جاءت دعوة احد مهندسي اتفاق اوسلو 1993 من الجانب الاسرائيلي يوسي بيلين لمحمود عباس حل السلطة الوطنية، لتؤكد عبثية التفاوض والعملية السلمية فمع انه لام المتطرفين من الجانبين وحملهم مسؤولية فشل العملية السلمية إلا ان حديثه يؤكد ان استمرار اسرائيل في بناء المستوطنات والتوسع الاستيطاني قضى على فكرة حل الدولتين التي سعى لتحقيقها اتفاق اوسلو.
وقال بيلين فيما نقلته عن صحيفة بريطانية لعباس انه يجب ان لا يستمع لكلام اوباما الذي لا يريد ان يزعجه احد خاصة انه يقود حملة انتخابية للعودة الى البيت الابيض في ولاية ثانية، وناشد عباس قائلا له من اجل شعبك ومن اجل السلام يجب ان لا تسمح لهذه المهزلة ان تستمر.
حديث بيلين عن السلام المتوقف منذ وصول نتيناهو للحكم جاء متأخرا فالعملية السلمية التي شارك في هندستها عبر قنوات اوسلو الخلفية ولدت ميتة على الرغم من الامال والطموحات التي رافقتها، وقد ذكرتني اقواله بكتاب صدر العام الماضي عن “الاوراق الفلسطينية” التي نشرتها “الغارديان” وقناة “الجزيرة” القطرية وفيه تحليل للأوراق وما جاء فيها وحديث عن سياقها التاريخي منذ ولادة ما سمي بالعملية السلمية ونشر للوثائق نفسها، والكتاب “سري: اوراق فلسطين”، وان اشار في عنوانه الفرعي نهاية الطريق” إلا ان الطريق كان مسدودا من البداية لان الطرف الاخر لم يكن مستعدا للحوار ولان الطرف الفلسطيني لم يبق لديه ما يفاوض من اجله. ونعرض الكتاب للتذكير والتوثيق له. والعرض وان جاء متأخرا إلا انه يعيد التذكير بفلسطين التي خرجت من “ردار” الاخبار بسبب الثورات العربيةـ، فلم تعد القضية الرئيسية في الاخبار في ظل تتابع حركات التغيير وعمليات القتل والتشريد في سورية. ورغم كل هذا الحديث فعلينا ان لا ننسى ان فلسطين كانت سببا وبداية للتغيير في العالم العربي. وعليه فان الحديث عن الوثائق في ظل الثورات العربية وتوقف العملية السلمية يعيدنا الى مربع الثوابت الفلسطينية وأهمية الحفاظ عليها، وفي تكرار الحديث عن التنازلات التي كان الوفد الفلسطيني مستعدا لتقديمها تأكيد على القضية الفلسطينية وجوهرها- حق العودة والقدس الشريف وكل هذا متعلق بحق الفلسطينيين بتقرير مصيرهم واختيار قدرهم وهذا يقودنا للأوراق التي احدثت ضجة كبيرة.
لأنها كشفت عن الموقف الفلسطيني الضعيف في المفاوضات حول الدولة الفلسطينية على حدود عام 1967 والتي تشهد عمليات توسع استيطاني خاصة الضفة الغربية وإنشاء شوارع التفافية وغير ذلك من النشاطات التي حدثت بوتيرة عالية بعد أوسلو ومما اثار في الوثائق انها اظهرت حقيقة الموقف الفلسطيني الذي عبر عن استعداده لتنازلات من اجل حل نهائي وهي تنازلات لا تتعلق بقضايا اجرائية حول مسار العلاقة والمحادثات بل مرتبطة بجوهر القضية الفلسطينية، مستقبل القدس واللاجئين، حق العودة والحدود التي فاوضت السلطة عليها اي اعتراف باسرائيل مقابل دولة في حدود 1867.
فالموقف الفلسطيني المذعن على ما تظهر “محرج” لحد كبير كما تقول الباحثة الفلسطينية غادة كرمي في تقديمها للكتاب الذي اعده كلايتون سويشر والصادر العام الماضي عن دار “هيسبيروس” وتضيف ان الجانب الفلسطيني في المفاوضات لم يكن سوى مجموعة من المقامرين الذين كانوا يريدون الحصول ولو على كمية قليلة من المال، ومن اجل ذلك وضعوا كل ما تبقى لديهم وهو قليل ولم يحصلوا على شيء.
وتقول ان القدس الشرقية التي يريد الفلسطينون جعلها عاصمة لهم في الدولة المستقبلية ضمن ما اتفق عليه في اوسلو مهددة ولا زالت من المستوطنين المتطرفين الذين يريدون طرد الفلسطينيين منها، وفي الوقت الذي كانوا يواصلون اعمالهم كان صائب عريقات كبير المفاوضين الفلسطيين يعرض عام 2009 على وزيرة الخارجية في حينه تسيبي ليفني “جزءا كبيرا من يروشاليم”، وعرض الفريق المفاوض على الاسرائيليين السيطرة على الحي الارمني وهو الذي رفض الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات التنازل عنه. ومن المعلوم ان عرفات رفض في مفاوضات كامب ديفيد التنازل عن جزء من القدس وعاد منها الى فلسطين لتبدأ الانتفاضة الثانية، وكل هذا لم يمنع احمد قريع المفاوض الفلسطيني من القول لليفني التي كانت تحضر للمفاوضات ولحزبها “كاديما” انه سيصوت لها، هذا ان كان له صوت في الانتخابات الاسرائيلية. لم يكن امام الوفد الفلسطيني او في يده شيء، فإصراره كما قالت كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية الامريكية السابقة على المطالبة بتفكيك معاليه ادوميم التي اقيمت على جبل ابو غنيم وارييل او شملهما في الدولة الفلسطينية يعني انه لن يحصل الفلسطينيون على دولة. وإذا كان الوفد مستعدا للتفاوض حول القدس والقبول بحل مهين لا يمنح السيادة عليها وعلى الحرم الشريف فانه كان كريما ومضيافا في القضية الكبرى وهي “حق العودة” وهو جوهر القضية الفلسطينيين وكل الثورات الفلسطينية المتواصلة هي من اجل تحقيق العودة التي ضمنتها كل القوانين الدولية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 . ففي اتفاق اوسلو جرى تأجيل التفاوض حول حق العودة الى المراحل النهائية من الحل. وترى كرمي ان حلا نهائيا يعترف باسرائيل كدولة لليهود هو مناقض لحق العودة، ومع ان الخطة السعودية للحل والتي تقدمت بها في قمة بيروت عام 2002 تركت الحل غامضا حيث قالت انها تحل ضمن القانون الدولي، إلا فريق التفاوض كما قلنا كانت لديه فكرة اخرى حيث تكشف الاوراق في محادثات بين ليفني ورئيس الوزراء ايهود اولمرت بين عامي 2007 -2008 ومع المبعوث الامريكي جورج ميتشل عام 2009 ان الوفد المفاوض قال ان 10 ألاف لاجيء فلسطيني وعائلاتهم يمكنهم العودة الى فلسطين ضمن الحل النهائي. فقد اخبر عريقات ميتشل انه فيما يتعلق باللاجئين فالحل “موجود”.
هوية اسرائيل
في الجانب المقابل فان المفاوض الاسرائيلي تمسك بهوية اسرائيل على انها دولة كل اليهود بل واقترح عملية تبادل نقل مواطني -1948 الى الاراضي الفلسطينية، ولم يعارض عريقات فكرة ان تطلق اسرائيل على نفسها “دولة يهودية” حيث تحدث الى ليفني عام 2009 ان يهودية اسرائيل “ليست موضوعا للنقاش”. وفي هذا الجو من الاستعداد فلم يكن من المستغرب ان تقترح رايس عام 2008 فكرة نقل الفلسطينيين من المخيمات الى كل من الارجنتين والتشيلي. وتقول كرمي انه التنازلات وان كانت تمثل خيانة للشعب الفلسطيني الا انه يجب ان توضع في سياقها التاريخي وفي ضوء الاحداث الفلسطينية الداخلية وفوز حركة حماس في الانتخابات عام 2006. فقد اكدت ادارة اوباما انها لا تريد ان تتعامل إلا مع الوجوه في السلطة حسبما قيل لرئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض من اجل ان تواصل دعمها المالي للسلطة الوطنية. ومن هنا تشير الى مسألة التمثيل الفلسطيني، رئاسة عباس والانتخابات الفلسطينية والتدخل الامريكي في هذا السياق لتكريس القيادة الفلسطينية لكي تفاوض عن العشرة ملايين فلسطيني، وحتى الفلسطينيين في داخل الضفة وغزة وأدت سيطرة حماس على القطاع عام 2007 الى استبعاد غزة من المفاوضات. وظلت السلطة وقيادتها مستعدة للتنازل مقابل انجازات غير موجودة. وفي ضوء عجز الادارة الامريكية التي اعلنت في بداية حكمها انها ستجعل من القضية الفلسطينية عن اقناع الحكومة الاسرائيلية بتقديم تنازلات ولو على مجمع سكني استيطاني وشكوى المفاوضين الفلسطينيين من نتنياهو الرافض للحديث معهم علاوة على الجلوس معهم على طاولة المفاوضات فان الاوراق الفلسطينية تمثل صورة العجز الفلسطيني امام مفاوض لا يريد التنازل عن اي شيء فيما كان المفاوض الفلسطيني مستعدا للتنازل عن كل شيء ان اقتضى الامر من اجل التوصل لصفقة لا تضر بمصالح الفلسطينيينا العليا وبل وتقضي على حقهم في فلسطين بالعودة وتقرير المصير. الاوراق الفلسطينية وان لم تكن “مفاجأة” للفلسطينيين لأنهم يعرفون عجز قيادتهم عن انجاز اي شيء في مفاوضات كان من المفترض ان تستمر لست سنوات بعد اوسلو ولكنها امتدت لأكثر من عقدين تقريبا، وهم يعرفون اي الفلسطينيين ان “السلطة” لا تملك قرارها، وعاجزة، كما يعرفون ان المفاوضات او ما العملية السلمية انتهت على الرغم من الحديث عن اعادة إحيائها وما يهم في الامر انهم على الرغم من علمهم بهذا فإنهم شعروا بالدهشة للمستوى الذي ذهبت فيه مجموعة المفاوضين لتقديم تنازلات. وتقول كرمي ان الربيع العربي الذي اطاح برؤوس وأنظمة لم يمنع من خروج اوراق اخرى للعلن وتحليلها، وتشير الى ان استقالة عريقات ككبير للمفاوضين لم تكن إلا حركة هامشية، حيث عبر عن غضبه من التسريبات وقال انها محاولة من سي اي ايه للإطاحة بالسلطة الوطنية.
تحيز الادارة
وتشير كرمي الى ان الرد من السلطة على الاوراق كان حل دائرة التفاوض بمن فيها من الخبراء والمحامين ورجال القانون تماما مثلما تصرفت وزارة الخارجية الامريكية عندما اقالت فريقها ردا على التسريبات الهائلة من وثائق السفراء التي كشف عنها موقع “ويكيليكس”. وتضيف انها اجرت مئات المقابلات وقضت مئات الساعات وهي تقرأ وثائق كامب ديفيد من اجل اعداد كتابها “حقيقة كامب ديفيد” لكنها لم تكن تتوقع ان تطلع على ما كشفته الوثائق من حقائق مهولة. وتقول ان هذه التسريبات التي نشرتها “الغارديان” وبثتها قناة الجزيرة القطرية لا ثبت بشكل قاطع تحيز الادارة الامريكية الذي بدا في كل ورقة بل الحالة المثيرة للشفقة للسلطة الوطنية التي كانت مستعدة لتقديم اي شيء من اجل اثبات نفسها على انها مفاوض شريك في المحادثات بعد فشل كامب ديفيد وهجمات ايلول (سبتمبر) 2001 والتحيز والمشاعر المعادية للعرب والمسلمين. كما ان الاوراق تظهر انه لا الغرب ولا اسرائيل يهمهم الدولة الفلسطينية وأنهم لن يرضوا بأي تنازل إلا التنازل الكامل عن الحقوق الفلسطينية. يقدم الكتاب الوثائق في الجزء الثاني وهي المتوفرة في نسخة “بي دي اف” على موقع الجزيرة. والمفيد في التحليل وهو الذي يغطي الجزء الاول من الكتاب انه يحاول وضعها في سياقها السياسي المحلي الاسرائيلي فمثلا موضوع القدس والحرم الشريف طرحا في اكثر من 280 لقاء ثنائي، وهذا متعلق بان حكومة الائتلاف الاسرائيلية المكونة من حزب شاس الديني طلبت عدم مناقشة موضوع القدس وهدد بالانسحاب من الحكومة وعليه فان وفد اسرائيل المفاوض لم يكن مسموحا له بالتفاوض، مما دعا احد المفاوضين الى القول في اجتماع في 2 تموز (يوليو) 2008 للقول “ لماذا يظل طرفكم يذكر القدس، إلا يوجد هناك اتفاق بين القيادتين بهذا الشأن” اي عدم التطرق للموضوع، مما يعني ان الطرف الاسرائيلي لم يكن مسموحا له او في وضع لمناقشة مستقبل القدس. وعلى الرغم من ذلك فان السلطة او وفدها مضوا قدما واعدوا اقتراحاهم حول هذا الموضوع والذي تضمن التنازلات التي نعرفها، فقد قال قريع “القدس هي جزء من اراضي عام 1967 ويمكننا ان نناقش ونتفق على عدد من القضايا المتعلقة بها: دينية وبنية تحتية وعمل البلديات وقضايا اقتصادية وقضايا امنية والمستوطنات”. وبنفس السياق يتحدث المفاوضون الفلسطينيون عن الحدود حيث يقترحون ان اسرائيل يمكنها ان تضم كل مستوطنات القدس ولكن باستثناء جبل ابو غنيم “حار هوما” “ وهذه اول مرة في التاريخ نقدم لكم تنازلا مثل هذا منذ كامب ديفيد”. وما اكثر التنازلات التي احتوت عليها الوثائق وسجلتها المواقف. وفي بلد تغمره المستوطنات ويتغول فيه المستوطنون فان الاوراق تذكرنا بالثمن الذي يدفعه طرف لا يعرف كيف يفاوض نيابة عن شعبه ويتمسك بحقه ويرفض الاذعان.
Confidential The Palestine Papers: The End of The Road Clayton E. Swisher. Introduction by Dr Ghada Karmi. Hesperus/ 2011
ناقد من أسرة “القدس العربي”