يخلص الشاعر إلى أن "تاريخ الشعر هو تاريخ التراب، الذي هو تاريخ المعدن، الذي هو تاريخ التجارب الأولى للفلزات، عندما تتفاعل فتخلق الكيمياء الخاصة بالأشياء وبالكائنات. فالشعر مصطلحٌ روحاني يفيضُ بلاوعي الأقطاب التي تصنع لغةً، يحملها الغاوون أو ماسكو دفاتر التعبير أثناء التنقيب عن المعاني للبحث عن الجوهر".

الشعر اليوم وغدا

أسعد الجبوري

ليس للشعر ذكرى، ينخرطُ فيها الشاعر ليكتب وينشر ويتحقق في المعنى الفوري لوجوده. فالشعر ليس وحدةً في الوجود، ولا الشاعر واحد بين طبقات نصه، كونه كائن متعدد في مجرى اللغة، يحاول أن ينتقم لنصه من كل ذبول وترهل وموت بصري، قد ينال من بنك خياله. الشعر، بهذا المعنى أبدٌ، لا تخصه مرحلة، ولا يتكئ إلا على سور الصين الذي يخلقهُ في المجاز، ويطربُ على هدير عواصفه التي تتكسر على حجارته الثقيلة، ثقل روح المتيم أو الطير أو قميص البلاغة، عندما تتقطع بها الأزرار، وتصبح مجرى للرياح اللغوية.

قبل أيام قلنا بأن الحداثة أفضل حيوانات العقل المفترسة، وكنا نقصد بذلك الشعر، باعتباره النبيذ الذي تهرع إليه كل الفنون، لتثمل منه، وتعيش عليه، وتمارس الحب مع كل ما من شأنه أن يكون رحماً منتجاً لمخلوقات الاختلاف والتغيير.

لنتذكر:

-1-

منذ بدء التاريخ العاطفي والشعرُ يكتسبُ أهمية روحية خالصة، ليس باعتباره طوق نجاة أو حبل خلاص من الكوارث، بل لأنه حبل غسيل يعلقُ الشعراءُ عليه تفجيراتهم وألعابهم النارية، ليشرق تحتها البشر الآخرون، مفتونين ولو بقيلولة جزئية خالية من الآلام وما وراء النفس من حطام يتناثر في الباطن الإنساني.

-2-

لا يصح النظر للشاعر على أساس جغرافي بحت. النص الشعري تربةٌ تنطقُ عن فلزاتها. بعبارة أدق: كل شعر يعتمد على قوة مزيجه المعدني، لأنه يلخص وجود الشاعر في المكان والزمان، بعد أن يصهرهما ذرات إلى حدود النانو في الفضاء الذي يشاء. وتالياً فكتلة المعادن تلك، هي منْ تقدم الشاعر للعالم، مُستخلصاً عن مكوناته وموثقاً بحجم نسب كل فلز في بنيته العامة.

من خلال هذه الفكرة.. فقد نجد شاعراً وهو مُصنّع على شاكلة كتلة حديدية مع نسبة ضئيلة من النحاس. فيما ينتج عن فحص شاعر آخر، إن مكوناته من الذهب، قد تفوق ما فيه من الألمنيوم أو فضة. فيما تجد بنية شاعر ثالث قطعة ستانستيل خالص. مثلما هناك شعراء قصدير ونيكل ورصاص. منهم من هو معدن خام ومنهم الخسيس الممزوج بمعدن نفيس.

-3-

من هنا.. فقد يخضع كل نص شعري لطبيعة تكوينه الجيولوجي الخاص به. فالشاعر قديماً ومعاصراً، لا يكتب بحبر عشوائي لا على التعيين، سواء أكان ذلك من ماركة باركر أو بالحبر الصيني. بل لأن كل شاعر خلاق يفيض بمعطى المعادن التي تستولي على لغته أو تلك التي تبوتق منها رؤيته وأحلامه وخيالاته.

بمعنى أدق: البعد الكيمائي هو منْ يؤسسُ للشعر مكانة في اللغة. ثم تأتي بعد ذلك التجربة لتطلق الكلمات في فضاء الرؤية. لذا ندرك بأن اللحظة الشعرية، إنما هي اختبار شاق يذهب بالشاعر إلى أسرار لعبة الخلق. فكل كلمة لها رائحة المعدن الذي تنبثق عنه مع كشف عن نسب الحساسيات في التكوين العام لكل نص من الشعر.

لذا نجد إن الشاعر المستخلص من المنشأ الحديدي، يكتب قصائد صلدة وقاسية وذات أجراس تطلق مع حماستها رائحة المعدن ذاته، وهي غالباً ما تكون من جنس القصائد الفارغة من العواطف والمأخوذة بالهتاف العالي الممزوج بالصراخ السياسي والهياج. بينما شاعر آخر تكونت تربته من الستانستيل، لا تراه في نصه غير مرآة لامعة ومنتشية لجذب الفراشات والنساء. فيما يتمادى الشاعر المعجون بالمعدن الأصفر –الذهب- بالانعطافات الخطيرة تارة، وبالخفوت والعزلة تارة أخرى، وهذا النموذج الشعري عادة ما تمتلك كلماته خزيناً بالغ الجودة لبلاغة واضحة. فيما نكتشف بأن الكآبة لا تسيطر إلا على شعراء من ذوي التربة المفعمة بمادة الرصاص. فيما تتضح القوة ويتسع سحر التعبير على القارئ المثالي، فتأتي من الشعراء الذين يطغي الألماس على الجزء الأعظم من تربتهم. وقد لا يتمتع هؤلاء بحظوظ لقراءات جماهيرية عامة. لأنهم أصحاب مخيلات تثير الخصومة بوجه حطابي الواقع.

-4-

اليوم.. وبعد هذا التطور السريع والضخم تكنولوجيا، الخاص بتفريغ الكاتب من الكتابة، وجعل الاليكترونيات بديلاً عن المؤلف عبر تحويل الكتاب الورقي إلى صور و إشارات وأصوات، وتارة أخرى عبر الاستعاضة عن الكتاب بمواقع المحادثات وجعل اللغو ممثلاً عن الحياة الثقافية والثرثرة العابرة للقارات كتاب العصر في الفيسبوك أو تويتر وماعدا ذلك من مواقع مثيرة للبصر بفعل تكامل الحرف مع الصورة والصوت، يجد الشاعر نفسه في منعطف صعب، خاصة عند ملاك دور النشر ممن باتوا يصورون الشعر بالزائد عن الحاجة أو بالفن العاطل عن العمل!

-5-

دور النشر العربية التي باتت تتعامل مع الشعراء تعاملاً شيطانياً اضطهادياً، وذلك برفض طباعة دواوينهم أو توزيعها بسبب ما يسمى بكساد الشعر. هي نفسها الدور التي تقوم باستغلال الشعراء وتحميلهم كامل نفقات الطباعة، وبعد ذلك تحرم الشعراء من استرداد شيء من عائدات بيع كتبهم ، بذريعة أن ملاك دور النشر باتوا يوزعون كتب الشعر على زبائن الروايات وكتب التراث والدراسات الإستراتيجية والأصوليات السلفية بالمجان!!

لذا.. فمن الصعوبة بمكان التسامح مع ناهبي أعظم ثروات الأرواح –الشعر- والتقاول بضآلة قيمة مناجم هذا الفن الذي لولاه، لضرب الجفاف كل اللغات، وحطم على صفحات صحاريها كل أثر للتأليف بغياب الجماليات التي يضيفها الشعر لجميع الفنون.

إن كل كتابة لا تستنجد بالشعر وطقوس الشعرية، هي محض تقرير ينتمي إلى الجماد.

-6-

إذا كان ثمة سير متعثر للعملية الشعرية، فذلك بسبب رداءة السكك وكلاسيكية القطارات الشعرية التي مضت على الطريق سابقاً. شعراء الحداثة –بالغالبية العظمى- لا يتحملون سوء إدارة السلف في بناء نصوصهم هزيلة، يظهر عليها تعب لغة لم تتدرب عندهم على بلوغ الفضاءات، بل ارتهنت لتأثير ارتباطاتهم الماضوية بثقافة القفص والشبه حرام.

-7-

ليس الشعر في دم اللغة شبيهاً بالكولسترول. بل الشعر مُطهرُ الجسد اللغوي من الصدأ وطارد للغبار ومُخلص للعتمة. الشعر في جوهره، مثلما يقوم بتنظيف الأرواح من الشيخوخة، يُعيدُ للعواطف توهجها بعيداً عن الخريف وطقوس الجفاف النفساني والانهيارات التي تطال الجسد.

-8-

الشعر تصحيحٌ دائمٌ لعين الشيطان لذا يرثُ الغاوون من الشعر الكآبة، ومن الشاعر نظارته السوداء السحيقة.

-9-

أساتذةُ الحداثة، عمالُ أفران.

وعلينا تربية العقل على حرائق الشعر، وليس تلقينهُ دروساً عن كيفية هضم الدجاج.

-10-

نستخلصُ أن تاريخ الشعر هو تاريخ التراب، الذي هو تاريخ المعدن، الذي هو تاريخ التجارب الأولى للفلزات، عندما تتفاعل فتخلق الكيمياء الخاصة بالأشياء وبالكائنات. فالشعر مصطلحٌ روحاني يفيضُ بلاوعي الأقطاب التي تصنع لغةً، يحملها الغاوون أو ماسكو دفاتر التعبير في أثناء التنقيب عن المعاني في الخزائن العميقة.