في مقالتها تحاور الباحثة السرد الروائي والمشهد الفيلمي. تقارب المنتج الأدبي الأصلاني وطبيعة تحولاته في سياق الفعل السنمائي على يد المخرج داوود عبد السيد. وتخلص إلى أن المخرج حافظ على جوهر مستويات القراءة والتأويلات النصيّة المختلفة للرواية في الآن الذي قدم فيه مشهديّة تقوم على تعدديّة وجهات النظر.

الاقتباس ملتقى طرق بين مبدعين

(مالك الحزين) و(الكيت كات)

سلمى مبارك

«الترجمة الوحيدة التى تخون النص الأصلى هى تلك التى تلتزم بحرفيته.» مقولة لبورجيس تأتى مناسبة تماما لوصف الجرأة التى ارتاد بها داود عبد السيد  عالم إبراهيم أصلان فى (مالك الحزين).

شأنها فى ذلك شأن العديد من روايات جيل الستينات، تبدو "مالك الحزين" من الروايات الصعبة التي تتحدي ببنيتها الثائرة المحاولات التقليدية للنقل  للسينما. فالرواية تنتظر  قارئا من نوعية خاصة قادر على استيعاب التحولات الأدبية التى دمرت ثوابت وأركان أساسية فى تجربة القراءة، وخاطبت حساسية فنية مختلفة اعتمدت على جماليات جديدة وعلى قلب الرؤية الموضوعية للوجود ثم استبدالها برؤية متشظية لعالم غير مفهوم وطارد.

ما الذى دعى داوود عبد السيد لاختيار عمل أدبى بهذه المواصفات كى يقدمه للسينما؟ جاءت بدايات داوود عبد السيد  في السينما الروائية فى الثمانينيات  بينما كان وعيه الفنى قد تشكل منذ الستينيات مع بداية أعماله التسجيلية.  لحق عبد السيد اذا بالجيل الذى انتمى اليه ابراهيم أصلان، وجاءت صدمة  1967  ثم التقلبات السياسية والاجتماعية والاقتصادية لمصر السبعينيات لتطيح بالعديد من الثوابت والقيم التى شكلت تجربة الأجيال السابقة. اشترك الروائى والسينمائى في أفق معرفى يميزه الشك فى الخطابات الإيديولوجية، والرغبة في التحرر من القيم التقليلدية والسعى للتعبير عن ضيق الفرد بحياته، تضاؤله، اغترابه داخل الوطن وداخل مكانه اليومى، تماهيه مع التفاصيل الصغيرة المحملة بأزماته الوجودية، وانصهاره فى صراعات تتجاوز ادراكه. اشترك المبدعان ،كل داخل حقله الخاص، في البحث عن لغة فنية جديدة أكثر رهافة، متخففة من التقاليد الحكائية، لغة تسعى كى لا تكون مجرد وسيطا يحمل أفكارا وقصصا، بل وجودا جماليا له خصوصيته.

في ضوء تلك العناصر المشتركة من تاريخ عايشا أزماته وأفق معرفى شكل وعيهما وحساسية فنية خاصة بلورت لغاتهما الجمالية، هل يمكننا القول أن اقتباس داوود عبد السيد عن رواية أصلان  أنتج عملا سينمائيا قريبا من العمل الأدبى ؟

الاقتباس ملتقى طرق بين مبدعين

بعيدا عن التصنيفات  المعيارية للاقتباس التى تقدمه بوصفه عملية شبيهة بعملية الترجمة تتحول فيها  الكلمات الى صور تسعى للتماثل مع النص الأصلى أو النقل "المخلص" لمحتواه ، يقدم داوود عبد السيد مفهوما حرا للاقتباس المبدع يختلف عن كل النماذج السابقة التى عرفتها السينما المصرية. يستلهم الفيلم من الأصل الروائى رؤى خاصة يصوغها السينمائى بأدواته ويصهرها داخل عالمه الخاص.

فى "الكيت كات" تتحول "مالك الحزين" إلي عمل جديد، يعيد جدولة الشخصيات، وتركيب المكان المتشظي، وتمديد الزمان المنكمش وإحلال الكوميديا محل السخرية والصوت الشعبي محل الخطاب السياسي المأزوم. يقلب الفيلم دلالة الرواية التي تبكي المكان في استدعاء محبط لوحدته الغائبة، حين يصبح بيع البيت بيعاً للأرض والتاريخ والعرض. يتحلل الفيلم من هذه الرؤية، ويختلط  حب المكان فيه برغبة في الفرار منه. تختنق الشخصيات في المكان: يوسف، فاطمة ، الشيخ حسني، ذلك الضرير الذي يركب الدراجة البخارية يتوق "للطيران" بعيداً عن الأرض التي تكبل خطاه. لكن هذا التحليق الأعمى في شوارع الكيت كات وحواريه هو أيضاً تدمير للمكان، ورغبة في كسحه تطهيراً له.

يتوارى في فيلم "الكيت كات" البعد السياسى الأصيل فى رواية "مالك الحزين"  والمرتبط بشخصية يوسف المثقف حامل هموم الوطن وأحلامه المحبطة والذي يشركنا معه في تجربة الكتابة ومشاكل القلم :" كتبت أشياء .. ولم تكتب أشياء.." هكذا يحدث يوسف نفسه البطل المضاد عند أصلان. أجري داوود عبد السيد عملية إحلال فتحول الشيخ حسنى الشخصية الفرعية في رواية أصلان الى شخصية محورية فى فيلم "الكيت كات". وجاءت الشيخ حسني عند داوود عبد السيد مزيجا بين حسني والعم عمران في الرواية. والعم عمران هو تلك الشخصية المحملة برصيد تاريخي وأسطوري يجعلها على معرفة واسعة بالمكان وبتاريخه وهو الوحيد في الرواية الذي يستطيع أن يطل من حجرته الخشبية العالية على حي الكيت كات كاملاً فيمنح القارئ رؤية بانورامية واسعة المجال.

يحمل الشيخ حسنى فى الفيلم الصوت الشعبى وهو لا يكترث بالهم الجماعى بل يبحث عن حلول برجماتية لصعوبات الحياة . الشيخ حسني فى الفيلم هو المسئول عن بيع البيت مسئولية أخلاقية يدركها ويتحمل تباعتها، إذ ما معني التمسك بالأرض إذا كانت الأرض قد فقدت وظيفتها ومعناها؟ يكتسب البيع شرعية لأن "الناس لازم تعيش" هكذا يقول. هذا التخلى عن المكان وعن قيمة الارتباط  به يتعارض جذريا مع المعني الذي يأخذه بيع البيت والمقهى في الرواية، فالبيع فى الرواية سوف تتبعه سلسلة طويلة : بيع البيت والمقهى، بيع حي الكيت كات للخواجة ديفيد اليهودي، وبيع الوطن "للقادرين والطامعين .. إن الوطن يتحول وسوف نكون آخر الورثة"، كما يقول عبد القادر على لسان يوسف عند أصلان.

زمن متعرج / زمن انسيابى

تبدأ الرواية مع المساء الذي "جاء مبكراً" وتنتهى مع إشراقه ضوء الفجر عندما "كان الهدوء يتراجع كما تتراجع الأحلام".  تتخلل هذا الزمن الأفقي  رحلات عمودية في ماضي الشخصيات يمتزج فيها تاريخ بناء حي الكيت كات الملكي بالتاريخ الخاص للشخصيات. أما يوسف فيحلم خارج امبابة، في منطقة وسط البلد مع مظاهرات 1977 وقبلها مظاهرات 1972، مكبلاً بسلسلة من الإخفاقات. فينشطر الزمن ما بين حاضر مهترئ وماضي يتلألأ بأساطير البدايات. تخيم قصة بيع المقهى على الحدث  فترمى بظلالها الكئيبة على العالم الروائى . وينعكس هذا الحدث المحورى من خلال وعى الشخصيات المختلفة فيتفتت فى السرد ويغرقنا فى ذرات من الوقائع المتناثرة  تجمعها وحدة المكان والزمان التراجيدية.

يختلف الحال فى فيلم داوود عبد السيد الذى يعيد تركيب البنية السردية في "الكيت كات" حيث  يستطيل الزمن ويستقيم خطه. فنبدأه بسهرة في (العين) تسلمنا إلي فجر اليوم الأول عندما يذهب الشيخ حسني إلي العم مجاهد كي يشتري الفول، وينتهي الفيلم في فجر اليوم الرابع عندما التقي الأب والابن على شاطئ النيل وطارا معاً على الموتوسيكل في شوارع المدينة.  يستخدم السينمائى أسلوب الإظلام التدريجي للتدليل على انقضاء الليل والظهور التدريجي للإشارة إلي بداية يوم جديد، فيؤكد خطية الزمن كذلك يلجأ إلي المزج الطويل للتعبير عن مرور الوقت. تساهم هذه التقنيات في خلق زمن انسيابي ناعم يقطع بشكل حاد مع الزمن المتعرج لرواية "مالك الحزين"، فينطلق السرد الفيلمى من الحاضر ويختفي أي ذكر للماضي فيما عدا بعض الإشارات في خطاب الشيخ حسني عن جده الذي عمر الكيت كات وصورة له مع جمال عبد الناصر. يعبر الفيلم اذا عن قصده في ترهين أزمات الشخصيات وترهين الحلول، محاولاً الابتعاد قدر الإمكان عن صور الماضي الذهبي أو المستقبل الموعود. هكذا يطرح الفيلم بشدة التواجد الحي للحاضر باحثاً عن مفاتيحه بداخله.

المكان بين الاغتراب والحميمية

 تبدو الشخصيات فى "مالك الحزين" فى طرقها لدروب المكان كمن يحاول جمع ذرات، بحثا عن معنى لأحداث تتجاوزها. فتتوالى الأماكن فى جولات عرضية داخل شوارع وحوارى الكيت كات وامبابه وتمتد الى منطقة وسط البلد مع مظاهرات 77 كى ترسم خط سير معقد يغرق القارئ في سلسلة من أسماء الشوارع والميادين والكبارى والمساكن، فيغزو وصف الحركة واتجاهات السير ثنايا السرد. وبدلا من أن يؤدى ذلك الى وضوح الرؤية لدى القارئ، يشعر بمزيد من الضياع ، ينعكس المكان من خلال لقطات مقربة للأقدام – إذا استخدمنا لغة السينما في التعبير – تجوب أضلاعه ولا تنفذ إلي أعماقه.

أما خط سير الشخصيات فيمر فى الرواية  عبر مجال بصري متشظي ينزلق من على سطحه النظر، فإما نحن نرصد مع الراوي اللا حدث بقدر عالى من الدقة : "و لعدة أسابيع ظل يخرج من البيت ويسير على النيل حتى المنيرة ويلف ويعود من عند مدينة العمال الى محطة السكة الحديد حتى سيدى اسماعيل الامبابى ثم يدخل من عند مدرسة الجرن حتى أحمد عاشور البقال ومن مراد كان يتسلل الى قطر الندى ثم الى فضل الله عثمان كى يعود الى البيت." أو نتتبع نظر الشخصيات التى ترى الحدث من الخارج بانفصال تام عنه، كما هو الحال فى المقطع الذى يذهب فيه يوسف للقاء فاطمة فى وسط البلد، فيجد المظاهرة الضخمة تتقدم نحوه. لكن القارئ يدرك الحدث من خلال تلك المشاهدات المتشظية التى تصلنا من وجهة نظر يوسف، بداية من الكتب المعروضة فى واجهة المكتبة، لقفص الطيور الحديدى ثم أشكال الطيور بأنواعها ثم فاطمة التى تتوه فى الزحام، ثم الجموع تسد الشارع، ثم تلك الفتاة الصغيرة المحمولة على الاعناق  تهتف والتى يحاول التواصل معها ملوحا لها ، ثم صديقه سامى الذى يسير وهو يشبك يديه وراء ظهره ... الخ. يختلط هنا  الاستثنائي بالعادى، التفاصيل بالخطوط الرئيسية وتتوه الحدود الفاصلة بينهم فى حيادية النظر واستلابه، فيتساوى وصف أنواع الحمام بمنظر الآلاف الهادرة من الناس، وتبدو الشخصية منفصلة عن الحدث وان اشتبكت معه، فيوسف يسير فى المظاهرة لجزء من الطريق، لكنه لا يتواصل مع تلك الجموع بل يقف فى مكانه صامتا ثم يستدير عائدا.

 لا نجد شيئا من هذا الاغتراب المكانى فى الفيلم، بل يتبع داود استراتيجية معاكسة. فشخصيات الفيلم لا تكاد تترك حى الكيت كات الذى تلتصق به فى حب وتدير ظهرها لعالم المدينة الذى يبدو غريبا ، تضيع به الشخصية فى اتساعه ووحشته. تشكل العلاقات الانسانية المتداخلة بعدا أساسيا فى نسيج الحارة التى أبدعها مهندس الديكور أنسي أبو سيف فجعلها على المستوى البصرى مكانا شديد الاكتمال ،شديد الحميمية يحتوي الشخصيات ويحتضنها داخل   لقطات طويلة عميقة المجال نتأمل فيها حواري الكيت كات بثرائها تتنفس زمانها الخاص وايقاعها الرتيب.

كثيرا ما تقبع الكاميرا بعيدا فى أعماق الكادر هادئة الحركة، تنظر للسائرين و تنتظر اقترابهم، مثل لقطة دخول الشيخ عبيد الحارة يصطحبه الشيخ حسنى وهما يتقدمان ببطء  فتدع الصورة المكان الزاخر يفصح عن نفسه في حرية ودون تدخل منها. لقطة أخرى مبدعة هى تلك التي يحمل فيها الشيخ حسني العم مجاهد في عربة الفول بعد موته تحتضنهما جدران الحارة الضيقة وموسيقى راجح داوود الحانية. أو تلك اللقطة التي تتحرك فيها الكاميرا وراء "سليمان" فى دخوله كشك الخواجة سكراناً فتمر بشخصيات الفيلم الرئيسية تكاد تتجاهلهم ثم تقبع فى ركن بعيد مفضلة زاوية غير تقليدية لعين متلصص يريد أن يكشف خبايا الأحداث دون أن يكشفه أحد.

 الأصوات السردية

تتمثل عبقرية "مالك الحزين" في تعدد أصوات السرد وتداخلها: فمن الراوي الخارجي المحايد إلي الصوت الشعبي اللامبالي، ومن الصوت الباكي  أو المغرق في السوقية، إلي بعض المقاطع الغنائية والأسطورية . أجمل ما في هذا التنوع هو كثافته، فتجد مثلاً لغة الراوي التقريرية تقدم لنا وعياً ذاتياً لإحدى الشخصيات المأزومة فتطفو تلك الهوة بين برودة السرد وحميمية الأزمة في شكل سخرية أو مرارة تباغت القارئ وقد تعمق إحساسه بالألم.

أما فيلم "الكيت كات" فهو فيلم الصوت الواحد، صوت الشيخ حسني،  الوحيد القادر على تحرير الواقع من قيود وتطهيره من فساده: فبيع البيت يبدو موازيا للفضح الجماعي العلني في مشهد النهاية، ذلك الفضح الذي يفجر ازدواجية الظاهر والباطن لدي جميع الشخصيات. يضرب الشيخ حسني الواقع بقوة لأنه الوحيد الذي لا يراه، فعماه هو تحرره من أبعاد المكان حيث يخلق واقعاً بديلاً يتسع للتحليق بتلاعبه المجنون بمعطيات الزمان والمكان واللغة. أما بوليفونية النص الأدبى فتتردد بخفة فى مشهد واحد فى الفيلم، حين يركب الشيخ حسني الدراجة البخارية ويجتاح الحارة. للنصف الأول من هذا المشهد صبغة واقعية حين يحمل شريط الصوت صرخات المارة الفزعين، أما في نصفه الثاني فيتخذ المشهد بعدا رمزيا فتتوارى الأصوات وتصدح الشاشة بموسيقي راجح داود تنقل إلينا شجن راوي صامت أناب تلك النغمات الممدودة لتفصح عن لحظات النشوي التي يستشعرها سائق الدراجة، ولكن يظل أنين اللحن محملاً بمرارة عين الكاميرا تتأمل بؤس الواقع حين يصبح اجتياحه المجنون هو السبيل المتبقي لإعادة بعثه.

عن الفن والابداع في الرواية والفيلم

في "مالك الحزين" و"الكيت كات" تطالعنا شخصية المبدع: يوسف الكاتب في الرواية والشيخ حسنى المغنى في الفيلم. يطرح هذا التواجد تساؤلا عن دور الأدب والفن كما تصيغهما تلك الشخصيات. يتساءل يوسف عند أصلان عن ما ينبغى عليه أن يكتبه  : "ما الذي جعلك تحب كتابة هذا الأشياء التي لا تذكرها إلا لأنك كتبتها ولم تكتب عن الأشياء الأخرى.. مع أنك تذكرها دائماً دون أن تكتبها؟" يتنقل القارئ ما بين جماليات الكتابة المتشظية فيما نقرأه من بقايا رواية يوسف، لجماليات أخرى يمتزج فيها الواقعى بالغنائى بالأسطورى. وإذا كان يوسف يفشل في إكمال كتابته إلا أن إبراهيم أصلان يخرج لنا روايته البديعة "مالك الحزين"، مستمتعاً في ذلك لنصيحة يوسف "اكتب عن الأشياء التي تعرفها، أو كتب عن العم عمران أو عبد الله أو المقهي أو أبيك الذي مات وأن موت الفقراء ليس موتا لكنه اغتيال."  وكأن شرط الكتابة هو الخروج من صوت الأنا وتمثل أصوات الآخرين وتمثيلها عند من يصنعون التاريخ.

أما الفيلم فهو يرسى دعائم التجربة الفنية على الحق فى المتعة الجمالية. فمتعة الحواس (تدخين الحشيش مع الأصدقاء) تمتزج بالمتعة الجمالية التى تمنحها  الأغانى الشجية التى يرتجلها الشيخ حسنى مع أصدقاؤه حول نار المنقد فى الليالى الباردة. هذه المتع الصغيرة هى التى تتيح الحياة وتسمح باستمرارها حيث يصبح الفن وسيلة للتحرر من قيود المنطق والتواصل مع اللامتناهى.

"ياله بينا تعالوا

نسيب اليوم بحاله

و كل واحد مننا

يركب حصان خياله

وكأن الخيال هو الفضاء الوحيد الذى يمكننا فيه أن نتنفس الحياة بعيدا عن  واقع قاسى ومؤلم لا سبيل لتغييره. هذه المتع التى يشاطرها المتفرج مع الشيخ حسنى  ترسى دعائم التجربة الجمالية على تماهى المتلقى مع الشخصية فى العالم المتخيل، بينما نجد أن جماليات "مالك الحزين" قد قامت بالأساس على كسر الايهام بالواقع وتفتيت حالة التوحد بين القارئ والشخصيات.

ما الذى تبقى اذا من رواية ابراهيم أصلان فى فيلم داوود عبد السيد؟

قد لا يكون هذا التساؤل صالحا للطرح. فتجربة الاقتباس التى يقدمها الفيلم تتجاوز هذه النظرة الضيقة للنص الأدبي بوصفه حاملا لمعنى محدد  يجب على السينمائى أن ينقله الى الشاشة. تحمل هذه الرؤية تقليصا لثراء العمل الأدبى قبل أن تشكل تحجيما لحرية المبدع السينمائى. فالوعى بالإمكانات اللانهائية لتناول السينما للعمل الأدبي وبالمستويات التفاعلية  المركبة لهذا اللقاء العبر نوعى ينقل اشكالية النقد من مستوى قياس درجات التماثل والاختلاف بين عملين، الى مستوى الكيف، حيث يشكل الاقتباس فى واقع الأمر نقطة تلاقى بين عمل أدبي  وعمل سينمائي ، ملتقى طرق ، فضاء للتبادل والجدل بين حالتين يتولد عنها نصا جديدا. هذه المفهوم الحر فى التعامل مع الرواية هو الذى منح داوود عبد السيد تلك الجرأة التى دار حولها تساؤلنا فى بداية المقال، جرأة العودة للاقتباس في مرحلة من تاريخ السينما المصرية كانت تسعى فيها للابتعاد عن الأدب وتعمل على تأكيد فنيتها وتشكيل خصوصيتها بأدواتها وجرأة الاقتراب من نص بصعوبة  وابداع "مالك الحزين" لاقتباسه سينمائيا.