حتى مطلع التسعينيات، كانت الممارسات التشكيلية في مصر مطمئنة لوسائلها ووسائطها ونظرياتها، التي لم تكن سوى هجين من أشكال ومدارس وممارسات الفن الغربي الحديث في النصف الأول من القرن العشرين، من ناحية، ومن جينات الشخصية المصرية، بتضاريسها التاريخية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، من ناحية أخرى. هذه المنطقة البرزخية كانت حوض السباحة الآمن لسبعة أجيال أو أكثر، منذ نشأة الفنون الجميلة في مصر 1908. ومع الانعطاف الدرامي الذي أحدثته التكنولوجيا الحديثة في شكل العالم وسياساته، منذ منتصف التسعينيات، تسللت إلى المنظر، على يد بعض الفنانين، من الجيل الصاعد وقتذاك، ممارسات حداثية بدت مقطوعة الصلة بكل القيم الفنية والمرجعيات التي شكّلت المنظر الفني في مصر حتى ذلك الوقت. بالإمكان افتراض أن تلك الانعطافة الشكلية الحادة، التي أدارت ظهرها لتجارب ثمانين عاماً من الفن المحلي، ولجأت إلى وسائط ومفاهيم اللغة الفنية المعاصرة، لم تكن تمرداً ثورياً مهموماً بالأساس بفكرة التطوير، قدر ما كانت تعاملاً مع معطيات الواقع الذي يمكن أن نرصده أو نحصره في النقطتين التاليتين:
وصول وسائل التعبير الفني التقليدية السائدة إلى طريق مسدود، بعد ما يقارب قرناً من استهلاك كافة أشكال التعبير على سطح اللوحة أو على تضاريس كتلة الحجر أو الجبس أو الخشب أو البرونز... كشكلين أساسيين كادا يكونان مقدسين نظراً لما يحويانه من خربشات طلسمية تنوعت بين استلهام الشعبي أو استحضار التراث أو التغنّي بالفلكلور أو الهروب إلى عالم الخيال والحلم، إلى آخره من سياقات ومعالجات سايرت التحولات السياسية والاجتماعية التي مرت بها مصر خلال القرن العشرين، والتي بدأت بسؤال الهوية، في عشرينيات وثلاثينيات القرن، ثم بلغت ذروة حماسها الفني وحمأتها مع المشروع القومي الناصري في الستينيات، إلى أن أخمدت النكسة روحها المتوهجة، ومجيء الانفتاح الاقتصادي بعدها في حقبة السادات بطبقة من محدثي النعمة معدومي الثقافة، غلّبت الروح التجارية والانتهازية على الإنتاج الفني الذي هبط إلى مستوى ذوق تلك الطبقة ليصبح جزءاً من ديكوراتها المذهبة، وانحدر المنظر الفني بعد ذلك في مستنقعات ثقافة التغييب في حقبة مبارك والتي كان مهندسها وراعيها الوزير فاروق حسني، الذي سوف يستمر تخريبه المنهجي لعشرين سنة لاحقة، وقد كان له في الوزارة خمس سنوات وقتئذ، مكّن فيها للجهلاء وعديمي المواهب ليتحكموا في مسار ومقدرات الفن في مصر، من تجاهل للحقيقيين الذين لم يكن لديهم استعداد للدخول في الحظيرة، أو التملق وتقديم التنازلات، إلى آخره من صور فساد كان مستشرياً، وكل الدلائل كانت تشير إلى ازدياد تفشيه، الأمر الذي سدّ الطريق، ليس فقط، عملياً، أمام المبدعين الجدد في تعاملهم مع المؤسسة الرسمية تلك، بل أيضاً، إبداعياً، أمام الممارسات الفنية التقليدية التي تبنتها هذه المؤسسة البيروقراطية المحافظة، التي استنفدت كل أشكال التعبير وبدأت تفقد مصداقيتها التعبيرية في أعين الأجيال الفنية الصاعدة ممن ساعدتهم ظروف تعليمهم أو طبقتهم على الاتصال والاحتكاك بالعالم الخارجي، بالاطلاع أو بالسفر أو بفرصة الدراسة والعرض بالخارج.
المؤسسات الأجنبية
ظهور المؤسسات الفنية الأجنبية كـ«تاون هاوس»، على سبيل المثال، والتي أربكت الحسابات الفنية القائمة وقتذاك، بتوجهاتها الفنية المعاصرة التي كانت بمثابة نافذة فُتحت على حساسية جيل من الفنانين ممزق بين واقع فني وثقافي فاسد لا مستقبل يلوح فيه، وبين حلم الخروج من هذا الواقع، فنياً، وربما وجودياً أيضاً. وكان للنجاح الذي حققته هذه المؤسسات الأجنبية، بتشجيعها الممارسات والأداءات الفنية المعاصرة، واستقطابها نماذج من الفنانين الجدد وتقديمهم للمنظر الفني العالمي، أثر كبير في التحول الشكلي، الذي ستنتهجه، لاحقاً، المؤسسة الرسمية فيما تقدمه من فنون، في محاولتها إنقاذ نفسها من الإطار الفضائحي المتخلف الذي كانت تقدم من خلاله علفها الموسمي في المهرجانات والمعارض الروتينية، إذ بدأت في التقليد الشكلي الساذج، لما تقدمه مؤسسات الفن الأجنبية من عروض معاصرة، تحت قيادات شبابية ليست ذات كفاءة، جابت العالم هنا وهناك، لتنظم معارض وفعاليات سيطرت عليها فنون الميديا، لا لشيء إلا لكي تظهر وكأنها على مستوى اللحظة العالمية، ويكفي هنا أن نذكر مثالاً لذلك وهو بينالي القاهرة الذي نظّم دورتيه الكارثيتين الأخيرتين، قبل الثورة، موظف شاب، الشيطان وحده يعلم بأية مقاييس جهل وفساد ذوق تم اختياره لتنظيم حدث كبير كهذا. من هنا خفُت صوت دعاوى اتهام المؤسسات الأجنبية بتهمة العولمة، طالما أن مؤسسة الدولة نفسها تبنّت الخطاب المعاصر نفسه، رغم شكلانيته وركاكته التي لا أساس لها من الفكر، ناهيك عن غرابتها وعدم مخاطبتها الواقع الذي استُجلبت إليه، وهي ظاهرة كانت تشير إلى استمرار الروح الطلسمية التي اعتمد عليها معظم النتاج الفني التقليدي منذ السبعينيات ليواري بها خواءه ويؤكد على فكرة قداسته.
كنتيجة، انشطر المنظر الفني منذ منتصف التسعينيات إلى تيارين، أحدهما تقليدي يتحرى معايير ومرجعيات التجارب الفنية المصرية عبر تاريخها الحديث طوال قرن كامل، والآخر معاصر يعتمد على التجريب وتعدد الوسائط، كما يحركه المفهوم والفكرة. البحث في أسباب هاتين الحساسيتين المتعارضتين، يحتاج إلى دراسة ربما، لكن بالإمكان هنا تخمين بعض العوامل التي قد تكون ساهمت في سيرهما جنباً لجنب رغم الهوة بينهما، مثلاً: طبيعة الدراسة الأكاديمية الباهتة في كليات الفنون الجميلة والتي تحصر فكرة النجاح الفني في المهارات الأدائية، على حساب التجريب وإعمال الذهن في السؤال المفهومي الذي ينبني عليه العمل؛ وربما يلعب العامل الطبقي الاجتماعي دوراً هنا أيضاً، حيث لم يعدم المنظر نماذج عديدة من الفنانين الجدد لم يدرسوا الفن، في حين سمحت لهم ظروفهم وتعليمهم الخاص (الجامعة الأميركية، مثلاً) فرصة الاحتكاك بالمنظر الفني العالمي، هذا لو أخذنا في حسابنا حقيقة أن الفن المعاصر يعتمد غالباً على المفهوم أكثر من اعتماده على المهارات التقنية. أيا كانت الأسباب، فإن وجود هذين التيارين اللذين يستنكر أحدهما الآخر، غالباً، جنباً لجنب، ورغم أنه يثري التجربة الفنية الحاصلة وينوّع مصادرها، إلا أنه يشير في الوقت ذاته إلى انعدام وجود حوار فني حقيقي، على الأقل حتى قبل السنوات الخمس أو العشر الماضية. اليوم، ومع بزوغ أجيال فنية شابة، لا تزال في منتصف العشرين من العمر، أو بلغت الثلاثين بالكاد، تفتحت حواسها على حساسية مغايرة، شكّلها، أو مهّدها لها الجيل السابق عليهم مباشرة، تُثار أسئلة عديدة تصلح لتكون مواضيع بحث، لا تتحرى سؤال الفن فقط، بل سؤال الجسد المجتمعي ككل، برأسه وأطرافه. نحاول هنا التقاط صورة لهذا للمنظر الفني الجديد بحساسية أجياله الصاعدة، عبر الاستماع لبعض الأصوات المختلفة، تخفيفا للصوت الوصفي الأوحد، وكنوع من ضخ نبض بعض شرايين المنظر:
التجريب
بسؤالها عما يفكر به طالب الفنون الجميلة وهو يرى التجارب الفنية المعاصرة خارج أسوار الكلية، لا علاقة لها بطبيعة دراسته الأكاديمية، أجابت الفنانة أماني فهمي، الأستاذة في قسم التصوير، في أسف، بأن «لدى الأساتذة عقيدة ثابتة بأن كل ما يجري على الساحة من فنون معاصرة هو محض تهريج، وذلك ينعكس بطبيعة الحال على بعض الطلبة وليس جميعهم. فالانعدام التام للفكر التجريبي في الفنون الجميلة أدى إلى تراجع عام ونمطية قاتلة. عندنا، في كلية الفنون، شيء أصبح مثل الجين الوراثي، يعرقل مسيرتنا، وأخص هنا الأساتذة والمدرسين، لست أدري هل سببه الإحساس الكاذب بالتفوق؟ وهل الإحساس الكاذب هذا يؤدي إلى الكسل والانغلاق ومن ثم الفشل؟».
هند سمير، فنانة حديثة التخرج، تحكي: «لم تكن لدي أية فكرة عن الحركة الفنية الموجودة أو عن الفن المعاصر، ما كان يُدرّس هو أساتذة الفن الكلاسيكي الكبار، إلى أن سألت أحد أساتذتي، في السنة التالية على تخرجي 2009، عن رأيه في بينالي القاهرة الذي كان مقاماً وقتها، فقال لي آسفاً جملة حفظتها على الرغم أنني لم ألحظ وقتها مدى فداحتها، وهي «أنه لاحظ بوضوح اختفاء اللوحة المعلقة» و أنه لا تعجبه أعمال الفيديو والأعمال المركبة و«الحاجات الغريبة دي». الخطأ أنني، كطالبة، لم أكن أبحث فيما يحدث حولي بل كنت منفصلة عن الزمن إلى حد كبير، وكنت أقضي أوقاتاً كثيرة في المكتبة للتعرف على فنانين كرامبراندت وجويا وديرر... الخ. وفي أواخر 2010 بدأت أدخل في ورش عمل وأتعرف على الفنانين الموجودين، ومن خلال ورشة بيرفورمانس في مركز «درب» عرفت لأول مرة بوجود هذا النوع من الفنون، وبدأت أفكر بعدها بطريقة مختلفة في أن أنتج أعمالاً مركبة، أو أعمالاً تعتمد على الصوت مثلاً. الآن أصبحت ممارستي حتى للرسم مختلفة تماماً عن المنطق الذي كنا نمارسه به في سنوات الدراسة بالكلية».
أحمد الشاعر، فنان شاب، الشاشة الرقمية هي ساحة عمله، يقول: «أرى أن الأجيال التقليدية السابقة لم تحاول أن تتأثر أو تؤثر بشكل فعلي في تاريخ الفن، ولكنها خلقت ثقافة تشكيليه بمفهوم إقصائي لكل ما هو جديد، ثقافة تعتمد معاييرها على سياسة من صناعة نظام وحقبة روجت لفكرة المؤامرة، لهذا نجد أن الفنانين المصريين المتواجدين بشكل مؤثر على ساحة الفن العالمية هم من الأجيال الجديدة التي تمردت علي فكر السابقين عليهم وأنا منهم، وهذا قد يكون للأسف خلق هوة كبيره بين الأجيال الثلاثة الأخيرة، لذا لا تجد من جيلي إلا قليلين جدا تأثروا بالأجيال السابقة على حقبة التسعينيات. فوجود التيار المعاصر هو ما أنقذ تاريخ الفن المصري من الخروج من المعادلة الدولية. ولمؤسسات الفن المعاصر في مصر في رأيي الفضل الأول في هذا، إذ لا أحد ينكر أن مؤسسة كـ«تاون هاوس»، ساهمت في إعطاء فرص لم يكن يحلم بها فنانون شباب في وقتهم، ونتاج ذلك نجد مثلاً فناناً مثل حسن خان وقد وصل إلى أن يصبح رئيسا للجنة التحكيم في بينالي فينيسيا. هل كان هذا سيحدث لو لم تكن هذه المؤسسات موجودة؟
المنظر
محمد علام، أحد الفنانين الشباب النشيطين في المنظر، يدير مؤسسة «مدرار»، يقول: «هناك بالفعل قطيعة بين النتاج الفني لجيلي ونتاج الأجيال السابقة علينا من التقليديين، وعن نفسي لست آسفاً على هذا الشعور بهذه القطيعة. أنا أحترم تلك التجارب البعيدة وأنظر إليها كتراث، غير أن تلك التجارب لم تخاطبني ولم تترك أي أثر على عملي كفنان، وستجد كثيرين من جيلي يشاركونني نفس الشعور. وعن التيار التقليدي الذي نجد له ممارسين من نفس أبناء جيلي، أشعر بأنهم بدأوا يتواصلون مع ما نقدمه من أشكال فنية معاصرة وأن حواراً بدأ يحدث ويضيّق الهوة التي كانت موجودة بين هذين التيارين حتى وقت قريب.
وبالطبع يوجد في المنظر الفني في مصر العديد من الفنانين حققوا حضوراً ونجاحاً دون أن يدرسوا الفن، بعض هؤلاء كانوا ضد فكرة دراسة الفن، وفي ذلك أنا أفهمهم، فبمعنى ما، أرى أن دراسة الفن، أحياناً، تضر أكثر مما تنفع. وبشكل ما فإن النت توفر اليوم كل شيء تقريباً لمن يريد أن يبحث أو يتعلم، وهذا أزال الفوارق الطبقية التي ربما كانت تلعب دوراً أكبر قبل ذلك بعشر سنوات. وقد لعبت المؤسسات الفنية دوراً موازياً، ولا أقول بديلاً، للأكاديميات. هي أول من أدخل الفنون المعاصرة التي أثرت بعمق في الواقع الفني هنا. أذكر مثلاً الأستاذ الذي كان يدّرس لي الرسم في الكلية وينظر إلى تجاربي في أفلام الفيديو ويراها تقليداً للغرب، دون أن يعي أن التجريد الذي يمارسه في لوحاته هو نتاج الغرب أصلاً. الفرق بين جيلي وبين الجيل الذي سبقنا في ممارسة الفن المعاصر، ومنهم من حقق نجومية على المستوى الدولي وليس المحلي فقط، وهم بالمناسبة أساتذتنا الآن، بحكم أننا نتعلم من تجاربهم، الفرق هو أنهم أصبحوا يتعاملون مع الفن كحرفة، فحتى تناولاتهم لمشاكل الواقع في عملهم لا تخلو من نظرة استعلائية، بينما جيلنا، وليس فينا من حقق نجومية بهذا المعنى، فملتصق بالواقع ومشكلاته بشكل أفقي، أي أننا نرى أهمية أن نمارس الفن على الأرض وليس من منظار طائر يرى في نفسه تميزاً. هذا يصعّب من مهمتنا بلا شك، كون تفكيرنا يخرج عن إطار المهنية والتجارية.
هذه بعض أصوات حاورناها وقمنا بصياغة آرائهم، ولا تسمح المساحة المتاحة هنا بمناقشة الإشكاليات التي تواجه طروحاتهم وآراءهم التي لم تتفاوت كثيراً، وهي في الواقع امتداد لنفس الإشكاليات التي ارتبطت بممارسات الفن في مصر عموماً منذ نشأته في بداية القرن العشرين وطوال ذلك القرن. إنها بالأحرى إشكاليات مجتمع، أكثر من كونها تنحصر في دائرة الفن. بداية الأزمة تكمن في حقيقة تبعية الفن للأشكال التي تُستحدث في الغرب وتصلنا في موعدها أو متأخرة قليلاً أو كثيراً، فيتم استقطابها، التعامل معها، محاربتها من البعض في البداية، حقنها ببعض الجينات المصرية واصطباغها بملامح وهموم وموضوعات محلية، حتى تأخذ مع الوقت شرعيتها عن طريق أجيال فنية جديدة تتشكل حساسيتها في ظل التضاريس الثقافية المحيطة بها، ومن ثم تصبح جزءا من الواقع كأنها وليدة ذلك الواقع، هذا طبيعي ويحدث في كل مناحي الحـياة وليس في الفن فقط.
لكن ما يبدو كأنه مرض مزمن ولا يلوح في الأفق القريب الشفاء التام منه، هو ذلك الشرخ الحاصل بين شكل النتاج الفني الذي يُعرض داخل غرفة ما، وبين المنظر الحاصل خارج تلك الغرفة: الشارع! كانت هذه دائماً أزمة الفن في مصر منذ بدايته، وربما هي أزمة الفن في كل مكان، وإنْ بدرجات متفاوتة. غير أنها، ومع شكل الممارسات الفنية المعاصرة تحديداً في مصر، زادت الأزمة عمقاً، لأسباب تعود إلى طور التشكّل الذي لم يبلغ النضج بعد، في فهم أبعاد ومفاهيم الفن المعاصر والتعامل مع وسائطه، مثلما تعود إلى الجسد الثقافي العام المليء بثقوب كبيرة وكثيرة سمحت بتمرير قشرة الشكل دون السؤال، سؤال العمل نفسه وعلاقته بالحيز والزمان المحيطَين. وحده الوعي بفكرة السؤال هو ما تحتاج اليه العجينة التي يمكن أن ترمم تلك الثقوب.