ضمن سلسلته التي تقارب نصوصا قصصية مغربية جديدة، يواصل الناقد والكاتب المغربي تقديم أحدث الإصدارات والمجاميع من "ربيع القصة المغربي" مقتربا من سماتها الخطابية، وموضوعاتها ومستويات الاشتغال النصي.

القصة المغربية القصيرة الأخرى: »ستة وستين كشيفة»

عبدالرحيم مؤدن

يصر "مصطفى كليتي" ، في مجموعته الأخيرة على تجنيسها، في سياق : القصة القصيرة جدا، هذه الأخيرة التي عرفت تصاعدا كميا، وكيفيا أيضا، في العقد الأخير. وفي كل الأحوال يقتضي الميثاق الممتد بين المرسل والمرسل إليه،  احترام إرادة المرسل قبل غيره. ومع ذلك فالنص المتداول، عبر القراءة، يمنح مشروعية الحوار التي تسمح بإثراء مستويات التلقي التي قد يتحول فيها المرسل إلى مرسل إليه، والعكس بالعكس صحيح.

 من المؤكد أن العنوان مرتبط بمثل سار بذكره الركبان، إلى أن تحول، في نهاية المطاف، إلى عنوان للمعاناة والوصول إلى المراد بأشق الأنفس. فهو يقترب من مثل آخر، يتعلق ب(صابون تازة)  المستنجد به في الحالات المستعصية التي لاتنفع معها أنواع الصابون، ماعدا صابون "تازة" المتحصنة ، في شرق المغرب، بين جبال تزخر بالمحكيات والشواهد وصدى السنين..

وارتباط العنوان بالقول السائر،لايرفع عنه ما يحيط به من تلغيز انسحب، أساسا، على بنيته اللغوية التي توزعت بين عدد متشابه رسما(66)، ومختلف دلالة، علما أن الدلالة الغالبة على المثل ترتبط بالفضيحة الناتجة عن معاناة محددة.(الكشيفة تحوير دارجي ل" الكاشفة".ج/ كواشف:الفضيحة.المعجم العربي الأساسي.ص1044.). أما الرقم، بالوصف السابق،فهو كناية عن الاستحالة والتعجيز، مع فسح المجال لوروده، في لحظات معينة على سبيل الآستثناء ، أو النادر. وعند وقوع ذلك ، فتلك هي الفضيحة، أو " ستة وستين كشيفة"..

ومن الضروري التذكير أيضا بجذر الكلمة- كلمة "كشيفة"- التي لا تنفصل، بالضرورة، عن التعرية ونزع الغطاء وإشاعة ما هو مستور، أو غائب عن العين.  وعلى هذا الأساس بنيت المجموعة القصصية الحاملة للعنوان أعلاه،انطلاقا من تبويب محدد للكم المتوفر للسارد من " كشيفات" خضعت للآتي:

1-كشيفات باب الحب: وهو باب يقوم على تداخل تيمات الوفاء بأحلام اليقظة، وتجذر العشق الأول في الذات بالرغم من فعل الزمن، شيخوخة وغربة..

2-كشيفات باب الطفولة: وهو باب ينفتحة على خصوصية عالم الطفل، نباهة وحلما وبراءة وحدسا وتمردا على كل منغصات هذا العالم بوسائل  تستعصي على المقاومة وتفشل أمامها كل الأسلحة.

3-كشيفات باب اللعب: الدنيا مسرح كبير يزخر بالأعاجيب، والصدف المنطقية، وغير المنطقية أيضا، وترشح كل الكائنات – الحية والميتة- بحياتها الخاصة،وكل جزئية من جزئيات العالم، حلقة من معماره المبني على منطق محدد.

 4-كشيفات باب الفجأة: وهو الباب القائم على المفاجأة غير المنتظرة، والتي تفعل الأفاعيل في اللغة والإنسان والمجمعات والرغبات والأحلام.

5-كشيفات باب الغضب: ومصادره متعددة جمعت بين الحقد ورد الفعل، وسادية المرضى، ولعنة الخطيئة الأولى والخراب واحتلال الأوطان،واختلال المجتمعات، وعمى البصيرة قبل البصر..الخ

6-كشيفات باب التعب: وهو مرتبط بالروتين اليومي القاتل للكائن ، وللأحلام أيضا، دون أن يمنع ذلك من "الإنتصار للحياة" المتجلية في كفاح البسطاء- ولو كان بهم خصاصة- وفي، من ناحية أخرى،  درس الطبيعة التي  تحقق انسجامها من صلب المعاناة ذاتها.

 7-كشيفات باب الغفلة:باب يدخله المغفلون بدون حساب.وهم لا يرتدعون، بالرغم من اللذعات المستمرة، فالنهاية واحدة لاتتغير، والغفلة قد تلتصق بجلد الإنسان والحيوان والنبات ،تلتبس بالشطحات البعيدة..

8-كشيفات باب الحاكم بأمره:باب ما جاء في الإستبداد وماجاوره، ومن جاوره أيضا. فالإستبداد لايقوم، فقط،على إراقة الدماء، بل قد يصنعه، أيضا، الصمت وماسح الجوخ،وامتهان الذات.

9-كشيفات باب "س" الحائر في أمره: وهو باب الزمن " الهازم للذات المفرق للجماعات". زمن لايرحم، بعد أن جعل العزيز ذليلا، وحول الكائن إلى حزمة من أعصاب متوترة،تقتات على الذكرى، حينا، وعلى الخوف والمطاردة الدائمة، حينا آخر،العجز، حينا، والعزلة حينا آحر.

    بعودتنا إلى نصوص المتن، التي تجاوزت الستين قصة( 65قصة)، نلمس تحول العالم إلى شاشة ضخمة توالت عليها الصور المتلاحقة حسب ترتيب الأبواب السالفة الذكر.وكل باب ينفتح بدوره،على عتبات تحيل ، بدورها، على أبواب، قد تصغر، حينا ، وقد تكبر حينا آخر.

    هكذا تصبح بوابة القص قادرة على استيعاب ما أسماه الكاتب ب" القصة القصيرة جدا". ومن ثم  تصبح التسمية ذاتها نمطا من أنماط الكتابة القصصية التي اندرجت تحت  بناء القصة القصيرة جدا مخلصة بذلك لطبيعة القول السردي عبر الأنماط التالية:

أ‌-     الأمثولة( المثل): وهو ما تنتهي به الكثير من قصص هذه المجموعة، أو قد ترد ، أحيانا، في صلب المتن ذاته.في المستوى الأول تنتهي قصة نهاية وبداية"،بالمثل التالي:(:( كل شئ يحتاج إلى إعادة تركيب التركيب),ص.43. وفي قصة" وتستمر اللعبة" نجد النهاية المحفزة على تفسير ملابسات القول، أو الصياغة" المثلية" الصادرة عن الشرطي الذي يقول:(- أتذكر جيدا ولكن اللعبة ما تزال مستمرة..)ص.28 

ب‌-الحكمة: وهي بنية ترتبط بالمثل بروابط كثيرة. قد تكون عنوانا لقصة من قصص المجموعة(السمكة تبقى سمكة)، أو قد تنتشر في المتن القصصي بصيغ عديدة. في قصة " درس من الأرشيف" يصوغ السارد حكاية الغراب والثعلب وقطعة الجبن ، صياغة جديدة تستفيد من المأثور الديني(لابلدغ المؤمن من الجحر مرتين)، ويقدم ، في الوقت ذاته، معجمه الخاص المستوحى من التداول اليومي الذي جاء على لسان  غراب يرفض تكرار خطأ أسلافه(- لقد استفدت من درس جدنا الغراب الأول).ص.81. كما أن الحكمة قد تتناص مع نصوص أخرى شائعة (قصة" خطان غير متوازيين" تحيل على إحدى قصص " يوسف إدريس عن عصفور لا يتوقف عن الغناء فوق حط هاتفي يضطرب باللعنات والمشاحنات/  وقصة " لما تتبخر الأحلام" تحيل على حكاية شعبية بولونية رغبت فيها الشمس في امتلاك ألوان قوس قزح، فاحترقت كل الألوان التي لا تلائم طبيعة الشمس اللاهبة).

ت‌- الأحجية: تبدأ القصة المعنونة ب " إشاعة" على الشكل التالي: (قال راوي الرواة، ومن تبعه بغواية الحكي المتواتر، كانت "الهاء" بئرا غورا، وكانت "اللام" دلوا دلقا، وكانت " الواو" هاتكة أسرار)ص.37. تنتهي الحكاية التي لم تتعد السطرين إلا قليلا، منسحة المجال للمتلقي لكي يدلي بدلوه في تفسير هذا التلغيز المقصود.

إن انتماء نصوص هذه المجموعة إلى " القصة القصيرة جدا" ، حسب تجنيس كاتبها، لايمنع من التأكيد على أن خصيصة القصر تظل واردة في نصوص المجموعة برمتها ، سواء تلك التي خضعت للتشظية المقصودة مما أهلها للانتماء إلى عالم القصة القصيرة جدا، أو تلك التي  قامت على بنية القصة القصيرة كثافة ومعجما دلاليا، وتذويتا  للفضاء يكل محمولاته. والقاسم المشترك بين المستويين يتجسد في : الحكاية. ومن ثم تصبح الحكاية عجينة السارد ، يجعل منها ، حينا، قصة قصيرة جدا،  تتوازى ، وتتقاطع أيضا، مع ما سبق ذكره من حكمة ومثل وأحجية...وتصبح الحكاية ذاتها، حينا آخر قصة قصيرة متكاملة. وبين هذا وذاك، قد تكتفي الحكاية بذانها، معلنة عن وجودها الصريح ، كما هو الشأن في باب " كشيفات باب الغفلة" ، التي جسدت  مستوى من مستوبات الحكاية الخرافية بامتياز. 

 

هامش:

مصطفى كليتي: ستة وستبن كشيفة. قصص قصيرة جدا دار القرويين.2011.