يرصد الناقد الفلسطيني المنجز الشعري لحسين مهنا، منذ بداياته الأدبيّة، فيتناول نصه الشعري ويكشف عن مميزات بساطته اللغويّة وإنجازه القوليّ الدلاليّ وقوة بنيته، وثراء صوره في القصيدة، ليخلص للقول بأن الشاعر أخذ على نفسه إبداع قصيدة/ قضية وطنيّة إنسانيّة وجماليّة.

حسين مهنا شاعر ومثقف موضوعي

يبني قصيدته كمهمة ثقافية وفنية

نبيل عودة

رصدت ابداعات الشاعر الرائع حسين مهنا، ابن قرية البقيعة – قرية الشعراء الجليلية، منذ بدأ ينشر قصصه باسم مستعار في مجلة "الغد"، وكنت أرى في قصصه روحاً تتجاوز النص الدرامي إلى النص الشعري، ولم يمض وقت طويل حتى كشف عن اسمه والتزم الشعر منهجاً وطريقاً، رغم أني كنت أتمنى لو طور أدواته القصصية ليظل معي في ساحتي التي أعشقها أكثر. ومع ذلك وجدتني مغرماً بنصوص حسين الشعرية، التي تتميز بالبساطة في اللغة والتعابير، والقوة في البناء الشعري، والثراء في الصور الشعرية، وهو الأهم في تركيبة القصيدة حسب مفاهيمي.

من هنا رؤيتي الأساسية بأن المكانة الشعرية والأدبية التي يتمتع بها الشاعر حسين مهنا، ابن بلدة البقيعة الجليلية، ليست وليدة الصدفة، وليست وليدة علاقات عامة أو ظروف سياسية أو غيرها، دفعته نحو الطليعة. فهو لا يحسن تسويق نفسه، إنما ما دفعه للطليعة الشعرية في ثقافتنا المحلية، جهد وإتقان وعشق للكلمة والنغم واستقامة شخصية وموضوعيته الثقافية. وهناك قول لطيف لعلي بن أبي طالب يقول فيه: "لا تطلب سرعة العمل واطلب تجويده، فإن الناس لا يسألون في كم فرغ من العمل، وإنما يسألون عن جودة صنعته". وكأني بعلي بن أبي طالب يقصد، أيضاً، حسين مهنا بهذا القول!

في الأيام الأخيرة من كانون أول 2007 صدر للشاعر حسين مهنا ديوانين شعريين.

الديوان الأول: "تضيق الخيمة... يتسع القلب" ويشمل عشر قصائد وخمس منثورات.

يفتتحه بقصيدة يقول مطلعها:

كأني أراكم

كما قد رأتكم دمائي

على باب (عاي)

تشدون خيلاً

وتعدون خلفي

ويوم صرختم بباب (أريحا):

- تموت... تموت

وراحاب تحيا..!!

حملت الحياةعلى راحتي

وسرت على مهل أنثر الحب والشعر

سرت.. سرت.. سرت..

أنا استزيد الحياة حياة

وأنتم تشدون خيلاً

وتبغون حتفي...

الديون الثاني: "الكتابان" - ويبدأ بالثاني وينتهي بالأول.

يقول في قصيدة: "تمرين أو لا تمرين.."

تمرين أو لا تمرين

قلبي تعود طول انتظارك

أنت تعيدين للقلب

ما قد تناثر،

فوق دروب الحياة

ليصبح شكل الحياة

جميل التفاصيل،

كي لا تصير الدماء مداداً

وكي لا يظل الحبيب رهين القصيدة.

وفي قصيدة: "سموت بحبك.." يقول:

سموت بحبك العذري خلقا

وزدت حضارة وصفوت ذوقا

وطهرني غرامك من ذنوب

تحاصر مهجتي وتشد طوقا

وأودع بي جمالاً بعد ظرف

وشوقاً للحياة فصار عشقا

وعلمني بأن الحب عدل

فلا أشقى ولا المحبوب يشقى

هذه مقاطع اخترتها عشوائياً، وأنا أؤمن أن القصيدة الجيدة لا تحتاج إلى "مفسر أحلام"، بل تتسرب كالماء إلى وجدان القارئ وتدمجه بأحاسيس الشاعر.

حسين مهنا يثبت أن الشاعر المتمكن من فنه وبصفته، مثقف موضوعي مرتبط بقضايا شعبه، إلى جانب مهنيته الشعرية، قادر على الإبداع حسب كل الأساليب الشعرية المعروفة... من الشعر الموزون والمقفى وشعر التفعيلة حتى الشعر المنثور. من الأسلوب الكلاسيكي حتى أحدث الأساليب الشعرية الجديدة.

حسين مهنا في إبداعه الجديد يشكل مدرسة ومقياساً للشعر الجيد وللشاعر المبدع، وللمثقف الحقيقي الذي يعيش ويتفاعل مع مجتمعه وعالمه. ولكني بهذه المناسبة المخصصة للشاعر حسين مهنا، يروقني أن أعود لديوان سابق له "أنا هو الشاهد"، ما زلت أراه من الإبداعات البارزة في شعرنا المحلي، وقد شدني ذلك الديوان وأعادني إلى صفحاته مرات عديدة. ولعلي أعود إلى ديوانيه الآخرين لاحقاً.

ديوانه "أنا هو الشاهد" - صدر عن الأسوار – عكا (2001) – يشمل (14) قصيدة من نتاجه الشعري منذ عام (1997)، وهذا بحد ذاته يثبت أن حسين مهنا شاعر يعيش أجواء قصيدته، بحيث تتحول القصيدة الى مهمة يعيشها لمرحلة زمنية، وتنمو "بوسائل طبيعية" دون استعمال مسرعات النمو، أو الانتاج "داخل دفيئة"، بحيث نغرق بمنتوجات شعرية قبل موسمها، انتجت بوسائل غير طبيعية. وربما هنا احدى مشاكل "البضاعة" الشعرية التي تملأ الأسواق، بعضها بلا طعم ولا نكهة، أو أدخلت علية "جينيات" أخرى، فصارت "الشيء وضده".

حسين بديوانه "أنا هو الشاهد" هو مدرسة، ليست شعرية فقط، إنما حضارية خلقية، إلى أن الشعر ليس للدنيا فقط، وليس للآخرة أيضاً، إنما هو صنعة للارتقاء بالإنسان، وتطوير فكره وحسه وفهمه، وصقل إرادته.وهذه مهمة لا يجوز الاستهتار بها، إذا أردنا حقاً أن نسمي المولود باسمه. لأنه لا أجمل من أن يكون الإنسان شاعراً، أو مبدعاً تبعث لمساته الحياة حتى بالجماد.

على غلاف ديوانه يؤكد حسين مهنا ما أرمي إليه، إنما بلغته، لغة الشعر، الذي أثمر على شجرته، دون أن ترهق الشجرة بالمبيدات وتسريع النمو:

على هذه الأرض نبني

كما لا يحب الغزاة –

ونرعى على مهل مجد أجدادنا.

ويقتبس حسين من انجيل "يوحنا" في كتاب "العهد الجديد"، قوله: "وأيضا في ناموسكم مكتوب أن شهادة رجلين حق، أنا هو الشاهد لنفسي ويشهد لي الرب الذي أرسلني"، فهل يستطيع أحد، بعد ذلك، أن ينفي صفة الشاهد عن حسين مهنا؟

حقاً حسين هو شاهد، شاهد على حكاية وطن تمزق شغاف القلب:

كانت هنا قرى تعبق بشذا فلسطين

قرى تفردت بعرائش سطوحها..

بكرومها..

بأهلها الطيبين.

هذا ما جاء في بداية قصيدته الاولى "في البدء" وانظروا الى العلاقة هنا بين "أنا هو الشاهد"، والمرافعة دفاعاً عن كونه شاهد، مستنداً لانجيل "يوحنا"، واسم القصيدة الاولى "في البدء". و"في البدء كانت الكلمة" - افتتاحية التوراة – وصولاً إلى فلسطين، الكلمة الأولى في قاموس أهلها الباقين والصامدين والمقاومين، ولكن بنفس الوقت نشعر في قصيدته هذه روح البكاء على الأطلال: "قرى بلادي وقصائدي".

أما قصيدته الثانية "يورثون الحياة انتصاراً"، فهي نقلة نوعية من حالة حزن إلى حالة فرح وغناء وحب يتدفق كالشلال. وقد قرأت هذه القصيدة مرات ومرات بطرب حقيقي. وينجح حسين هنا بأخذ القارئ/ المتلقي إلى رحلة في ذات محب:

وأذكر يوم وثبت لأقطف زهرة القرنفل

كيف نقزت – وكنت وراء الأصيص –

وصحت:

-         تلطف!!

فما هكذا يؤخذ الورد يا ذا؟!

انتبهوا هنا للطافة وملاءمة تعبير "نقزت" (جفلت) العامي، وأظن أن هذا الاستعمال فرضه نمو القصيدة واكتمالها – نضجها – الطبيعي وغير المصطنع.

ويواصل رحلته:

فوددت لو أني اقبل دارك...

هذه الجملة تذكرني بعنترة العبسي الذي خاطب حبيبته بقوله:

"وددت تقبيل السيوف لأنها* * *لمعت كبارق ثغرك المبتسم.

ويواصل حسين:

ستأتيك أمي قبل الغروب

لتقطع قول الوشاة

وليت أباك يقر بأني "شيخ الشباب"

وأني جدير بزين الصبايا

ونفرح

نفرح

هذا الجليل يحب الزغاريد.

وهنا يكاد يقول أنه لولا أن الجليل يحب الزغاريد، لما كان الحب.

ويقول:

هذا التراب الزكي شغوف

بمن يزرعون

ومن يحصدون

ومن يعشقون

ومن ينجبون

ومن يورثون الحياة انتصاراً

لجيل جديد

هذا الحب يعيدنا إلى إنسانيتنا، إلى الزمن الذي كان فيه الفتى يطوف حول بيت حبيبته عاماً كاملاً يفرح إن رأى وجهها، فإذا ظفر منها بمجلس، تشاكيا وتناشدا الأشعار. أما اليوم، وهذا يبرز في الكثير من شعرنا الحديث، فإذا التقاها، لا يشكو حبه أو ينشد الشعر، وإنما يطلب الوصل، بحيث تحول الحب في معظم شعرنا إلى بضاعة، يقرر سعرها العرض والطلب، بينما الحب الذي يختلج بأعماق حسين لا يباع ولا يشترى.

قصيدته "أراك كما لا تراك العيون" هي قصيدة غزل في قريته البقيعة:

"البقيعة قريتي وكل قرية في بلادي بقيعة"

ومع ذلك:

وآها لتلك السنين الخوالي العذاب

قريبا من القلب

نبض فلسطين كان

هذه القصيدة تركت لدي شعور أنه في حبه الكبير لقريته، هناك نوع من الألم والمرارة أيضاً، على تلك القرية التي تيتمت من "نبض فلسطين".ومن آلام "جرح الجليل".

وهو يذكرني هنا بمقطع للشاعر الراحل سالم جبران يقول فيه:

"كما تحب الأم طفلها المشوه

أحبها

حبيبتي بلادي".

وربما ليس بالصدفة أن سالم من البقيعة أيضاً. في القصيدة جوانب أخرى، منها مثلا قدرة حسين أن ينقلنا من الحلم الشعري إلى الواقع الشعري. من حلم البقيعة إلى واقع البقيعة، وبكلمات بسيطة:

ترى أين غابت

بساتين خوخ وتين؟!

وجوز ولوز

ورمان عيد الصليب

في الشطرة الأخيرة يعرفنا على البقيعة، على أهلها، بحيث لا يبقي البقيعة حلماً طائراً، بل حقيقة شعرية ملموسة. ومن المعروف أن الرمان في بلادنا يثمر في فترة عيد الصليب عند المسيحيين. وأي فلاح فلسطيني، مسلم، درزي او مسيحي، عندما يسال عن موعد قطف الرمان يقول يقطف مع حلول عيد الصليب!

الغنائية الحالمة تميز الكثير من قصائد الديوان، في قصيدة "ستر عاشق يظلل ليلنا الريفي":

تحبني..؟!

إذن تعال كي نصالح القمر

أمس اشتكى

يا طول ما اشتكا!

وأكاد أشعر في هذا المقطع أجواء فيروزية.

وينشد في "لنا فوق الجليل":

لنا فوق هذا الجليل

تراب جليل

عليه نقيم

ومنه نبتنا كما ينبت العشب

والأقحوان.

وبين يديه تركنا طفولتنا

والشباب.

لنكبر فيه ويكبر فينا.

إذن هو ليس مجرد عشق لطبيعة ساحرة، إنما هو عشق للمنزل، للمنبت، للإنتماء. وشاعرنا العربي يقول:

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى* * *ما الحب الا للحبيب الأول

الحبيب الأول، على امتداد مساحة ديوان حسين، هو الجليل. لم يكتشف حبيباً غيره. حتى تلك التي "نقزت" هي جزء من الجليل. قصيدة "سأجلس ذات مساء" فيها الكثير من الايماء والتكثيف. يقول:

سأجلس ذات مساء بعيد

وحيداً..

وأفتح قلبي

على شرفتين

وراء الغمام

لعل رفوف اليمام

تجيء

وتلقي السلام علي

وتغفو قليلاً على راحتي

لأكتب أغنية

عن بلادي

بعد قراءتي لقصيدة "تركنا على كل درب" اعتراني شعور أن حسين لا يكتب قصائد منفردة، إنما قصيدة واحدة متواصلة، وتكاد تكون هذه القصيدة هي مهمة حياته كشاعر، فها هو يقول مثلاً ما يمت بصلة لقصائد سابقة:

وقد أورثونا

محبة هذا الجليل

وحب الحياة

وعشق قرانا

ونذكر أننا ولدنا هنا.

أما قصيدته "بي شوق لأحيا"، فهي نشيد لتجدد الحياة بعد أن رزق بحفيده محمد، وهي قصيدة لها مناسبتها، وتكاد تكون استراحة وسط قصيدة/ قضية شعرية متواصلة وواحدة.

وإنا ورثنا الصباح الجميل

وهذا الجليل

وفجراً تلفع بالياسمين.

(قصيدة: وإنا ورثنا الصباح الجميل)

في قصيدة "اسمعني صوتك".. كتبها كما فهمت لحفيده في ميلاده الأول. ونراه يورث حفيده ما يملكه الشاعر:

اسمعني صوتك

عربياً

لا يتلجلج في شفتيك

ويوصيه:

واخرج من جلبات الزمن المهزوم

جواداً عربياً

ينقل للريح

صهيل الفرح القادم

وأيضا:

اضرب جذرك يا ولدي

اسمعه كيف تدوزن صوتك

فوق مفاتيح اللغة العربية

ويصر على حفيده:

أسمعني صوتك

كي أسمع وطني

يتجدد لحناً عربياً

لا بد هنا من ملاحظة هامة ففي هذه القصيدة إصرار على عروبة أبناء الطائفة المعروفية (الدروز)، التي تحاول السلطات الاسرائيلية قطعهم عن جذورهم العربية وجعلهم فئة سكانية لا ترتبط بالهم الوطني العربي أو الفلسطيني.

اذن كما قلت، حسين مهنا أخذ على نفسه إبداع قصيدة/ قضية وطنية إنسانية وجمالية ممتدة.في ديوانه هذا نراه يكتبها على مدى ثلاث أو اربع سنوات.ربما حقا على كل شاعر أن يأخذ موضوعاً لشعره حتى يوفيه حقه. وحسين يثبت أن ذلك لا يعني الانغلاق داخل حدود مرسومة.أن البقيعة مثلاً، ليست مكاناً جغرافياً له حدوده الجغرافية. فالشعر لا يعترف بالحدود الجغرافية، أو كما يقول حسين مهنا: "كل قرية في بلادي بقيعة".

حين أقرأ اسم حسين مهنا يجلس على رأس قصيدة أعرف أني سأقرأ شعراً حقيقياً وأني سأتمتع بجماليات شعرية صارت من القلة.

هل يريد الشاعر أكثر من ذلك؟ أن يتدفق شعره كالماء بلا ضجيج ويتغلغل كالماء في وعي القارئ وأحاسيسه؟

 

نبيل عودة – كاتب ناقد واعلامي

nabiloudeh@gmail.com