كانت صفد من أهم المراكز المهمة والنشطة للحركة الوطنية الفلسطينية في الجليل الأعلى قبل قيام دولة اسرائيل في العام 1948، وصل عدد سكانها في العام 1947-1948 إلى ما يقارب 13500 نسمة منهم ما يقارب 2600 يهودي، سقطت صفد بعد معركة شرسة مع قوات "البلماح " في العاشر من شهر مايو 1948 وتم تهجير السكان العرب إلى سوريا ولبنان وفي الحادي عشر من الشهر نفسة وفي الساعة 16:25 تم رفع العلم الاسرائيلي من على مبنى شرطة صفد في كنعان (البلماح: قوة عسكرية نظامية تابعة للهاجاناه، تأسست في 15 مايو 1941 بقيادة يتسحاق سديه وعملت حتى العام 1948). من العائلات الفلسطينية الكثيرة التي سكنت صفد أذكر على سبيل المثال: الأسدي، قدورة، الخضرة، عباس، حداد وأبو العينين. واستنادا إلى المصادر العبرية فإن قصتنا وأحداثها تدور حول الشاب محمد (حمودي) أحد افراد عائلة أبو العينين، بقايا منزل عائلة حمودي قرب ضريح الرب هأري في صفد.
ولد حمودي بن أحمد وفاطمة أبو العينين في صفد في العام 1926، هناك ادعاء بأن فاطمة أبو العينين كانت يهودية الأصل مع أني لم أجد أي اثبات على ذلك. كان حمودي قصير القامة، أسمر البشرة، قوي البنية وفي فمه سن ذهبية، هذه السن التي أدت فيما بعد إلى كشفه وتسببت في قتله. تقرب حمودي من اليهود في صفد وتأثر بهم وبنمط حياتهم وأفكارهم التي كانوا يتكلمون عنها في مركز "بيتار" والذي عمل تحت قيادة نعيم هاميئيري وكان مقرة في معمل الألبان والأجبان التابع لعائلة هاميئيري الصفدية اليهودية. بداية شكك اليهود أعضاء حركة "بيتار" بحمودي وبنواياه متخوفين بأن يكون عميلأ أو مخبراً للقيادة العربية فقاموا باحتجازه وضربه وكل هذا لم يثنيه عن العدول عن أفكاره وشعوره بالانتماء إلى اليهود (بيتار: حركة شبابية هدفها زرع الروح اليهودية والمعنويات العالية لتأسيس دولة اليهود بأسرع وقت ممكن، وعلى أكمل وجه تأسست في 23 ديسمبر 1923، أول وأبرز قاداتها وشخصياتها زئيف جبوتنسكي).
رغم معارضة والديه ترك حمودي المدرسة الحكومية العربية الرسمية وانتقل إلى مدرسة الاليانس اليهودية في صفد وأنهى دراسته في العام 1933. رغم كونه الطالب العربي الوحيد وجد حمودي نفسة مقبولاً بين الطلاب اليهود، وكان من أبناء صفه الطالب افنر حاي شاكي من مواليد صفد (05 فبراير 1926–28 مايو 2005) والذي أصبح فيما بعد عضوا في الكنيست ووزيراً في الحكومة الاسرائيلية. بعد وفاة والدته فاطمة وبسبب الخلاف المستمر مع والده قرر حمودي ترك منزله وقطع علاقاته كلياً مع عائلته لأنه لم يستطع الاستمرار في العيش مع أبيه. وانتقل إلى حيفا مصمماً أن يتهود وأن ينتمي للديانة اليهودية وذهب إلى وزارة الأديان في حيفا وقال: "أريد أن أصبح يهودياً مخلصاً" قبل المكتب طلبه وصدرت شهادة التهويد الموقعة بيد الراب باروخ ماركوس بالنص التالي "نصرح بهذا وبحسب طلب السيد محمد أحمد عينين (اسمه الرسمي) أننا وافقنا على تهويده ويصبح اسمه في اسرائيل ابراهام بن ابراهام والمعروف أيضاً باسم باروخ مزراحي "في مرحلة متأخرة قرر حمودي أن يستعمل اسم باروخ مزراحي لأنه أقرب إلى اللغة العبرية منها إلى العربية.
التحق باروخ مزراحي بفرع "بيتار" في حيفا وانظم إلى منظمة "ايتسل" واشترك في نشاطات وعمليات ضد الانتداب البريطاني منها توزيع المناشير المعادية وأرى مشاركته في الدوريات العسكرية لحراسة اليهود. والقى الانتداب البريطاني القبض عليه وتم سجنه عدة أشهر في سجن معسكر اللطرون. وفي نوفمبر 1945 تم ابعاده مع 55 ناشط (منهم الياهو قادوش من صفد) من منظمة "ايتسل" و "ليحي" إلى ارتريا في شمال شرق افريقا والواقعة تحت الانتداب البريطاني.
("ايتسيل": منظمة عسكرية قومية تأسست في القدس في العام 1931، قائدها الأول ابراهام تهومي وآخرهم مناحيم بيجن، اعتبرها الانتداب البريطاني منظمة ارهابية. "ليحي": منظمة مقاتلين من أجل حرية اسرائيل عملت ضد الانتداب البريطاني من مطلع العام 1940 وحتى العام 1948، قائدها الأول ابراهام شطيرن).
بعد ثلاثة أشهر وتحديداً في 17 يناير 1946 وفي ساعات الصباح وقعت مشادة كلاميّة بين السجين اليهودي الياهو عزرا (من القدس) وأحد الحراس حيت قام عزرا بشتم وإهانة الحارس مما أدى إلى إطلاق النار على المساجين وإلى مقتل السجين شاؤول هجاليلي من منظمة "ليحي" والياهو عزرا التابع لمنظمة "ايتسل" وجرح 12 معتقل. قامت الدنيا ولم تقعد من قبل اليهود في العالم مستنكرين ومنددين بعملية إطلاق النار على الأسرى اليهود، وعلى وجه السرعة طار هرتسوغ الحاخام الأكبر ليهود فلسطين إلى المشفى الحكومي "سمبل" في ارتريا لمعاينة المصابين وعلم أن باروخ مزراحي خضع إلى عملية جراحية أجراها له طبيب بريطاني وأنقذ حياته، وطلب باروخ من الحاخام الأكبر أنه في حال توفاه الله فإنه يطلب أن يقبر حسب الشريعة اليهودية.
لتهدئة الخواطر قام البريطانيون بإرجاع باروخ مزراحي وآخرين إلى فلسطين واضعين إياه تحت المراقبة، علم أحمد والد حمودي (باروخ) بالأمر من الصحافة العبرية وتوجه على الفور إلى يحزقيل قدمي عضو منظمة بيتار سائلاً إياه "أين ابني الخائن" دون أي يتلقى أي جواب، فقال الاب أحمد "سيقع حمودي بين أيدينا وسيبكي دموعاً من دم على أعماله". عندما تعافى باروخ فرض عليه الانتداب البريطاني الإقامة الجبرية طالبين منه المثول يومياً في محطة الشرطة ببيت ليد لكي يوقع أمام الشرطي العربي المحلي وهذا ما حصل. بعد قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة في نوفمبر من العام 1947 ركز اليهود على العمل عسكرياً ضد العرب، في الساحة العربية عملت وحدتان ضد اليهود، الأولى في منطقة القدس والمركز بقيادة عبد القادر الحسيني (1910-1948)، الذي قتل في معركة القسطل قرب القدس والثانية في الجليل والشمال بقيادة فوزي القاوقجي (1890-1977).
من مخططات الحرب العسكرية أنه توجب على منظمة "ايتسيل" إدخال سيارة مفخخة لتفجيرها بمركز القيادة التابع للقاوقجي في جنين وذلك بسبب إطلاق قذائف المدفعية من منطقة طولكرم باتجاه كفار يونا بأمر من القيادة في جنين مما أدى إلى نزوح السكان اليهود إلى منطقة نتانيا. طلب باروخ مزراحي من قيادة "ايتسل" اسناد مهمة تنفيذ العملية اليه قائلاً: "أنا عربي المولد، أتكلم اللغة العربية بطلاقة وإذا تم القبض علي أستطيع أن اصمد في التحقيق". بداية رفضت القيادة طلبه وبعد الحاح شديد من قبل باروخ مزراحي وافقت قيادة "ايتسل" على الطلب وتوجة باروخ إلى تل ابيب حسب طلب رئيس القسم العربي في "ايتسيل" وهناك تقرر اسناد العملية إليه، قضت الخطة السفر إلى طولكرم لجمع المعلومات ومن ثم التوجه إلى جنين لتنفيذ العملية وكانت المشكلة بالخطر الكامن بطولكرم لأن باروخ كان يمثل في السابق بشرطة بيت ليد يومياً مما أدى إلى التعرف على أغلبية رجال الشرطة العرب والذي كان معظمهم من طولكرم.
تم تبديل الخطة وقررت قيادة "ايتسيل" حصر العملية في سفر باروخ إلى جنين للقاء متعاون عربي من هناك، ليستلم منه السيارة المفخخة ويتوجه بها إلى مركز القيادة التابع للقاوقجي في جنين لتفجيرها. ودع باروخ أصدقائه بطريقة مختلفه وكأنه ذاهب بلا عودة حسب رواية زملائه تساحي حرموني وينكالي ديطكوبسكي. في يوم 18 أبريل من العام 1948 عدة أسابيع قبل الإعلان عن قيام دولة اسرائيل، في ساعات الصباح وصل باروخ مزراحي إلى محطة الباص في حيفا واستقل الحافلة المتوجة إلى جنين لتنفيذ العملية وخلال السفر تحدث باروخ مع ثلاثة ركاب عرب كانوا على متن الحافلة صدفة، وصل الباص إلى مشارف جنين وتوقف عند نقطة التفتيش التابعة لقوات القاوقجي، خلال عملية تفتيش الحافلة وقع نظر أحد افراد الشرطة والذي خدم في شرطة بيت ليد في السابق على باروخ وعرفه بسبب شكله وسنه الذهبية وكانت هذه النهاية لأن باروخ كان يمتثل أمام نفس الشرطي في مركز شرطة بيت ليد ويوقع أمامه.
اعتقل باروخ وله من العمر 22 عاماً. وعلى الفور، وبعد تحقيق قصير تم اعتقال العرب الثلاثة الذين تكلموا مع باروخ خلال السفر بسبب احتمال تعاونهم معه. تم نقل المعتقلين إلى قرية جبع الفلسطينية الواقعة على الطريق الموصل بين جنين ونابلس حيث تمت محاكمتهم ميدانياً على يد قوات القاوقجى وصدر القرار بإعدامهم رمياً بالرصاص وإلقاء جثثهم في أحد الكهوف المحاذي للقرية. في صباح اليوم التالي قامت منظمة "ايتسيل" بنشر نعي لباروخ في تل أبيب جاء فيها "قادة المنظمة العسكرية وجنودها يقفون وقفة احترام لذكرى أخيهم، الجندي ابراهام الذي سقط خلف خطوط العدو أثناء تأديته الواجب العسكري، مكان الجثة غير معلوم".
أقامت اسرائيل نصباً تذكارياً لباروخ على جبل هرتسل. في العام 1967 وضعت الحرب أوزارها وكانت نتيجة حرب الستة أيام احتلال الضفة والقدس ومناطق أخرى مما حدا بالصحفي الصفدي يحزقيل هميئيري (أخ ميئير صديق باروخ-حمودي) بأن يبدأ في العام 1968 عملية بحث عن جثة باروخ مزراحي. قام يحزقيل بطلب مساعدة حاكم جنين العسكري العقيد تسفي رسكي الذي لبى الطلب بعد تأكده من مكان الجثث. وصل الوفد المرافق ليحزقيل إلى جبع إلى بيت جمال حسين محمود صاحب بستان اللوز حيت يقع الكهف وأشار جمال إلى الكهف وقال "هون ثلاثي عرب واحد يهودي" كان باب الكهف مليئاً بالحجارة والتراب بسبب عمليات جرف التربة في البستان وتطلب الأمر بعض الوقت لترتيب كل الأمور المتعلقة بانتشال الجثث.
في العام 1969 وصل إلى قرية جبع ممثلو الحاخامية الكبرى برئاسة العقيد دوب شاحار، رافقهم بن تسيون كيشيت ممثل عن جنود منظمة "ايتسل" القدامى وتسفي حرموني صديق باروخ وآخرين، التقى الوفد مختار قرية جبع حسني حافظ جرار – لم أجد اسم المختار في المصادر، فاتصلت بالسيد زياد عجاج ياسين علواني أبو عجاج رئيس بلدية جبع الحالي الذي زودني باسم المختار آنذاك، كان الحديث مع أبو عجاج مشوقاً وأبدى اهتماماً والماماً بهذه القصة وبغيرها وله شكري وتقديري - أزيلت الحجارة وفتح المدخل وبعد عملية الحفر تم العثور على أربع جثث وبعد تشخيص جثة باروخ مزراحي حسب الطول والسن الذهبية وعلامات أخرى تم نقلها إلى اسرائيل.
في يوم 9 اكتوبر من العام 1969 تم دفن رفات محمد –حمودي – بن أحمد وفاطمة أبو العينين باسمه العبري –باروخ مزراحي بن سارة وابراهام في المقبرة العسكرية في نتانيا. بمراسم عسكرية أطلق حرس الشرف في جيش الدفاع الاسرائيلي ثلاث طلقات على ثلاث جولات كتحية احترام عسكرية.وقام مناحيم بيجن (1913-1992) القائد العام الأخير لمنظمة "ايتسل" بإلقاء كلمة الرثاء قائلاً "ولدت عربياً وأصبحت يهودياً يحب اسرائيل، تربيت كمسلم وحافظت على الوصايا كيهودي. حباً جماً أحببت شعبنا ومقاتلينا ونحن أحببناك، والآن ومن حول قبرك وباسم كل ضباط المنظمة العسكرية القومية وجنودها أقدم لك التحية يا بطلنا المقدس ابراهام بن ابراهام".
تعريف
الدكتور الياس عفيف سليمان من قرية الجش مولدا ومن قرية كفر برعم أصلاً، والمهجرة في العام 1948 ومتخصص في تاريخ الشرق الاوسط الحديث والمعاصر.تخرج من جامعة بار-ايلان ويعمل مديراً لقسم المعارف في مجلس الجش، تبادلت معه أطراف الحديث الذي كان مشوقاً جداً لإلمامه الواسع والدقيق في تاريخ وأحداث المنطقة.
صدر للدكتور الياس عدة كتب في اللغة العربية، أولها في العام 2007 تحت عنوان: الحروب الأهلية في لبنان ومشروع تهجير الموارنة إلى الجزائر 1840-1860، ثانيها في العام 2010 تحت عنوان: جمال عبد الناصر في يوميات ومذكرات دافيد بن غوريون وموشيه ديان –حرب السويس 1956-1957، ثالثها في العام 2011 تحت عنوان اسرائيل وحماس بين الصراع الفكري والصراع الديني. كتب عدة مقالات تاريخية وتحليلية في الجرائد والصحف الرسمية والتي يمكن قراءتها في الموقع الالكتروني "جوجل" تحت اسم الدكتور الكامل. في هذه الأيام يضع الدكتور الياس الخطوط العريضة في كتابة الرابع عن حزب الله في لبنان والصراع ضد اسرائيل.