٍ تتركُ أرضَها الصاخبةَ

وترحلُ

إلى صحراءَ غريبةٍ

وهادئة؟

 

الوردةُ

هنا رِيُّها

وضجيجُها،

هنا

الشوكُ البريُّ يحميها

وإنْ وَخَزَها.

الوردةُ

تحبُّ الصَّخبَ

ووخزَ الشوكِ

لكنها تهربُ

إلى حيث السكون،

والمخمل!

 

القاهرة / 15 أبريل 2011

 

 

مِذياعُ أمّي

الفتي اللصُّ

جمعَ نُثاراتِ أمّي:

تصاويرَ العُرس

وظلالَ أبي على حائطِ الإيطاليّ "فان ليو"

تتعلقُ في ذراعه

أجملُ بناتِ مصرَ

في جيدها عقدُ ماس

وفي قلبها

قلقٌ علي أطفال

بعدُ

لم يأتوا.

الفتى سارقُ الفرح

التقطَ بمكثِّفِ الصوت

كلَّ نغمةٍ

 تركتها أمّي في الهواء

قبل طيرانها الى الله،

ثم مزجَ صوتَ أمي

بحفيفِ الشجر

الذي يضبطُ ساعتَه

على ساعةِ مذياعِها العتيق

في جِرابه الجلديّ

وقتَ الصبح

والشاي

والشطائر،

وعند الأصيل

سورةُ "غافر"

تحكي لها 

كيف يُخرجُ اللهُ من أحشاءِ الصبايا

أطفالاً جُددًا

سوف يجعلن الأمهاتِ الصغيراتِ

جَداتٍ جميلاتٍ

بعيونٍ طيّبة

وشعرٍ أبيضَ

ستسقط منه شعرتان

غاليتان

في كفِّ حبيبي اللصّ

ذاك الذي يسافرُ في الوقت

ليجمع لي

نُثاراتِ أمٍّ

تركتني في الزحام

وطارت. 

 

اللصُّ الذي أحبَّني 

منذ بداية التاريخ،

جمعَ شتاتَ أمّي المنثورَ في الزمن 

ليفاجئَني بها

يومَ الزفاف.

 

الطائرة. القاهرة- أسوان. 5 أكتوبر 2011

 

 

بحرُ الشمال

كان علينا

أن نكشطَ المِلحَ

الذي ترسَّبَ على حُلوقِنا

من رذاذ الشلالات

التي تَهْدِرُ في الأرض الجديدة،

ثم نطيرُ إلى بحر البلطيق

حيث الماءُ أُجاجٌ

يقفُ بين العذوبة

والملوحة،

كي نغسلَ الجفافَ

عن قلوبِنا.

سآخذُ معي مِظلّتي الحمراءَ

مُزيّنةً بضحكاتِ الجيشا،

وساقًا أخضرَ بزهراتٍ ثلاث

قطفتَه لي من حديقة بيتك،

سآخذُ معطفي الصُّوفيَّ

لأخلعَه في "جزيرة الشعراء"

فأعلّمَكَ كيف الدفءُ فنٌّ

لا يعرفُ النَّولَ

والخيوطَ،

وآخذُ دفترَ أشعاري القديم

الذي خبّأتُ فيه عينيك البُنيّتين

اللتين أربكتا صبايَ

فغضبتْ أمي.

 

سأجلبُ لك معي

منفضةَ سجائرَ

وأعوادَ ثقابٍ،

وحجرًا أسندُ عليه رأسي

حين ينوءُ صدرُكَ

عن حِملي،

وأسرقُ حفنةً من طمي بلادي

كي نعودَ إليها

إذا ما هدّنا التعب.

 

هاتِ فأسًا وشتلةَ قمحٍ

وبذورًا وسطلَ مطر

لكي تزرعَ لنا جنّةً

على شاطئ البحر،

واجلبْ معكَ ذكرياتِ الجامعة

و"مقاماتِ بيرم"،

ولا تنسَ خاتمَ العُرس

عليه حرفان من اسمي واسمك،

ولا تُذكِّرني كلَّ برهةٍ

بأن امرأتين ساحرتين

تحملان اسمَ رجل واحد،

لأن مليونَ امرأةٍ على الأقل

محفورٌ على أصابعِهنّ

أسماءٌ وتواريخُ وأحداثٌ

لا تُشبهنـا

إلا بقدر ما نشبه اللصوصَ     

الذين سرقوا أحلامَنا

في مطار روما.

 

كندا- القاهرة / 6 يوليو 2011

 

 

أنتَ اخطائي

وأنا

حُلمُكَ الأبديّ.

 

فالرجالُ

لا يخطئون،

والنساءُ

لا ينَمْن

حتى يحلُمن.

 

 

المهاجر

كلَّ صبحٍ

يدقُّ العصفورُ نافذتي

يملأ غرفتي بالشَّقشقةِ

وقلبيَ بالوجل.

 

وحين

-في الليل-

يطيــــــــرُ

ليحطَّ على النافذةِ البعيدة

ينسكبُ صوتُه على شاشتي

ليذوبَ في اللون الأحمر،

دقّةً...

دقتين...

أو ثلاثًا،

تشبه الإكسليفون

مع طبولِ الجنوب.

 

توقفتْ ساعةُ الحائط!

البندولُ مُعتصِمٌ

يرفضُ اليومَ

أن يحملَ صوتَ أُمٍّ

غافلتني وطارتْ.

 

سأقومُ

أُصالحُه

وأملأه بالرنين،

ليعودَ صوتُ أمّي

يغرِّدُ في شرفتي،

بدلاً من العصفورِ المهاجرِ،

الذي

حين يهاجرُ،

تملأ سمائيَ

زقزقاتُ العصافير الحقيقية.

والفرحْ.

 

القاهرة / 23 يوليو 2011

 

 

أرجوحة خشب

في المكان ذاته

نصفِ المعتم

ذي الأراجيح

والصخبِ الأرجنتيني

والأراجيلِ

والبناتِ الحِسانِ تطيرُ جدائلُهن مع الهوى.

 

كان

دفترُ قصائدَ بيننا

وهوًى قديم

نصفُه رَمْلٌ

ونصفُه رَمَلْ.

هوى الرَّمْلُ مع الهوا

والرَّمَلُ تكسّرَ بين التفاعيل

لأن الهوى جفَّ

والغيثَ لم يَجُدِ.

 

على الأرجوحة الخشبية

وضعنا الخواتمَ الذهبيةَ

والخواتيمَ

وأغلقنا الدفاترَ

فأشرقتِ الشمسُ.

 

اليومَ

أنا هنا وحدي

على الأرجوحة ذاتِها

لا!

لستُ وحدي

بل بين الرفاق والصخبِ والبناتِ والأراجيح،

وحديثٌ حول الثورة

والربيعُ العربيّ

وخريفُ الأحبة

وعجزُ الفرسان

عن عدّ الدنانير

وتحمّل سياط النساء.

 

أنا هنا وحدي

وأنتَ

أين؟

 

القاهرة 1 سبتمبر 2011 

 

 

آدم

جَزِعًا من الخطيئة الأولى

يشيحُ عن ثمرة غضّة

منحها له اللهُ منذ الأزل

ومنعها

يومَ الميلاد.

 

يُجوِّعُ قلبَه

يهجرُ المروجَ والشجر

ويغرقُ في رمال القيظ

وحيدًا

حتى يحرقَه النَّوى

فيعودُ ملهوفًا

إلى كَرْمتِه

يقشِّرُ الثمرةَ عن أوراقها

يذوقُ الكَرْزَ

ويرشفُ الشهدَ

ثم يستعدُّ لرحلة الجوع الجديدة.

 

لكن الثمرَ

يأبى فلسفةَ التجويع

فيحلِّقُ مثل غيمةٍ فوق رأس الجائع

تجولُ مثلما يجول

ثم تتساقطُ على كفّيه

رطبًا شهيًّا.

 

 القاهرة أكتوبر 2011 

 

 

صوتُكَ

إذْ يقولُ:

"أنا آتٍ"

ينزعُ نُدبةَ الخواء من صدري

ويستبدلُ بها

قطعةً من الفرح.

 

نهايةُ النوتة

ليس أجملَ

من نهايةٍ

يرسمُها "سليم سحاب"

بعصاه.

 

يعرفُ المايسترو

كيف يُزيدُ العاشقين اثنيْن

ويعرفُ

كيف يُنقِصُهم.

 

تعلو العصا

فتطيرُ الفراشات

وتصدحُ الأوركسترا،

تهبطُ العصا

فأقبِّلُكَ

قبلةَ الوداع.

 

القاهرة 2 يونيو 2011

 

 

عند الصبح

تذهبُ إلى النهر

لتسقيَ سكّانَ البرية،

وعند المساء

أُودعُكَ علبةَ القطيفة

في يد امرأتك.

 

 

لقاء أخير

من ادنبره

إلي مطار أمستردام

إلي حيث تطيرُ إلي مهجرِك

وأطيرُ إلي وطني

 وأبدًا

لا نلتقي.

 

في الطائرة

نرفعُ الحاجزَ بين مقعدينا

لكي ينامَ رأسي علي كتفك.

 

مِن بعدك

كلُّ الطائراتِ التي حملتني

حواجزُ مقاعدِها

لا تُرفَع.

 

في الطائرة أمستردام/القاهرة ديسمبر 2007

 

 

رغمَ أنفِ حبيبي!

فتحتُ الصُّبحَ

فدخلَ الصُّبحُ غرفتي

من نافذتي الشرقية

ودخلَ معه منتصفُ العيدِ:

أنتَ تسمّيه شباطَ،

وأنا

علّموني أن أسميَه فبرايرَ

وعلّموني

أن الرومانَ قالوا للطير:

اِدخلوا الشجرَ

إنْ شاءَ اللهُ آمنين،

فإذا ما انتصفَ شباطُ،

تزوجوا.

 

وانتصفَ الشهرُ

ولم يتزوجِ الطيرُ!

لأن الشجرَ

كان مسافرًا

ليبحثَ للشهرِ عن اسمٍ جديد،

وقالوا إن القرنَ الثالثَ

علّمَ قسّيسًا طيّبًا

أن يُزوّجَ العاشقين الصِّغارَ

في قلاّية الهيكلِ السِّريّة،

لكنّكَ

في بداية الستينيات

ألقيتَ السكاكرَ على شَعْبِك

من فوق "قاسيون"

بعدما فصمْتَ عُروتَنا

لأن بلادكَ تقولُ ’شباطَ‘

وبلادي تقولُ ’فبرايرَ‘

رغم أن الاسمَ ليس إلا اسمًا

مجردَ اسمٍ

لا يعني شيئًا

ولا يُخمدُ رائحةَ الزهرةِ

أو لونَها

لو أسميناها أيَّ اسم آخرَ

عدا "زهرة"،

هكذا أخبرتْ جولييتُ روميو

الواقفَ تحت شرفتِها

منذ عقودٍ.

 

سأخلعُ عباءةَ هذا القرنِ الضيّق

وأركضُ صوبَ القرن البعيد

الثالث

أدخلُ صومعةَ الكاهن الطيبِ

وأتزوّجُ حبيبي

رغمَ أنفِ اختلاف الأسماء

والألسنِ،

والسكاكرِ.

 

ورغمَ أنفِ حبيبي.

 

القاهرة 14 فبراير 2009

 

 

أنفُك

الذي أفسدتْه النساءُ

لا يعرفُ رائحتي

ولا يميّزُ عطريَ الفرنسيَّ

أنفُكَ المعطوبُ

يباعدُ بينكَ وبين فصيلة الكلاب.

 

والكلابُ

وفيّةٌ.

 

 

تلك اللثغةُ

أَرِني

كيف تصنعُ لثغتَكَ تلك

فيخرجُ الحرفُ من شفتيكَ

ليقعَ

بين المعجم

وبين قلبي.

 

وقلْ لي

هل هذا الثغرُ وذاك اللسانُ

بحروفهما المائيةِ الغائمة

يصنعانِ القُبلةَ على نحو مختلف؟

حتمًا

بدليل أنني

-قبل لقاءنا-

أعددتُ فستاني، وعَقْصةَ شعري، وعطريَ، وشاليَ

على النحو الذي يُجبركَ أن تنطقَ

خمسين: "شو ها الحلا"،

على الأقل

قبل أن تضمَّني

وتمنحَني قُبلتي الأولى:

جهّزْ معجمَك

وتعالَ.

 

 

التحوّلات

يا إلهي!

لَكَمْ تغيّرتُ

قبل أن أنزلَ البحرَ!

هل انتبهتَ؟

صرتُ:

أخلعُ نظارتي الطبيّةَ

أتركُ خُصُلاتيَ حرّةً

أتركُ السيجارةَ مشتعلةً على المكتب

آخذُ نَفَسًا عميقًا،

والأخطرُ

لم أعدْ أُغمضُ عينَيَّ

حتى أتأملَكَ

وأنتَ تغرقُ فيَّ!

 

 

صندوقُ اللعب

في طريقك إليّ

احذرْ النوبيين

الذين يكمنون لكَ في الطرقاتِ

منذ أربعين عامًا

حاملين ثأرَهم في جيوبِهم

لأنكَ

وأنتَ تلهو في صندوق اللُعب

جلبتَ لهم

 من بين النحلات والدُّمَى ومضاربِ البينج بونج ورقعة الليدو-

سَدًّا،

السَّدَّ العالي

الذي جمَّعَ شتاتَ نِيلِنـا

وشتّتَ جَمْعَ الرجالِ السُّمر

يحملون الصِّبيةَ والعجائزَ

وفوق رؤوس النساء

 ترقدُ السلالُ والحبوبُ

 منزوعةً من طميها قبل النضوج

وثغاُء شاةٍ

 يحكي محنةَ مصرَ التي تعذّب أبناءها

بأبنائها.

 

وأنتَ

كيف سمحتْ عيناك البريئتان تلكما

أن تهدّمَ بيوتَهم الطيبة

لينتثروا في أرض الله

بلا وطن

ولا لغةٍ

ولا هُوية؟

لهذا حديثٌ آخرُ

حينما تأتي.

 

المهم الآن،

احذرْ طريقَ الجنوبِ

فالجنوبُ موحشٌ،

تعالَ من حيث الغرب

عبر قناة بنما

فذلك الخليجُ الضيّقُ

مَدينٌ له قلبي

بالفرح.

 

 

سُقْيا

لكنّكَ

لا تقدرُ أن تبكيَ

فكيف تنتظرُ

أن تنبتَ زهرةٌ

على صدرِ حبيبتك؟!

 

 

لو أنني فقط

أقدرُ أن أثِبَ للسماء!

لأمسكتُ يدَ الله

ومسحتُ بها على رأس الصغير "عمر"

سينظرُ لأعلى برهةً

ثم يخرجُ من التوحّد!

 

القاهرة 25 يناير 2009

 

 

بيتي طابورٌ خامس

صَحْنُكَ خائفٌ يرتجفْ،

كوبُكَ يبكي

ضممتُه إلى شفتي لأُطَمْئنَه

غافلَني،

وانتحرَ:

نُثارَ خَزَفٍ فوق البلاطِ،

البلاطُ مُغَبَّرٌ،

والثريا غائمةٌ،

مِقْعَدُكْ الذي هناك

ثنى ساقَه

وغَضَّنَ وسائدَه،

فُرشاة أسنانِكَ

تفقدُ شَعرَها

ومِنشَفَتُك البيضاءُ

ترفضُ أنْ تشربَ ماءَها ليومين

لكي توهمَني

أنها تبكي.

 

الكتبُ في المكتبةِ ساكنةٌ

لا تتعاركُ مثلَ دائمًا،

الصورُ على الحوائطِ

تشيحُ عني،

أباجورةُ مكتبي البرتقاليةُ

باردةٌ

أبَتْ أن تمنحَني بعضَ الضوءِ لأكتبَ،

والأقلامُ تآمرتْ

وغلَّقتْ على نفسِها الأدراجَ

الشرفةُ

عاقِدَةٌ ذراعيها

وأطرقتْ برأسها بعيدًا

صوبَ الحديقة،

والحديقةُ

كسولٌ

لأن العصافيرَ غادرت.

 

وهناك

 في قاعِ سلَّةِ الغسيل

ترقدُ بيجامتُكَ

تتقلَّصُ مثل جنين

يرفضُ الخروجَ إلى العالم

...

بيتٌ حزينٌ

وأشياءُ

تتآمر ضدّي

لأنكَ لن تعود.

 

بيتي

طابورُكَ الخامس!

 

 

جارتي

تلك هي السيدةُ

التي تودُّ أن تموتَ نحيلةً

كيلا تُزعجَ المُشيّعين

بنعشٍ ثقيل.

 

تقولُ لي:

صباحُ الخير.

صباحُ الخير.

 

 

عروسُ الجيشا

ها هي الجيشا

أخيرًا!

بفستانِها الأحمر

وبجعاتٍ مطروزةٍ بحريرٍ أبيضَ

ومناقيرَ تنادي القمحَ فوق كفيّ

تمامًا كالتي في بيت جدتي

(على رفِّ المرآةِ الفضيّ

في منتصفِ الردهة على اليمين وأنت داخلٌ من باب الشقة)

كَمْ خطّطتُ لسرقتها!

أنقذَها من شروري

أنني ما عرفتُ أين أخبئُها؟!

أمي ستكشفُها في غرفتي

وكبيرةٌ هي الدُّمية

على أنْ تُدَسَّ في درجِ المكتب!

 

انظرْ

حذاؤها أبيضُ يُطِّلُّ من تحت الثوب

وشعرُها أسودُ معقوصٌ مثل التوليب

وكفُّها خزفيٌّ

تشيرُ إلى صورتي في غرفتكَ الأمريكية

وجواز سفري الحزين،

على مكتبِكَ أيضًا

دفترُك أحمرُ

وقلمُك

وورقةُ مواعيدَ

ليس فيها اسمي؟

وجزءٌ من روايتك الجديدة

"الزهرةُ الشرقية"

هي أنا،

وأنتَ

تجوبُ العالمَ

تفتِّشُ عن نصفِكَ،

ونصفُكَ

هنا

عند نهاية خيطٍ أثيري

حيثُ عينان أمام كوّةٍ إلكترونية

تتلصصان على غرفتك

وأشيائك:

مكتبٌ

فوقه دفترٌ أحمرُ

ومخطوطةٌ مبعثرة

وورقةُ مواعيدَ

فيها موعدُ سفرِكَ القادم إلى هنا؟

وعند الركن

علبةٌ كبيرةٌ شاغرةٌ من الكرتون

كانت قبل برهة ترقدُ فيها

عروسُ جيشا

تضعُ كيمونو

يدثّرُ جسدي.

 

القاهرة 25 يناير 2009

 

 

وثن

وقالَ لي:

إنها وثنٌ

نَحِجُّ إليه عندَ الغروبِ

وعند انتصافِ النهارِ

ووقتَ الشروق!

نطوفُ بهيكلِه الرَّحْبِ

خمسين طوفةً في اليوم

وندفنُ جباهَنا الرَّخْصَةَ

عند منابتِ النَّهدين،

والساقين.

 

وفي أظافرِ قدميها المطليّة بالدمِ والحِنَّاء

نغرزُ أنوفَنا العاليةَ

فإذا ما تفجَّرُ الدمُ من جلودِنا

عرفنا أنّا تعمَّدنا بالشَّبق،

ليستْ إلا

ورقًا وكلامًا وحُلُمًا وشِعْرًا

وقِبْلَةَ امرأةٍ في البعيد

وَلّيْنا وجهَنا شَطْرَها

حتى لا يجِفَّ القولُ في حلوقِنا

إنمّا هي وثنٌ مثل هذا:

(ناولَني وثنًا من خَزَفٍ لكي أكسرَه)

ثم تمتم:

 

هي امرأةٌ أتعبَّدُ في محرابِ عينيها

إنمّا أنتِ

حبيبتي!

 

القاهرة 3 أبريل 2009

 

 

بعيد عنك حياتي عذاب

هذه الخبيئةُ في هاتفكَ

امرأةٌ لا أعرفُها

تشبه "السِّتَّ" إلا قليلا:

النغمُ صَحٌّ

والإيقاعُ

لكن الصوتَ مغمضُ العينين

أطلقْ سراحَ الصوتِ

قبل أن تضغط الزرَّ

وتقول: أحبُّك.

 

 

جسدي مدرسةٌ وفصول

أوَّلَ آذارَ:

تعلَّمتْ شفتاي

كيف تَلْفِظانِ

"أحِبُّكَ"،

عند منتصفِ آذارْ:

تعلَّمَ قلبي

أن يَخْفِقَ

حين يقتربُ موعدُنا

وخِصري أن ينثني

إذا مَسّْته إصْبَعُكْ،

 

ولمّا أوشكَ آذارُ على المَغيبْ:

كان صدري قد أتمَّ تمارينَه الشاقّةَ

ليلفُظَ قلبيَ خارجًا

مثل سمكةٍ ميّتة على الرمال

ويدُسَّ محلَّه

حفنةً من الخواءْ.

 

أنتَ

كنتَ في قلبي.

 

القاهرة 1 أبريل 2009

 

 

قتيلُكِ

قلتُ: مَن؟

قالَ: قتيلُكِ!

فانشقَّ الصخرُ

وطارتْ منه العصافيرُ.

الصخرُ يعرفُ

كيف يُخبئُ هداياه

سنواتٍ طويلةً

وعقودًا

انتظارًا لموسم العصافير.

 

القاهرة 30 مارس 2007

 

 

بعد الخامسة والخمسين، بقليل

مثل مراهقيْن في الثانويّة

ينتظرُ الفتى اليافعُ عند رأس الشارع

صَبيّةً

تقفُ الآن أمام المرآة

ترفعُ شعرها الغزيرَ في ذيل حصانٍ

بشريطٍ أخضرَ

وفستانٍ أبيضَ

وحذاءٍ فِضّيّ.

الفتى اليافعُ

عند الأصيل

مُتخفيًّا تحت شجرةِ التوت

راح يحاكي البُلبلَ في صفير مموّه مستطيل

فيدقُّ قلبُ الفتاةِ

وتركضُ نحو الباب

لتكملَ تسويةَ خُصُلاتِها على الدَّرَج

: "البَرْجلُ انكسر، وغدًا امتحانُ هندسة، المكتبةُ التي عند رأس الشارع!"

والأمُّ تصدّقُ.

 

الفتى اليافعُ

بعد الخامسةِ والخمسين دقيقة بقليل

في قميصِه الأبيض

وعينيه اللتين تسرقان ضوءَ الشمس الغاربة

يبتسمُ حين يراها تخطُرُ

فترتبكُ الخُطَى

لكنَّها

سوف تخطفُه من يده

ليندسّا في زاويةٍ مُشَجَّرة

بعيدًا عن عيون المارّة والبصّاصين

تمامًا

كأنهما مراهقان صغيران يتعلمان الحبّ

ما همَّ أبدًا أن يكونا

قد تجاوزا الخامسةَ والخمسين

بقليل.

 

فيما يشبه النور

الرجلُ

الذي عِشتُ أيامَه مرتين

حطَّم زجاجَ نافذتي 

ودخلْ.

 

يقول لساعة الحائط:

توقفي عن القلق برهةً

واستريحي

فأنا

جئتُ من السماء

لأهتمَّ بالصغيرة

نيابةً عنك.

بالشرائطِ الملونة

سأجدلُ شعرَها الكثيفَ

وأعدُّ كأسَ البرتقال

وحبّاتِ الرُّمّان في صحنها الأبيض

تمامًا مثلما

كلَّ مساء

تفعلين

 

وعند النوم

سأحكي لها الحكايا

وأضعُ بين كفيّ رأسَها

حتى تغفوَ

فإن نامتْ 

هاتي رنينَك همسًا

كيلا تصحوَ

 

قبل أن أضعَ فوق معصمِها

قُبلتي.

 

هذي ابنتي يا ساعة

وإنْ عاشتْ أيامي

مرتين.

 

 

شوكة

قال لي:

سأسرقُ من الشمسِ

شعاعًا

لألضُمَ اللؤلؤَ في ثوبِك

ومن ضوء القمر

أقبضُ حِفنةً

لأغزلَ شريطًا لجديلتك،

ولمّا وخزتْ ساقيَ

شوكةٌ

تركني

أسقطُ.

 

 

فـرح

هذه النقطةُ البيضاء

الطفلةُ التي كنّا سنصنعُها

لو تمهّلنا.

كانت ستحملُ صمتَك،

وبعضًا من عَصبيتي،

اسمَكَ،

وأنفي أنا طبعًا،

فرعونيًّا٬

ليس به عروبيةُ أنفِك

لكي تشمَّ الزهرَ في جيدي

وتميّزَ ما بين الشوكولاتةِ

والهوى،

الأطفالُ لابد أن يميزوا الشوكولاتة

كي يكونوا أطفالاً!

هذي القطرةُ

المتكوّرةُ داخلَ بِرْكةٍ صغيرة

على المدى الأخضر الواسع

فوق حقلي

هي طفلتُنا التي لم تأتِ.

جديلتُها

(التي تنحلُّ الآن في مياه الصنبور)

من شَعري الجَعِد

وعيناها طبعًا بُنيّتان

تعكسان

ضوءَ الشمسِ التي تصحو

عند الغروب.

 

كنتُ

سأسمّيها فَرَح.

 

 

ثأرٌ

ثُم أنَّ المدينةَ خاويةٌ

حين خوتِ الألسنُ من لثغتِك

وفُرِّغَتْ أُذني من حروفك المائية

سأجمعُ الحروفَ من المعاجم

أرتِّبُها:

حاءً

فاءً

أنثرُ القشَّ والبنزينَ

ثم

 

أحرقُها.

 

 

مسامير

هل أحتاجُ أن أخبرَكَ؟

أنا مشغولةٌ منذ نَهاريْن

بانتزاعِ المساميرِ التي

تَخِزُ جِلدي.

 

بين الحينِ والحين

أرفعُ بصري

لأرمُقَكَ من بعيد

وأنتَ تطاردُ الفراشاتِ التي أنبأتْني

عن أسرارِكْ.

صِرْتُ مُثْقلَةً بالمعرفة

وأنتَ

مُثقلٌ بالجثامينِ الملوّنةِ الصغيرة

التي تملأ جعبتَكْ.

 

أنا مشغولةٌ!

وأنت كعادتكْ

تُهدرُ الوقتَ وراءَ الأثر

تطاردُ الظِّلَّ

وتنسى أنَّ وراءَ الظلِّ

جسمًا رمى الظلَّ

ونورًا

حَجَبَهُ الجسمُ

فكان الظِّلُّ!

 

اسكتْ عن قتْلِ الفراشات!

وابحثْ عن جسدٍ

لا تُرهقُه الكشوفُ

واتركْني

أنزعُ المساميرَ

عن جسدي.

 

الكويت ديسمبر 2007

 

 

شباك أمي

سأقول لنفسي:

إنني أجلسُ في أدنبرة

أو

علي ساحلِ رأسِ البسيط

باللاذقية

بينما أنا انتظرُ حبيبي،

على مقعد خشبي في مقهى "كاسترو"

بالقاهرة.

 

تلك حِيلةٌ نسائيةٍ

أتحمَّل بها بردَ بلادي

في فبرايرَ

بجلبابي الحريريّ الخفيف

الذي جلبه الأصدقاءُ لي من رام الله.

 

سأقول:

إنني في بلدته الشمالية

في حضن الفرات

لكي لا أرمقَ ببصري

بيتَنا القديم

في "سراي القبة"،

لأن أمي

لم تعد هناك

في الطابق الخامس

تنشرُ الغسيل

أمي الآن

راقدةٌ تحت الأرض

ليس بوسعها النظرُ إلي الأسفل

لالتقاط المشابك الخشب.

سأقول أيضًا:

حبيبي شاعرٌ

يعرفُ كيف يربتُ علي ظهري بحُنو أمٍّ

ويُضفِّرُ جديلتي في شريطةٍ بيضاء

ثم يمسح عن جبيني

وجعَ التوحُّد.

 

يركبُ القطارَ من بلدته الشمالية

ويأتيني في مقهى قاهريّ بارد

بعاصمة بلادي

جوارَ بيتنا القديم

الذي خلا من مشابك الغسيل

ومن أمي.

 

القاهرة/ فبراير 2010

 

 

ساعةُ الحائط

إلى سهير أيضًا، التي طارت إلى حيث تطيرُ الأمهاتُ ولا يعدن

ألبسُ قميصَكِ الورديَّ

وروبَكِ الأزرقَ

أشدُّ الإزارَ على خِصري

وألفُّ شالَكِ الصوفيَّ حول كتفيّ

فتنبسطُ ساعداكِ

تترفقانِ

تضمّانني

فأنام.

 

أُنصتُ إلى وَقْع دقّاتِ الساعة ذات البُندول

صوتُها

يستحضركِ وأنتِ تُعدّين لنا الشطائرَ في الصباح

فيغسلُ عن بيتي الوحشةَ

والبياض،

يخبرُني أنكِ تنظرين إلىَّ من هناك

هلْ أنتِ في السماءِ؟

هلِ السماءُ جميلةٌ؟

بها شجرٌ ووردٌ وحلوى وعصافيرُ؟

 

ساعةُ الحائط ذات البندول الفضيّ

قايضتُ شقيقي

بكل ما تملكين

مقابلَ هذا الرنين.

 

كانت في بيتكِ قبل عام

بيتنا القديم

هي الآن في بيتي

على الحائط المقابلِ صورتك

في فستان زفافِك إلى أبي

هل قابلتِ أبي بعدُ؟

هو هناك منذ عشرين عامًا

لابد أنه ابتنى لنا بيتًا

وزرعَ حوله حديقةً ونخلاً وبحيرة.

 

ابحثي عنه

لابد ستجدينه جالسًا هناك

تحت الشجرة

يسمع فهد بلان وفيروز

في انتظاركِ.

 

فستانُكِ الأبيضُ مطعَّمٌ باللؤلؤ والتُّلّ والساتان

وضعتُه جواركِ

في الصندوق الخشبيّ.

 

تدقُّ الآن الثالثةَ

الليلُ موحشٌ

وأنا خائفةٌ

وأنت

وحشتيني.

 

القاهرة مايو 2009

 

 

بالأمس

لمحتُ حرفَ الحاء

يتسلّلُ من ثقبٍ بالقاموس

ثم انتحرَ من شاهق.

 

القاهرة ديسمبر 2011

 

 

وردةٌ بلاستيك

الوردةُ الحمراء

التي مُطرِقَةٌ برأسِها

في كأس البلّور فوق مكتبي

ذبُلَتْ

رغم الماءِ وقُمْع السُّكّرِ

ورغم الهواءِ الصَّحو

وإصبعي الحنون

...

 

وتعطّلَ الهوى

في قلبي

وفي قلبك.

هوانا

-كما وردتك-

عمرُه قصيرٌ

لأنه مثلها

حيٌّ

وطبيعيٌّ.

 

فقط

لو أن وردتَكَ

كانتْ من البلاستيك

إذًا

لعاشَ هوانا!

 

القاهرة 20 مايو 2009

 

 

موتُ الوردة

السيدةُ

التي ترتّبُ فوضاي

كان عليها أن ترميَ وردةً حمراءَ ذابلةً

إلى حيث تُلقى الورودُ الحمراءُ الذابلةُ

ثم تغسلَ كأسَ البلور

من بقايا موتِها،

موتِ الوردة،

التي كانت حمراءَ

مشرقةً

في كأس من البلّور الصافي

حينما كنتَ أنتَ

-يا فلاحَ الورودِ-

في قلبي.

لا عتبَ على السيدة

التي ترمي الورودَ

لأنها لا تعرف إلا أن الورودَ الذابلةَ

ليس مكانَها كؤوسُ البلّور،

ولا عتبَ على الورودِ

التي لا تعرفُ

كيف لا تذبلُ

إذا ما جفَّ عنها القَطْرُ.

 

 

من أجل هذا اِنهدمَ العُرْسُ يوم ميلاد غاندي

نعم،

أنتَ ملأتَ ساعةَ الحائطِ بالرنين.

(كنتُ أخبرتُكَ

أن صوتَ أمي مخبأٌ داخلَ صندوقِها

وأنني أخافُ أن تموتَ أمي

إنْ صمَتَ الرنينُ)

 

وأنتَ

فَرَطْتَ في صَحني

حَبّاتِ الرُّمّان

مُحاذرًا أن تسيلَ خيوطُ دمائِها

على مرأى من عينَي.

(كانوا أخبروكَ

أنني أحبُّ خرزات الياقوتِ الأحمر

وأخفقُ دومًا

في تخليصها من كهفِها)

 

ونعم،

أنتَ أتيتَ لي بالبحر في كفّيك

وسكبتَه فوق سريري

حتى تقافزتِ السَّمكاتُ حول وسادتي

واحتوتني الشِّعابُ والمُرجانُ

(أمي كانت أخبرتْكَ:

هذي ابنتي

البحرُ شفاؤها)

 

أنتَ قصصتَ لي من "الأغاني"

وتلوتَ عليّ سورةَ يوسفَ والجُبِّ والإخوةِ القُساةِ القلب

أنتَ قرأتَ عليّ ابنَ الفارض:

"تِهْ دَلالاً فأنتَ أهلٌ لذاكَ

وتَحَكَّمْ فالحُسْنُ قد أعطاكَ"،

ثم أحببتني حُبَّين:

حبَّ الهوى

وحبًّا لأنني أهلٌ للعذاب.

 

أنتَ

غزلتَ بخيوطِكَ بيضاءَ ثوبَين لعُرسي

وبنيتَ هودجَي من جذوع النخل

وملأت باحةَ بيتنا

قمحًا

وشعيرًا

وتمرًا،

....

 

لكنَّكَ

في غمرة انشغالكَ بإشعالِ شموع الفرح

في الثاني من أكتوبر[1]

دَعَسْتَ وردةً طفلةً!

 

أنا سمعتُ شهقتَها

من تحت كعبِ حذائكْ!

 

أسبانيا أكتوبر 2010

 

 

ظِلالٌ

الستارةُ مُسدَلةٌ

والشمعةُ

ترسمُ على الحائط

ظِلَّيْنِ ناعميْن بعيديْن

يتقاربُ الظِّلاّنِ

يتمازجان

يصيران ظِلاًّ.

 

القاهرة أبريل 2009

 

 

غلالةٌ بيضاءُ شفيفةٌ

كفّاكَ

هاتان

اللتان تصنعان إيقاعَ قولِكَ

وجَرْسَه

بالصفقِ والتلويح والإشارة

فترتجُّ الأرضُ صَخَبًا وجنونًا،

هما ذاتُهما

اللتان تَضُمانني الآن

فتتهادى من السماءِ غُلالةٌ بيضاءُ هادئة:

تُعطِّلُ المَجَرَّةَ عن الدورانْ

والعالمَ عن الحروبْ

والأطفالَ عن الصراخْ؛

....

لا تتوقفْ إذًا

-ولو برهةً-

عن ضَمّي إليكَ

لكي يسودَ الكونَ

السكونُ.

 

wrist

تنهزمُ لي

في لُعبةِ الريست

يُسراي أمام يسراكَ

أعسرُ أمام عسراء

كما لا يليقُ بقرويٍّ

خَضَّرَ ترابَ ضياع الشام بفأسِه

يمناي هشَّةٌ

مثلما يليقُ بعسراءَ واهنةٍ

أثقلَ قلبَها الهوى

لستُ عادلةً؟

نعم!

ومَن قال إن بالحبِّ عدلا؟

 

هاتِ جائزةَ نصري عليك

بسمتَك.

 

 

في المَرْسَم

كلَّ مساء

أعودُ إلى بيتي

بعدما أتركُ وجهيَ في المَرْسَم

على نسيجِ التُّوال.

 

في الليل

أنسلخُ من إطار الخشب

تجولُ عيناي بين أروقةِ القاعةِ

ترقبان:

الألوانُ نائمةٌ في أنابيبِها

والفُرْشاتُ ساكناتٌ في إناءِ الزيت

واللوحاتُ غافية.

أنا حارسةُ المكانِ

وظيفتي:

أن أحميَ أكفانَ الفراعينِ

التي دثّرَ بها الرسّامُ

مومياواتِ السَّلف

دِثارًا أبيضَ

فوق دِثار

من عبثِ الأزرق والأخضر والبُنّي

حتى يظلَّ الأبيضُ أبيضَ

كما التاريخ.

 

وعند الفجر

أعودُ إلى الحاملِ

أُغمضُ عينيّ برهةً

لأغفوَ

قبل أن يستسلمَ من جديد

 

وجهي المطبوعُ على القماش

إلى ريشة

أحمد الجنايني.

 

المنصورة مرسم الفنان أحمد الجنايني 15 يونيو 2009

 

 

جمرةٌ

ما عليكِ يا حبيبتي!    

سأُشعلُ لكِ النارَ

دونَ صَكِّ حَجَرٍ بحجرْ.

أحتاجُ وحسب:

وعاءً خزفيًّا

جلبناهُ من طريق النهر،

أوراقًا

من دفتر أشعاركِ القديم

-لا حاجةَ لنا به الآن-

وأشعاري،

 

ثُّم مِنديلَكِ الأبيضْ

الذي حارًّا لم يزل

من وهجِ صدركِ النابضِ

وصدري.

 

 

على نوافذِ الدار

كلُّ البناتِ اللواتي أحببتَ

لابد أن يَمُتْن مبكرًا.

 

المُهْرُ الأحمرُ

ذو الغُرَّةِ بيضاءَ سيركلُني

وأتدحرج في النهرْ

أو

ربما أوقعَني غصنُ توتةٍ

وارفةٍ على جانب الحقل

أو اشتعلَ غَيطُ الذُّرة

وأنا أجمعُ في طرفِ جلبابي

بعضَ الكيزان لوجبةِ العشاء.

وربما تعثّرتُ

وأنا أتمرَّنُ على المشي منتصِبةً

وزلعةُ ماءٍ فوق رأسي

فتهشَّمَتْ جمجمتي

على وتدٍ ناتئ في الطمي.

 

هذي بلدتُك

وأنا فلاحةٌ حديثةُ العهدِ بالهوى

والحياة

ثوبي طويلٌ

بلون البرتقال الناضج

تحته أسرارٌ أنتَ تعرفُها

وزهورٌ بيضاءُ

تخايلُ من وراء طرحةٍ سوداءَ شفيفةٍ

تنسدلُ على شعري.

 

هذه قريتُنا

وأنتَ فوق

تنسجُ مع الحدّادين قضبانًا من الفيرفورجيه

على نوافذ دارنا

لئلا أسقطَ وأنا أنشرُ ملاءاتِ عُرسِنا،

بعدما الصبايا في الغرف السِّريّة

جهّزن الحِنّاء

من أجل عروسٍ

تراوغُ الموتَ الذي يراوغُ.

 

يَصِحُّ أن يجيئَ من رفسةِ مُهْرٍ

أو لطمةِ نهرٍ

أو ركلةِ توتةٍ،

ولا يجوزُ أبدًا

أن يَدهمَني الموتُ

في حادثِ سَيْرٍ

على الطريق السريع.

 

 

البحرُ الميّت

المحارةُ تلك

التي متروكةٌ جانبًا

ووحيدة

في عمق البحر الميّت

بين تلالِ المياه الثقيل

وأمواجِ الرمل

لا تدري ما الذي أتى بها إلى هنا!

هي

أنا.

 

الأردن 16 يوليو 2009

 

 

أنا ماءٌ

"أنتِ ماءٌ

لأنكِ يا صغيرتي

من نسْلِ حابي"،

قالتِ العجوزُ التي تضرِبُ الوَدَعَ

فوق الرمال:

"وإذن،

تحتاجين خَزَّافًا

أصابعُه ترابٌ

يصوغُكِ طميًا

بلون الخمر،

خِصْرُكِ

دقيقًا ينحتُه

كما النُّسغِ،

 

ونحرُكِ

واسعًا يبسطُه

مثل سجّادةٍ فارسية

لتحطَّ عليها اليماماتُ والسَّلوى

وتلقطَ من كفّيكِ المَنَّ أحمرَ

وكسراتِ الخبزِ سمراءَ،

ثم ساقان طويلتان

كما لأَخِيْل السريعِ الخَطْوِ،

بعدها

يرسمُ شفتيكِ نحيلتين

تقولان الشِّعرَ عذبًا ولاذعًا،

ويخطُّ لكِ عينين لامعتين

لا تكفّانِ عن الدهشة

والفرح،

ثم يدسُّ حبّاتِ الكَرَز والعنب

في مكامن الوجع،

 

في الأخير

يبسطُ غيمةً بيضاءَ فوق الجسد الطريّ

إلى أن يجفَّ الطميُ

يتكئُ برهةً إلى صخرة

ثم يذهبُ عند البحر المالح

ليكتري شريطًا من الفيروز

يلملمُ خُصُلاتِكِ الجعداءَ النافرةَ

التي تعرفُ كيف تسافرُ للبعيد

ولم تتعلمْ بعد

كيف تعود."

 

الإسكندرية 1 أغسطس 2009

 

 

نصفُ سرير

يا إلهي!

حتى في الأسفارِ!

نصفُ السرير الفُندقيّ

تحوَّلَ إلى مكتبةٍ!

 

والكتبُ

قلبُها حارٌّ

لكنْ

صقيعٌ سطحُها.

 

فمتى يا ربُّ،

وأينْ،

أجدُ متكأً دافئًا يحتويني،

وأنام؟

 

عمّان 17 يوليو 2009

 

 

واقفٌ خارج باب طفولتي

أنتَ

لم تتجول بين العمارات المجاورةِ

تحت الإنشاء

لتجمعَ لي      

في صندوقِ الورق المقوّى

رملاً

من أجل قِطّتي،

ولم تتسلّقِ الشجرةَ العالية

في حديقة الكنيسة

بمدرستي

لتلملمَ في كفَّيكَ

أوراقَ التوت

طعامًا لدودة القزِّ

التي أربيّها،

أنتَ لم ترفعْ قبضتكَ

لتدفعَ عني سخافاتِ أولاد شارعنا القديم،

ولا أنت ضمَّدتَ جُرحَ ساقي

ولا رتقتَ فستاني

حين اصطدمتْ دراجتي

بحافّة الرصيف،

ولستَ الذي تآمرَ معي

للتخلّص

من كوب اللبن

في غفلةٍ من أمّي،

أنتَ لم تساعدني في حلِّ واجبِ الجغرافيا

وحفْظِ أسبابِ حملة نابليون على مصرَ،

لم تخفّف صعوباتِ طفولتي،

لأنكَ لم تكن هناك،

لكنّكَ

رتَّبتَ الكتبَ في مكتبتي

وارتقيتَ المقعدَ الخشبيَّ

لتملأ زنبركَ ساعة الحائط

فيصدحُ بيتي بالرنين،

ثم مسحتَ دمعتي التي طفرتْ

على صفحتي

حينما طارت ورقةُ أمي

من شجرة العائلة.

 

القاهرة سبتمبر 2008

 

 

هودج العُرْس

السيدةُ هذه

الأربعينيةُ الصارمةُ

ذاتُ النظَّاراتِ الطِّبيّة

والنظراتِ الحادّة

السيدةُ التي تقرأُ كثيرًا

وتعيش قليلاً

أبدًا

لا تنظرُ في المرآة،

أجْهَدُ الآن

ومنذ أسبوعين

أن أشقَّها نصفين

لأُخْرِجَ منها جسدي النحيلَ

لكي أنتَ

تحملَني في هودجِك

هودجِ العُرْس.

 

 

حدَّثني الغُصْنُ فقال

شَتْلةُ الياسمينَ البيضاءُ

عودُ الفلِّ

وأوراقُ الريحان

تقدرُ أن تعوّضَ ابتسامتَك

التي مثل غيمةٍ

بَرَحَت.

 

ظلالُ العابرين الرَّماديةُ

التي من نافذتي أرقبُها

عند الغسق

وأعدُّ وقْعَ دقِّها على الرصيف

تعرفُ

كيف تغمرُني بالدفء الذي غادرَ

منذ غادرتَ.

 

أبرحُ مقعدَ الشرفةِ

وأعودُ إلى نفسي

والنباتُ لا يخون.

 

النباتُ الغُصنُ الذي يتجادَّلُ بين قضبان الشرفة

يمدُّ عنقَه النحيلَ في جوفِ غرفتي

التي ساكتةٌ من صوتكَ

يُطلُّ على توحدّي العازفِ

يقطرُ عند قلبي

شيئًا من الموسيقا

وخيطًا من شذى

يجهدُ في البحثِ عن أنفي الوحيد

فيما عيناي تنتظران

ورقةً طفلةً

ترتبكُ في خضارها الواهن

يطرحُها كلَّ مساءٍ صديقي الأخضرُ

في غفلةٍ من أطفال الشوارع

والساكنين.

 

ثمة ما يتنفسُ معكِ يا فاطمة

ثمة مَن يقتسمُ هواءَ الغرفةِ مع رئتيكِ،

حدّثني الغصنُ فقال:

أنا حبيبُكِ يا نبتتي,

النباتُ وحدَه

لا يخون!

 

القاهرة 7 أكتوبر 2009

 

 

تتركُ عينيكَ، وترحلُ

ها هي أرجيلتي

بقِطَعِ الفحم

هشَّمتْها أصابعُك،

وكأسُ الرُّمان

أحمرُ

ضاجٌّ بالهوى،

وقِرطاسٌ

-تميمتي-

جئتني فيه بالبحر

نعم بالبحر!

 

ها هم شهودُنا

قد اجتمعوا.

وها عيناكَ

- وأنت بعيـد-

تسكنان زوايا البيت

جميعَها،

أمرُّ بإصبعي على الحوائط

لألعقَ البندقَ

والبُنَّ

والشيكولاتة

تسيلُ منهما،

ها لساني يتذوَّقُ عينيكَ،

وها لسانُكَ يلعقُ دَمعي،

وها قصيدةٌ أخرى

أكتبُها

لأمزِّقَها

غدًا.

 

 

في مطار مدريد

لم أنسَ

قبل الخروج من بيتي

أن أحيطَ عنقي بقلادتِكِ

التي اعتادت أن تحميَني

من أصابع العفاريت والشُّطّار

فلماذا تنكرَّ لي مطارُ مدريد

وخذلتني المقاعدُ والمعاطف

لماذا المطرُ وحشيٌّ

والآذانُ تعبر فوق إنجليزيتي

مثلما تعبر أُذناي فوق أندلسيتهم

مثلما يعبر النورسُ فوق بحر الشمال

دون أن يصيبَ سمكةً

أو رشفةَ ماء

هل أنتِ نائمةٌ يا أمي

فتعطلتْ قلادتُك؟

 

 

قبل أن أسقي النباتَ نهارًا

غطاءُ فُرشاة الأسنان

مرميٌّ على حافة الحوضِ

والحوضُ يشعُّ برائحة النعناع،

منشفتُكَ مبتلّةٌ

مكوّمةٌ في جانب الحمّام،

طرْفُ نظارتِكَ

يبينُ من تحت الجريدة

وثمة وهجٌ

أخمّنُ أنه انعكاسُ ضوءِ الشمس

على العدسة،

بقايا الشاي في الفنجان،

خُفُّكَ الزيتونيّ

يُطلُّ نصفُه من جانب السرير

والسريرُ

طرحَ الكتبَ والهدومَ

على الأرض،

طاولةُ المكواة

دافئةً لا زالت

من أثر قميصِكَ

وقميصُكَ

تركَ فراغَه على الشمّاعة

....

ثمّةٌ حياةٌ في بيتي!

بالتأكيد

كنتَ هنا بالأمس.

 

 

البجعة

الخيرُ معقودٌ بناصيتي

أنا البجعةُ البيضاءُ التي

لا شيءَ يُشبهُني.

في باطني نورٌ

وفي ريشي الوهجُ مشتعلٌ

وأنتم

يا تسكنون الجرْفَ الناتئ

وتُحدّقون

لن أقفَ عند حافّتكم

قبل أن يأتي الأميرُ الطيب

ينظرُ في نوري

ويُعلنُها على الملأ:

أنا يا بجعتي البيضاءُ أُحِبُّ

كِ.

 

قبل الكاف

تخرج الشريرةُ من كهفها المعتم

ترقصُ

تتلوّى

تُغوي

وتخطفُ "الكافَ" مني.

 

تلك كانت "كافي" أنا

الكافُ تختار البجعةَ السوداء

وتركتني!!

 

أدورُ وأدور

وينتثرُ ريشي أبيضَ في الهواء

وعند حافة الجَرْف

أعرفُ كيف أقفزُ من شاهق

لكي يستريحَ الجسدُ المنهكُ

فوق الصخور الحادّة.

 

القاهرة 16 يناير 2011

 

 

في المسرح المفتوح

"مورنتي"

بصوته الأجشّ

على وقع الفلامنكو

جعل عشراتِ الجميلات

اللواتي واحدةٌ منهن تُربكُ ميدانًا بأسره

يتمايلن كأنهن في صلاة

أُولااااااي

صفْقُ الأولادِ علي أكفّهم

وخبْطُ أحذيتِهم علي أرضية الخشب

يجعل قلبي يتهجد:

أُولااااااي

أولااااااي

 

قرطبة 2010

 

 

شيءٌ يُشبه المِلْح

البنتُ الطيبةُ

تحتاجُ إلى كَذِبَةٍ أخرى

أخيرة

كي تنجوَ من لسْعةِ العقرب

الذي تسلّلَ إلى هودجِها

ذات غفلة.

 

تقولُ لفتاها:

اِكذِبْ عليَّ

كَذِبًـا شريفًا

وذكيًّا

مثلما المَصْلُ يكذبُ على خلايانا

فنبرأُ من السَّقَم.

 

يقولُ الفتى:

سأكونُ نبيًّا

لو أحببتِني،

والأنبياءُ

لا يكذبون!

 

تقولُ البنتُ:

الأنبياءُ لا يخرجون من هيكل السرطان

ليدخلوا مداراتِ العذراوات

الأنبياءُ

لا يدقّون أوتادَهم في كلِّ أرضٍ

فيفزِّعوا الطيرَ الغافيَ على الشجر،

الأنبياءُ

يحملون مِخلاتِهم على ظهورهم

ويجوبونَ الصَّحاريَ

بحثًا عن المِلْح الذي

يُطهِّر الروحَ

من أدرانِها،

الأنبياءُ

يكذبون أكاذيبَ جميلةً

وبيضاءْ

تُشبِه البَرَدَ

وتشبه المِلْحَ

وتشبه البلّلورَ الذي يقْطُرُ منه النور،

إذا كنتَ نبيًّا

هاتِ أكاذيبَكَ الطيبةَ

لأنجوَ من البَرَص

أنا

أنزعُ الثوبَ عن جسدي

كي أتهيأَ

لحمّامِ البَياضْ.

 

الكويت 1 نوفمبر 2009

 

فاطمة ناعوت

شاعرة ومترجمة وكاتبة صحفية مصرية من مواليد القاهرة. تخرجت في كلية الهندسة قسم العمارة جامعة عين شمس. لها حتى الآن سبعة عشر إصدارًا ما بين الشعر والترجمات والنقد. تناولت تجربتَها بعضُ الأطروحات الأكاديمية وتُرجمت قصائُدها إلى العديد من اللغات الأجنبية.

إصدارات الشاعرة:

شعر:

1- نقرة إصبع، 2002.

2- على بعد سنتيمتر واحد من الأرض، 2002.

3- قطاع طولي في الذاكرة، 2003.

4- فوق كف امرأة، 2004.

5- هيكل الزهر، 2007.

6- قارورة صمغ، 2008.

7- اسمي ليس صعبًا، 2009.

 

ترجمات:

1- مشجوج بفأس، 2003.

2- المشي بالمقلوب، 2004.

3- قتل الأرانب، 2005.

4- جيوب مثقلة بالحجارة، 2005.

5- نصف شمس صفراء، 2009.

6- أثرٌ على الحائط، 2009.

7- أبناء الشمس الخامسة، 2010.

8- الوصمة البشرية، 2012.

 

نقد:

1- الكتابة بالطباشير، 2005.

2- الرسم بالطباشير، 2009.

3- المُغنّي والحكّاء، 2009.

 



[1]               1- أكتوبر يوم ميلاد المهاتما غاندي- وقد صار عيدًا دوليًّا لنبذ العنف.