في شهادته حول "الأنا"، يبدو ميشيما منشطراً على نفسه على الطريقة البيساورية. فيتناول شخصه بضمير غائب يتخفى السارد وراءه. ومن خلال قول النص يتقدم الـ"هو" بأزمته الأخلاقية المثالية المنقسمة بين ثنائيات ضدية تجادل الواقع "كما هو" و"كما يجب أن يكون".

يوكيو ميشيما بقلم يوكيو ميشيما

يوكيو ميشيما

ترجمة: ميسرة عفيفي

 

هذه المقالة كتبها يوكيو ميشيما عن نفسه وهو في عمر التاسعة والثلاثين، أي قبل انتحاره بحوالي ستة سنوات. المقالة يتكلم فيها ميشيما عن نفسه بصيغة الغائب وكأن الذي يكتب هو شخص آخر. وتشع روح السخرية من النفس في أغلب أجزاء المقالة التي يحلل ميشيما فيها نفسه كرجل وليس ككاتب أو روائي بعد أن قام في مقالات سابقة بتحليل شخصيات لمشاهير من الرجال منهم يابانيون ومنهم مشاهير أجانب مثل ألفيس بريسلي وآلان ديلون وفيدل كاسترو. وربما تكون نهاية المقالة تنبؤا بما سيؤول إليه مصير الكاتب فيما بعد. (المترجم).

بطلب ملح من إدارة التحرير تقرر أن أتكلم عن الروائي الذي يُسمى يوكيو ميشيما، وأنا لا أعرف الكثير عنه. أمامي بعض المعلومات والبيانات عنه جمعتها كلها إدارة التحرير، ولكن ما أعرفه عنه فيما مضي أنه كتب رواية "خيانة الفضيلة" (Bitoku no yorumeki) وتسبب في انتشار كلمة yorumeki "الخيانة" الغريبة في البلاد وقتها، وحديثاً أنه قد صدر ضده حكم ابتدائي في قضية انتهاك الخصوصية التي أُقيمت ضده، فأصبح أضحوكة الناس في اليابان، هذا هو مبلغ علمي به. هو يؤكد على أن "مميزات الرجل هي الثقافة والعضلات"، ولأنه نفسه يملك الثقافة والعضلات (رغم أنها عضلات بديلة تم إضافتها فيما بعد عن طريق رياضة كمال الأجسام)، فهو يتفاخر بأنه شخصياً النموذج المثالي للرجولة. ولكن رغم امتلاكه تلك الثقافة الأدبية وتلك العضلات المزروعة بواسطة رياضة كمال الأجسام، فهو لم يستطع الانتصار في ذلك العراك الكبير أمام محاكم الدولة، ولذا فهو بالفعل يستحق أن يصبح أضحوكة.

وكذلك يحمل هذا الشخص أفكاراً ينفرد بها، فها هو بعد أن وصل لسن التاسعة والثلاثين، يتردد على "الجيم" راكباً القطار، مرتدياً بنطلون جينز وجاكت جلد. وبالطبع انجذاب النساء له بشكله هذا، هو أمر مشكوك فيه تماماً. المرأة سواء أكانت عجوزاً أو شابة في الغالب تكون من المعجبين بالرجل المتأنق الذي يرتدي بذلة غامقة وربطة عنق رفيعة الذوق، فارتداء زي مثل جاكت جلد قذر وكأنه شجاعة، ستكون النهاية هي المضايقات. ورغم ذلك لو فعل ذلك شاب في سن التاسعة عشرة أو العشرين من عمره، فلربما تشعر بظرفه، ولكن أن يفعل ذلك الأمر رجل شيخ قد بلغ من العمر مقداراً معتبراً، فإن من يراه يشعر بضيق التنفس.

بل ولأن في الواقع هذا الذوق أتى له كنوع من أنواع ذوق النبلاء متقمصاً لشخصية الروائي الياباني "كافو ناجاي"، فهو ما يدل أكثر وأكثر على تكلفه الزائد. إذا جعلناه هو يتكلم فسيقول: إذا كان فعلاً "نبيل الروح" (تلك الكلمة التي كان الأديب الذي يكره بشدة، أوسامو دازاي يحب استخدامها كثيراً)، فيجب أن يكون البنطلون الجينز "لائقاً" عليه تماماً. فإن من يحاول أن يظهر نفسه حسن الذوق، بارتداء البذل الغامقة، فمعنى هذا أنه في الواقع مبتذلاً، وإذا كان ارتداء جينز مع جاكت جلد تفوح منه رائحة نبل، فسيكون ذلك نبلاً حقيقياً، وليس ذلك فقط بل من أجل أن يكون نبلاً جسمانياً وليس نبلاً روحياً فقط، فلابد من ممارسة رياضة كمال الأجسام. تلك هي نظريته. فهو يرى دائماً أن الرجولة المثالية كما يقول: هي "امتلاك وجه شاعر وجسد مصارع ثيران"، ولكن انطباعي عنه من خلال رؤية صورته، أنه على الأكثر "وجه كاتب عرائض أمام المحاكم، وجسد عامل باليومية". وهو ما يجعله يبتعد كثيراً جداً عن الرجولة المثالية.

فأولاً، من الصعب علينا أن نفهم بالتحديد، من هو الذي يريد إقناعه بأن ما يفعله أناقة؟ فقطعاً من المستحيل أن تجعل النساء تفهم تلك الأناقة الصعبة. إذن لا يوجد في نهاية الأمر إلا الاعتقاد أن ذلك هو من أجل إرضاء غروره الذاتي فقط. ولكنني سمعت أنه يرد على المعترضين عليه بذلك القول، مستشهداً بعبارة بودلير التالية:

"جاذبية الذوق الرديء التي يصعب نسيانها، هي في تذوق متعة النبلاء من خلال امتعاض الآخرين منك".

إذا كان الأمر كذلك فيجب علينا أن نقول إنه حقق نجاحاً بالفعل في هذه النقطة إلى حد ما.

إذن هو في الحقيقة رجل من طراز قديم، لدرجة الاقتباس من بودلير شاعر القرن التاسع عشر. فلا يزال اتجاهه قديماً جداً، بخلاف الشباب من الكتاب الذين يهيمون حباً في هنري ميلر ونورمان مايلر. ورغم ذلك فهو يحب كل جديد أضعاف حب البشر العاديين للجديد، فإذا جاءت دورة الألعاب الأوليمبية، تجده قد أهمل أعمالاً في غاية الأهمية، وأخذ يدور من ملعب إلى ملعب كل يوم ممسكاً بمنظار مكبر في يده لمشاهدة المباريات. وعندما يسمع أن هناك فندقاً جديداً سيفتتح، تراه قد لحقه سريعاً ليبات فيه أول لياليه. وإذا سمع أن إحدى الطرق السريعة الجديدة سوف يبدأ المرور بها من الساعة الثانية عشرة عند منتصف الليل، تجده ينتظر قبل خمس دقائق من الموعد داخل سيارته أمام مدخل الطريق في هانيدا. وهكذا تراه يعيش أيامه مشتت الذهن، منهك الأنفاس. ولكن أحد البراهين على أنه إنسان عتيق الطراز، هو كرهه للطائرات النفاثة كراهيته للموت، وإذا اضطر مرغماً أن يستقلها، تجده وقت إقلاع الطائرة وقد امتلأت كفوف يده بالعرق، وهو يرتجف ويرتعش من الخوف.

هو يشتهر بضحكاته العالية، فاتحاً فمه بدرجة كبيرة مثل البُلهاء، والتي بسببها قد انهارت كل لحظات الرومانسية الرقيقة التي حدثت له في حياته.

وهو كذلك يزين منزله بروبابيكا من التحف الغربية القديمة التي جمعها من خلال الشراء بمبالغ ضئيلة، مما يجعل المنزل ضيقاً بها، ويأتي ذلك فوق أرضية من بلاط أرضي من طراز الشطرنج باللونين الأخضر والأبيض، الذي يمكن أن يظهر في مجلة "سانبون" للتصاميم المعمارية، وهو ما يجعلك تعتقد أن صالوناً للحلاقة تحول كما هو فجأة إلى محل لبيع الأدوات القديمة.

في الواقع كلما بحثت في تفاصيل المعلومات التي جمّعتها لي إدارة التحرير، كلما كان من الصعب عليّ معرفة هل هو يحمل إحساساً مرهفاً بالجمال؟ أم هو إنسان خام غليظ الحس تماماً تجاه ما يسمى التوافق؟ هذه النقطة غير معروفة إطلاقاً. إذا كان يحب التوافق، فهو يحب أيضاً التباين القوي، ورغم أنه من الأفضل الانحياز إلى أحدهما، إلا أنه وبسبب طمعه يحاول الجمع بين حب الاثنين معاً. ألا يدل هذا على أنه هو نفسه أصبح لا يعلم من أمر نفسه شيئاً؟!

ويبدو أن كرهه للبشر قد ازداد تدريجياً مع مرور السنين سوءا، وفي نفس الوقت تقوى مشاعر الوحدة عنده، وسُمعته مؤخراً أنه أصبح في الواقع إنساناً يصعب التعامل معه. ياللمسكين! هذا الروائي الذي تربى تربية ارستقراطية مدللة، بدأت عينه تتفتح تدريجياً على قاع هذا العالم البائس، وبعد أن تفتحت عينه، أصبح له ميل لنبذ كل شيء، يرفض هذا ولا يرضى بذاك. ولذا شخص بهذه المواصفات لا ضرورة إطلاقاً لسماع فلسفته التشاؤمية بشكل جدي، يكفي فقط أن تستمع له وأنت تقول له موافقاً أجل.. أجل.

الشخص الذي يريد أن يرى وجهه سعيداً سعادة حقيقية (طبعاً هذا الحديث بافتراض وجود شخص رديء الذوق لهذه الدرجة)، فليذهب ليشاهده بعد أن ينتهي من ممارسة كمال الأجسام أو رياضة الكندو، وقد أخذ دشاً ثم بدأ يستمتع بشرب الكوب الأول من البيرة. في حالته النفسية تلك، لو أتيت أنت لتتطفل عليه وتحاول أن توجه له حديثاً في الأدب مثلاً، فلا أدري كيف سيقوم بتعنيفك، بأسلوب في غاية التعجرف والبرود.

أما من يقول: إذا كان يحب الرياضة لهذه الدرجة ويكره الأدب، فلماذا لا يهجر الأدب سريعاً ويتحول إلى لاعب رياضي؟ فهو شخص معدوم الإحساس. فأولاً هو ليس لديه موهبة تجعله قادراً على أن يصبح لاعباً رياضياً، وفي الأصل الوقت متأخر جداً لفعل ذلك. ولهذا فهو كل ليلة يلوك الأدب الذي يفترض أنه يكرهه، ويقضي الليالي ساهراً حتى الصباح مستمراً في كتابة الروايات على مدى ما يقرب من عشرين عاماً. ومهما لاقى في ذلك من محن ومتاعب لمرات عديدة فهو مستمر في كتابة الروايات دون أن يتعظ. وكلما استمر في الكتابة كلما أصبحت رواياته أكثر صعوبة، مما يجعله يستشيط غضباً، ثم يفرغ غضبه في تناول البوفتيك.

عند التمعن في صفات هذا الرجل، ومن خلال محاضراتي عن شخصيات الرجال التي داومت عليها حتى الآن، ربما يبدو لي أنه إنسان عبثي من الدرجة الأولى، ولكنه كذلك رجل من الرجال. لربما في المستقبل القريب يستطيع القيام بعمل هائل للغاية. فلنراقبه مع القراء بصبر وطول بال.