حققت نوافذ التواصل الاجتماعي عبر الانترنيت رواجاً منقطع النظير، إذ أقبل على الاشتراك بها أناس من مختلف القطاعات والمستويات، فتجد فيها القائد السياسي ذا الصيت الواسع، والطالب المغمور الذي لا يكاد يُعرف بين أقرانه، وتجد الأدباء ممن لهم شهرة محلّقة في سماء الفكر والثقافة والنشر، وفي مقابل ذلك هناك من يحاول تعلم ألفباء الحاسوب، وبين هذا وذاك وحدان وجماعات لا يكاد يُحصى لها عدد، وتختلف المشارب والمذاهب، كما تختلف دوافع الاشتراك من شخص إلى آخر، ومن جماعة (كروب) إلى أخرى، غير أن ما يسجّلونه ويصوّرونه على صفحاتهم وحيطانهم، يلعب دوراً كبيراً في كشف أنساق اجتماعية وأخرى نفسية وفكرية، تجول وتعتمل في اللاوعي الجمعي، ثمّ تجد طريقها على هيئة مصوّرات أو لوحات أو ملفوظات لسانية، يمكننا توصيف اللساني منها بأنه: انطباعات شخصية، وأشعار وأبوذيات ودارميات، ومسجات وأسماء مستعارة، وعبارات تنمّ على التواصل العاطفي. ويلاحظ أن الأسماء المستعارة التي يُضفيها المشتركون على انفسهم تمتلك قوة تعبيرية هائلة، بالإمكان فكّ شفراتها، وتحليل آلياتها، على وفق المنهج اللغوي، لنصل إلى تلك الأنساق التي تختفي وراءها. وفي هذه المقالة سوف أقوم بتحليل ثلاث نماذج من الأسماء المستعارة التي يعبّر المشتركون بها عن أنفسهم، بوصفها خطابا موجّها إلى الآخر، يتضمّن دلالات ومعانيَ تعكس طبيعة المشترك، وتكشف عن بناه الفكرية والعاطفية. فمن الملاحظ أن المشتركين في هيئات التواصل الاجتماعي، الفيسبوك وغيره من النوافذ الأخرى يطلقون على أنفسهم تسميات لها علاقة بحصيلة تجاربهم في الحياة، ومستعارة منها، وهو الغالب، في حين هناك من يعلن عن اسمه الصريح، ولاسيما العاملين في حقول السياسة والثقافة والمعرفة على وجه العموم.ولا يخفى على أحد أن هؤلاء انما يبغون توسيع دائرة الاهتمام بهم، وبما يدعون له، بحسب انتماء كل أحد منهم. على أن الجهد التحليلي هنا سوف يأخذ بالاعتبار الأسماء المستعارة حسب، لما يكمن تحت استعارتها من دلالات ومقاصد، ذلك أن إخفاء الاسم الحقيقي، وإظهار المستعار، ينطوي على مراد تعبيري، ليس في الإخفاء فحسب، وإنما في ظهور المستعار، ذلك أنه خطاب واستراتيجية في الوقت نفسه، لذا سيكون هو وليس الآخر الحقيقي منطلقنا في هذه المقالة.
إحدى المشتركات أطلقت على نفسها اسم (بسمة الأحزان). من المؤكد أن هذا الاختيار لم يأتِ من فراغ، وليس في إيراده اعتباطية أو ما شاكل، فهي لم تختره لتزيين حائطها، أو لحصد مشاعر الإعجاب بها، وإنما هناك منظومة شعورية تقف وراء هذا التركيب الإضافي (إضافة البسمة إلى الأحزان). دعونا نحلل هذا التركيب لنكشف عما يختبئ وراءه من نسق عاطفي. جاء في لسان العرب لابن منظور في مادة (بَسَم): (بسَم يبسِم بسْما وابتسم وتبسّم، وهو أقلّ الضحك وأحسنه، وفي التنزيل: فتبسّم ضاحكا من قولها. قال الزجاج: التبسّم أكثر ضحِك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقال الليث: بسَم يبسِم بسْما إذا فتح شفتيه كالمكاشر...وفي صفته صلى الله عليه وسلم، أنه كان جُلّ ضحكِه التبسّم، وابتسم السحاب عن البرق: انكلّ عنه) اللسان ج12 ص50. نخلص من قول ابن منظور في لسانه إلى أن الابتسام حركة فسلجية تتمثل في انفراج عضلات الشفتين (فتح شفتيه كالمكاشر)، ومن خصائص الابتسام ــ أيضا ــ أنه أقلّ من الضحك، وأحسن منه، اي أنه حالة وسطية بين توقف حركة عضلات الوجه، وانطلاقها، ذلك أن جمود القسمات دالة العبوس والقنوط، وانطلاقة الضحك دالة الخفة، وربما الرعونة، فالتبسّم ــ إذن ــ منزلة بين منزلتين. ووقار التوّسط بين المنزلتين يستقي مضامينه من الخزين الأخلاقي الديني (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) البقرة: 143، وارتباط التبسّم بالأنبياء (التبسّم أكثر ضحك الأنبياء) فيه دلالتا الوقار والحكمة، ومجموعهما الاتزان.من جانب آخر أن الابتسام ابتعاد عن الفظاظة والغلظة والجفاف، وفيه تبسّط وانفتاح على الآخر، جاء في التنزيل (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفظوا من حولك) آل عمران 159. من هنا يتبين أن دلالات الابتسام هي الاتزان والتبسّط والانفتاح على الآخر، غير أن (بسمة الأحزان) صاغت الجزء الأول من اسمها من المصدر (البسْم) بسكون السين (بسمة) وهو مصدر مرة، نحو ضربة من الضرب، مما يوحي بمحدودية التبسّم واقتضابه.هذا فيما يتعلق بالطرف الاول من التركيب الإضافي، ونأتي الآن على الطرف الآخر (الأحزان) وهو جمع حزن (لاحظ التركيب، إضافة المفرد إلى الجمع) وفي هذا دلالة سوف نعرض لها فيما بعد، غير أننا نرغب في الكشف عن دلالة الحزن، فلنتعقبها في لسان العرب: (الحُزْن والحَزَن نقيض الفرح، وهو خلاف السرور)ج13 ص111. وفيه أيضاً (وقوله تعإلى:"الحمد لله الذي أذهب عنا الحَزَن"... وقيل: الحَزَن هو كلّ ما يُحزن من حَزَن معاش أو حَزَن عذاب (نفسي أو مادي) أو حَزَن موت... فقد أذهب الله عن أهل الجنة كلّ الآحزان) ج13 ص112.وأيضا جاء فيه: (قال ابن سيْده: والحزن ما غلُظ من الأرض والجمع حزون) ج13 ص112. وأخيراً (الحزون: الشاة السيئة الخلق) ج13 ص114. ما نقلته هنا من مادة (حزن)، ويمكننا الآن حصر دلالاته كالآتي: الحزن هو نقيض الفرح، وانتفاؤه في الجنة، بمعنى أنه شعور مرتبط بالأرض (نصرف النظر عن جهنم لغرض الاقتصار) وهو أيضا ما غلُظ من الأرض، وهذه الدلالة تعزّز ارتباطه بالأرض، وتُضفي عليه طابع الغلظة والخشونة، مما يجعله يُضادد الابتسام في تبسّطه، وهو الشاة النفور أو سيئة الخلق، وهذه الخصّيصة تناقض الاتزان.نستنتج مما تقدم أن التركيب الإضافي لـ(بسمة الآحزان) يحتوي على طرفين يناقض أحدهما الآخر، أي أن العلاقة بين جزءي الاسم تتسم بالتضاد والتناقض، فهل في هذه الصياغة التي يتضاد جزآها دلالة قصدتها المشتركة بوعي منها؟ من المؤكّد أنها أحسّت علاقة التضاد في التركيب ولكن ليس على الوجه الذي حللناه، وإنما طفا على مشاعرها، واختارته لأنه يوائم ما يجول في داخلها تقاطع عاطفي إزاء موقف معين أو مواقف شكّلت مواجهة أو تحدّيا لذاتها، في الوقت نفسه أنها لا تريد أن تستسلم لما يهدّد ذاتها، ويثلم حضورها الإنساني، فهي تأمل أن يأتي يوم تنتصر فيه على ما يهدّد كيانها، لذا فهي تحتفظ بوقدة من القوة، وجذوة من التطلّع للانطلاق، والتواصل مع الحياة، وقد عبّرت عن ذلك بالملفوظ اللساني (بسمة). يبدو أن المواجهة مع ما يتحدّى وجودها يشكّل باعثا على العذاب والألم لديها، وكلما كان التحدّي أكثر قسوة، كان الحزن أقسى وقعا على النفس، لهذا نراها جمعت الحزن وكثّرته (أحزان) دلالةً على فظاظة مواجهاتها. إن طرفَي التركيب غير متكافئين (بسمة الأحزان) فالبسمة مصدر مرة كما قلت آنفا، في حين أن الاحزان جمع، مما يوحي أن المشتركة تشعر باليأس والقنوط والعذاب، ولكن ليس على وجه الإطلاق، فثمة بارقة من أمل أو جذوة تأتلق تحت الرماد، وهذه الجذوة هي روح التفاؤل والانفراج التي تجسّدها البنية اللفظية (بسمة) فهي على هذا النحو لديها شحنة من التفاؤل على الرغم من كثافة الحزن الذي يكتنف مشاعرها الظاهرة، والتعبير الاسمي بجزءيه المتضادين ينطوي على توتّر عاطفي، استطاع أن يصوّر المراوحة في الموقف الشخصي إزاء معايشة الأحداث. ويجب أن نتنبّه هنا على أن مصطلح العاطفة لا نعني به المفهوم الضيق المتمثل بالحب وما يتعلق به، بل نقصد به أيّ توتّر نفسي يعتري الإنسان حينما يواجه صعوبة في تقبّل حدث ما، أو موقف معين في أثناء مزاولة وجوده الإنساني، وتحقيق متطلباته. يتفق النحويّون على أن إضافة النكرة، هنا(بسمة) إلى المعرفة (الاحزان) تعريف لها، فهي معرفة باقترانها إلى قيمة سالبة، ولكنها تبقى بدلالاتها حمولة إيجابية باعثة على الحياة.
وهناك مشترك آخر أطلق على نفسه تسمية (العراقي)، وذلك بإضافة ياء النسب المشدّدة إلى العراق، وإننا (لو زدنا في آخر الاسم ياءً مشدّدة قبلها فقلنا... بغداديّ ودمشقيّ نشأ من هذه الزيادة اللفظية الصغيرة زيادة معنوية كبيرة، إذ يصير اللفظ بصورته الجديدة مركّبا من الاسم الذي يدلّ على مسمّاه، ومن الياء المشدّدة التي تدلّ على أن شيئا منسوبا لذلك الاسم أي مرتبطاً به) النحو الوافي:ج4 ص657. إذن، المشترك أراد أن يُخبر ويُؤكّد نسبته إلى العراق، إذ أن الوظيفة المعنوية لياء النسب تتمثّل في (جعل المنسوب اليه اسما للمنسوب) موسوعة النحو والصرف والإعراب ص683، فهناك نوعا من الوحدة والتلاحم بين الطرفين، المنسوب والمنسوب اليه. يبدو أن مقاصد التركيب تتجلّى في إظهار الانتماء الوطني للمشترك، ونسبته إلى وطنه.والجدير بالذكر أن تركيب (العراقي) يتكون من ثلاث وحدات مورفولوجية (صرفية)، تلك هي (ال) التعريف واسم العلم (عراق) وأخيرا (ياء النسب) المشدّدة التي أضفت على التركيب طابعا نعتيّا. و(عراق) اسم علم معرّف بنفسه لعلميّته، أما إضافة (ال) اليه فلم تزدْه تعريفا، على أن الفارق الدلالي يظهر في إضافة اسم العلم (عراق) أو(العراق) إلى ياء النسب، فهناك فارق دلاليّ بين (عراقي) و(العراقي)، فلو قلنا: (محمد عراقي) و(محمد العراقي)، ففي الجملة الأولى إخبار فقط، وفي الأخرى إخبارٌ وتوكيد، ذلك أن (ال) التي أضيفت إلى (العراق) أفادت التوكيد، فالمشترك الذي اختار(العراق) اسماً له بإضافة ياء النسب اليه إنما أكّد نسبته إلى هذا البلد بوحدتين صرفيتين، التعريف وياء النسب، مما دلّ على عمق انتمائه لوطنه، ولو نظرنا إلى التركيب ــ بوحداته الثلاث ــ مقترنا بمرجعيته السياسية والاجتماعية، وهو ما يريد أن يوحي به المشترك، لاستطعنا أن نجعل منه دالة علامية على وحدة المكونات العراقية، وتلاحمها وتعالقها بعضها ببعض.
وثمة مشتركة أخرى اختارت تسميتها من المخزون الديني، فجعلت اسمها جملة دعائية: (اللهمّ اقبضني في سجدة)، والدعاء وسيلة للتواصل الروحي بين العبد والآخر المطلق (الله)، من جانب آخر إن لدى المشتركة رغبة في أن تترك لدى المشتركين معها في الفيسبوك انطباعا بأنها اتخذت من قيم الإسلام ومبادئه منهجاً لها في الحياة. وبخصوص الصيغة (اللهمّ) فهي نداء موجه إلى الله تعإلى، وقد قيل إن أصلها (يا الله) وقد حُذف منها (يا) وعُوّض بالميم. يقول سيبويه: (وقولهم: اللهمّ حذفوا (يا) وألحقوا الميم عوضاً) الكتاب ج1ص51. غير أن المحدثين من النحاة يرون الأمر على وجه آخر مغاير لما قاله القدماء، فالمخزومي يرى أن (اللهمّ) أصلها سامي وتحديداً عبري، فهي مأخوذة من ألوهيم العبرية، ذلك أن (قول العبريين ألوهيم معناها بالحرف الآلهة، وهم لا يريدون به إلا الواحد، وإن جمعوه للتعظيم) مدرسة الكوفة ص223.إذن (اللهمّ) أصلها ألوهيم العبرية التي تعني الآلهة جمعَ إله، وقد جُمعت لتعظيم الذات الإلهية، وتكثير قدرته الفائقة، ومنها جاءت (اللهمّ) بعد أن أخضعت لقوانين النطق العربي. وقد استخدمت فيما استخدمت للنداء حينما تقع في سياق الدعاء، كدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم في معركة بدر: (اللهمّ إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً)، و(من ذلك قول العرب في مَثَل من أمثالهم: (اللهمّ ضبُعا وذئبا)، إذا كان يدعو بذلك على غنم رجل) الكتاب ج1ص311.وقول المشتركة (اقبضني) أمر خرج إلى الدعاء، فهو موجّه من الأدنى(العبد) إلى الأعلى (الله تعإلى). والقبض هو المسك الشديد، والصيغة الدعائية (اقبضني) تستدعي سلسلة دلالات فعلها. جاء في لسان العرب (وفي أسماء الله تعإلى: القابض، وهو الذي يمسك الرزق وغيره من الأشياء عن العباد... ويقبض الأرواح عند الممات) ج7ص213، ومن دلالاته أيضاً (صار الشيء في قبضي وقبضتي أي في ملكي) اللسان ج7ص214. من الملاحظ أن الله تعإلى حاضر في كلّ صيغة من صيغ الجملة، فـ(اللهمّ) نداء الواحد بالتعظيم، وقد تخصّص به الله تعإلى، و(اقبضني) معناه التحوّل من البايولوجي (المادي) إلى الروحي، أي إلى قبضة الله لتكون جزءاً من ملكه، و(سجدة) اسم مرة من السجود، جاء في لسان العرب: (سجد يسجد سجوداً، وضع جبهته بالأرض)ج3ص204، أي ألصقها فالباء هنا للإلصاق.(وسجد: خضع. ومنه سجود الصلاة، وهو وضع الجبهة على الأرض ولا خضوع أعظم منه) ج3ص206. فالسجود حركة مفادها إلصاق الجبين بالأرض، وفي هذه الحركة دلالة الخضوع والانصياع التام لإرادة الله، مما يجعل الساجد في حلّ عن الدنيا ومشاغلها وما فيها من متطلّبات مادية. مما تقدّم نجد أن المشتركة اختارت هذه الجملة الدعائية لتعبّر عما يجول في خاطرها من رغبة ملحّة في أن تكون جزءاً من ملكية الله، حاضرة في ملكوته والجملة وإن دلّت في ظاهرها على الرغبة في الموت، ومغادرة الحياة إلا أنه في معانيها المسكوت عنها دلت على التحول إلى حياة روحية زاخرة بالخلود والقرب من الحضرة الإلهية، ذلك أن المميّز العلامي (سجدة) يشير إلى هذه الدلالة، فالموت هنا وسيلة عبور إلى حياة أكثر رُقيا، والجملة الدعائية بعد ذلك تنطوي على بعد صوفي يذكّر بشهيدة العشق الإلهي رابعة العدوية.