(أ)
«ألا إنّ أهل الليل أهل تنزُّلٍ وأهـل معاريجٍ وأهـل تنـقّلِ
فمن صاعدٍ نحو المُقام بهمّةٍ ومن نازلٍ يبغي اللّحوق بأسفلِ
بحكم التداني والتّدلّي هُما وعن وجود الترقي والتلقي بمعزلِ
فإن قلت فيهم إنّهم خير عُصبةٍ صدقت فقد حلّوا بأكرمِ منزلِ
وإن قُلت فيهم إنهم شرُّ فتيةٍ صدقت فليسوا بالنبيّ ولا الولي
فهمْ لا هُمو ليسوا بهم وبغيرهم ولكنّهم في معقلٍ مُتزلزلِ
عزيزُ الحِمى بين المشاهد والنهى وبين جنوبٍ في الهبوب وشمألِ
فما منهموا إلاّ إمامٌ مسوّد إذا أصبحوا نالوا المُنى بالتّأمُّلِ
لهم نظرةٌ لا يعرف الغيرُ حُكمها لهم سطوةٌ في كُلّ تاجٍ مكلّلِ
(....) إنّ الله جعل الليل لأهله مثل الغيب لنفسه، فكما لا يشهد أحد فِعل الله في خلقه الغيب الذي أرسله دونهم، كذلك لايشهد أحدٌ فِعل أهل الليل مع الله في عبادتهم لحجاب ظلمة الليل التي أرسلها الله دونهم. فهم خير عُصبةٍ في حقّ الله، وهم شرّ فتيةٍ في حقّ أنفسهم!»
محي الدِّين إبن عربي (الفتوحات المكيّة)
***
«ربّما لم أعِش حياتي فقط، ربّما عشتُ حياة الآخرين أيضاً»
بابلو نيرودا (المذكّرات)
(ب)
إستدلال
ماالذي يستهوي في إستنطاق الذاكرة بكتابة المذكرات؟
إذا كنّا نستطيع أن نفهم إنساناً يُراهن بهذا العمل على إستبقاء الأثر ليُبرهن حضوراً في الوجود قبل حلول الغروب، فهل نستطيع أن نفهم سرّ هوس المحترفين (سيّما الروائيّين) بخوض هذه التجربة وهم منْ حفر بنزيف الروح السيرة الدنيوية في المتن؟
وإذا كانت التجربة الإبداعية في الأساس سفرٌ مُميتٌ لتورية التجربة الدنيويّة في بُعدها الذاتي، أفلا تبدو الإعترافات عملاً مضادّاً بكلّ معنى الكلمة: أي كفاحٌ مميتٌ أيضاً لإسترداد السيرة من إغترابها بمحاولة تحريرها من ستور التورية، أي من روح الإستعارة، وعرضها أمام الملأ عارية؟
بلى! الإبداع تورية، أو تغييبٌ للتّجربة بقدر ما يبدو الإعتراف تصريحاً. أي أن الرحلة بجملتها لعبة بين الحرف وظلّ الحرف، أو لعبة بين المبدأ الوقتيّ الذي يُرى، وقرينه الأبديّ المغمور في الغيوب الذي يؤكّد حضوراً برغم إحتجابه بستور البعد المفقود.
الإبداع، إذاً، إعترافٌ آخر إرتحل بمتون الإستعارة ليسكن المنافي. بالمقابل يبدو إستجواب الذاكرة عراكاً مع سلطان النسيان لإستكشاف حقيقة الحرف، ولكنه إستبسالٌ لإسترداد الغنيمة من براثن المجاز إستكمالاً لشروط الصفقة التي لا تعترف بكمال الحضور في الوجود ما لم تكتمل وحدة الضدّين الخالدين: الروح والجسد؛ لأن المبدع إذا كانت رسالته أن يُخفي، فإن رسالة المفكّر أن يُظهر بوصفه البطل في سيرورة الإستجواب.
وإذا كان الإبداع رحلة لإستجلاء الحقيقة: حقيقة إغترابنا في هذا الوجود (لأنّنا كلّنا بغياب الألوهة غُرباء)، فإنّ شهيّتنا لإستكشاف طبيعة هذا الإحساس التراجيدي سوف تتأجّج، سيّما إذا كان هذا إغتراب بسجيّة مركّبة. فإلى جانب الإغتراب الوجوديّ كإنسان، هناك خصوصيّة الإغتراب عن الهوية الثقافية بسبب الإنتماء إلى أقليّة عرقية. وإغتراب آخر قهريّ تمثّل في هجرة قسريّة عن مسقط الرأس وأرجوحة التكوين (الصحراء) ليتواصل هذا الإغتراب في إغتراب أشمل تمثّل في الخروج من الوطن الأمّ لتصير الإقامة في الإغتراب هي وطن مريد البيان، لأن ماهي إرادة البيان أساساً إن لم تكن ضرباً من إرادةٍ لإغتراب؟
الإبداع، إذا، ليس تعبيراً عن إغتراب، ولكنّه إرادة إغتراب؛ لأننا لا نُفلح عادةً في التعبير عن شيء لم نُرِده كثيراً،، لم نعشقه كثيراً. بل قوّة تعبيرنا عنه رهينة مدى حبّنا له. فلماذا نهوى الإغتراب برغم يقيننا من مأساويّة هذا الهوى؟ نهوى الإغتراب لأن الإغتراب حرّية! ولا تتغنّى المتون (بما فيها المتون المقدّسة) بالإغتراب إلاّ إدراكاً لحقيقته كحميمٍ لهذه الهِبة الإلهيّة: الحريّة!
فلماذا يأمرنا النصّ المقدّس بضرورة إستضافة الغرباء؟ هل لأنّنا نستضيف في الغرباء ملائكةً دون أن نعلم كما تقول الوصيّة الدينيّة؟
ولماذا الغرباء دون الناس جميعاً؟
الغرباء ملائكة لأنهم وحدهم ملّة حريّة، لأنّ حضورهم في البُعد المفقود أقوى من حضورهم في بعد الوجود.
وإذا كنّا قد حاولنا رصد الحضور في البُعْد المفقود من خلال عشرات الأعمال الإستعاريّة الصادرة حتّى الآن، أفلا يحقّ لنا أخيراً أن نشهد رصد الحضور في بُعْد الوجود بتأمُّل الرحلة من هذا الجانب أيضاً؟ لأنّ ما هي دنيانا إن لم تكن متاهة إغترابٍ كلٌّ منّا فيها عَدوس سُرَى؟
القسْم الأوّل
الشّاة المائة
«إذا كان لإنسانٍ مائة خروفٍ وضلّ واحدٌ منها، أفلا يترُك التّسعة والتسعيىن على الجبال ويذهب يطلب الضّال؟ وإن اتّفق أن يجده فالحقّ أقولُ لكم أنّه يفرح به أكثر من التسعة والتسعين التي لم تضل.»
إنجيل متّى (18:12،13)
1 ـ الهباء
الإنطباع الذي خلّفه في وجداني ذلك المشهد إخترقني عميقاً كوحيٍ مجهولٍ ولم أتخيّل يومها أنه سيصير سرّ تكويني الروحي؛ مشهدٌ شحيح ٌ. مشهدٌ لم يكن ليعني شيئا على الإطلاق. مشهدٌ تخفّت حجّته فيما يبدو من هذه اللّاشيئية، أو في هذا اللّا معنى، كما حاولتُ أن أفكّك طلسمه بعد ذلك التاريخ، من نهاية خمسينيّات القرن العشرين، بعد أن تلقيت في قلبي كمّاً كافياً من طعنات هذا المعشوق الغادر الذي لم يخطيء مَن خلع عليه إسم الدُّنيا.
المشهد كان هبّةً في الطبيعة البادية. راكبان خرجا من الواحة إلى صحراء الجوار، يمتطيان دابّتين أسطوريّتين (أسطوريتين بعقلٍ يراهُما أناسه بهيمتين لا تنتميان إلى هذا الزمان). في المدى تتقاطع السّيوف الرملية التي تبدو من فرط بكارتها كأنّها خُلقت للتوّ. تتشبّث بأحاضيضها بعض النبوت البريّة ذات الروح البطوليّة في مقاومة جدب الدّهور. وفجأة تنطلق الأنفاس. تنطلق الأنفاس من نزول الغشاوة التي تسبق حلول الغروب. تهبُّ الهبّة. تهبُّ الهبّة لتغمر المدى بالهباء. تتسلق السيوف الرملية بفتنة. تُهدهد الغضون الملتوية المرسومة على جسد الوعوثة في خطوطٍ متوازيةٍ، كأنّها عُروقٌ من معدن الذهب، لتستعير من مخزونها نصيباً من زاد؛ لأن حضورها في هبّة الهباء رهينة الزاد. لأن بدن ذلك الهباء اللّعوب (الذي لا يلتئم في ذلك الجرم الهشّ حتّى يتحلل ويتهلهل وينجلي كأنّه الوهم) ماهو إلا صنيعٌ مستعارٌ من ذاك الزّاد. من تلك الذرّات التي تستلقي في الحضيض نسيجاً فاتناً من رمل. في الوهلة التالية تتوثّق متون الحلف في الثالوث الذي أبدع الإنطباع الذي لا يُنسى. صرامة المدى، وكآبة الغروب، وفتنة الهباء المجبولة بالغموض.
إنها وحدة الهويّة بين لانهائية الفراغ، وعماء العتمة، ووحي الهباء. وحدة ٌيعجز وعي إبن العاشرة أن يُدركها وعياً، ولكنه يستطيع أن يحياها حَدَساً. هذا الحَدَس الذي ما لبث أن تحوّل، في وجدان إنسانٍ مازال يتماهى مع الطبيعة، وسوسةً، بل هاجساً.
فأبديّة البادية توقظ إحساساً قاسياً بالضّياع، ولون الظلمة التي تُهيمن على الإمتداد الخالد تُحيي لهفةً للإستكشاف، وسيرة الهباء بفتنته المجبولة بذلك القدر السخيّ والملهم من الغموض تورث نزيفاً مميتاً لأنها رطانةٌ تُترجم رسالة العدم! ضياعٌ، وحمّى فضول، وعدمْ. ألن تكفي أركان هذا الثالوث في صفقتها الوجودية بتشييد صرح اللّعنة (لعنة الهَوَس المقبل المسربل بشهوة البحث عن.. عن ماذا؟ هل نُخطيء إذا قلنا إنّه لن يعني في النّهاية سوى شهوة البحث عن الله؟).
ولكن تحقيق حُلم الخروج يستوجب العدّة. ولا وجود بين يديّ المريد هنا سوى هذه الأشباح التي تُثقل كاهل الصحراء، وتتحجّب باللثام كأنها تتحمّم بفيوض الإستسرار تيمُّناً بالغاية القصوى المتمثّلة في الألوهة. ناموس اللعبة يقتضي، إذاً، أن أتسلّح بإغتراب هؤلاء، وبضياع هؤلاء، وبروح هؤلاء العدميّة التي لا ترى في حضورها في هذه القارّة الخاوية اللّانهائية سوى خيالاتٍ عابرةٍ إلى حدٍّ رأت فيه أيّ فعلٍ عملاً من قبيل العدم حتى صار لها يقين اللاّجدوى المبدأ الأقدس المعبّر عن حقيقة دُنيا هُم فيها عنوان شقاء، لأنهم أمّةٌ أبتُليت بالضّياع ثلاثاً: وطنٌ ضائعٌ؛ لأنّ الصحراء لم تكن يوما لإنسانٍ وطناً؛ وهويةٌ ضائعةٌ لأنهم أسطورة تتردّد علّى الألسُن، ولكنها لم تدوّن لنفسها تاريخاً؛ وكتابٌ مقدّسٌ ضائع هو " آنهي" ليقينهم أيضا بأن الإنسان لن يكون جديراً بحمل لقب إنسان إذا أضاع كتابه المقدس!
فهل تصلح أمّة الضياع رسولاً للتعبير عن شهوة مريدٍ مجبولٍ بالضياع غير رسالة الضياع؟
2. التِّيْه
تلك كانت تجربة الضياع الممهور بأنفاس الروح التي تُحيي، في مقابل ضياعٍ ممهورٍ بإمضاء الحرف الذي يُميت قُدّر لي أن أعيشه قبل ذلك التاريخ بأعوام، أي في الزمن الذي سبق الخروج من الصحراء والنزول إلى أحاضيض الواحة في الجنوب. ففي الأرجوحة التي ترتفع عن سطح الأرض بألف متر المتمثلة في صحراء الشمال الملقّبة في لغة القوم بإسم «تينغرت»، والمعروفة في لسان القبائل المجاورة بإسم "الحمادة الحمراء"، جاء اليوم الذي كان عليّ فيه أن أبرهن على إنتمائي إلى هويّة أهل الصحراء بالخضوع لتلك التجربة التي خاضها الأنبياء: رعي الشاة! كأنّ إتقان رعي الرسالة عملٌ رهينٌ بإجادة رعي هذه المخلوقات الشقيّة، فما كان منّي إلّا أن أطعمتها للذئاب لأقدم الدليل على عدم أهليّتي لهذا العمل الجسيم: الرّعي! وهو إخفاقٌ لم يكن ليمُرّ من دون قصاصٍ بالطبع، لأنّ استهتاري بالإمتحان قادني إلى التيه. تيهٌ كان من شأنه أن يُعمّق الإحساس بالضياع في وجدان إبن الخامسة الهشّ. والحقيقة أنّي لم أكن لأتخلى عن المخلوقات الشقية لو لم أيأس في العثور على السبيل إلى المضارب. لأنّ ما جدوى الإحتفاظ بالقطيع إذا كان صاحب القطيع قد فقد الأمل في الخلاص؟ ألن يكون ما فعلته في ذلك اليوم ما هو إلا إستجابةً فطريّةً للوصيّة القدسية القائلة بلا جدوى أن نكسب العالم إذا كنّا قد خسرنا أنفسنا؟
لن أنسى حُلول غسق ذلك اليوم من شتاء ذلك العام. هل لهويّة الغروب المسكونة بالجنّ وأرواح الأسلاف في مُعتقدات القوم الباعثة على الخوف من المجهول الزاحف في أعطاف الظلمات دور؟ أمْ لأنّ ذلك الوقت المُهيب حفر في قيعان الروح الجرح الناتج عن هزيمة ذاتٍ دلالةٍ عميقةٍ لأنها البُرهان على القطيعة مع دنيا الصحراء؟
قُبيل المغيب أدرتُ ظهري لرعيّتي ويمّمتُ صوب قدري. يمّمتُ صوب القرص الزائل واستسلمتُ لقدري. تعلّقت بالجُرم الوحيد الذي إمتلك حضوراً حقيقياً في تلك المتاهة الخُرافية الخالية. ومن لمْ تطأ قدمه تلك القارّة الرهيبة هيهات أن يتخيّل هول الإحساس الذي سيستولي عليه فيما إذا وجد نفسه في أحضانها وحيداً بلا زادٍ، بلا ماء، بلا دليل! إنّه موقف الحضور في العدم. إنه الحضور في الموت برغم الإحتفاظ بأنفاس النزع الأخير. إنّها التجربة المُميتة التي ليس على من جرّبها أن يخشى الموت، لأن ليس للإنسانٍ إن يموت مرّتين ما لم يولد مرّتين. ففضاء «تينغرت» ليس خلاءً، ولكنّه خواء. خواءٌ ينطلق إلى كُلّ الأركان فلا يعترض الرُّؤية في رحابه سوى السّماء العارية اللاّمُبالية في الأعالي أمّا في الأسافل فلا وجود لغير أفقٍ صارمٍ، لا يرحم، يُهيمن على الدنيا مزموماً، عبوساً، مفروشاً بالحجارة المطروحة على رقعةِ إستواءٍ أبديّة.
وكي يكتمل مشهد المتاهة حقّا لابُدّ أن ينتصب الصّمت شاهداً. صمتٌ ليس كصمت الأمكنة، ولكنه صمت اللاّمكان الذي يغزو السّمع بالصّخب. صخب ٌينجم عن فرط الصمت، برغم أن القوم يقولون أنه لغو الأرواح وهمس أهل الخفاء الذين كانوا أمّة الصحراء قبل أن تنزلها القبائل ففرّوا ليتواروا عن الأنظار. قبل أن يبتلع قوس الأفق القرص الدامي إهتديتُ إلى الأثر: كان خفّ البعير مطبوعاً على سجّاد الحصباء بوضوح. كان طازجاً أيضاً، متّجهاً صوب الغرب، فتشبّثتُ به. لزمتُ الأثر كأنه طوق النجاة. كان التشبُّث بأثر الخفّ المرسوم على الأرض إستجابةً لهاجسٍ غامض. بل تلبية ً لنداء غريزة لأني لم أدرك صواب فعلي إلا فيما بعد؛ كما لم أفلح في تأويله التأويل الصحيح إلا بعد أن إجتزتُ مفازاتٍ كثيرة، وعشتُ في دُنياي أهوالاً جسيمة.
ولكن هاهي الظلمة تتمادى، وصقيع الشتاء الصحراوي يعلن عن نفسه، لأنّ سوء الحظّ أبى إلاّ أن يبتليني بالتِّيه في فصْل الشتاء، ولم يكتفِ بهذا القصاص، ولكنّهُ ثنّى عامداً فجرّد ليلي من القمر أيضاً، كأنّ الثالوث الذي رأيتُه تالياً كنبوءة كان في عنقي قدراً منذ التكوين: التّيه هويةً، والإسراء ليلاً، والسّعي في وطن محبوكٍ من عدم!
لم أتخيّل بالطبع أن عَدُوسَ السُّرَى الذي تلقّفني في تجربة ذلك التاريخ البعيد سيكون لي المصير الذي سيتلبّسُني طوال تلك الرحلة التي لم تكُن سيرة بقدر ما كانت تخبُّطاً موجعاً في ظلمات ليلٍ بهيمٍ، تُكشكش في دروبه الأفاعي، ويعلو في فضائه صليل أنصال الأعادي! مع هبوط الليل وتسلّط الصقيع فقط إكتشفتُ إنّي عارٍ إلاّ من ذلك الثوب البائس الفضفاض الذي لا يكاد يستُر البدن فكيف يقي من جليد "تينغرت" الذائع الصّيت إذا كان لا يستر كامل الجسد؟ لقد أيقنتُ الآن أنّ البرد الذي ينام في نُخاع عظام هذا الجسد الذي أعجزتني في مُداواته الحيلة والوسيلة ليس من صنيع جليد الإقامة في روسيا، أو بولونيا، أو ثلوج جبال الألب، بقدر ما كان صنيع جليد الحمادة، بل صنيع جليد التّيه في تلك الليلة.
هجعتُ في العراء العاري بعد إكتمال هيمنة الظلمة. إفترشتُ اليابسة المفروشة بطبقةٍ طينيةٍ شرسة تتلحّف بجلدة مُلفّقة من صفوف حجارةٍ مستوية، لأن الإستواء ناموس أرض صحراء الشمال التي لا تخون سجيّتها أبداً فأعارت خصلة الإستواء حجارتها أيضا. هجعتُ على الفرشة الحجرية مُتّخذاً من ذراعي العارية من الكُمّ وسادةً. لسعتْني الحجارة بحُمّة الصقيع، ولكني تجلّدت. تطلّعتُ إلى السماء فإذا بها تزدهرُ بالنجوم كأنّها بالوميض في محفل، غير آبهة بمحنة المخلوق الضئيل الذي يهجع في الحضيض وحيداً، عاجزاً، أعزلاً. بلى! كان الإحساس بالعُزلة هو الكنز الذي إختزلْته من تلك التجربة ليكون حجر الزاوية في كيان الثالوث. أقول إنه كنزٌ لأنه القدر الوحيد الذي لا يخذل. أقول الكنز لأنّ من غلغل النظر في العزلة فتغلغلتْ فيه العزلة وحدهُ لايُهزم. يحدث هذا رُبّما بسبب سوء التقدير. فالمُعتزل الذي يحسبه الأغيار معتزلاً ليس مُعتزلاً كما يتبدّى. صاحب العزلة لا يصيرُ صاحب عُزلةٍ ما لم يُحقّق التّماهي مع الطبيعة، ويغترب عن نفسه ليستعيد حضوره في الكون. في هذا البُعد لا يعودُ وحيداً، لأنّ البرزخ ينقشع فيسكن الأرباب التي نراها مجهولةً فتسكنه الأرباب. ولهذا لا يستحي المعتزل في أن يتكلم في عزلته بصوتٍ عالٍ لأنّه لا يُكلّم نفسه على طريقة المجانين، ولكنه يُخاطب آلهةً!
فهل يخاف، أو يعرف البلبال، أو يجبُن من يُسامر آلهةً؟ لقد سامرتُ آلهتي أيضاً في تلك الليلة. كمْ تبدو النّجوم حميمةً عندما ننقطع! كم يبدو الليل رحيماً عندما نُسلّم له زمام الأمر ونفكّ الإرتباط بالدنيا! كم نبدو سُعداء عندما نفقد الأمل! كم نبدو أربابا ًعندما نطرح أنفُسنا كقرابين تُعادي الخلاص وتعبُدُ يأساً! لقد شهدتُ ميلادي في تلك الليلة، لأنّ الميلاد، على ما يبدو، ليس أن ننبثق من بطون الأمّهات، ولكن أن نعود إلى بطن أُمّ الأُمّهات. أن نختفي في جوف الطبيعة، لكي نولد حقاً في الحقيقة. لقد إغتربتْ فيّ، في تلك الليلة، الصِّلات التي شدّتني إلى كُلّ شيء وحسبتُ كل ذلك ضرورة لا غنى عنها. لقد عشتُ موتاً حقيقياً لأشهد ميلاداً برهن لي أن الغياب ليس شرّاً. كنتُ أغفو حيناً وأستيقظ حيناً. تبدّد الخوف من الذئاب أو الضّباع أو السّعالي. تبدّد الخوف من المخلوقات التي صوّرتْها أساطيرُ الأُمّهات شرّ تصوير لأنّ رؤيتها قرينةٌ للموت وهي الجنّ! تبدّد الإحساس بالصّقيع الصحراوي اللئيم الذي يتسلّل من الأسفل، من اليبوسة، عَبَر الحجارة، ليسري في الجسد سريان السُّمّ على نحوٍ يفوق بما لا يُقاس قسوته التي تنهال من أعلى. فهل هذا هو ما يُسمّيه القوم غياباً، موتاً، نهايةً، أم أنه الحضور في الصحراء؟ أليس محو العار بطولة؟ أوَ ليست البطولة هي الحياة؟ في الصباح، مع قبس الفجر، وجدتُ عندما أفقتُ أن الأرض كانت مكسوّة بطبقةٍ ناصعةٍ كأنّها الكفن قيل لي تالياً أنّها الجليد. جليدٌ تجود به طبيعة الصحراء الجبليّة من شدّة الصقيع لأوّل مرّة في ذلك العام، بل ومنذ أعوام كما روى الأهل فيما بعد وهم يتعجّبون كيف أمكنني أن أنجو بطشه في ليلة الضياع تلك.
في الصباح إنطلقتُ مبكراً. لزمت أثر الخفّ المُتّجه غرباً. كُنتُ حافياً بالطبع، ولكني خطوت على الأرض الملفوفة بالجليد بخفّةٍ صالباً يديّ وراء ظهري كما إعتدت أن أفعل كلّما إنطلقتُ في الصحراء. كانت قدماي في البدء داميتين بسبب حزيز الحجارة، ولكن النزيف لم يكُن ليُعيقني لأنّي فقدتُ الإحساس بهما منذ الأمس. ما عاقني في مسير الصباح هو الجمود. لقد أضطررتُ أن أزحف على يديّ وركبتيّ مسافة طويلة قبل أن أحتال لإستخدامهما. أمّا الإنطلاق الحقيقي في سبيل الأثر فلم يبدأ إلاّ بعد أن بدّدتْ أشعة الشروق فلول الجليد.
سرتُ النهار كاملاً. سرتُ بلا إنقطاع. سرتُ بلا أمل في النجاة. سرتُ يقودني الحدَس المتشبّث بتلابيب الأثر. سرتُ بروحٍ لا مبالية لأن الطبيعة لا تخشى الضياع، ولا تخشى العزلة، ولا تخشى الفناء، وأنا منذ تلك الليلة صرتُ طبيعةً. لم أصبح جزءً من الطبيعة، ولكني الطبيعة! ألهذه العلّة لم أستشعر عطشاً ولا جوعاً؟ مع حلول العشيّ، واقتراب طقوس المغيب، تبدّت في الأفق سيماء سواد. بعد مسافةٍ أخرى تبيّن في السواد رؤوس أشجار النخيل. إنّها الواحة إذاً! كان نبأ ضياع الوليد قد طار ليبلغ أسماع أهل الواحة بالطبع كما يحدُث دائماً مع الأنباء في الصحراء التي يُقال أنّها تطير من الريح بجناحين وليس البشر من ينقلها. وأذكر أن الأب قال لي عندما أقبل ليُعيدني إلى المضارب: «ما كان يجب أن تقتفي أثر البعير في إتّجاه الغرب، بل كان يجب أن تقتفي الأثر عكساً. هل نسيت أن البعير الذي سعيت في أثره هو بعير الرجل الذي نزل على مضاربنا ضيفاً منذ أيام؟».
ومازلتُ أتسائل عمّا إذا أصاب الأب في ذلك اليوم. لقد نسي الأب أنّ دليلي في رحلتي هو الحدَس، في حين إحتكم هو في وصيّته بالمنطق. الحدس أقوى من المنطق، لأن منطق الطبيعة يقول أن البعير يتّجه في سعيه دوماً إلى المكان حيث توجد المياه، ويهجر دوماً المكان المهدّد بغياب المياه. لقد حكّمتُ في تيهي قريني البعير، لأنه طبيعة أيضاً مثلي؛ ولم يخذلني!
3. العلامة
ويبدو أن القَدَر (العليم بسرّ الصفقة المُبرمة بين الروح والجسد) لم يكُن ليقنع ببصمة الروح التي إحتفرها في وجدان عَدُوس السُّرَى بتجربة التيه، فاستعان بأجناد الخفاء لوسم البدن أيضاً بالعلامة لئلّا يقتله كل من وجده تيمُّنا بسيرة إمام الخُطاة الشقيّ قابيل. ففي أُمّةٍ يؤمن أبناؤها بهويّتهم كأطيافٍ نزلوا أضيافاً على هذه الصحراء الخاوية لابدّ أن يصير المساس بأيّ ركنٍ في طبيعة هذه المتاهة المضيافة إثماً يستدعي القصاص، لأنها مسكونة بالروح الخفيّة التي تتجلّى في الأشباح التي يروق لها أن تتنكّر لطبيعتها فتستظهر حيناً، أو تستجيب لسليقتهاً حينا آخر فتتستّر. هؤلاء هُم روح الصحراء وأهلها بالتكوين الذين يُطلق عليهم أهلها العابرون إسم: «كيل أسوف» أي «أهل الخلاء»، لأنهم خالدون فيها أبداً في مقابل الأضياف الحاملين للهويّة الوقتيّة: هويّة الفناء!
في هيمنة يقينِ كهذا يصبح لمس أي شيء في المحيط البيئي عملاً مجبولاً بالخطر، بل وسبباً للتّهلكة إذا تجاوز الأمر اللمس وبلغ تخوم العبث كإتلاف أعشاش الطير، أو كسر بيوض مخلوقات البرّ، أو إستئصال النّبوت، أو إقتناص الأنعام دون جوع. ويبلغ التحريم حدوده القصوى في حال الإستهتار بدمن الأوائل كآثار دماء سُفحت غيلةً أوحرباً، أو الإستهانة برمادٍ تخلّف عن النجوع الغابرة، أو إنتهاك أحشاء شعلةٍ قدسيّة كالنار بمعدنِ نجسِ كالحديد؛ لأنها كلها بقاع مسكونة بروح أهل الصحراء الشرعيين. وقد خصّتني الأقدار بوطن الدّم لحكمةٍ لا أدريها. فها هي الأُمّ تخرج لإستجلاب الحطب فتتركني في عهدة جارتها خوفاً على شخصي الشقيّ من معشوقي التّيه، ولكنّي عرفتُ كيف أستغفل الجارة لأنطلق في طلب الأُمّ، وعندما يئستُ من العثور عليها هجعتُ مستظلاّ بأرومة أثلةٍ ليغلبني النعاس. هناك، كما يُروى، عرفتْ روح الصحراء (أو روح أهل الصحراء) الطريق إلى قلبي، أو بالأصحّ، إلى جسدي، لتُصيب القدم بالخلل الذي كان نتيجة مرضٍ توّجتهُ غيبوبة دامت أياما؛ كأنّ ضربة التّيه التي أخذت على عاتقها إحياء الروح لم تكن لتكفي لترويض المسّ فجاءت ضربة الحرف لتطبع القدم بالعلامة إستكمالا لمشروع الإطاحةِ بسُلطان الجسد الذي يُميت!
في معجم الطبّ الدنيوي يُسمّون هذا العطب «شللاً». فإذا إعترض علم المنطق قائلا أن الشلل مفهومٌ يشترط العجز الكامل، إحتال لسان الطبّ البشري بإضافة صفة غامضة لكلمة "شلل" على سبيل الإيضاح هي: "جزئيّ"!
ولكن ناموس العلامة يستوقفنا لأن التجربة برهنت على حقيقته كوصمةِ قصاصٍ لا كتتويجِ ترفٍ أو شعار إمتياز بالمقياس الدنيوي. فإذا كانت كل تجربة رسالية رهينة تأديب (كما تؤكّد الوصايا القدسيّة) فإن مبدأ التأديب هو رهين الأدب من بابٍ أولى. رهين الأدب لأنّ الأدب تأدّب بالمعنى الإقتصاصي أو الإيلامي من جانب، وتألّق بالمدلول الأخلاقي من جانبٍ ثانٍ. والعربية هي اللغة الوحيدة التي إستطاعت أن تعبّر عن جوهر هذه المغامرة فتحشر قطبيها القرينين (الجمالي والأخلاقي) في كلمةٍ واحدة. وهو جمعٌ مبرّر إذا تأمّلنا الأعجوبة الإبداعية في بُعْدها الرّسالي التي لا تستقيم في إنجازٍ عظيمٍ ما لم تحترق بجحيم ألمٍ عظيم. فصاحب الإبداع يلعب دور عرّافة معبد دلفى التي تستجدي النبوءة، ولكن هيهات أن تطمع في الفوز مالم تتمخّض بتلك الحمّى التي تُشرف بها على الموت. إنها تدفع الثمن غالياً مقابل النبوءة. إنّها لا تقنع بدفع ثمن ولكنها تلفظ الزبد، ويتزلزل فيها البدن، وتختنق بأنفاس النزع الأخير. إنها تغترب قبل أن تولد. قبل أن تبعث في النبوءة، لأنّ النبوءة لا تولد إن لم نولد فيها لا بها. لم يحدث هذا مع أيّوب وحده أو مع كل الأنبياء بدايةً بنوح ونهايةً بمحمّد، ولكن حدث هذا مع كل أنبياء الألم بدايةً بأوديب ونهايةً ببروست مروراً بدوستويفسكي. لأنّنا إذا كنّا نولد من بطون الأمّهات ميلاد الطبيعة، فإننا لا نصنع هويّتنا التي وُجدنا من أجلها مالم نحقّق ميلادنا الثاني من رحم الألم.
ولكن تجربة الميلاد الثاني هذه كانت مازالت قصاصاً مؤجّلاً، لأنني لم يُكتب لي أن أكتوي بنارها إلاّ بعد وقوفي على مشارف الأربعين!
4. الواحة
لو كنّا نستعير مادة السّيَر من المخزون الذي إستودعه الزمن في الذاكرة لما إستقام لسيرةٍ أمر؛ ولكن الشفرات المبهمة المبثوثة في الذاكرة بثّاً هو ما يهرع لنجدتنا. فالشفرة المجبولة بالإبهام تستفزّ لتبعث من المجهول فضولاً يغذّي التأمّل. التأمّل كمُريد إستجوابٍ وحده يستنطق المنسيّات ويستخرج من الأحافير كنوز الآثار الخبيئة. من هنا صار سادن المعبد هذا ربّ الإلهام في كلّ الثقافات. ربّ الإلهام بأجناسه بدايةً بالألوهي ونهايةً بالشعري. وعلّ هذه هي الترجمة الحقيقية لوصيّة أفلاطون القائلة بأنّنا لا نتعلّم في الواقع عندما نتعلم، ولكننا نتذكّر. لأن التذكّر لن يثمر حقّا مالم تخضع الذاكرة للهجوم المحموم الذي لا يتأتّى بدون إستخدام مارد التأمُّل الإستخدام اللجوج، بل والمستميت لإنتزاع الشفرات المطلسمة النائمة في قيعان النسيان وإحيائها بسلطان المنطق. لأنّ ماعفا عليه الزمان هو غنيمة نسيان سواء أكان هذا النسيان تعبيراً عن روحٍ إغتربت بالموت (ثم بُعثت)، أم تعبيراً عن روحٍ إحتالتْ على طبيعة الأشياء حتّى بلغتْ من العمر عتيّاً، لأن السبب في كلتا الحالين يكمن في القِدمة.
لهذه العلّة تبدو بائسة تلك السيرة التي تعتمد سلطة تلك المعلومة التي تطفو على سطح الذاكرة في مقابل السيرة التي تعتمد ناموس الإستنطاق؛ لأنّ السرد يولد ميتاً (أو فلنقل نيئاً) مالمْ ينضج بحمّى التأمل. ألم تنتهِ الأجيال منذ أجيال الحقيقة القائلة بأنّ الحقيقة هي الوليدة الشّرعية للتأمُّل؟ لغز الذاكرة هذا بلبلني عندما حاولتُ جاهداً إستعادة تسلسل الأحداث التي سبقت النزول إلى واحة الجنوب، لأن نزولاً غائماً سبق الهجرة الأخيرة التي هي بمثابة الخاتمة في العلاقة بفردوس التكوين: الصحراء!
ولذا فإن محاولة بعث وقائع إغتنمها محو العقود تِلو العقود من إغترابٍ لن يختلف عن إغتراب الموت إلاّ بحساب الأعداد هو مجازفة خطِرة عسيرٌ أن تفلح بدون الإستجارة بالحُلم. هذا الحُلم الذي غيّبناه منذ قليل عندما إستبدلناه بلفظة "تأمُّل" بسبب طبيعته كمصطلحٍ شعري. والهويّة الشعرية هو ما يستثير الشكوك دوماً سيّما في أزمانٍ لا يجد أهلها حرجاً في أن يتباهوا بإغترابهم عن روح الشعر!
تلك الواحة كانت الأقدم من بين كل واحات شمال الصحراء الكبرى، وربّما الأقدم على الإطلاق. ولا أعرف لماذا إرتبطتْ في لاوعيي بإسمٍ أسطوري هو "قُدموس" بدل إسمها المتداول كـ"غدامس". ربّما لأنها كانت منذ الأزل نقطة التّماس بين ثالوث الممالك التاريخية ذات الهويّة الأسطورية: "إفري" الدّالة على الخلاء التي إستعارت منها القارة كلّها إسمها الذي إستقام كصفة في اللسان اللاتيني في (أفريقيا) "AFRICA"؛ ثمّ في "تانّس" أو"تانّيت" تيمُّنا بربّة الأرباب في ديانة قدماء الليبيّين التي إستُبدلت تالياً بإسم "تونس"؛ ثمّ مملكة "نوميديا" ذات الصّيت المجيد التي إستُبدلت تالياً بإسمٍ لا يمتّ لا لبيئة القارّة ولا لهويّة أهلها هو: "الجزائر" نسبةً إلى جزيرة تقع بجوار الحاضرة التي إنتحلت لنفسها وسماً صار إسماً إنسحب على الوطن.
ولم أكن لأطمع في إرتياد ساحة واحةٍ كهذه لو لم يتصادف وجود شقيق الأمّ في رحابها تأديةً لعمله في السلك العسكري آنذاك، فكان أكثر ما علق بذاكرتي حضور الواحة في طوقٍ من حقول مقابرٍ تسرح في البرّية فلا يحدّها بصر. مقابر ملأني ثراؤها بالرّهبة دون أن أعلم يومها أن هذه الوفرة هي الدليل على عراقة، لأنّ القبر هو أوّل أثر على حضور الإنسان على الأرض، وما إنتشار المقابر اللّانهائي سوى البرهان الآخر على تتابعٍ سخيٍّ لأجيالٍ ورثت أجيال.
أمّا الأثر الثاني في معالم الواحة فكان أثراً منتمياً إلى مملكة الطبيعة: إنه "عين الفرس"، تلك الهِبة التي كان لها الفضل في إستدراج أوّل عابرٍ إستسلم لإغواء الإستقرار فركن إلى أمّه الأرض مضحّياً بأنبل سرّ إستخلفه الربّ قلب خليفته الإنسان (الحريّة) فحقّ للشاعر أن يتغنّى قائلا:
"عسيرٌ أن يهجر المكان
ذلك الإنسان
الذي أقام بجوار النّبع!" (هولدرلين).
والنّبع هنا ليس مجرّد وَتَد يغتنم جسداً فانياً حقّ للقدّيس أن ينعته بـ"الحرف الذي يُميت"، ولكنّه يستعير سلطانه من حقيقته كحبل سُرّةٍ مفتولٍ من حميميّة العلاقة بين قطبين تباهى بالإنتماء لكليهما هما: "السماء والإرض". فجوهر النبع وحده شهادة حرّية، لأن الماء لا يحتمل حضوره في القيد طويلاً فيتحرّر. يغترب عن هويّة أرضيّة ليستعيد وجوده الدنيوي في السماء. وهو بهذا إمام الإعجاز لأنّه لا يموت في الأسافل إلاّ ليُبعث في الأعالي حيّاً. وهو يُمارس هذا الطقس القدسي في حضرتنا كل يوم ليقدّم الدّليل لا على خلوده وحده، ولكن على خلودنا أيضا. وهو لهذا السبب إعتمدتهُ العقلية المسيحيّة ممثّلاً شرعيّاً للغز الروح. لحضور الروح. فالهوَس بخلود الروح كان وسواس القوم منذ التكوين، أي قبل الدياسبورا الكبرى التي أنتجت ديانة روّجت أوّل من روّج لعقيدة "خلود الروح" عند إستقرارها على شطآن ذلك النبع الأسطوري الذي ورثنا إسمه عن اليونانيين في (NILOS)، في حين أطلق عليه أهل الشأن إسم "إيبا" الدّال في لسان أهل الشّتات على "الروح" مزاوجة بينه و بين الماء كمبدأ روحي.
الماء، بالحضور، جسد، أي بُعْد في الوجود؛ ولكن الماء، بالإغتراب، بُعدٌ مفقود مثله في ذلك مثل الروح. والتحرّر من أغلال النبع بالفرار إلى ملكوت الحرّية يستعسر على مُريد الترحال لأن النبع إستجارة بالأرض، بالأمّ، تحصّن بالجرم المستعار من هويّة الأرض. إنّه قوقعة أمان فراراً من هول وجودٍ هو غولٌ في يقين كلّ صاحب تسليم. في المقابل تستلقي الصحراء بروح الإستكبار. تستلقي الصحراء كفردوسٍ جدرانه ملفّقة من عدمِ. جدران ملفّقة من عدم بسبب غياب النبع. جدرانٌ من عدم لأن العدم هو الشهادة على إغترابٍ هو حرّية. حريّة مشروطٌ حضورها بالحضور في الموت. الحرّية صفة في معجم الموت، كما الموت إسمها المطلسم بالإبهام. الموت إسم الحرية المطموس بالنسيان. والصحراء في الصفقة واحة حرية لأنّها تجسيد لإغتراب. لأنها ظلّ الموت. بل خليفة الموت على الأرض. ولهذا فإن وجود النبع في رحابها ملاذ. ملاذٌ بقدر ما هو خطأ في الناموس، خطأ لأنه نقضٌ صريحٌ للعهد المبرم بين الروح والجسد، بين الشأن الأرضي وبين الشأن السماوي. النبع تمرُّد على مشيئة الخفاء ولهذا هو قرين دنيا. أي أنه نفيٌ بما هو إستقرار. والإستقرار هو الخطيئة التي لا تُغتفر في ناموس خليفة الحرية: الصحراء!
هذه الحرية هي التميمة التي أقبل بها المهاجر القادم من الصحراء ليحقّق بها الخلاص للواحة من المسخ الذي جثم على صدرها كما تروي الأسطورة: فها هو المخلوق الكريه يلتهم عذراء كل ليلة تُقدّم له كقربان لشراء البقاء على قيد الحياة إلى أن جاء المُهاجر ليبطل مفعول السحر بكلمة السرّ التي لم تكن غير الإسم بالطبع. فالإسم في عرف السحر هو الأحجية التي يجب أن تُخْفى، لأنّ كشفها يعني هلاك صاحب الإسم. لأن الإنسان إسم، وما لا إسم له وحده لا وجود له. ولهذا يستجير رُسُل الشرور دوماً في ديانات الأوائل بهذا "اللاوجود" بإخفاء الإسم الحقيقي والإستعاضة عنه بالإسم المستعار، أو بأسماءٍ مستعارة. هذا هو سرّ هوس قدماء المصريين بإستبعاد الإسم الموهوب بالولادة وإستبداله بإنتحال الأسماء المستعارة. إنه إدراكٌ مبكّر جدّاً لحقيقة المعرفة كتجديف. حقيقة المعرفة كتطاولٍ على ما وراء الطبيعة. حقيقة المعرفة كلعنة مهّدت للوصيّة الربوبية الواردة في أسفار العهد القديم.
شلّ سليل الحرية القادم من الصحراء في المسخ القوّة بكشف الإسم المخفي فقطع رأسه، لأن الإسم هنا هو تلك الأحجية المعادلة للغز المسخ الآخر الجاثم على قلب طيْبة في الأسطورة اليونانية. والمهاجرُ مُهاجرٌ لا بالسبيل وحده، ولكنه مهاجرٌ بالألم. مهاجرٌ بقصاصٍ إختاره له القدر ولم يختره لنفسه؛ والقصاص دوماً حرية، كما الألم العظيم حرية، وكما الهجرة حرية. لأن من إختارتهم الأقدار للحساب وحدهم أحبّاء الأقدار. لأن من تعذّب بقصاص المجهول وحده يملك الحقّ في أن يتباهى بإمتلاك الحقيقة. هؤلاء إمتلكوا الحقيقة لأنهم حدّقوا في وجه الربّ. من زار الحقيقة في ملكوت بُعدها المفقود هيهات أن يُقهر. وقوّة المهاجر لا تكمن في تلقّي البلايا، في نيل قصاصٍ طاريء، ولكنها تكمن في الهجرة بذاتها. تكمن في الهجرة لأن الهجرة قصاصٌ بطبيعتها الزهدية، وبهويّتها كخيار حرية. ولذلك فإن كل خلاص، هو خلاصٌ مشبوهٌ مالم تأت به الحرية. ولهذا السبب لا نملك إلاّ أن نستشعر الرهبة لمرأى المهاجر. فروح الهجرة تُسربل مُريد الهجرة بمسحة دينيّة. إنه مجلّل بالموت، لأنه في يقيننا الخفي لا يذهب لقضاء حاجة تمتّ بصلةٍ لحطام الدنيا، ولكنه ينطلق لملاقاة ربّه. هذا الإنطباع الغامض يستنزل على سيمائه مسوح البُلس. يستنزل قناع حدادٍ خالدٍ. إنه قدّيسٌ بالخروج (الخروج بمعنى الهجرة) ما خلا قلبه من الصفقة. ما خلا قلبه من خروج لقضاء الحوائج.
الهجرة في سيماء المهاجر الحقيقي صلاة. ألم يدفع هابيل الثمن بسبب الهجرة؟ ألم تكن الهجرة قدر كل نبوءة وشرطاً لفلاح كل رسالة كما تعلّمنا من صحف التاريخ؟ خروج المهاجر في هجرةٍ هو خروج مجبول بالأبد. ونحن نتهيّب لرؤيته في مرحلة الخروج لأننا في الواقع نشارك في محفل حداد. نشارك في جنازة. ولذلك فإن قدوم العابر ليس عودة من رحلة، ولكنه بعثٌ من موت!
ولهذه العلّة تُصِرّ الأساطير أن تقدّم لنا أمثولةً تقول أنّنا كلّنا سجناء ما ارتضينا المقام في المقام مصيراً، ولا خلاص لنا من هذا القمقم إلاّ بعونٍ يأتي من خارج. فليس للسّجين أن يعوّل على سجينٍ في نيل الحرية. والعابر الذي يتسكّع خارج الحصون طليقاً وحده يستطيع أن يأتي لسجناء القضبان بالخلاص. وهي أمثولة ٌ لا نرثها في أسطورة " قدموس" وحدها، ولكننا نلمسها في عقيدة أهل الصحراء الكبرى الذين يروق لهم أن يردّدوا الوصيّة التي تروّج لحرصهم على وضع أرجلهم فقط داخل أسوار الواحات مع مراعاة الإبقاء على رؤوسهم خارجاً دوماً. وبهذه الحكمة صاروا عبر الأزمان هم الفرسان الذين تولّوا إنقاذ الواحات من أطماع الغزاة، بل وكانوا عبر التاريخ حماتها، كما كانوا حماة قوافلها التجارية العابرة للصحراء. كما لا نرث أمثولة سيرة أوديب الذي أنقذ طيبة ترجمةً من حرف الأسطورة بقدر ما نجدها مجسّدة في سيرة أهل إسبارطة الذين راق لهم أن يردّدوا أن حصون المدن لا ينبغي أن تُبنى من صلد الحجارة، ولكن من سيوف أبنائها!
وإذا كان الإنسان لا يغترب بلا سبب بالطبيعة، فلا بُدّ أن يكون سبباً جليلاً ذلك السّبب الذي ينتزعه من نعيم المكان، من نعيم المقام بجوار النبع، ليهيم على وجهه في أرض الله الواسعة. وهو ما لا يحدث دون الإستجابة لنداء. نداء أقوى حتّى من المقام في الجنّات التي تجري من تحتها الإنهار. أي أنّ الهجرة فرارٌ لملاقاة رسالة. وهي لهذا السبب تضحية. أي أن المهاجر ماهو إلاّ قربان يدبُّ على قدمين. قربانٌ على قيد الحياة. ولذلك يرد في سفر يعقوب الأمر الصارم: "إستضيفوا الغرباء، لأن أناساً كثيرين إستضافوا في الغرباء ملائكةً وهم لا يعلمون". من هنا جاء تقليد إضافة الأغراب في كل الثقافات تقريباً. وبلغ الجود ببعض قبائل الأسكيمو (على ما يروي الرحّالة) إضافة الأضياف بالتّخلّي لهم عن حميماتهم. وناموس إكبار الغريب كمهاجرٍ مجبولٍ بقصاص الخافية هو مامكّن بطل قدموس من الإطاحة بعرش طاغية المسوخ، وأهّل أوديب لكتم أنفاس تنّين طيبة، وأعان أوريست على نصر الأسبارطيين في حربهم ضد الأعداء وهو عظم رميم.
بلى! عَدُوس السُّرَى نبيٌّ حتى وهو عظمٌ رميمٌ يرقد في جوف قبرٍ مجهولٍ!
5ـ اللِّسان
لم أكن لأ تخيّل في تلك الأعوام وجود صلةٍ بين شخصي وبين "عين الفرس" فكيف بوجود صلةٍ بين شخصي وبين الواحة برُمّتها؟ وكان على السيول أن تجري في قيعان الوديان اليابسة الأعوام تلو الأعوام قبل أن أكتشف أنّ النبع الذي يُغذّى الواحة متمثُلا في "عين الفرس" إنّما يستعير ينابيعه البكر من مرتفعات "آوال" التي كانت لي مسقط رأس. وبقايا النهر القديم مازالت تجري عابرةً في طريقها واحة أخرى هي "آدري" الشمالية، لتُبدع في المثلّث الحدودي بين المماليك الأسطورية الثلاث (إفري، تانّس، نوميديا) مناجم الملح في "مجزّان". وهو كنزٌ طبيعي كان إلى وقتٍ قريب مصدر ثراء "قدموس" (غدامس) وواحاتها الجبلية المجاورة حيث تحمله القوافل التجارية العابرة للصحراء إلى أوطان الجنوب المتاخمة للأدغال مثل "تيمبكتو" ليُباع هناك بوزنه تبراً إبريزاً.
أمّا "آوال" هذا فوادٍ هائل الإتّساع، ينحدر من أعالي جبال "تينغرت" ليكوّن حضيضاً عميقاً إستخدمته القبائل عبر الأزمان مقاماً تستجير بظلال أشجاره ومياه آباره من قسوة الصّيف. وهو إذا كان مقرّاً لأهل الخلاء في النهارات فإنه ينقلب وطناً لأهل الخفاء في الليالي حتى أن إسم " آوال " ( الدّال على "الكلم" في لسان القوم) لم يُطلق عليه إلاّ بسبب رطانات أشباح الجنّ في الأمسيات. وهم لم ينتزعوا لأنفسهم إمتياز اللّغو وحسب بالمقارنة مع أشباح باقي أركان الصحراء، ولكن أضافوا إلى الولع بالصخب خصلةً أسوأ هي العدوان. فما أن يحلّ المساء وتشتدّ الظلمة حتى تتراكض عصابات هذه الأمّة الشقية لتستفزّ أضيافهم من قبل قبائل الخلاء بصنوف الإزعاج التي تنتهي في أغلب الأحيان بالرّجم بالحجارة مسبّبة للضّحايا كدماتٍ موجعة طوال الليل، ولكنّها تختفي وتزول ما أن يطلع النهار كأنّ النهار ناموس لجراحهم أيضا بعد أن كان إمتيازاً لأجرامهم دوماً. ومبدأ الخفاء هذا هو ما يهبُ أصحاب الأبدان البادية العزاء في جدل العلاقة بين الثّقلين (الإنس والجنّ) كما ينعتهم القُرآن. ولئلاّ يتحوّل الجوار إلى صدامات دامية أوصى العُقلاء ٍ دوماً بضرورة التحلي بالتسامح كشرطٍ للتعايش السلمي بين الفريقين يكون فيه الليل من نصيب أمّة الخفاء، والنهار من نصيب أمّة الخلاء، فصار هذا العهد ميثاقاً توارثته الأجيال برغم حماقات السُّفهاء من الجانبين التي كانت تُقبَر في المهْد إجتناباً لإشعال نيران فتنٍ كفيلةٍ بزعزعة الحياة في القارّة. ولكن ما شهد به الكل لجيرانهم من قبائل الجنّ هو البراعة في الكلم، أي إستخدام لسانٍ في أجرامٍ بلا لسان، وبلا أجرام، برغم قدرتها على التبدّي في صورة أجرام. وشاعرات القبائل يشهدن كيف لقّنتهنّ كاهنات الجنّ قول الأشعار عندما قمن بزيارتهنّ في المراعي، أو عزلة الليالي، متنكّراتٍ في أجرام الجدّات، أو العمّات، أو الخالات. وقد تعلّمت قبائل الصحراء منذ الأزل أن تشكّك في مواهب شاعرٍ لم يتلقّ شعره من فم جنّ، وآمنت بكل شاعرة أو شاعر لم يخلُ شعره من وحي الجنّ. وحكماء القبائل لم يكتفوا بخلع هذه الهبة على الشعر وحده، ولكنهم سحبوا الحكم على القول كلّه. قول الحجّة بالطبع المجبولة بروح المنطق. وهي مزيّة مفقودة في عالمٍ خالٍ يحيا إنسانهُ معزولاً، وحيداً لا يُحادث أحداً إلاّ نفسه. ومُحادثة النفس قد تورث الحكمة، ولكنّها لا تقوّم اللسان ولا تُحفّزهُ على القول. وإنفكاك عقدة هذا اللسان رهينٌ في يقين القوم على الصفقة مع الجنّ الذين لا يملكون لسانا. يؤكّد كهنة القبائل هذا دون أن يحفلوا بالمفارقة الكامنة في هذا العقد. وعلّ هذه القناعة الموروثة هي ما غذّى يقين الوالدين بحقيقة مُصابي يوم وسمني الخفاء بالعلامة ليقيّد بصفقة المسّ رجلي مقابل أن يطلق سراح لساني المتبطّل عن اللغو مثل لسان شقيقي الأكبر. وهو زهدٌ في الكلم ورثناهُ عن الأب الصّموت الذي لم يُحسن يوماً استخدام اللسان إلى درجةٍ أجبرته يوماً أن يتّخذ لنفسه قريناً للعب دور الوزير هارون لقضاء حوائجه الدنيويّة. ولكنّي صرتُ منذ وسم العلامة في العائلة إستثناءً. لم أكن لألهج بالأشعار بالطبع في ذلك السنّ المبكّر، ولكن ثرثراتي السخيّة التي كنتُ أُخاطب بها نفسي (إذا عدمتُ من أخاطب) وأنا أدبُّ في الخلاء وحيداً، أو أسعى وراء الأب في الخلوات أيقضتْ فضول العائلة فجاهروا بيقينهم الذي يقول أن الجنّ أطعموني لساناً سخيّاً في رحلة إغترابي تلك مقابل المسّ الذي إستعاروا بموجبه رجلي!
ولكن ألن يعني هذا الدرس أنّنا لا نتعلّم لغة الشعر ما لم نغترب في لغة الصمت، ما لم نتوغّل بعيداً بعيداً في الجذور لنتحمّم في ينابيع الصمت حيث تتكلّم الرؤيا بديلاً عن الرؤية، وتترجم الإشارة ما أعجز العبارة؟
6ـ الوَصِيَّة
أمّا الحلول ضيفاً على ربوع الواحة فأمرٌ كان رهين وجود شقيق الأمّ في الواحة لا بوصفه شقيقاً لأمّ، أي مجرّد إنتصار لصلة قربى، ولكن إستجابة لمشيئة العُرف التي نصّبت الخال بمثابة أبٍ أوّل لكل إبنٍ تجود به بطن الأمّ في مقابل هشاشة حُجّة الإنتماء إلى سلالات الآباء. لأن الأمّ حقيقة واقعة، أمّا الأب فهو الوهم مجسّداً. الأب وهم لأنه بُعْدٌ مغترب بالطبيعة. مغترب بالطبيعة في صفقة القِران إذا قورن بالأمّ كخليفةٍ شرعيةٍ وحيدةٍ للطبيعة الأمّ في العلاقة الملتبسة؛ لأنّ الرجل في الصفقة روح في مقابل المرأة كطبيعة لها حضور في ساحة الدنيا. ولهذا السبب يبدو الأب مشبوهاً لأنه مجرّد ضيف، لأنه لا ينزل البيت إلاّ ليهجر البيت. ورسالة هذا الضيف، رسالة عابر السبيل هذا هي أن يستزرع. أن ينشر في طريق هجرته الأبدية البذرة ويرتمي في فراره في أحضان الآفاق، في حين يأتي شقيق الأمّ ليحصد الثمار. يأتي القرين الحقيقي المتربّص الذي لم يتنازل عن أخته لحضن الغريب إلاّ ليستعيدها في الذرّية. في السُّلالة. في الإبن. هذا الإبن الذي قضى الناموس أن يستخلفه لا في حمل الإسم، ولكن في حمل صولجان السلطان أيضا مضحّياً بحقّ أبنائه الذين لم يفقدوا هذا الحقّ إلاّ بسبب إغترابهم عن بطن الأخت ومجيئهم من جوف إمرأة أغراب. إنه نظامٌ مهووسٌ بالإستعارة بهدف الإحتيال على التقليد الأصلي الزائل عندما كانت أحضان الأخ قدَر الأخت، والبنوّة الناتجة عن هذا الإلتئام لا تكتسب شرعيّتها بالإنتماء إلى الأب بوصفه أباً، ولكن بهويّته كشقيقِ أمّ؛ تلك الهويّة الملزِمة للخال بالإعتراف بهذه البنوّة مهما حامت الشكوك حول حقيقتها، لأنه أبٌ برسالةِ الدمّ (التي لا برهان يعلو فيها على برهان الجوف الأمومي)، لا برسالة بذرة الصلْب. وهو إلزامٌ لم يكن ليلعب دور الخطر لو لم يكن العصب الذي سمّم بدن المجتمع البشري في كل العصور وهو: السلطة!
فالصراع الخالد ينشأ في اللحظة التي تولد فيها نيّة التوريث، لأنّ على الأب أن يجتثّ عاطفة الأبوّة في الإنحياز إلى إبن الأخت المدعوم بسلطان الناموس. وهو ما يعني أن على أهل السلطان أن يتجرّدوا من إنسانيّتهم ليصيروا في تلك اللحظة آلهة! هذا الجدل التراجيدي بين الواجب (المتمثل في الناموس من جانب، والعاطفة المتمثّلة في التضحية بحقّ البنوّة من جانب ثانٍ) هو الذي شيّد صروح الروح المأساوية في أساطير الأوائل التي ورثناها تالياً في الأساطير اليونانية، لأن موضوعاً مكروراً على منوال الملك الذي تُنبّئه العرّافة (أو الحلم) بميلاد إبن الأخت الذي سيُطيح بعرشه فيسعى للتّخلّص منه عبثاً، ليس وليد خيال سوفوكلس أو أسخيلوس، ولكن جذوره تعود إلى عهد هيمنة النظام الأمومي. والدليل (أو بذرة هذه الأساطير اليونانية) نجد له حضوراً طاغياً في أساطير الطوارق قبل أن نلمس له حضوراً حتى في أسفار العهد القديم.
ولهذا فإنّ إلتحاق إبن الأخت بشقيق الأمّ لا يحدث تلبيةً لهوى ولا يخضع لمشيئة المصادفة، ولكنه خضوعٌ لناموس. أي أنه أداءٌ لواجب. لأن الوليد هنا ينفصل عن الأب المغترب، ليلتحق بالأب الحقيقي. إنه هديّة الأخت المغتربة لشقيقها المفقود، لقرينها المفقود، الذي لا يمتلك أن تستعيده من براثن الناموس الأخلاقي المستحدث. إنها الوصيّة التي تترجم تدابير الدفاع عن النفس ضدّ الفناء بإنكارٍ مازال سارياً في عقيدة القوم إلى هذا اليوم وهو: عدم الإعتراف مطلقاً بذرّيةٍ لم تولد من بطن أنثى تدين بالولاية لهويّة القوم! ولهذا فإن قصاص الأبناء الذين وُلدوا من قِران الآباء بنساء الأغراب هو: الإغتراب!
علّ هذه هي الحلقة المفقودة في سيرة الأمم منذ الأزل: أممٌ عريقة إعتنقت الناموس المستحدث فكان لها سرّ فناء، في مقابل أممٍ أعرق تنكّرت للناموس المستحدث فصار لها بقاء!
7ـ البُنيَان
الإنطباع عن الواحة المستنقذ بذاكرة الروح هو: كيانٌ معقّد لمعمارٍ عارضٍ بلبل طبيعة المكان كأنّه النبتة الشرّيرة في حقلٍ سمح. فالصحراء فراغٌ بكر. وهو إلى جانب هذه المزية الجمالية الآسرة يمتلك سجيّة أخرى أنبل برغم قسوتها هي: إمتداد الأبد الذي لايُدرك إلاّ ليبتعد، ولا يُنال إلاّ ليُفقد. في ملكوت البراءة هذا تنتصب آي العمران كشذوذٍ معيب، أو فلنقل، كتدخّلٍ منكرٍ في رحاب ربوبية. أي: كتجديف!
بلى! الواحة في الصحراء تجديفٌ في حقّ البكارة. إنتهاكٌ مشينٌ لروح العالم. هذه الروح التي لم تتنكّر لطبيعتها كجسد إلاّ لتتطهّر من دنس المكان فتتعرّى توقاً لعناق حميمتها السماء! ولكن الكفّ المجبولة بالآثام تأبى إلاّ ان تأتي لتشوّش المشهد المقدّس بلمستها اللئيمة: تقيم الأنصاب في المعبد الوحيد الذي تبدو فيه آي العمران دليلاً على عبادة الأوثان، لأن الحرية التي يجسّدها ببدنه هي هيكل العبادة الذي لا يحتاج لصروح الحجارة كشهادة. وهو معبد الربّ الذي ألفه هذا المُريد يتوارى من المكان إستحياءً ليحتجب عن الأنظار بأجناس الأبنية المُتلاصقة التي تتشكّل كأنّها تستجير ببعضها البعض، ثمّ تتلوّى الشوارع مؤدّية
إلى أفواهٍ مسدودةٍ بأخشابٍ ملفّقةٍ من جذوع النّخل تؤدّي بدورها إلى بطونٍ مسكونةٍ كأنّها قبورٌ تحوي العظام وهي رميم. أوَ ليس البيت هو قبر هذه الدّنيا كما القبر هو بيت الأبديّة؟
الجدران في الواحة ناصعة البياض، متوّجة الأعالي بسلاسل متّصلة من تميمة الربّة "تانّيت" الذي غزا الأركان ومازالت رموزه سارية في أبنية لا الشمال الإفريقي وحده، ولكن في إسبانيا والكناري والبرتغال وأوطان أمريكا الجنوبية التي تلقّتهُ هديّة من الإسبان كما تُبرهن رموز الهنود الحمر الدينيّة. من حق كل شيء أن يخبو وينقشع بفعل الزمان في تجربة الواحة بإستثناء شيئين إثنين: الإحساس الميّت بالوجود في القبو، وإفتقاد هواء الصحراء!
وهو ما يعني بالترجمة إلى لغة الصحراء: الوقوع في الأسر، أو وجوب إستمراء الحياة في حبوسٍ إذا تأمّلنا الإحساس الأوّل. أمّا إفتقاد هواء الصحراء فهو لن يعني سوى الإختناق بأهوية العفن الناجمة عن حصر البشر في نطاقٍ ضيّقٍ يُعادل سَمّ الخياط حقّاً إذا قيس بفضاء الصّحراء اللانهائيّ. من ذاق مرارة هذا الوضع يستطيع أن يعرف قيمة نفحةٍ نقيّةٍ من هواءٍ لا نُقيم لها في المعتاد وزناً، ومن وقع أسير الجدران المطوّقة بالأسوار أيضاً يستطيع أن يُدرك كم هو هبة ربوبية لا تُقدّر بثمن أن يتنقّل الإنسان في الخلاء بحرّية!
8. كَفَنٌ هوَ العَابرْ
ما يُدهش في ذلك الحصن المنيع ليس هويّته كمُعتقل إستطاع عبر التاريخ أن يُصادر كل من نزله، بل وينفي الروح من كل من سلّم له زمام أمره، ولكن ما يُمكن أن يُدهش الوليد المجبول بالحرية في هذا البروز المكابر هو لؤم المعمار. هذا الدّهاء الذي يُحوّل الواحة بنياناً واحداً، بيتاً هائلاً واحداً متّصل السطوح في الأعالي، تخترقه الأزقّة في الأسافل بهندسةٍ جديرةٍ بالإكبار حقّاً. وهي أسافل تتعدّد في إنقسام جدرانها إلى بيوتٍ تتستّر أبوابها على ديارٍ تضمن لكلّ عائلة قداسة الخلوة المتمثّلة في إستقلاليةٍ مزعومةٍ أطلق عليها نعت "الحرمات". وهي إستقلالية كشفت تجربة الحياة اليونانيّة زيفها بالطبع، لأن التّجاور خذل القوم في كل مرّة حاولوا فيها تنصيبه برهاناً على حميميّة. لأن الشجار في مجتمعٍ كهذا كان السمة الطاغية لا في أوساط السُّفهاء فقط كالنّساء أو الصغار، ولكنّه أمرٌ شائعٌ في أوساط العُقلاء أيضا؛ كأنّ الإبتذال في العلاقات هو الثمن الذي يجب أن يدفعه كل من شقّ عصا الطاعة على وصيّة الوطن الصحراوي القائلة بأن الأنسب هو أن يتباعد الناس ببيوتهم كي يتقاربوا بقلوبهم، في مقابل أن يعكسوا الآية فيتقاربوا ببيوتهم ليتباعدوا بقلوبهم!
على السطوح تقوم مملكة النساء. إنّهُ الفردوس المُحرّم لا على معشر الرجال وحدهم، ولكن على الصبية الذين تجاوزوا العاشرة أيضاً. هناك تتسامر ربّات البيوت وبناتهنّ طوال اليوم، أو يقمن بإنجاز أعمال البيوت اليومية كغسل الملابس، أو طحن الحبوب، أو حياكة الأثواب؛ لأن خلوة تلك السطوح تكفل لهنّ الحدّ الأدنى من حريةٍ فقدنها منذ هجرن الصحراء وإنضممْن إلى طابور أهل الواحات. حرّيةٌ تضمن لهُنّ تسقّط الأخبار، وإشباع الشهوة إلى النميمة، والتنصّل من الحشمة الكاذبة بإطلاقِ العنان للّسان. إنّها لذّة التحرُّر من أصفاد التحريم بعيداً عن الأنظار، وبعيداً عن الآذان. ليس آذان الأغراب وحسب، ولكن آذان رجالهنّ أيضاً. لقد قادني الفضول مراراً لأتلصّص عليهنّ فرأيتهنّ سافراتٍ لأوّل مرّة. يتمازحن بإنحلالٍ يرتقي إلى مستوى الإبتذال المنكر. يتراقصن. يُروّضن الألحان. تنطلق حناجرهنّ بأحلى الغناء عندما يتحلّقن حول الرّحى لطحن الحبوب. إنّهنّ هناك في الحرية مخلوقاتٌ أخرى! مخلوقات لم أعرفها وأظنّ أن رجالهنّ يجهلونها أيضا!
أمّا في الأسافل المسقوفة، الشديدة الظلمة دوماً، فتلك مملكةٌ يهيمن على رحابها الرجال؛ العقلاء منهم والسفهاء. في الأزقة يلعب الصغار. على المصالب الحجرية المرشوشة بالجير الناصع يجتمع العقلاء. في بعض الأزقة توجد دكاكين بائسة أيضاً. أمّا الفراغ المُجاور لذلك الكيان فهو من نصيب السوق الذي تؤمّه القوافل التجارية القادمة من كل أركان الدنيا، فيرجع له الفضل في ذيوع صيت الواحة كمحطّة تتقاطع فيها الطرق منذ ألوف الأعوام. من هذه السطوح تتوزّع السلالم الخفيّة من فوق لتتسلّل إلى كل بيت كأنّها شبكة دروب سريّة هي حكر على ملّة النساء وإمتيازهنّ الوحيد. من هذا الدرب المجبول في ذاكرة الطفولة بالغموض تسلّلتْ مرّة نسوة إلى بيت شقيق الأمّ تأدية لذلك الطقس التقليدي السائد المتمثّل في زيارة إنسانٍ لفظه المجهول فعاد إلى الأهل بعد غياب. إنه طقسٌ شبيهٌ بطقس المشاركة في مأتم، برغم أن العودة يمكن أن تُحسب عملاً نقيضاً للمأتم. فإذا كان الإغتراب عن ربوع القبائل عملاً مثيراً قريناً للموت في يقين القوم، فإن العودة إلى النجوع هو بمثابة بعث. ويبدو أن هويّة العودة من سفرٍ بعيد كعديل للوفاة هو علّة الممارسة الطقسية المستوجبة في عُرف بشرٍ يُجلّون الموت إجلالاً مُريباً يرتقي به إلى مستوى المعبود بدل أن يراه عدوّاً كما هو الحال لدى بقيّة الأمم. من هذه العقليّة الإستسراريّة إنبثقت عادة الإحتفاء بالأغراب الذين لا يمتّون للقبيلة بصلة قُربى، ممّا يكشف على نحوٍ خفي عن نيّةٍ لإرواء الظمأ إلى عبادةٍ غريبةٍ هي عبادة الإغتراب التي لا تكون فيها عبادة الموت إلاّ رُكناً واحداً، لأنّ الإحتفاء بنزول غريب لن يكون في حقيقته الباطنية سوى إحتفاءٌ بإغترابهم هُم، وعبادة الموت بهذه المُغالاة ما هو إلاّ التعبير الإستعاري الماكر عن موتهم هُم، عن حضورهم في موتٍ يعترفون به أكثر من وجودهم على قيد حياةٍ تلهج الصحراء في كل لحظة بحقيقتها الفانية؛ لأن ما هو الحضور في دنيا الصحراء إن لم يكن حضوراً يجاور الموت، ويخوض في الموت، بل الحضور الذي يتماهى بالحضور في الموت؟ وما العبارة العدميّة التي تجري على ألسنة الكلّ: "ميدّيياغز؟" (الدّالة في الترجمة على إدانة الزمان ونفي جدوى القيام بأيّ عملٍ يُرتجى منه نفعٌ دنيوي) سوى البرهان الموجع الدّال على هذه العقلية التي لا ترى الوجود على قيد الحياة سوى حضوراً فعليّاً للموت. وهي عقليّة تحوّل سيرة الرحلة كلها إلى جنسٍ من طقسٍ دينيّ صارم ويوميّ مثيلٌ للصّلاة. بدل أن يحيلها عملاً عبثيّاً من باب الإستهانة كما يمكن أن يحدث فيما لو تأمّلناها من وجهة نظر أهل العمران. ولا أنسى مشهداً عشتُه في أحد أيّام الطفولة المُبكّرة عندما خرجتْ النجوع في تظاهرة جماعيّة شاملة لم أر لها في حياة الصحراء مثيلاً لإستقبال أحد أبناء القبيلة العائدين بعد غيابٍ طويل. خرج الرجال إلى الخلاء أشياخاً وشبّاناً، تتبعهم جموع النساء اللّائي تشبّث الصغار بتلابيبهنّ، في مسيرةٍ مهيبةٍ كأنّها هجرةٌ لملاقاةِ رسول. ملاقاة الرسول الحامل لرسالة الخلاص. مسيرةٌ كأنّها حجّ إلى حرم الربّ، أو..أو حجّ لمُشاهدة وجه الربّ. أي أنه خروجٌ للمثول في حضرة إعجازٍ لن يكتب له أن يتكرّر. وقفتُ في مدخل خباء بيتنا الخاوي وحيداً أتفرّج على القيامة. وقفتُ أشاهد القيامة بروح العزلة لأن حدسي حدّثني دوماً بخطورة الثقة في الجموع ولم يخذلني الحدس كما برهنت تجارب الأيام. المشهد زعزعني عميقاً لأنه لم يكن خروجاً، لم يكن إستقبالاً. لم يكن إحتفاءً. زعزعني لأنه كان عملاً حزيناً إلى حدّ توهّمتُ أنّ القوم فرّوا ولن يعودوا إلى المضارب أبداً. لقد أوحتْ لي أفواجهم المغلولة بصمتٍ جليلٍ أنّهم سيمُوتون حتماً وسأبقى في الدنيا مهجوراً. وممّا ضاعف يأسي هو إبتلاع الأفق لفلولهم حتّى أنهم لم يعودوا إلاّ بعد أن هيمن الظلام. كنتُ أتثاءب عندما دخلتْ الأمّ فأرجأتُ أسئلتي حتّى الصباح. خرج الأب مبكّراً فانتهزتُ فرصة خروجه لأستنطق الأمّ وهو ما لم أجرؤ أن أفعله في حضوره. سألتُها عن هويّة القادم الجديد فأجابتني بسُحنة الوجوم التي إعتادت أن تتحصّن بها كلّما إنخرطتْ في رجّ شكوة الحليب. قالت أنه أحد الأقرباء. ولكن الجواب لم يروِ الظمأ فسألتها من أين أقبل، فأجابت بإقتضابٍ قائلة بأنه مكانٌ بعيد. لم يقنعني الجواب فأعدتُ السؤال. تشبّثتْ بالصمت طويلاً قبل أن تُجيب بأنه مكانٌ بعيدٌ جدّاً يقع جهة الشرق. ولكنّي إستبسلتُ لمعرفة المكان فأعدتُ السؤال. رمقتني بكآبةٍ مطبوعةٍ بإيماءِ إستنكار قبل أن تقول أن المكان هو: إجدابيا!
لم أكن لأدرك بالطبع أين تقع إجدابيا هذه، ولكن الإسم إنطبع في باطني مثل شفرة سرّية. مثل طلسمٍ خفيٍّ مجبولٍ بالقداسة. إجدابيا! يالهُ من إسمٍ مُريب عسيرٌ على النطق بقدر عُسرِه على الفهم. ولكن الفوز بالإسم وحده لم يُشبع فضولي برغم شعريّته، أو فلنقل رومانسيّته إستكمالاً لفصول تلك الأسطورة التي تستهوي كلّ عقلٍ صحراوي لأنّها جزءٌ من تكوين روحِ هذا الكائن التي لا تعترف بوجودِ الزمن الدنيوي إلاّ مجبولاً بنفحة الزمن الأسطوري. والظمأ لإماطة اللثام عن هوية العائد المجهول من أوطان المجهول إنّما تمثّل العتبة الأخيرة في سلّم الأسطورة.
إنتظرتُ فرصةً أخرى لإستجواب الأمّ حول هويّة الرجل (الذي لم يعُد في يقيني الطفولي رجلا، ولكنه إستعار مسوح الطّيف)، ولكنّها إنتهرتني مذكّرة بأنها سبق وأفادت بأنه أحد الأقرباء، فانتظرتُ. إنتظرت لأني أدركتُ إرتكابي لخطأ لا يُغتفر. فقد طرحتُ سؤالي في اللحظة الخطأ. في لحظة الوجوم التي تسبق إطلالة معبود الأسلاف: الشمس! أي في اللحظة التي تنهمك فيها الوالدة بتمتماتها المُبهمة وهي تقرأ أوراداً منسيّة (أو فلنقل وثنية) بلكنة الأعاجم، ولم أكتشف إلاّ بعد سنواتٍ طويلةٍ أنها خليطٌ من تمائم موروثة باللغة الأصلية وآيات قرآنية محرّفة تحريفاً مريعاً على عادة العجم. وهي خطيئة شارك في صنعها فقهاء أميّون يرافقون الرحّل بدعوى تلقين هؤلاء أصول دين الفرقان والآيات اللازمة لإقامة الصلوات لأكتشف بعد أعوامٍ أيضاً أنهم أحوج خلق الله لتعلّم أصول الدّين، بل وللآيات الّازمة لإقامة الصلاة!
سبب آخر لإنتهار الأمّ: الفجر في عُرف القوم حرم صمت وإعلاء الصوت بالكلم في حرمه هو إثم، والدليل أن الأوراد (أو تلك التمائم السرّية الموروثة) تُقرأ في حرمه أيضا سرّاً. ولسنا بحاجةٍ لإستنتاج أنها عادة مستعارة من تلك الأزمان التي كانت فيها أجيال الصحراء تتّخذ من " رغ " (الشمس) معبوداً تتأهّب كل مطلع فجر لإستقبال قبسه بمراسم إكبارٍ دينيٍّ على عادة أهل مصر القديمة كما تُحدّثنا متون "البوّابات".
إنتظرت حتى إرتفع قرص المعبود عن الأرض بضعة أشبار لأستفهم من الأمّ عن سبب غياب الرجل عن القبيلة طوال هذه الأزمان فأجابتني لا لتروي فضولي ولكن لتكفّر عن قسوتها في إنتهارة الصباح الباكر. أجابت بما أذهلني، لأن روح الأسطورة كانت طوال الأيام التي تلت وصول البطل تتنامى بوسواس الخيال في عقلي البكر لتُفلح سريعاً في تشييد التمثال. وعندما أجابت الأم فقالت أن العائد الأسطوري كان يقوم في تلك الربوع الأسطورية المسمّاة إجدابيا بـ.. برعي الأغنام (!) لم أصدّق. لم أصدّق في ذلك اليوم برغم أن فقيه الواحة بعد سنوات بدّد شكوكي عندما قال لي أن كلّ الرسل رعاة أغنام!
هذا في حين أضافت التجربة فقالت أن الناس لايخرجون لإستقبال الأغراب أفواجاً من باب الإكبار لرسالة رعي الأغنام لحقيقتها الرديفة لرعي الرعايا فقط، ولكن إكباراً للإغتراب، لا للأغراب كأغراب! وهو ما يقطع بأن هاجس الإغتراب إنقلب بتلاحق الأجيال محنةً وجوديّةً تغلغلت عميقاً في وجدان سلالة الرحيل حتى باتت لها طبيعة ثانية. إنه تراكم في الباطن اللاواعي على طريقة الدمية الروسية المسمّاة "ماتروشكا" حيث يزدرد الجوف جوفاً لتتوارى العلّة شفرةً تسكن قيعان الروح. وهي سيرورةٌ معقّدة تكشف لنا سرّ الوصيّة المجبولة بروحِ التسليم التي تناقلها حكماء القبيلة الشقية التي يقول حرفها: "إيموهاغ أميهغن"، وهو تنويعٌ على أوتار معزوفةٍ ثريّةٍ تستعر على التجربة كعادة كل أحاجي القوم الموروثة. فإذا إحتكمنا إلى الترجمة الحرفية نجد أنها تعني: "الأمازيغ ملّة مغرّبة"، أو بمعنى آخر: "الأمازيغ ملّة منهوبة"، أو "الأمازيغ ملّة مخذولة"، أو "الأمازيغ ملّة مخدوعة".. إلخ. والإلتباس هنا تطرحه كلمة "أمازيغ" ذاتها التي لا يقتصر مدلولها على هوية القوم، ولكنها دلالة على حزمة من الخصال التي تصلح مترادفات كالنّبل، والفروسيّة، والشجاعة، والمواطَنة إلى جانب معنى الإغتراب بالطبع. وعلّ كلّ من عرف هذه الأمّة عن قرب سيُدرك كم يبدو كلّ فردٍ في هذه القبيلة البشريّة مبلبلاً على نحوٍ دراميّ بهذا الجنس من الضياع كأنّه ترجمةٌ أمينةٌ لتاريخ السّلالة الدموي، وتعبيرٌ عن تيهٍ فادحٍ كلّفهم إضاعة كتابهم المقدّس " آنهي " الذي إغتربت متونه في متون الأمم فاغتربت روح الأمّة بإغترابه؛ لأنّ كل أمّة هي أمّة بلا روح إذا لم تمتلك كتاباً مقدّساً!
ألنْ يبدو اغترابا نافذ المفعول وغير قابل للنقض ذلك الاغتراب الذي يُصادر فيه إسم أعرق الأمم (بعد أن صودر اللسان) ليصير "طوارق" أو "توارك" بقُدرة قادر بدل الاسم الأصلي المستلهم من واقعهم الثقافي والفعلي لا لشيء! إلاّ لأن الدُّخلاء عندما أقبلوا وجدوهم يقطنون تلك الأراضي الغنيّة بالمياه المسمّاة في لغة القوم "تارقا"، أو "طارقا" الدّالّة على وطن "فزّان" اليوم؛ وهي صفة تُعبّر عن واقع المكان كأخاديد تسري في عروقها فيوض الينابيع.
هاهي الهوية تغترب أيضاً، إذاً، بعد اغتراب الاسم لتكتمل بذلك فصول الحظر التي لابدّ أن تستقيم بتتالي الأجيال في بُنْيةٍ ممهورةٍ بروح اللغز.
9ـ الحياة بالإنابة
عندما أعتصر الذاكرة لإستعادة فحوى تلك المرحلة المبكّرة لا تهرع لنجدتي سوى بعض السّيماء الغائمة كأنها الأحلام العصيّة التي تستوجب أعند أجناس الإستجواب لإسترجاعها من قبضة النسيان. وعلّ محفل الأمّ في إجتماعها مع الجارات إبّان زيارتها للواحة كان إحدى السيماء التي إغتنمتْها الذاكرة لتتباهى بتحريرها من سلطة النسيان طوال هذا الزمان. وهو مالم يحدث لولا علّة تبدو تافهة لأوّل وهلة ترجمتها رغبة الأمّ في الإستماع إلى أغنية من جهاز "الغرامافون" الذي كنتُ أشرف على تشغيله في بيت الخال دون أن أدري اليوم لماذا خصّوني بهذا الشرف. فجهاز كهذا كان تحفةً نادرةً جدّاً في عالم الواحات في زمنٍ يرجع إلى بداية خمسينيّات القرن، أي في بداية إستقلال بلدٍ معدمٍ عُدّ أفقر بلدان الأرض قاطبة لا يتجاوز دخل الفرد فيه الدولار الواحد في شهر كامل، كما لم يُفلح حتّى ذلك الوقت المبكّر في تحقيق ميزانية سنوية حتى لو كانت حبراً على ورق. وقد أخفقت جهود حكومة ذلك الزمن العصيب في الإقتراض من الحكومات الأجنبية المنهمّة بلملمة جراحها البليغة الناتجة عن الحرب الكونيّة فتزامنت الجهود لسوءِ الحظّ مع المحنة. ويُقال أن الملك إدريس إستجار بمصر عبد الناصر لتدبير مليون جنيه مصري على سبيل الدين، ولكن عبد النّاصر خيّب مسعى الرجل عندما إشترط التنازل له عن الجغبوب مقابل المليون جنيه!
وهي سيرة موجعة رواها الشّلحي (مستشار الملك إدريس) للرّائد عبد السلام جلّود عقب إنقلاب 1969 م، ورواها جلّود لشخصي في لقاء جمعنا بجنيف في منتصف تسعينيات القرن الفاني. ولكن ما ماهيّة هذا الصندوق السحري الذي يستهوي ملّة النساء والمجبول على تلبية رغباتهنّ فلا يبخل عليهنّ بصنوف السماع وضروب الطّرب؟ أليس عملاً من قبيل السحر (أو الكفر) أن ترفع الآلة الملفّقة من قطع الحديد عقيرتها لتُسمع النّاس الأغاني بالإنابة عنهم؟ هل يُعقل أن نقبل غناءً بالإنابة؟
ما أذكره اليوم هو تمرّدي على مشيئة الأمّ في ذلك الزمن البعيد كأنّه الحلم. رفضتُ إسماع محفل الزائرات أغاني الآلة بعنادٍ تبدّى طبيعةً طفولية، ولم أدرك إلاّ أخيراً كم كان ذلك العناد مبرّراً. فقد كشفت لي الأيام معنى "الإنابة" عندما حاولتُ تأويل عدائي المستفحل لكلّ مامتّ بصلة لدنيا التقنية. لأن المنطق يقول أن مايُغنّي عنّا بالإنابة، ويعمل عنّا بالإنابة، بل ويُفكّر عنّا بالإنابة (كما هو الحال مع التقنية اليوم) إنّما يحيا عنّا بالإنابة في الواقع. ذلك أن الغناء في ناموس القارّة المفقودة لم يكن يوماً طلباً لطرب، ولكنّه عملٌ مجبولٌ بروح الإيمان، أي أنه في الأصل تجربة دينية. إنه ضربٌ من إبتهال، أو فلنقل صلاة، فأيّ ربّ يجيز الصلاة بالإنابة؟ أيّ ديانة تبيح العبادة بالإنابة؟ وما يُقال عن الصلاة ينسحب على فعلٍ جليلٍ آخر هو العمل. العمل في حياة الإنسان تجربة قدسيّة أيضاً بما أنّه واجب. والواجب في الترجمة إلى لغة اللاهوت يعني "دَيْن". والدّيْن يحمل هويّة "الدِّين" حرفاً ومعنى، أي أن العمل صلاة أيضاً. أمّا إذا أجزنا للإختراع أن يُمارس التفكير بالإنابة فإن ذلك لن يعني سوى تسليم زمام أمرنا للآلة لكي تمارس تجربة الوجود بالنيابة عنّا؛ لأن التفكير ليس هو البرهان على الوجود، ولكنّه الوجود مُجسّدا. ولا أحسب أنّنا بحاجة للإحتكام إلى الديانات أو الفلسفات للتّدليل على حقيقة الخطاب كرديفٍ للوجود بعد أن أمست مسلّمة. ويبدو هوسي باللغة قد تغلغل فيّ مبكّراً جدّاً، أي بتلقينٍ من وطن الوادي المسكون الملقّب "آوال" (الكلم) المبلبل برطانات الجنّ آناء الليل وأطراف النهار! وكان الأهل على ما يُروى يتندّرون بمخاطباتي لنفسي ومحاوراتي للمخلوقات المجهولة بأعلى صوت دون أن يعبّروا عن دهشتهم ليقينهم أنّي مسكونٌ منذ تجربة التّيه، والدليل هو بصمة العطبْ التي وسم بها الجنّ قدمي! وقد دعّم يقين القوم هذا منطق أنكرواً دوما أن يجري على لسان طفل كالطرفة التي تُروى عن قيامي بالإستيلاء على بيوض دجاجة جارة لنا في الصحراء، وعندما أقبلت الجارة لتحتجّ واجهتُ المرأة بمنطقٍ يقول أن الدجاجة هي صاحبة البيض، فإذا كانت صاحبة الشأن لم تحتجّ فبأيّ حقّ تحتجّ المرأة!
أعترف الآن أنّي إكتويت بنار ذلك الجحيم الذي عرفت فيما بعد أنه تبكيت الضمير كثمنٍ للحظر الذي وضعتُه على أغاني الآلة يومها دون أن أفهم لماذا؛ ربّما لإحساسي المبهم بهويّة أغاني الطرب التي يبثّها الجهاز ذات النزعة الجوفاء بالمقارنة مع هويّة أغاني الحنين الصحراوية المشحونة بالأشجان والأحزان واللهفة في طلب البُعد المفقود التي إفتقدتها منذ إغتربتُ عن فردوسي في الصحراء وحللتُ ضيفاً على حبسٍ إسمه الواحة. كان على شخصي أن يغترب في أركان هذا العالم طويلاً جدّا كي يُدرك يقيناً أن الإعتراض على غناءٍ بالإنابة هو إحتجاجٌ وجوديّ، ديني، على لعنة. صرخة ضدّ إغتراب الميلاد إجباراً، فبأيّ حقّ نقبل بحياة الإنابة نعلم جيداً أنها الاغتراب خياراً؟!
10 ـ هويَّة اللّحُون
اقترفت معصيةً في حقّ الأمّ وأسأتُ لناموس الضيافة في حقّ المحفل يومها، ولكن عزائي في أنّي لم أفعل ما فعلت استجابة لهوى الطفولة، ولكن تلبيةً لنداء. انتظرتُ من محفل النّسوة أن يُسمعنني لحون الحنين الصحراوية كما كُنّ يفعلن في مثل هذه المجالس. إنتظرتُ أن يتحفنني بأناشيد الصلاة التي افتقدتها منذ اغترابي عن المعشوقة الأولى، المعشوقة الخالدة، المعشوقة التي لم أدرِ يومها أنها سوف تصير لي قدراً إلى الأبد؛ ولكنّهنّ خذلنني! خذلنني لأنّهن أردن إستبدال صوت الصلاة مقابل صوت الآلة الملفّقة من معدن الدّنس. أنكرْن صوت الوجدان، صوت الروح مقابل صوت طربٍ مترجمٍ بالإنابة، كأنّ فعلهنّ ضربٌ من تضحيةٍ بالحقيقة في مقابل جني الزور. في قلبي وسوس الحدس فانتصرتُ لحقيقة كان عليّ أن أتألّم كثيراً قبل أن أعي حقيقتها. حقيقة لحون الأسلاف التي لم تكن يوماً طرباً. حقيقة هويّة أغاني القوم التي لم تكن سوى ركن في عبادة التكوين المنسيّة التي ذهب " آنهي" بأصولها فأنقذ هوس القوم بالغناء روحها. هذا الهوس الذي حكم بسنّ الناموس القاضي بتحريم أيّ تغيير في أنساق اللحون منذ الأجيال الأولى صوناً للرُّوح الإلهيّة المبثوثة في ترانيمها. إنّه الناموس التليد الذي إرتحل مع شقّ الدياسبورا الذي توجّه شمالاً ليصير عقيدة في إسبارطة؛ كأنّ لسان حال الأوائل يقول أن تحوير اللحن الإبتهالي تحويرٌ لمتنٍ مقدّس، وتحوير المتن المقدّس تزويرٌ لكلمة الربّ التي هي في الترجمة إلى لغة الدنيا حضور الربّ، أو وجود الربّ. وهو ما يعني في الناموس الديني ليس التجديف في حقّ الربوبية وحسب، ولكن إنكار وجود الربوبية. أمّا نزعة إستنزال الألوهة في روح الموسيقى فنستطيع أن نجد لها حضوراً في نصوص الكتب المقدّسة بأسرها بدايةً بـ"ريغ فيدا " السنسكريتيّة ونهايةً بآيات القرآن مروراً بالعهدين القديم والجديد. إنّه هوسٌ وجدانيٌّ ممهور بالروح الشعرية بشّرت به عرّافات معبد دلفى في ديانات اليونان القديمة اللاّئي لا يبحْن بالنبوءة إلاّ شعراً مجبولاً باللغز الذي يحتمل أكثر تأويل. ولو تأمّلنا مسرح الإغريق في زمن البدايات لاكتشفنا حضوراً طاغياً لهذه النزعة. فأصوات "الكورس" المحتجبة وراء الخشبة الحاملة لكلمة القدر والممثّل الخفيّ لمشيئة الألوهة لا تُجاهر بحكمها على الأحداث إلاّ غناء! وهو برهانٌ آخر على أهليّة اللحون كترانيم دينيّة تترجم حنين المخلوق في إغترابه عن ملكوت الخالق. وهي تجربة كُتب لي أن أحياها في الصحراء قبل أن أكون شاهداً على حضورها في الواحات أيضاً. عشقتها في الصحراء من خلال سقوط الرجال صرعى الوجْد في حفلات الغناء التي تُنظّمها النساء تحت ضوء القمر في العراء عادةً ليبقى هؤلاء الأشقياء أسرَى المسّ أياما ً ما لم تهرع لنجدتهم الصبايا بحفل نهاريّ لإرواء حنينهم إلى الوطن المفقود. ويحرص القوم على إستخدام عبارة " الإرواء من الظمأ " للتعبير عن هذا الطقس الديني الجنوني!
أمّا في الواحات فتقدّم الفرق الصوفيّة استعراضا ليليّاً أيضاً يطلق عليه المريدون إسم "الحضرة" حيث يطوفون الشوارع وهم يقرعون الدفوف، ويترنّمون بالأوراد الدينيّة، ويرقصون نشداناً لوجْدٍ يحقّق التماهي مع الله. وإذا كان إستعادة الحضور في الفردوس الضائع مشروطٌ بإستخدام اللحون، فإن تلقّي الإلهام أيضاً لا يحدث بدون عون الموسيقى. ففي "ميلاد التراجيديا" يروي نيتشه كيف كانت القصيدة تولد عند شيلّلر كلحنٍ ناءٍ بالكاد يُسمع. وهي شهادة ذكّرتني بسيرة إستجداء النبوءة بالنوم على أضرحة الأسلاف في مجتمع الصحراء حيث يصير ميلاد النبوّة رهيناً بسماع لحنٍ غامضٍ شبيهٍ بطنين النّحل يسبق اللّقية! وهو ما يُترجم يقين القدماء بحقيقة الموسيقى كسفيرٍ وحيدٍ مؤهّلٍ للتعاطي مع عالم ما وراء الطبيعة. إنّها تلك المعجزة التي حاول أفلاطون أن يفكّ طلسمها عندما قال أنّها صوت حركة الأكوان في اللاّنهاية واللاّبداية لتمسي من هذا المنطلق سفير عوالم ما وراء الطبيعة أيضاً إلى دنيانا إلى جانب رسالتها كسفيرٍ لنا إلى تلك العوالم!
الموسيقى، إذا هي لسان ذلك المجهول المنزّه عن استخدام اللّسان!
11 رباطُ سماءٍ بأرض
ولكن يجب أن أعترف أن الخروج على طاعة الأمّ كان لي دائماً نقطة ضعف كلّفتني ثمناً باهضاً لم يقتصر على تبكيت الضمير، ولكنّه تحوّل مع الأيّام صراعاً موجعاً بين الإحساس بالواجب نحو مشيئة الأم المقدّسة في جلّ الثقافات حتّى لو كانت على خطأ، وبين الإحساس بالواجب نحو الحقيقة التي وسوس لي حدسي في تلك المرحلة المبكّرة بوجوب التضحية بكلّ شيء (بما في ذلك رغبات الأم) في سبيل الإنتصار لها. ولمّا كانت الحقيقة يتيمة ومغتربة ولا نصير لها في دنيا الناس يتولّى الدفاع بالنّيابة عنها فإن من يفعل، كما تعلّمت، لابدّ أن يجني إستنكار الكلّ، بل وإضطهادهم ليُنعت مُريدها بالعصيان والعناد والإنضمام إلى صفوف الملّة الشقيّة كما يروق للكبار أن يُطلقوا عليها. وهو وضعٌ ولّد وعياً مبكّراً بغياب العدالة وبوجود خللٍ عظيمٍ لم أدرك له سبباً وقتها برغم يقيني اليوم أنه لعب دوراً عميقاً في محاولاتي المستميتة التالية لفهم رسالة الإنسان في عالم معادِ بطبيعته للقيم الأخلاقية. وأذكر الآن أوجاعي التي لا تطاق ما أن أشهد الأوجاع التي كُنتُ لها سبباً للأم فألجأ لتغذيتها بحقيقتها كإمرأة لا حول لها ولا قوّة وجدت نفسها يتيمة الأبوين في طفولةٍ مبكّرةٍ لتتولّى تربيتها جدّتها من جهة الأب حتى إذا غابتْ الجدّة تولّى الخال زمام أمرها. وكان بإمكان التيتُّم أن يهون لولا الميتة التراجيديّة الرهيبة التي وافت الأب عقب رحلة خرجت فيها لوداعه وهي طفلة في السادسة أو السّابعة، فلم يعُدْ منها أبداً. لم يعد لأنه إنهمك في حفربئرٍ غمرتها الرّمال مع بعض القرناء فانهار البئر ليلفظ أنفاسه إختناقا بالتُّراب بدل الماء، فلم تحتمل أم الفقيد (جدّة الأمّ) هول الصدمة فكان أن فقدت الذاكرة. وتروي الأمّ كيف كان يروق لهذه العجوز الصابرة كلّما واجهتها قريناتها العجائز باللّوم بسبب تضعضع الذاكرة المفاجيء: "كيف لي أن أطمع في بقاء الذاكرة إذا كانت قد دُفنتْ مع صاحب البئر؟". ويُقال أنّها أطلقتْ إسم "صاحب البئر" على وليدها الفقيد ولم تذكر له إسماً منذ ذلك اليوم.
والأمّ إمرأة مسالمة تُدين بإسلامٍ مشفوعٍ بروحٍ صوفيةٍ عميقة موروثة من معتقدات وطنٍ كان لصيقاً بالأرض، عابداً في محراب الطبيعة، معتزلاً بناموسٍ أملتْه سجيّة القارّة المعزولة. ولهذا وجد الشقّ المجبول بروح التّصوّف في الإسلام تربة أخصب في إستنبات عناصر الدين الجديد بالمقارنة مع شقّه الآخر، الحرفي والشعائري، الذي وجد مناخاً أنسب في المدن. ويبدو أن إنتماء الأم لسلالات قبائل "منغساتن" الآزجريّة قد لعب دوراً في التّرحيب بالشّق الصوفي في هذه الديانة لإعتناق هذه القبائل لديانة الربّة البدْئية "تانّيت" من دون بقيّة القبائل: تلك الديانة الصحراوية التي دان بها كلّ الشمال الإفريقي، بل وهاجرت مع فلول الدّياسبورا المكوّنة في مصر القديمة لحضارات ما قبل الأسرات، وعبرتْ بحر ليبيا إلى شطآنه الشمالية لتصير معبودة أهل اليونان كما يروي هيرودوت. وإسم "تانّيت" يترجم هوية الربّة من خلال مدلولين إثنين أوّلهما: التّأنيت لكونها ربّة الكون وأمّ الطبيعة الأولى، وثانيهما: الأحديّة كمفهومٍ للبرهنة على هويّة التوحيد الذي يبدو أنه نزعة دينيّة لم تولد بميلاد ما نُسمّيه اليوم بديانات التوحيد، ولكنّه يقينٌ عاش في قلوب أهل التكوين أيضاً. ولمّا كان الإبدال شائعاً (بل ومشروعاً) بين التاء والسين في كلّ اللغات تقريباً، فقد عرف التاريخ إعتناق هذه الربّة من قبل الدخلاء الفينيق في الألفيّة الأولى قبل الميلاد ليُطلق إسم الربّة على حاضرتهم "تانّس" التي تحوّلتْ تالياً إلى "تونس". أمّا في مصر القديمة فقد أُطلق الإسم على عاصمة دلتا النّيل "تانّس". وهو مالم يحدث بدون مبرّر له حضور في اللغة وحسب، ولكن في الطبيعة أيضاً. فالعاصمة قامت في النقطة التي ينشطر فيها مجرى النيل مكوّنا شكلاً هندسيّاً مثلّثاً بإعتراض البحر للنّهر. والسرّ هنا يكمن في مبدأ التثليث كرمز ديني كان عنوان هذه الربّة منذ البدء إستجابة للهوية الأنثويّة المختزلة للطبيعة الأم؛ كأنّ إسم العاصمة منحول من واقع الحال المسطّر بمياه النيل على الأرض. ليس هذا فحسب، ولكن حضور الربّة على الأرض لا يكتمل بدون إستحضار معبد للربة حامل لهوية الربّة المتمثّلة في رمز الربّة: إنّه أعجوبة الزمان "خوفو" الذي لم يكتفِ دهاة الكهنة بتشييده بهندسة التثليث لا في الشكل الهندسي وحده، ولكن في العدد أيضاً!
ولمّا كنّا ندري أن كلمة "دلتا" تعني في اليونانية حرف الدّال الذي يُكتب على شكل مثلّثْ أيضاً، فإنّنا لا يجب أن نندهش إذا علمنا أن هذه الكلمة إنّما تعني حرفيّاً في لغة أهل الصحراء الكبرى: "أرض ذات طبيعة أنثويّة". ولكن الصفقة لم تكن لتثمر بسلطان الأنوثة وحده، وهاهي الأقدار تُدبّر المجيء بالأب الذي ينتمي إلى سلالات "أوراغن" إستجابةً لشروط قِرانٍ لا يبدو أنه مجرّد عقد بين رجل وامرأة، ولكنّه زواج بين سماءٍ وأرضٍ بوصفهما الخليفتين الشرعيّتين لجدل الروح والجسد، كأنّ حضور هذا المخلوق الهشّ في الوجود ما هو إلاّ النموذج الذي يختزل ميلاد الكائنات بأسرها من عناق هذين القطبين. ذلك أن "أوراغن" هو جمع لمفرد هو أوراغ" الدّال على إسم القبيلة المخوّلة بتولّي مقاليد الحكم في شرع أهل الصحراء الكبرى. وهو إسمٌ مستعارٌ من كلمة "رغ" الدالّة على الشمس لا في لغة القوم وحدهم، ولكن في لغة مصر القديمة أيضاً. وهي ترد في متون علماء المصريّات بالعين بدل الغين المنقوطة كخطأ شائع؛ لأن لا وجود لحرف العين في اللغات الحاميّة، ولا لحرف الحاء أيضا. وهذه الكلمة المشتركة بين اللغتين إشتقاق من فعل "رغ" الدّال في الأصل على الإشتعال. وهو نعتٌ حسّيٌّ صائب للتّعبير عن الشمس ككوكب له حضور طبيعي. يُضاف إلى هذه الصفة رديفٌ آخر هو "الإصفرار" في اللّون. هذه الحفنة من الدّلالات المنطقيّة قادت إلى معانٍ أثرى سُرعان ما استقامت في بُنيتين مفهومتين إعتنقتهُما جلّ لغات العالم هما (أوّلاً): معنى "الذهب" كمعدنٍ مشبوه الهويّة بسبب طبيعته التي لا تصدأ أو لا تبيد بالمقارنة مع بقيّة المعادن، ومعنى "السموّ" (ثانياً) في كلمة "OR" (أور) التي ناءت بحمولة ثريّة من الدّلالات في مختلف الثقافات مثل "التكوين"، و"الكيان"، و"المدينة"، و"إرتفاع الشأن"، و"السكون"، و"الإستواء" إلخ، دون أن ننسى الطبيعة المزدوجة لهذه الحمولة بحيث تكتسب المفهوم التجريدي إلى جانب البُعْد التجريبي. فحرف الغين في لغتَي مصر القديمة وأهل الصحراء هو إبدال من حرف الواو بحيث تتحوّل "أورغ" بقدرة قادر إلى "أورو" وهي الصيغة التي إستعارتها اللغات الأوروبّية إرثاً من اللاّتينيّة. ومن المثير أن نكتشف في الكلمة مدلولاً أبعد منالاً لو تأمّلناها مليّاً وهو "القِدمة". وهو إكتشاف لم يكُن ليكتسب أهمّيةً إستثنائيةً لو لم يدلّ على الألوهة لا في لغة القوم وحسب، ولكن في لغة مصر القديمة، وفي العربية أيضاً. فالقديم صفة للتّعبير عن الربوبيّة و أحد أسمائها الحُسنى. وعبارة أبوبكر الشّبلي "إنّي أغار على القديم أن يراه المُحدث" برهانٌ آخر على اليقين. أمّا في مصر القديمة فإنّ "رو" هذه أُضيف لها حرف الهاء الذي كان يُعامل (ومازال كذلك في بعض اللغات كالفرنسية مثلا) معاملة الحرف المتحرّك الذي يؤدّي في الكلمة وظيفة موسيقيّة ليس إلاّ، لأن لا إعتراف في لغات العالم القديم إلاّ بالسّواكن. بإضافة الهاء صارت الكلمة "هرو". وهي الكلمة الجليلة التي يدري كلّ من أوتي علماً بديانات مصر القديمة حقيقتها الدالّة على "ربّ الأرباب" وهو المرموز له في النّقوش بالأعلام التّسعة التي تٌرفرف مُتجاورةً مشدودةً لصفّ الأعمدة المقدّسة. هذا هو الشقّ المجازي للكلمة. أمّا شقّها الحرفي فجملة لا تخلو من شعر تقول ترجمتها: "بيت القدمة"، أو "حفيظة الزمن الأبدي" لأن حرف الهاء يعني في اللغتين معنى البيت، أو الحاوية، أو المعبد. ولهذا فإن علماء المصريّات عندما يُترجمون عبارة "برت إم هرو" بعبارة "كتاب الموتى" إنّما يعبّرون عن عجزهم في فكّ طلسمان جملةٍ مستغلقةٍ تقول "الطريق إلى برّ ربّ الأرباب". وهو طريقٌ لا يبدو تجريديّا إلاّ لمن جهل حقيقة الدياسبورا البدْئيّة التي إنطلقت من الصحراء شرقاً بعد بليّة التصحّر التي عرفتْها الصحراء في العشرة آلاف سنة الأخيرة لتستقرّ على ضفاف النيل دون أن يموت الحنين الكامن في الجينات للوطن الأمّ. وفي أحد أركان هذا الوطن، بل في البقعة التي إعتبرها مُريد الصحاري وعلاّمة علمائها "مانو" الركن الأجمل في العالم و الأكثر إكتمالا حسب تعبيره؛ في هذا المكان العامر بالبحيرات إلى اليوم تنتصب أنصاب "إمِ هرو" الأسطوريّة متشبّثة بالإسم الخالد الذي خلعته على تلك القبيلة التي تولّت حكم "آزجر" مع الأجيال والتي أنجبتْ الأب الذي قُدّر له أن يكون لي سلفاً، وقُدّر لي أن أكون له في أرض الله خليفةً.
وكان من الطبيعي أن تتحلّى الأمّ بسجيّةٍ دنيويةٍ في مقابل سجيّة الأب الزهديّة الميّالة للعزلة ليقف من الدنيا موقف المُشاهد دوماً؛ وهو سببٌ كافٍ لزعزعة كيان العهد لتنتهي العلاقة بالإنفصال بعد قِرانٍ دام ثلاثة عقود؛ أي ليس قبل أن تتحقّق الطبيعة من إنجاز رسالتها بانقضاء المهلة الموجبة لإستغناء الذرّية عن رعاية الأبوين.
عن هذين الإنسانين النبيلين الملفوفين بالتقوى والغموض حيكت أساطير لا أساس لها من الصحّة تقول أن الفضل في تلقيني الأساطير إنّما يرجع إليهما، دون أن يدري من روّج لهذا الزّعم أنّنا لا نتعلّم في الطفولة من الأتقياء بقدر ما نتعلّم من الأشقياء. والرواية تنهل من الإصطياد في الماء العكر أكثر ممّا تنهل من ذوي المُثل االزهديّة أو المستجيرين بحصون الأخلاق. وهو ما يدعوني لأن أستسمح هؤلاء فأقول أنّ الصحراء كأمّ أمّهات هي مستودع أسرار، وهي كروحٍ لهذا العالم تضيق لا بالأساطير وحسب، ولكن بما هو أعظم شأنا وهو الحقيقة. وهي لا تبخل على مُريدٍ تماهى بها بهذه المعجزة (الحقيقية) فكيف تبخل عليه بأسطورة هي لها دليلٌ مجسّد في متناول اليد؟
12 اللّغة والحَقيقة
لم أكن أدري في اليوم الذي وجدتُ نفسي أجلس على المقعد في الدراسة أنّ طوراً جديداً من ملحمة الإغتراب كان في إنتظاري. والأسوأ من حقيقته كإغتراب هو طبيعته المزدوجة: فهو إغترابٌ عن الوجود بوصفه إغتراب عن اللغة الأمّ، والإرتماء في دنيا مجهولٍ تمثَّل في رطانةٍ أجنبيّةٍ، هو إغتراب عن ملكوت الروح بوصفه إيذانٌ بالخروج من فردوس البراءة والسقوط في مستنقع المعرفة!
جلستُ بين أقرانٍ يتعاطون اللّسان المطلسم بدليل إجاباتهم عن الأسئلة، في حين لم يُنجدنِ فضولي في فكّ عقدة لساني. جلستُ بينهم ذاهلاً محموماً بالخجل لجهلٍ لا ذنب لي فيه أيقظ في وجداني الطفولي عدم الإنتماء إلى هذا العالم، وكان عليّ أن أفعل شيئاً جسيماً (فعلاً بطولياً) لإستعادة هويّتي الضائعة والفوز بثقة العالم، برغم لا مُبالاة العالم التي تجلّت في عدم إكتراث زملائي التلاميذ الذين جاوروني في مقاعد الفصل، وفي عدم إكتراث المعلّم الذي رأى في عجزي عن الإجابة على الأسئلة بلاهة وبلادة وغباء فكانت النتيجة أن تجاهلني عقاباً لي. وكان عليّ أن أتجرّع مرارة الجور بصمتٍ في مقعدي الملفوف بالعزلة، لأكتشف مبكّراً أن العزلة الأسوأ ألف مرّة ليست عزلة الصحراء الأبديّة، ولكنّها عُزلة اللغة. عزلة إنسانٍ أعجزه الخطاب في التواصل مع أخيه الإنسان. أدركتُ أن العزلة هي العجز عن إستخدام اللسان. ولهذا السّبب لم يُخطيء القوم عندما أطلقوا إسم "إيبي" على الأبكم، لأنها تعني معنى "العدم" إلى جانب معنى البُكمْ. لقد كان كهنة أسلافهم في مصر القديمة يتظاهرون أمام معبد أوزوريس ليهتفوا: "اللسان سعادة! اللسان ألوهة!" إكباراً لجلالة العضلة المشبوهة التي خلقت من الإنسان إنساناً. أقول "مشبوهة" لأن أولئك الدُّهاة الذين خلعوا عليها هذا الشرف هم أنفسهم من شكّك في أمرها عندما إتّخذوا من التّمساح معبوداً لتجرُّده من اللسان بالذّات. وغياب اللسان في عُرف الديانة كان شهادة بالألوهة. وهو جدل له جذور في لغة التكوين المغرمة باستخدام الاستعارة؛ لأن الألوهة إذا كانت قد تنازلتْ عن اللسان لتصير هذه النعمة غنيمة حكر على الإنسان، فإنها لم تتنازل عن الخطاب وإن إستبدلتهُ إستبدالاً. إستبدلته بلغة الإشارة. وهو فصلٌ مثيرٌ من عبادة المستتر الذي كان سليقة لغة الأوائل. فإذا كان أهل الصحراء يُزاوجون بين الإنسان واللسان في كلمة "آلس" الدالّة على كليهما، فإنها قدّست لغة الإستعارة كما لم تُقدّسها لغة أخرى. وعلّ عبارة:"آوال داغّ أماوال" (التي تعني "الكلام تحت الّلثام") أكبر دليل على هذه النزعة. إذ ما معنى وجوب الكلام تحت اللثام إن لم يكن وجوب التعبير رمزاً؟ وهو ما يعني أيضاً في تقاليد القوم أن اللسان هو العار الذي يجب أن نُخفيه في مقابل أن نستجير بالتورية، أو الإيماء، أي رمزاً. وقد إتخذ القوم من اللثام لا حماية للرأس من عوامل الطبيعة كما يُروّج الجهلاء، ولكن لإخفاء الفمْ، لإخفاء عار الفمْ وهو اللسان. أي للحكم بالمنفى على عضلةٍ لئيمةٍ لا تُضبط (كما يصفها سفر يعقوب) لأنّها برهان إغتراب لهويّتها كخطاب. أي لحقيقتها كخطيئة! والدليل على الطبيعة الجدليّة لهذه الأعجوبة (اللسان) هو إغترابنا بحضورها، وإغترابنا أيضاً بغيابها. وها أنا أجلس في مقعدي ذليلاً، معزولاً، منبوذاً، في رحاب خطاب المجهول إلى أن أنقذني المرض. بلى! لقد صرعتني الحُمّى بعد أشهرٍ بسبب ذلك الإغتراب. تغيّبتُ عن حرم القصاص لأسابيع نتيجة المرض الغامض، وعندما عُدتُ إلى المقعد فوجئتُ بالمعلّم يُحيطني بإهتمامٍ لم أعهده كأنّه شاء أن يُكفّر عن خطيئته في حقّي عندما إكتشف أن سوء ظنّه بي لم تكن له البلادة سبباً بقدر ما كان سببه الجهل باللغة.
أذكر اليوم كيف كان يعرض أمام زملائي كرّاساتي الممهورة برسومٍ كنت أتسلّى بها أثناء مرضي متباهياً بها لينفي عنّي تُهمة الغباء! كانت تلك الرسوم أحلاماً بالفردوس! كانت رسوماً لبساتين لا وجود لها لا في الصحراء، ولا في الواحات. بساتين ثريّة بأشجارٍ خضراء تثقل أعرافها ثمار مجهولة كأنّ الحلم أبى إلاّ أن يترجم الحنين إلى الفطرة الأولى التي كان عليّ أن أستجير بها فراراً من خطرٍ منتظرٍ تعدُ به معرفة تهتمل بها رطانة اللسان المجهول. وها هو الأب يُقبل ليُعيدني إلى رحاب الصحراء قبل أن أِلج دهليز الخطر بفكّ طلسمان المارد القابع في قُمقم اللغة!
اللّغة حقّاً وجود، ولكنّها أيضاً خطيئة؛ لأنّها إغترابٌ عن الحقيقة!
13ـ قَدَرُ النّزَاهَة
العودة إلى الصحراء تزامنت مع حدثين لعبا دوراً طارداً من الصحراء، أوّلهما كان التفجير النووي الفرنسي الذي صحّر صحراءً لم تكن أبداً قبل ذلك اليوم صحراءً. وثانيهما ذو صلة بفرنسا أيضا تمثّل في تلبية الأب لنداءٍ رآه واجباً وهو المساهمة في دعم ثورة الجزائر المجاورة بتهريب الذخيرة الحربية الآتية من مصر عبر طرابلس وجبل نفوسة وتمريرها عبر الصحراء إلى ديار نوميديا المغتصبة في خطّة تقضي بتسليمها إلى عمّ الأب إبراهيم بكّدة الذي كان زعيم آزجر آنذاك والمقيم بـ"إليزي" ليقوم الأخير بتسليمها بدوره لزُعماء الثوّار بموجب إتّفاق سرّي مبرم بين الطرفين في القاهرة يعود تاريخه إلى عام 1954 م عندما كان الزعيم في طريقه إلى مكّة لأداء فريضة الحجّ. وهو إتّفاق لم يُكتب له في النهاية أن يُفلح لا بسبب يقظة جواسيس فرنسا الذين رافقوا هذه الشّحنة الشقيّة منذ إنطلاقها من ميناء الإسكندريّة، ولا بسبب طول الطريق المشبوه الحافل بأرتال وسطاء لا يُمكن الوثوق بهم وحسب، ولكن بموجب عبور الكنز لصحراءٍ كُبرى مازالت آنئذٍ تخضع لفرنسا بما في ذلك جنوب ليبيا الممتدّ من غدامس في الشّمال الغربي (والمتاخم لمُستعمرة فرنسيّة أخرى هي تونس) حتى منطقة "فزّان" في جنوبٍ يُتاخم وطناً تعتبرهُ فرنسا جُزءً لا يتجزّأً من الوطن الأمّ.
إستلم الأب الشحنة من مندوبي الثوّار في جبل نفوسة، وقام بإستئجار قافلة جمال تزيد على الخمسين بعيراً قبل أن ينطلق بالحمولة النّفيسة عبرالحمادة الحمراء الملقّبة في لسان القوم بإسم "تينغرت"، ولكن فرنسا التي لم يُعجزها أن تزرع جواسيسها في مصر وطرابلس لم تكن لتعجز عن تجنيد عُملاء في أرض ٍ تخضع لسيطرتها، فكان من الطبيعي أن تكتشف سلطاتها خطّ سير القافلة سيّما إذا علمنا أنها لم تكتفِ بإستزراع الجواسيس في طريقها وحسب، ولكنّها سخّرت قوافل السيّارات الباحثة عن شخص الأب عبر الصحراء، بل و سخّرتْ الطائرات أيضاً. لم تكتفِ بكلّ هذه التّدابير، ولكنها أصدرتْ أوامر صارمة لمركز شرطة فرنسا ببلدة "درج" (آدري) الواقعة على طريق غدامس بمُتابعة سير القافلة وعمل كل مستحيل للحيلولة دون عبورها إلى أراضي آزجر الواقعة داخل نوميديا. وهي مفارقة جديرة بالتأمُّل؛ لأن السلطة السياسيّة المهيمنة على تلك الأنحاء كانت ماتزال مزدوجة (ليبيّة ـ فرنسيّة)، ومركز الشرطة الفرنسي يجاور مركز شرطة ليبيا. ليس هذا فحسب، ولكن أكثر المجنّدين في مثل هذه المراكز الأمنيّة الفرنسيّة هم من أبناء قبيلة الشعانبة الجزائريّة، ولن يكون غريباً لهذا السبب أن يتعاطفوا و لو خفيةً مع أبناء القبائل الليبيّة، هذا إن لم يتعاطفوا مع الثوّار أنفسهم. وتشاء الأقدار أن يكون أحد هؤلاء هو من لعب دوراً في تحذير الأب عندما بعث أحد أقرباء الأب رسولاً للخلاء ليطلب لقاءه شخصيّاً لأمرٍ هام. ويروي الأب تفاصيل هذا اللقاء فيقول أنّه تردّد في تلبية الدعوة طويلاً، ولكنّه قرّر أن يُجازف في النهاية بالذهاب إلى مركز الشرطة الفرنسي بعد أن تسلّح بمُسدّسه. ذهب لزيارة ممثّل السلطات الفرنسيّة بقدميه. ذهب ليلاً حسب الإتّفاق. ذهب وحيداً حسب الإتّفاق المسبق أيضاً. قال أنه إنتظر في سكون الهزيع الأخير من تلك الليلة أن يتلقى عياراً ناريّاً في أيّة لحظة وهو يقترب من بنيان المركز، ولكنّ شبحاً خلف البنيان وقف في إنتظاره. من هذا الرجل علم أن حياته في خطر، لأن العملاء وشوا به، وسيّارات السلطة تمشّط الصحراء طولاً وعرضاً بحثاً عنه. سليل قبائل "الشّعانبة" أدهشه أيضاً عندما قال له وهو يُشير إلى باب بنيان المركز الخلفي: "هل ترى هذا الباب؟ إنه الباب الذي أتاني منه آخر الجواسيس الذي وشى بك!". ثم أدهشه الرجل أكثر عندما ذكر له إسم صاحب الوشاية ليكتشف الأب أنه لم يكُن سوى أحد ذوي القُربى!
حدث هذا في وقتٍ كانت فيه القوّة العسكريّة الفرنسية المرابطة في غدامس تذرع الصحراء لتقتحم نجوع القبائل حاملةً صورة شخصيّة لإنسانٍ ملثّم (لم يعرف حتى الأب نفسه بأيِّ حيلة إستطاعوا العثور عليها) دأبوا على إشهارها في وجوه الكلّ (صغاراً و كباراً، رجالاً و نساءً، سادةً، و رُعاةً) ليُسائِلوا هؤلاء عمّا إذا كانوا يعرفون الرجل، ومتى وقع بصرهم على شخصه آخر مرّة! وقد إهتدت الحملة أخيراً إلى رجلٍ قيل لهم أنه صديق الرجل المطلوب، يسكن بالقرب من واحة درج (آدري) هو وحده من يستطيع أن يدلّهم عليه. ولم يكن عسيراً بالطبع أن يعثروا على هذا الرجل الشقيّ الذي ينتمي إلى أشتات القبائل الأفريقيّة التي كان أفرادها مماليكاً يوماً لقبائل الصحراء، ولكنّها تحرّرتْ من العبودية مع الزمن فظلّتْ تدور في فلك قبائل السادة، منتحلةً لنفسها هويّتها. ويبدو أن وقوع خبثاء القبائل على المسكين "سلوفن" (هذا هو إسمه) لم يكن مصادفةً، ولكنه عملٌ مدبّر، لأنه أصلح مخلوق للعب دور الضحية لا بسبب نقطة ضعفه لعلّة الإنتماء الطبقي وحسب، ولكن لعلّة العطب البدني أيضاً وهو الذي يعاني عجزاً في إحدى ساقيه نتج عن شللٍ قديم. وتشاء الأقدار أن يكون هذا الرجل الإنسان هو الذي لقّن القوم درساً في البطولة ليُبرهن للجيل أن خصالاً حميدةً كالشجاعة أو النّبالة أو النزاهة أو التضحية ليستْ حكراً على جنسٍ دون جنس، أو طبقةٍ دن طبقة، أو لونٍ دون لون؛ ولكنّها هِبة تخلعها المشيئة الألوهية على من تشاء. وها هو "سلوفن" يعترف لأجناد السلطات الفرنسية المطلقة الصلاحيّات بصداقته للطّريد، ولكنه يُنكر علمه بمكان الرجل. فماذا كانت ردّة فعل جنود مستعمر مُطلَق الصلاحيّات، في أرضٍ عاريةٍ خلوّ من الشهود، لا وجود فيها لقانون؟ لقد أخذ العسكر الرجل في سيارات الجيش ليطوفوا به الصحاري، وأخضعوه هناك لأسوأ صنوف التعذيب الجسدي والمعنوي، دون أن يُفلحوا في إجباره على إفشاء مكان وجود الأب برغم يقينهم بأنه يعرف، وبرغم يقينه هو أيضاً بأنّهم يعرفون أنه يعرف. جرّبوا طويلاً، ثم إستدركوا فاستبدلوا سلاح العنف بسلاح الإغراء. وعدوه بالثراء، ونصبوا في وجهه العُملات النقدية، ولكنّه لم يتنازل. في النهاية قرّروا له الإعدام! أوقفوه في الخلاء وصوّبوا نحوه بنادقهم مهدّدين أنهم سيطلقون عليه النار حال الإنتهاء من العدّ إلى الثلاثة. ولكن الرجل واجه فوّهات البنادق ببسمة ساخرة قائلاً أنه لن يستسلم حتى لو أمهلوه بالعدّ إلى الألف، لأن ليس له أن يُجيب عمّا لا يعلم. كان يرى التصميم في عيونهم، وكان على يقين أنهم سيُطلقون النار لسببٍ بسيطٍ وهو عدم وجود قوّة في هذه الصحراء الأبديّة تستطيع أن تمنعهم أو تكون شاهداً على ما فعلوا. ولكنه، برغم هذا اليقين الرّهيب، لم يُبالِ. وها هم يفون بوعدهم فيطلقون! إنطلقتْ النيران من أفواه البنادق بالفعل، ولكنه لم يرتجف، ولم يرفّ له جفن، ولم يسقط أرضاً، ولم ينزف أيضاً. أطلقوا ما أن إنتهوا من العدّ، فغرّدت رصاصة بجوار الأذن، وزفزفتْ أخرى فوق اللثام، ونفثتْ رصاصات أخرى الغبار عند القدم المُصابة بالشّلل. بعدها تراطن العساكر بوصايا خفيّة قبل أن ينطلقوا به في طريق العودة إلى المضارب. لم يُصدّق "سلوفن" أن ذلك العرض لم يكُن سوى تمثيلاً دمويّاً متقن الصنع إلاّ عندما أخلوا سبيله بجوار خبائه، ثمّ كشّروا في وجهه بضحكات عصبيّة مردّدين أن عليه أن ينسى ما حدث لأن الأمر لم يكُن سوى مزحة. وكي يُبرهنوا على صدق نواياهم ملأوا حجره بأندر المؤن الغذائية والمعلّبات، كما لم ينسوا أن يحشوا جيبه بحفنة الأوراق النقدية، ثم انطلقوا ليحثوا في وجهه سحب الغبار بعجلات عرباتهم الحربية. فماذا فعل الشقيّ سلوفن وهو الذي لم يُصدّق أنّه مازال على قيد الحياة؟ لقد حرّر حجره من العطيّة كأنه يغسل بدنه من عفن، ثمّ إنطلق صوب مركز الشرطة الوطنية ليحرّر بلاغاً رسميّاً بما حدث.
ولكن السلطات العسكرية الفرنسية المرابطة بالأراضي الليبية لم تيأس من القبض على الأب. وهاهي تدفع بأرتال سياراتها الصحراوية إلى كل الفلوات مستعينةً بالأعوان والجواسيس ليبلغ هذا البحث المُميت الذروة في اليوم الذي واجهت فيه إحدى فرق التفتيش الفرنسية رجلاً ملثّماً ينهمك في سحب الماء من بئرٍ يقع في الصحراء الجنوبية الغربية ليشهر رجال تلك الفرقة صورة الأب في وجه الرجل ليُتوّجوا فعلهم هذا بالسؤال عمّا إذا حدث ورأى هذا الرجل. تامّل الرجل الصورة ببرود، ثمّ تطلّع إلى العسكر بلا مُبالاة قبل أن يهزّ رأسه نفياً. تزوّدت الفرقة بحاجتها من الماء ثم قفز الجند في سياراتهم وانطلقوا دون أن يخطر ببالهم بأن الرجل الذي إلتقوه على البئر ودفعوا الصورة في وجهه هو نفسه صاحب الصورة!
وإذا كان الفرنسيون أخفقوا في القبض على الأب في تلك الحملة الجنونية، بيد أنّهم أفلحوا في تغذية شكوك الثوّار بإمكان وصول شحنة الذخيرة الحربية إلى داخل أراضي نوميديا فقرّروا إستعادة الكنز من الصحراء وشحنه بحراً عبر تونس. وقد أفلحوا في الشحن حقاً وإن أخفقوا في الوصول به إلى شطآن الأمان: فقد تمكّنتْ ترسانة الجوسسة الفرنسية من تفجير الباخرة الحاملة للشحنة في عرض البحر قبل أن تبلغ أرض الميعاد!
ولكن فشل عملية التهريب لم يعصم الأب من مُطاردة السُّلطات الفرنسية المهيمنة على الصحراء، وبقي إسمه يتصدّر قائمة المطلوبين، ممّا أجبر السلطات الليبية الوليدة على إتّخاذ تدبير لحماية أحد مواطنيها فلم تجد حيلة لتحقيق هذا الهدف غير خلع مسوح المسئولية عليه، لأن اليقين السائد يقول أن المنصب الحكومي حصانة رسمية قبل أن يكون غنيمة دنيوية. وهاهي الحكومة الوطنية تستصدر عام 1956 م القرار الوزاري القاضي بتعيين الأب مديراً لناحية أوباري. وغنيّ عن القول أن هبّة نوميديا القرن العشرين ضدّ الإستعمار الفرنسي كانت حدثاً بطوليّاً لن يُقارن إلاّ بهبّة نوميديا ما قبل التاريخ ضدّ الإستعمار الروماني بزعامة البطل الأسطوري يوجرتن. وروح البطولة هو ما حوّلها عملاً أسطورياً ما لبث أن صار نقطة ضعف لا الليبيين وحدهم، أو بقيّة أبناء المنطقة وحدهم، ولكن صار همُّ كل أبناء العصر الظامئين للحرية. و لا أحد من جيلنا يستطيع أن ينسى كيف كان أهل أفقر دولة في العالم ذلك الزمان (وهي ليبيا) يجودون بأنفس ما في حوزتهم (مثل مقتنيات النساء الفضّية، أو سروج الرواحل، وآخر الأسمال) دعماً لأشقائهم في نوميديا العصر الحديث. وقد حدّثني أحد الأصدقاء من مدن الساحل كيف خلع نعله البالي الذي لا يملك سواه وألقى به في سيارة ملآنة بجلود الأضاحي ما أن قيل له أنها جاءت لجمع التبرُّعات لثوّار الجوار. إنّه ذلك الدرس في الجود المؤهّل لأن يتحوّل وصيّة تتناقلها الأجيال، لأن الجود ليس أن نجود بما نستطيع أن نستغني عنه، ولكن أن نجود بما لا غنى لنا عنه!
أهل صحراء الشمال لم يبخلوا على مُريدي الحرية في نوميديا بالبعائر و الأصواف و مشتقات الألبان برغم محن الجفاف التي توالت على هذه الصحراء بسبب كارثة التفجير النووي الفرنسي بالذات. كما لم يبخل أهل صحراء آضاغ، في ما يُسمّى تالياً بدولة مالي، بالأبقار وكذلك فعل أهل آير أو ما يُعرف اليوم بالنيجر. فعلوا ذلك وعياً عميقاً بمصير المنطقة المشترك، وببليّة الإستعمار المشتركة. فكيف كوفيء هؤلاء من قبل أهل البدعة الآثمة المسمّاة سلطة عندما هان الحال وإستقام أمر نوميديا في دولةٍ ذات سيادة؟
أوّل ما فعله أوّل رئيس لهذه الدولة عام 1963 م هو القيام بتسليم زُعماء هذه القبائل المناضلة ضدّ فرنسا الإستعمارية وضدّ أذنابها الذين سلّمتهم زمام أمر مملكة تينبكتو التاريخيّة بعد تقسيمها وتشتيت أهلها إلى مسخ يتشدّق بالأيديولوجية الشيوعية مجاراة لتقاليع ذلك الزمان هو: موديبوكيتا الذي حكم على هؤلاء القادة الأشياخ بالإعدام دون محاكمة. وكان بإمكان هذا الحكم الجائر أن يوضَع موضع التنفيذ لولا تدخّل عبد الناصر آنذاك. ولم يكتفِ أوّل رئيس للدّولة الجديدة بهذا العمل اللّا أخلاقي، ولكنّنا نجده بعد سنوات طويلة يُبرّر هذا الموقف (بل وموقفه من قضايا الطوارق عموماً) بالقول في مقابلة تلفزيونية أنه فعل ذلك لأنهم عنصريّون (دون أن يسوق بالطبع دليلاً واحداً على هذه التُّهمة الشنيعة)! أمّا التآمر على هويّة القوم، وعمل كلّ ما من شأنه قطع لسان هذه الأقليّة التي إستجارت بأقسى صحراء في الدنيا في سبيل حريّتها فحسب، فهو مسلك توارثه السادة الذين تتابعوا على حُكم هذه البلاد حتى صار تقليداً.
وهاهو أبومدين يقوم بتحريض القذّافي عام 1976 م للتخلّص من صاحب هذا البيان عقاباً لشخصي على كتاب "ثورات الصّحراء الكُبرَى" الذي يشكّل في نظره تهديداً لشمال أفريقيا برمّته، برغم حقيقته كوثيقة تاريخيّة في مديح إنتفاضات هذه الصحراء الشقيّة ضدّ كل هيمنة أجنبية (وهي تلك المكيدة اللئيمة التي سترد تفاصيلها في سياقٍ تالٍ إذا أمهلت الأقدار). أمّا الدمية التي تقبع في كرسي حكم البلاد اليوم فقد فعلتْ كل ما بوسعها في سبيل إجهاض ثورات هذه الأمّة في كلٍّ من مالي و النيجر، برغم أن أهل تينبكتو (أو مالي اليوم) هم من آوى هذا الرجل إبّان حرب التحرير إلى حدٍّ لُقِّب فيه بإسم " المالي " الذي يجري على لسان كل من عرفه قديماً. والواقع أنّهم لم يأووه من خوفٍ ولم يطعموه من جوعٍ فحسب، ولكنّهم نصّبوه مندوباً للثوّار مسئولاً على التبرُّعات في كل المنطقة!
تستطيع مثل هذه الضروب من الإنكار أن تُدهش كل من جهل حقيقة السلطة التي تفوح من مريديها كل الرذائل بحيث تبدو الخيانة لا أسوأ خصالها ما ظلّ الطغيان هو ذروتها. لقد دأب الوالد على السُّخرية من أخلاقيات هؤلاء ما أن يستووا في كرسي حكم وهو الذي قُدّر له أن يكون شاهداً على مُفارقاتهم مرّتين: مرّة عندما رأى كيف تقرّب سلطات العهد الملكي الخونة الذين تعاملوا مع المستعمر الإيطالي وتستبعد من المناصب المحاربين القدماء الذين كان يوماً أحدهم وهو الذي إشترك في صدّ الغزو في معارك جبل نفوسة مثل "وادي الثلث"، و "وادي مرسيط" وغيرها. كما راق له أن يسخر من سلطة بلد الجوار وهي تبعث بالأموال لتلك الفئة التي عملت أجناداً في الجيش الفرنسي، وتتجاهل الفئة التي قاتلتْ ضدّ المستعمر. إنه الحال الذي يذكّر بوصيّة هنري ثورو (التي تبنّاها تولستوي في رواية "البعث") القائلة بأن المكان الوحيد المناسب للإنسان النزيه في هذا العالم هو: السجن!
14 ـ ذيول العَدَم
لم تكتفِ فرنسا بتقطيع أوصال الوطن العاري الهائل والواحد وهو الصحراء الكبرى لتُشتّت الأمة الواحدة إلى أربعة أجزاء، كـأنّها حصص في ذبيحة، ليجد القوم أنفسهم وقد صاروا من نصيب أربعة بلدان (ليبيا، نوميديا، مالي، النيجر)، ولكنها أضافتْ إلى هذا الجُرم التاريخي جرماً آخر هو تفجير الخمسينات النووي كأنّ تقطيع الأوصال لم يكن كافياً لتغريب أهلها عن وطنهم، فقرّرت أن تقطع دابر الوطن أيضاً كما قطعت دابر أهل الوطن، أو بالأصحّ، محو المكان وكائنات المكان من خارطة الوجود، وذلك عقاباً لهم على بطولاتهم في الدفاع عن أنفسهم وعن وطنهم؛ هذه البطولات التي يرجع تاريخها إلى بدايات تدخّلها الإستعماري في القرن التاسع عشر. وهاهي الوثائق تكشف في الأعوام الأخيرة تآمر سدنة الحكم في نوميديا العصر مع فرنسا بتوقيع الإتفاقيات السرّية التي أجازت لهذه الدولة ضمان إستمرار هذه التفجيرات حتى بعد إستقلال عام 1962 بسنوات!
مع بداية التفجيرات الأولى بشّرتْ البيئة بالبليّة مبكّراً. بدأت الكارثة البيئية بعموم الجدب. لم يعمّ الجفاف و حسب، و لكنه عمّر على غير العادة. ففي الماضي لا يُعمّر الجفاف إذا عمّ، كما لا يعمّ إذا عمّر، كأنّ حكمة الطبيعة تأبى إلاّ أن ترحم كائناتها بناموسها القاضي بدعوتهم على الرحيل من المكان إذا أصابه الجدب ليعبروا إلى مكانٍ آخر إستنزلت فيه الغيوث؛ كأنّها تستنصرهم لممارسة الهجرة التي كانت لهم منذ الأزل ديناً، وصارت لهم منذ القدم سرّ بقاء. وحتى إذا غالت القسوة فبخلتْ بالمنّ على عموم الصحراء، فإن بخلها لا يدوم طويلاً. ولكن دُهاة القوم جرّبوا أن حلول الشرور في الزمان وفي المكان لا يحدث إلاّ لخللٍ من صنع الإنسان. وهاهم يقرأون الآيات في إسقاط الأنعام لأجنّتها على نحوٍ مُريب بسبب طبيعته الشمولية، ليَليه عقم نساء القبائل أيضاً. لم يدُم الأمر طويلاً حتى ظهرتْ الأعراض: أعراضٌ لم يعرف لها العُقلاءُ سبباً، ولم تعرف لها الصحراء قبل ذلك التاريخ مثيلاً!
حدث هذا في عالمٍ يتشدّق بحقوق الإنسان، وفي ظلّ منظّماتٍ أهليّةٍ تدّعي حماية الأقليّات العرقية. و مازالتْ توجد بين يديّ الوثيقة التي يرجع تاريخها إلى عام 1960 م الموقعة من قبل زعيم مملكة تينبكتو آنذاك محمّد علي الأنصاري الصادرة بالقاهرة التي يُناشد فيها الأمين العام للأمم المتحدة التّدخُّل لإنقاذ شعبه من مخطّطات فرنسا بتقسيم بلاده بين ما يُسمّى تالياً بجمهوريّتي مالي والنيجر. هذا يعني أن اللعنة التي حلّتْ بالصحراء الكبرى كانت من صنع العقلية الإستعمارية الكلاسيكية سواء الشقّ البيئي منها أو القمعي. وكان من نتيجة هذا العمل زعزعة حضور السكّان في رحاب هذا الوطن ودفعهم إلى هجراتٍ جماعيةٍ متتالية إلى الواحات في فرارٍ شاملٍ لم يعرفهُ تاريخ هذه القارّة النبيلة، بل و أنبل من كل القارّات والأجمل والأكثر إكتمالاً من كل البقاع كما يصفُها مُريد الصحاري العلاّمة الفرنسي "مانو". وكان من نصيب ملّتنا من سكّان مرتفعات الشقّ الشمالي من هذه القارة هو النزول إلى أحاضيض واحات الجنوب بمنطقة "تارجا" المعروفة بإسم فزّان، تحديداً واحة آدري القرين في الإسم لواحة آدري الشمالية المترجمة اليوم بإسم "درج". لأن الإسمين كناية عن صفة تـعني "الشقّ" مستعارة من طبيعة المكان كأخدودٍ يخترق أرضاً هي يبوسة جبلية في واحة الشمال، ووعوثة رملية في واحة الجنوب. وآدري الجنوب هذه واحة أولى في سلسلة واحات تمتدّ على مسافة تزيد على المائة والعشرين كيلو متراً تكوّن في مجملها ما يُعرف بوادي الشاطي، تلك المنطقة التي كانت إلى وقتٍ قريب أغنى أراض ليبيا بالمياه، لأنها تقع على ضفاف بقايا بُحيرة تعود إلى عصر ما قبل التاريخ عندما كانت الصحراء الكبرى تضيق بالبحيرات، وتخترق أوديتها الأنهار، لتقف آثارها شاهداً على حقيقتها كفردوسٍ لأقدم الحضارات. تبدو الواحة هاوية مفاجئة تطوّقها بساتين نخيلٍ تجري من تحتها ينابيع سخيّة لعيونٍ يستزرع الفلاّحون في جداولها بعض الزروع المناسبة لتربة سبخيّة ممزوجة بالملوحة وغنية بمعدن الحديد في حين تتعالى سيوف الكُثبان الرملية لتحدّ الواحة من الجنوب. أمّا من الشمال فيمتدّ عراء مفروش بحجارة صارمة يفضح لونها الكئيب الذي يميل إلى السواد هويّتها المنتمية إلى وطن الحمادة الحمراء (تينغرت) الذي لا يعود منذ الآن مجرّد وطن، ولكنه ينقلب في وجدان الطريد حُلماً، حنيناً، فردوساً مفقوداً!
تتوسّط الواحة رابية عالية تتسلّقها بيوت الأهالي الطينية من جهة الشرق، وتتناهب سفوحها الغربية مقابر سخيّة تشهد بماضيها التّليد، وتلفظ في مواسم الصيف عقارب مميتة لا ترياق للدغتها كدليلٍ آخر على القدمة! في أعالي هذا المرتفع الجبلي إكتُشِفتْ أخيراً آثار كثيرة، وفوّهة بئر في الشعفة الأعلي. أما في عهدي الأوّل بها عند وصولنا عام 1958 م فكانت نتوءاً رمادياً مرصّعاً بجماجم الأموات تُروى عن أفواه كهوفه الأساطير التي تتحدّث عن الكنوز المخفية في مجاهلها، وعن مردة الجان الذين يحرسونها، كما هو الحال مع أمكنة الصحراء المجبولة بالغموض. وكم كانت دهشتي عظيمة عندما وجدتُ رسماً يدويّاً لهذه القلعة الأسطوريّة في كتاب عن الصحراء الكبرى مترجماً إلى اللغة الروسيّة بتأليف أحد الرحّالة يرجع تاريخه إلى القرن الثامن عشر، تبدو فيه هذه الكدية جبلاً حقيقيّاً محاطاً بسورٍ هائل، تتسلقه أبنية أنيقة، مصفوفة في مسيرها إلى الأعلى بهندسةٍ رائعة، تتلوّى بانسجامٍ لم أشهد لهُ مثيلاً حتّى في مدن أوروبّا ذلك الزمان.
تلك كانت واحة آدري زمن مجدها، ولكن ما أدركتُه منها في ذلك العام لم يكُن سوى الأنقاض! هذه الأنقاض (في مقابل لانهاية الصحراء) من الطبيعي أن تجرح وجداننا الطفولي الهشّ إلى الحدّ الذي دفع شقيقي الأكبر لأن يتوسّل الأب لمواصلة الرحلة برفقته إلى أوباري لأنه لا ينوي أن يمكث في هذا المكان يوماً واحداً. لبّى الأب رغبة الإبن في ذلك اليوم، ولكنهُ ما لبث أن أعاده إلى الوراء مع نهاية الصيف وبداية العام الدراسي. في هذه الواحة في إحدى السنوات التي تلتْ، كُتب لي أن أشهد (يوم خرجتُ إلى الخلاء مع الشقيق) ذيول العدم التي لا تُنسى كأنّها النبوءة!
15ـ القَدَرُ رَسولٌ أعْمَى
يجب عمل كل ما بالوسع للحيلولة دون زحزحة الناس من أماكنهم؛ تقول الوصية الثاوية. بالمقابل تتكلم روح أهل العمران على لسان هولدرلين بالوصيّة الأخرى التي تقول:
"عسيرٌ أن يهجر المكان
ذلك الإنسان
الذي أقام بجوار النّبع"!
هذا يعني أن علاقة الإنسان بالمكان ذات بُعْدٍ وجودي، لأنها طبيعة تسكن بعيداً في صُلبه. ونزع المخلوق البشري من حضوره في هذا المكان عملٌ مجبولٌ بالخطر دائماً، لأنه تهديد لوجود هذا الإنسان بما أنه نفي. وهي رسالة ليست موجّهة لصاحب العمران دون حميمه الآخر مُريد الرّحيل، لأن الأخير ليس مُنزّهاً عن الحضور في المكان لمجرّد إحترافه للهجرة من مكانٍ إلى مكان كما نتخيّل. إنّهُ مُريدُ حُرّيةٍ حقاً، ولكن جذورهُ عميقة الغور في المكان برغم ذلك. والدليل هو طبيعة هذا الإنسان التي ترفض إجتياز تخوم المكان برغم الهوس الجنوني بالتّرحال. والمدهش أنها لا تكتفي برفض عبور حدود المكان (الصحراء) إلى أوطان الأغراب وحسب، ولكنّها سنّتْ لنفسها منذ القدم القانون الذي يُحرّم تجاوز المياه سواء أكانت أنهاراً أم بحاراً. وها هي أمّة الصحراء الكبرى تحوم حول نفسها في بقعةٍ صحراويةٍ محدّدة دون أن تُبيح لنفسها بعبور النهر جنوباً (المعروف قديماً بنهر كوكو)، أو بعبور الأُقيانوس غرباً، أوبعبور بحر ليبيا شمالاً، أو بعبور نهر النيل شرقاً. كأنّ ناموسها يلهج بالوصيّة التي تقول أنّ الماء أنفس هِبة يمكن أن تضعها السماء في طريق إنسان، وعبورها بدل الوقوف عندها ليس تجديفاً في حقّ هذه العطيّة القدسيّة وحسب، ولكنّه الخطيئة التي لا تُغتفر في حقّ صاحب الهِبة. تقول الوصيّة هذا برغم اليقين بخطورة الإستقرار بجوار المياه أيضاً. ذلك أن الأجيال أدركتْ بالتجربة أن الذهاب للإستقرار إلى جوار المياه في الواحات تهلكة لا تقلّ شرّاً عن التهلكة في الصحراء عطشاً هي هلاك الجسد، فإنّ تهلكة الإستقرار إلى جوار المياه هي تهلكة الروح الأسوأ من تهلكة الجسد! لقد كانت الواحات فخّأ لإبتلاع الأرواح منذ التكوين في سيرة أهل هذه الصحراء إلى الحدّ الذي سنّ فيه حكماء الأجيال العُرف الذي لعب دوراً في حقن القوم بنصيبٍ جديد من إغتراب وهو التنازل لمواليهم عن أراضيهم المستزرعة في الواحات وعلى ما شابه من المُمتلكات مُقابل الحصول على حصّة يُتّفق عليها. وهم لا يفعلون هذا إستهانةً بإمتهان الزراعة، أو إحتقاراً للفِلاحة كما يُشاع خطأ، ولكنهم يأنفون من حرث الأرض إيماناً بهويّتها كأمّ يرون في تمزيقها وإستباحتها إثماً منكراً لا يُغتفر؛ أي أن الموقف من مهنة الفلاحة موقف وجوديّ، أوفلنقل موقف ديني، سيّما وأنّهم جرّبوا أن ضحية الدّنس هذه المتمثّلة في الأرض لم تبخل عليهم في الصحراء بالعطاء، وأطعمتهم بصنوف الغذاء طواعيةً دون أن يضطرّوا لإنتهاك عرضها بالأسنّة المسبوكة من معدن النحوس المسمّى حديداً. ولهذا رأوا في موت روح تلك الفئة التي إختارتْ الإستقرار في الواحات قصاصاً منزّلاً من روح الأرض الأمّ عقاباً لهؤلاء على نيل قوتهم ملوّثاً بدمها المقدّس!
هذه التجربة التي غذّت يقين القوم القائل بأنّ حظّ القافلة الخارجة من الواحات لتستجير بالصحراء دائماً أفضل بما لا يُقاس من حظّ القافلة الذاهبة إلى الواحات فراراً من جفافٍ أو وباء، لأن التضحية بالحرية في سبيل القوت هلاك حتى لو تبدّى نجاةً، والتضحية بالنعيم في سبيل الحرية خلاصٌ إذا قيس بوجودٍ نخسر فيه الروح.
لقد قدّم القوم واحاتهم التي مازالت تحمل الأسماء بلغتهم قرباناً في سبيل إنتصار الروح، وتنازلوا عن ممتلكاتهم ومزارعهم وعيون مياههم (التي ماتزال تحمل هويّة أصحابها من خلال الأسماء أيضاً) لكي ينجوا بأنفسهم برغم النتائج التراجيدية التي أدّت إليها هذه التضحيات علّ أهمّها هي إستيلاء المماليك عبر التاريخ على أملاكهم سواء أكانت واحات، أو عيون مياه، أو أراضٍ زراعية، أو حتّى كنوز مخفيّة أو أماناتٍ سرّية كالمتون المزبورة بأبجديّة القوم على الرّقوق الجلدية التي تروي تاريخ الأمّة الصحراوية و سيَر أبطالها عبر الأجيال. وأسوأ ما في أمر هذه المأساة ليس إستيلاء أجناس المماليك على الممتلكات ونسبها إلى أنفسهم، ولكن بإستيلاء هؤلاء على المتون التي كانت روح الأمّة منذ التكوين، والفرار بها إلى أوطانٍ أخرى مبثوثة في وصايا منحولة لمحو الهوية الأصلية في أدهى إختلاسٍ عرفه تاريخ السُّلالة البشرية! (و ما الأجزاء السبعة الصادرة حتّى الآن من "بيان في لغة اللاهوت" إلاّ مقدّمة لترجمة هذه السيرة الدمويّة التي لم يُكشف عن حُججها بعد). وصاحب اليد التي حرّرت ذلك البيان وتنهمك الآن في تسطير هذه السيرة يعجز عن التعبير عن الوجع الذي إنتابه يوم نزل الواحة ليصطدم بواقع الواحة: إنه مزيجٌ من الإحساس بالخوف، والإضطهاد، والتطفّل، والذنب من إقتراف خطيئة مجهولة كأنها القيام بعمل اللصوص! إنّه جنسٌ من تبكيت ضميرٍ مع الفارق بوجود سبب لتبكيت الضمير في مُقابل فقدان هذا السبب في حال العلاقة مع مجتمع الواحة. ويبدو أن هذا الهمّ لم يكنْ علّتي وحدي، ولكنه قدرٌ في عنق كل من ذاق طعم هذا الجنس المميت من العُزلة بدليل مسلك المُغالاة في الحذر الذي يبلغ حدوده القصوى الذي تترجمه الوصيّة البولونية القائلة: "إغفر لي، لأني أحيا! ". إنهم يحلّون على الواحات كأنّهم أطياف، يستعينون ببعضهم البعض في إستبناء أكواخ من جريد النخيل يشيّدونها بعيداً في الأطراف، ويحيون حياة ليست زُهدية فحسب، ولكن حياة الأرواح التي تحرص أشدّ الحرص على دفن توحّدها في خلوات الأطراف كتدبيرٍ صارمٍ في الدفاع عن النفس! فالإنضباط مع الأغيار هو خصلة ذلك الإنسان الذي يفعل كلّ ما بالوسع لئلاّ تخذله النفس الأمّارة بالسّوء فيقترف إساءةً في حقّ أخيه الإنسان لا لشيء إلاّ لضمان ألاّ يُسيء له الناس. إنّه البحث القاتل عن الحدّ الأدنى من تلك الحرية التي أضاعها إنسانٌ أجبرته الأقدار أن يتنازل عنها في صحرائه المفقودة ليحلّ ضيفاً ثقيلاً على أرضٍ كانت يوماً أرضه أيضاً، ولكنّه فقدها بتتابع الأزمان إنتصاراً لهذه الحرّية أيضاً. الظمأ إلى هذه المعبودة المُكابرة (الحرّية) التي جعلت من هذه الأمّة الأبيّة أمّة لاجئة أينما حلّت! وهؤلاء لا يدرون بالطبع شيئاً عن الطبيعة البشرية التي لا تستنزل صنوف جورها إلاّ على من إنضبط وجاهد النفس وحاول أن يجتنب الإساءة أكثر ممّا ينبغي.
كأنّي أرى الآن صغار الفلاّحين وهم يلاحقوننا بالحجارة لا لشيء إلاّ لأنّنا نتكلّم رطانةً مبهمة، ولا نستطيع أن نفكّ طلسمات لغتهم، وكأني أرى الآن نسوتنا وهنّ يذهبن إلى الفلاّحين في الحقول ليقمن بحصد جداول البرسيم مقابل الحصول على حفنة علف لأغنامهن. يفعلن ذلك دون أن يُفارقهنّ الإحساس بأنهنّ يتسوّلن برغم الجهد الذي يدفعنه مقابل الحفنة البائسة دون أن يخطر ببال هذه الملّة الشقيّة أنها إنّما تأخذ برسيماً مستزرعاً في أرض أسلاف، مرويّاً بمياه عيون أجداد، مدفوعاً بيد مملوكٍ قلَبَه النسيان بقُدرة قادر مالكاً!
لا يصير أهل الصحراء بالحلول في الواحات هامشاً باهتاً لذلك المتن المزوّر (الواحة) وحسب، ولكنهم يمسون خطراً، يمسون أعداءً، في عقلية العقلاء أيضاً، إن وُجِد في الواحات يوماً عُقلاء. وهاهم مماليك الأمس، وخدم الماضي الفاني، ينسون كيف كان هؤلاء البؤساء الذين قسا عليهم القدر حُماةً لواحاتهم التي صدّوا عنها غزوات الدُّخلاء بالأمس، ليُعاملوهم اليوم بروح الإستعلاء، ناسين وصيّة الحكيم القديم القائلة: "تحت سقوف الذهب والمرمر يعيش العبيد، تحت أكواخ القشّ يحيا الأحرار"! إذا كان القوم يعيشون اليوم في أكواخ القشّ أحراراً، فلا شكّ أنهم كانوا بالأمس في بيت العراء أكثر حريّةً!
16ـ المعرفة
ها أنا أجد نفسي جالساً في مقعدٍ دراسيّ جديد، في واحةٍ جديدة، بعد أن بلغتُ سنّ العاشرة، لكي أتلقّى المعرفة. أتلقّى معرفةً بدون لغة كما في المرّة الماضية تماماً!
إذا كان الجهل باللغة هو الكابوس الذي رافقني منذ تجربة الدراسة المُنقطعة في واحة شمال الغرب، فإن الجلوس بين تلامذةٍ أصغر سنّاً صار كابوساً ثانياً لأنّه غذّى إحساساً مُهيناً كأنّه التلبّس بإرتكاب جرم. إنّه من الفصيلة التي تترجم لسان الحال الذي يقول: "أغفر لي لأني أحيا!" فيبدو الإحساس بالإضطهاد إلى جانبه عملاً مُسلّماً، برغم العزاء الذي وجدتُه في وجود أخي (الذي يكبرني بثلاث سنوات) إلى جواري هذه المرّة، وبرغم وجود أبناء لمللٍ أخرى تنتمي لأقوام البدو كالزّنتان أو القوائد وإن كانوا أصغر سنّاً وأعلم باللّسان!
كنتُ أُهدهدُ أحلاماً، وأتطلّع للسبيل الذي سيُمكّنني يوماً من كشف الأسرار. وقد أدركتُ انّي لن أُفلح في تفسير الغموض وخوض المجهول مالم أفعل شيئاً لفكّ عقدة اللسان، لقد شجّعتني شهادة عُقلاء القبيلة الذين لم يبخلوا بالمديح على قُدراتي في إستخدام لسان القوم، وترجموا للأمّ مراراً إعجابهم بحضور بديهة وليدها وقوّة منطقه في الإقناع. قرّرتُ أن أمتلك لسان المدرسة كما امتلكتُ لسان القبيلة. لا أستطيع الآن أن أتذكّر تفاصيل التقنية المستخدمة في سبيل تحقيق هذه الأعجوبة في أشهر، ولكن اليقين أن الفضل يرجع لإحتراف العزلة أوّلاً، وإتّخاذ الإحساس بالضّياع صديقاً حميماً ثانياً: كنتُ أختلي بكتبي في العراء كُلّما عدت من المدرسة لأعارك الطلاسم هناك. أتقاتل في الخلوة مع مارد اللغة المجهولة مسلّحاً بقوّة أثبتتْ التجربة أنها مارد لا يُقهر: إنّها إحساس بجنسٍ قاسٍ من ضياعٍ ألهمتهُ تجربة التيه القديمة في الصحراء كأنّها لم تكن تيهاً، ولكنّها كانت نبوءةً. كانت وصيّةً. كانت طوق نجاةٍ خالدٍ في صحراء أخرى قُدّر لي أن أعبُرها تالياً هي الدنيا. إنها تميمة مجّانية من تلك الأمّ التي لا تقتصّ إلاّ لتخلّص، ولا تقسو إلاّ لترحم، ولا تُميت إلاّ لتُحيي. إنها رسول الطبيعة الذي تجرّد من مسوح الطبيعة فازداد وفاءه لروح الطبيعة: الصحراء الكبرى! ولكن التميمة لم تكُن لتؤدّي مفعولاً لو لم يتسلّح المريد بوجع التّأويل. هذا التأويل هو الحريق الذي طهّرني مبكّراً لأدرك أن الضياع رسالة تقول في نصّها أنّك أيُّها الشقيّ مقطوع في دنيا لا وجود فيها لسواك، وعليك ألاّ تنتظر عوناً من أبٍ، أو أمٍّ، أوعابر سبيل، أو من أي قوّةٍ أخرى، عندما تقرّر النجاة من كلّ شرٍّ سواء أكان برداً، أو مرضاً، أو ذئباً، أو أيّ عدوّ آخر يأتيك متنكّراً في خلقة خلّ وهو جانّ، أو يهرع إليك بقناع المُعين في حين يخفي في عُبّه المكيدة؛ لأنّك، أيُّها الشقيّ، لم تكُن لتنجو من هلاكٍ في رحلة ضياعك القديم لو إنتظرت الخلاص من هؤلاء. ألم تعبر الصحراء وحيداً، وتبيت تحت نجوم السماء وحيداً، وتفترش حزّيز الحجارة ليلاً بهيماً، وتنام وأنت تُغمض عيناً وتفتح عيناً لئلاّ تستغفلك الذئاب في غفوة نومك، وتحتمل صقيع جليدٍ لم تعرف له مثيلاً، ثم نهضت في الصباح لتهتدي إلى طريق الخلاص وحيداً برغم علامة الخفاء المطبوعة في قدمك اليُمنى كأنها ختم المجهول الذي صار لك دليل قوّة في حين ظنّه الناس نقطة ضعف؟
بلى! بلى! لا شيء يستطيع أن يوقظ المارد الذي لا يُقهر والذي نسمّيه إرادةً مثل الإحساس التراجيدي بالعزلة في عالمٍ مُعادٍ ليس لك في سبيل عبور جحيمه سوى نفسك، ونفسك وحدها. إنّها كانت تجربةً أولى في ميلادٍ ثانٍ كان عليّ أن أعبر طويلاً كي أدرك أن هذا الميلاد الثاني الذي تتحدّث عنه المتون المقدّسة (لا يدخل ملكوت الربّ من لم يولد مرّتين) ليس ميلاداً ثانياً واحداً، ولكنّه ميلادٌ نستطيع أن نُحوّله ميلاداً ثالثاً، ورابعاً، وخامساً، إذا اعتمدنا الإرادة سلاحاً، وإذا أفلحنا في تغيير ما بأنفسنا في كلّ مرّة، وهو ما يعني أن نموت في كل تجربة لنحقّق ميلاداً جديداً في كلّ مرّة، سيّما بعد أن برهنتْ لي السيرة أنّنا لا نستطيع أن ندّعي إحساساً بالسّعادة حقّاً بدون هذا الجنس من الميلاد، بل لا نملك الحقّ في أن نقول أنّنا عشنا حقاً بدون ميلادٍ كهذا! وها هو الإيمان بالتعويذة يحقّق لي الخلاص بعد أن أفلحت في فكّ عقدة اللسان في شهور، بل والفوز بالحصول على الأولويّة في صحيفة نهاية السنة الدراسية.
ولكن كان عليّ أن أدفع ثمن هذا النجاح، أو فلنقُل هذا التفوّق، دون أن أفهم وقتها بالطبع لماذا على صاحب التّفوّق أن يدفع ثمناً للتفوّق. كان المعلّمون آنذاك ندرة نادرة في ليبيا الحديثة العهد بالإستقلال كلّها، فكيف بواحة منسيّة ضائعة بين رمال الصحراء الكبرى؟
ولا أدري بأيّ حيلة إستطاع هؤلاء الرُّسُل تحصيل تعليمهم الذي أهّلهم للإنخراط في سلك التدريس في ذلك الزمن الحديث العهد بإستقلال البلاد من ذلك الإستعمار الذي اشتهر دون غيره بإهمال السكّان الأصليّين وحرمان أهل الوطن من نعيم التعليم.وكم أدشهني أن أعلم بعد زمن تواضع مستوياتهم التعليميّة التي لم تتجاوز حدود الشهادة الإبتدائية! وأرى من الواجب أن أعترف لهم اليوم لا بالشجاعة أو روح التضحية التي تحلّوا بها وحسب، ولكن بكفاءاتهم أيضاً. فإذا كانت رسالة المعلّم المتواضع أن يطرح، والجيّد أن يشرح، والموهوب أن يعرض، والعظيم أن يُلْهم (كما يقول وليام أوجار في "قانون ميرفي") فإنّ جُلّهم كان من طينة المعلّم الأخير وهم الذين لم يدّعوا يوماً بأنّهم يقدّمون لنا علماً، ولا حتّى أبجديّة في علم، ولكن لم يكن عسيراً علينا أن نقرأ في مسلكهم التعليميّ برغم صغر سنّنا أن ما يُقدّمونه لنا هو ضربٌ من تسلية أو ترفيه، أمّا العلم فسوف نتعلّمه يوماً في المستقبل، وكلّ ما يجب علينا فعله هو أن نصبر وننتظر ونكبر ونستمرّ. لم يبوحوا لنا بسرّهم بالطبع، ولكنهم ألهمونا وحياً كما يليق بالعباقرة أن يفعلوا! وعلّ عبقريتهم هذه هي التي ألهمتهم باستخدام القصاص ضدّ كل من تجرّأ وتفوّق بدل أن يستنزلوا القصاص بالتلاميذ الكُسالى كما يروق لهم أن ينعتوا البلداء رحمةً بكبريائهم. وها هم يترصّدون شخصي جلداً بتلك العصا الفظيعة المستقطعة من عُرف نخيلٍ أخضر والتي تتضاعف فظاعتها كُلّما كانت أحدث عهداً بضرع أمّها النخلة! كنت أتلقّى الجَلد عقاباً على صواب إجاباتي سواء تلك الموجّهة لشخصي أو الموجّهة لزُملائي دون أن أفهم السبب. وعندما تكرّر الأمر سقطتُ صريعاً للمرض. صرعني ذلك النوع من المرض الذي عرفته يوماً في الواحة الأولى عندما كنت أجلس في المقعد كالأبكمْ بسبب جهلي باللغة قيد التداول. إستجرتُ بالمرض إستنكاراً لما حسبته أسوأ صنوف الظلم التي يُمكن أن يستنزلها القدر على رأس إنسان. إنّه الظلم المبهم. الظلم القدري. الظلم الميتافيزيقي الذي لا يُفصح بأيّ سبب سوى القصاص المستوجب لقاء المجيء إلى الدنيا. ولمّا كان عقلي الهشّ أعجز من أن ينبّئني بحقيقة الأمر في المرّتين فإن المرض كان يهرع لنجدتي في كل مرّة، لأنه الترجمة الأخيرة للروح الأبيّة، للروح الألوهية التي ترفض الإدانة بدون إبداء الأسباب فتستجير بالبدن لتُسقط عليه إحتجاجها!
ولكن حكمة الزمان أبت إلاّ أن تنجدني بالسرّ وإن جاءت حكمته متأخّرة كثيراً. وها هو كارل غوستاف يونغ يروي سيرة مماثلة (حدثت له في الطفولة على نحوٍ يوحي بأنّه لم يحترف علم النفس البشرية إلاّ لتأويلها)، تقول إن استنزال القصاص بأهل التفوق من التلاميذ من قِبل المعلمين ليس إنتقاماً، ولكنه تقويم. إنه أسلوب لإجتثاث روح الإستكبار التي يغذّيها التفوق. ولا أملك اليوم إلاّ أن أستشعر الإمتنان لحكمة هؤلاء المعلمين الأبطال برغم نكستي التي استمرّت شهوراً أقعدتني عن التردّد على المدرسة؛ لأن هذا التدبير يبدو عملاً من قبيل التربية التي لا تدخل في إختصاص القوانين الوضعية وإن أقرّتها القوانين الأخلاقية؛ أي أنه ممارسة عفويّة للواجب التعليمي بوصفه رسالة تربوية أيضاً إلى جانب وظيفته العلمية. ولا أعلم اليوم ماذا يمكن أن تصنع بي رذيلة منكرةكالغرور فيما لو لم أعرف بفضل عصا أساتذة ذلك الزمان تلك الفضيلة التي كانت منذ الأزل عنوان العقيدة الزهديّة المتمثّلة في ما راق للغة الصوفية أن تُطلق عليه إسم: التسليم!
إنّه ذلك السرّ الذي هدّد روح الظمأ إلى المعرفة عبر الأجيال بالضلال، لأن لولاه لما تحدّث أحد عن تواضع العلماء، أو بساطة أهل الحكمة، أو فطرة صاحب العرفان، لأن التسليم لم يكُن الضمان الذي عصم و يعصم من الزلل وحسب، ولكنه كان حُجّة مُريد الحقيقة! أجل! الوصيّة تقول: لا جدوى من علمٍ لم تكُن له الحقيقة غاية!
فماذا ستكشف عنه الوصيّة لو أخضعناها لتأمّلٍ عميق؟ سوف نكتشف أن تلك المرحلة المبكّرة هي النقطة التي يفترق فيها الطريقان اللذان سوف يؤدّيان مستقبلاً إلى عالمين ليسا مختلفين وحسب، ولكنّهما نقيضين: طريق إنسانٍ يستجير بالعلم ليهتدي إلى الحقيقة، وطريق إنسانٍ يتّخذ العلم سبيلاً للوصول إلى الغنيمة. هذه الغنيمة التي لا تكمن خطورتها في دنيويّتها وحسب ولكن في حقيقتها الأبعد كسُلطة. السلطة التي كانت دوماً في مُقابل الحقيقة خطيئة!
فالطفولة أرضٌ بتول مُهيّأة لإستصلاح حكيم. وهي رسالة لم يكُن ليعوَّل على تأديتها بالمنهج البائس مترجماً في درس مادّة كـ"هِداية الناشئين" قام بتأليفها قومٌ هم أحوج إلى الهِداية برغم إخلاصهم وهم الذين خرجوا بالأمس القريب فقط من قمقم تلك الجهالة التي حشرهم فيها أجهل استعمار أجنبيّ على الإطلاق. في وضعٍ كهذا لا بُدّ أن يستعير المبرّر الأخلاقي حضوره في هِداية الفطرة بدل "هِداية الناشئين". هِداية تستجير بهِداية الطبيعة التي ماتزال حيّة وثرية في روحِ سلفٍ مترجمٍ في مسلك أخلاف السّلف؛ لأن أبناء البلاد كلّها لم يكونوا ليبقوا على قيد الحياة أخلاقيّاً لو لم تهرع لنجدتهم دروس ما يروق للبعض أن يُسمّيه العُرف. أي تلك الحزمة المتوارثة من القوانين التقليدية المجبولة بروح التجربة الدنيوية التي راق لأهلِ الصحراء أن يُطلقوا عليها إسم "آنهي" كمتنٍ لوصايا أسطوريّة ضائعة. فهل هي ضائعة حقاً؟ الواقع أنّ هذا الكتاب لم يكُن يوماً ضائعاً اللهمّ إلاّ إذا اعتبرنا غيابه من التداول (بين الأيدي كمجلّد ذي دفّتين) ضياعاً. لقد أضاعه القوم بالفعل إذا اقتنعنا بأن إستيعاب الكتاب ضربٌ من تضييعٍ للكتاب.والمقصود بالإستيعاب هنا ليس حفظ الكتاب عن ظهر قلب كما يحدث معمتون الكتب المقدّسة، ولكن تغريبه كنصّ وتلقّيهِ كروح. أي نفيه كحرفٍ يميت، وتحويله روحاً تُحيي عملاً بوصية القديس. وهو ما يعني ترجمته من معبودٍ ميّت وإحياؤه بتحوّله درساً أخلاقياً يتجلّى في التجربة الدنيوية من خلال السلوك اليومي على غرار ما فعله شقّ الدياسبورا الذي إستقرّ على ضفاف النيل كما تكشف لنا متون الأهرام المبثوثة في وصايا "برت إم هرو" المترجمة خطأ بإسم "كتاب الموتى". وهو المتن صاحب الرِّيادة الذي إستوحتْ منه أسفار العهد القديم درس الوصايا العشر حرفياً.وليس من المصادفة أن ترد وصايا هذا الدرس البدئي على لسان حكيم الزمان الحامل للقب "آنهي" أيضاً كبرهان على وحدة الهويّة بين الثقافتين المصرية والليبية القديمة. وهو إسم يبقى مستغلقاً ما لم نستنطق لغة التكوين في شأن الدلالة. ففعل "آنهي" يعني بلغة القوم "بكّر" أي الفعل الذي اشتقّت منه كلمة: "بِكْر"، و |"بكارة" أي كل ما لهُ صلة بالسليقة الأولى. وماهي هذه السليقة الأولى لو لم تكن عذرية الطبيعة في مرحلة التكوين، أو عهد البدء؟ أي أنها جذر الوجود المجبول بروح الطبيعة الأم في زمنٍ مازالت تتنفس فيه بِرئة الألوهة. وإذا كانت الكلمة تحمل ذات المعنى في لغةٍ بدئيةٍ كاليونانية القديمة، فإنّها أبتْ في العربية إلاّ أن تخلع على المعنى دلالة أخرى ضدّية هي "النهاية" إخلاصاً لعبقريتها التي كثيراً ما تُبيح لها استخدام كلمة واحدة للتدليل على معنيين متضادّين. تفعل العربية هذا دون أن تُغيِّب في حال "آنهي" المعنى الديني المستتر الآخر الذي يُمكن ترجمته في العبارة القائلة: "إحتكم إلى الأصول!". أي الحثّ على العودة بالعقل إلى الماضي للإستنارة بالناموس الطبيعي البدئي في الفعل اليومي وهي عبارة تصلح مرادفاً لعبارة أهل الصحراء التي يقول حرفها: "إيّخركنْ يقّليد آنهي" الدالّة في الترجمة على: "لا سبيل لمن ضلّ إلاّ بالعودة إلى آنهي"!
درس جيلنا الذي شهد بعث روح الوطن نهل من هذا الناموس الذي لم نقرأهُ منهجاً في الكُتب، ولكنّنا تشرّبناه من مسلك الآباء الأخلاقي، وهم الذين إستوعبوه عُرفاً عملياً مستعاراً من الكتاب الضائع "آنهي" الذي لم يكُن ليَضيع حقاً لو لم يغترب حرفاً، كشرطٍ لميلادهِ روحاً! وعندما يحتكم أساتذة ذلك الزمان للعصا كي يقوِّموا ولداً يُشرِف على السير في طريق الخطأ، إنّما يستعيرون أخلاقيّات الفطرة الأولى التي لم تكن إلاّ نفحةً من روح الناموس الضائع حرفاً، المُستوعب ضمناً! بالنتيجة تبدو السيرة أسيرة مفارقة: فهويّة الديانة التي سُمّيت وثنية كانت روحية، والديانة التي كان يجب أن تكون روحيةً، صارت، بعبادة الحرف، وثنيّة!
17 ـ الشَّرَك
إذا كانت فئة التدريس قد أخذت على عاتقها تلك المهمّة المزدوجة المتمثّلة في التربية بشقّيها التعليمي والأخلاقي، فإن داهيات القبيلة الكاهنات قرّرن تلقين جيلنا درساً آخر تبدّى لي نزوةً أو ملحةً، وكان عليّ أن أعبُر طويلاً كي أدرك أنه لم يكن في واقع الأمر إلاّ التدبير الذي أملاهُ واجب الحفاظ على السُّلالة من الزوال توارثنهُ على ما يبدو وصيّةً عفويةً جيلاً عن جيل تمثّل في إحتيالٍ لم يخلُ من طرافة وهو خطب ودّنا لبناتهنّ ونحن في المهد بعدُ صبيان خشية الإفلات بإغترابٍ قرأنهُ في عيوننا نوايا مبيّتة لم تكن لتُخفى على حدسهنّ الكهنوتي الذي لا يُخطيء! وها هي المرأة النبيلة التي تمُتُّ للأب بصِلة قرابة تُقبِل على شخصي في كوخي المعزول في أحد الأعياد لتطرح في وجهي ذلك الشرك المتمثّل في طفلتين فاتنتين مجبولتين بحُسنٍ موروثٍ من أمّهما الحسناء لتقول أنها قرّرتْ أن تنذر لي إحداهما وما على شخصي سوى أن أختار!
كانت تلك سيّدة فريدة، تتمتّع إلى جانب حُسنها بروحٍ مرحة يندر وجودها في تلك الواحة الشقيّة المطبوعة بسيماء الشحوب والكآبة وآي العدم، الشديدة الشبه بهاويةٍ مهجورةٍ ترتع في قبورها العقارب السوداء التي لم تلسع مخلوقاً إلاّ ووجد طريقه إلى المقبرة أيضاً في الحال، فتبدو للزّائر أطلالاً موحشةً سوف يستنكر صلتها بتلك الواحة المجيدة التي كانتها يوماً فيما لو حالفه الحظّ وشاهد رسماً لقصورها التي تتسلّق خاصرة رابيةٍ كانت يوماً جبلاً مُكابراً، كما حالفني الحظّ لأشاهد في كتاب الرحّالة المترجم إلى اللغة الروسية.
إن السيّدة تبدو أسطوريةً على خلفيّة هذه الأنقاض البائدة! أسطوريّةً لا في حُسنها، أومرحها، أو خصال خُلقها وحسب، ولكن في حكمتها أيضاً إذا ألممنا، ولو خطفاً، بنزرٍ من سيرتها الموحية التي أكتشف الآن فقط أهليّتها للتحوّل روايةً يقول ملخّصها: أنها اقترنتْ برجلٍ يكبرها كثيراً جدّاً إمتثالاً لرغبة الأبوين فرفضتْ الإلتئام به تحت سقفٍ واحد (أو بالأصحّ تحت لحافٍ واحد) لتجبره بالنّفور على تركها. ولكن الرجل لقّن الأجيال درساً في فعاليّة النفَس الطويل: تركها في بيت أبويها دون أن يكُفّ عن مُلاحقتها عن بُعْد. كان يرتحل وراء قافلة العائلة إذا إرتحلتْ زمن الحياة في الصحراء، ويحطّ رِحاله إذا حطت رحالها. كان يحوم حولها في كلّ مكان إرتادته ليُظهِر لها حضوره، وليُبرهن لها بحُضوره على حُبِّه، وعناده، بل وهَوَسه! و عندما يئس طاردها بالوصايا. طاردها بوصايا محمولةً بيد الرُّسل، وعندما طال الأمدْ ولم تُجدِ الوصايا المحمولة بأيدي الرسُل، حاصرها بالأشعار! كان الرجل شاعراً فذّاً في زمانه. وأشعاره الزُّهديّة في ذمّ الثراء مازالت تجري على ألسنة القبائل إلى اليوم. ولكن الأشعار أيضاً لم تُجدِ. عندها غاب الرجُل في رحلةٍ إلى بعض الواحات الجنوبية التي إشتُهرتْ كأوكارٍ لمُمارسة الأسحار. بلى! إستبدل الرجل سلاح الأشعار بسلاح الأسحار ليعود من هُناك ببعضِ التعاويذ المزبورة على قطع اللّبان! ويبدو أن مفعول التمائم أخفق في تحطيم إرادة الحسناء فهاجر مرّة أخرى. هاجر إلى أوطانٍ أبعد هذه المرّة ليعود من تلك الأوطان (التي قيل أنها متاخمة لبلاد الأدغال) بالأثواب التقليديّة المترفة المشبعة بأصباغ النيلة الشديدة الزُّرقة المستخدمة في عُرف القوم خصّيصاً للإحتفال. لم يُقدّم الرجل الثوب لإمرأته النفور على سبيل الإهداء، لأنه كان أكثر دهاءً من أن يفعل بسبب خبرته الطويلة بطبع النساء، ولكنه أرسل لها الثوب مطويّاً بعناية، مدسوساً في رقّ جلدٍ لحيوانٍ سحريّ هو الغزال، وطلب في الوصيّة الإحتفاظ له ُ بالثوب أمانةً حتّى يعود من رحلة. ولكن الفضول الذي حوّل إمرأة نبيٍّ يوماً إلى جلمود ملح لم يكُن ليدع الحسناء تنام ليلتها قبل أن تفتضّ بكارة الحصن الجلدي المسحور لتتفحّص الكنز المُغري الذي تحتويه. لم تكتفِ بفضّ الكنز بالطبع، ولكنها إرتدته. و رُوي على لسانها تالياً قولها أنّها أحبّتهُ ما أن إرتدتْ الثوب! أحبّت الرجُل في الحال بعد أعوامٍ طويلة من النفور و العناد والفرار!
هذه السيّدة الجليلة التي تحمل روح حُسنها في ضحكتها وبشاشتها ومرحها بقدر ما تحمل من جمالٍ في بدنها إعتادتْ أن تُمازحني وتُجادلني كلّما إلتقتني أو جاءت لزيارتنا دون أن يخطر ببالي أنها يمكن أن تُخفي النيّة في إتّخاذي ضماناً لإستمرار حضور ذرّيتها في حضرة الزمان الذي كان مسئولية المرأة الصحراويّة دوماً دون الرجل، كما هو الحال في كلّ مجتمعٍ أموميّ تقليدي لم يكن ليُحقّق البقاء على قيد الحياة لولا تشبُّثه بهذا التقليد إلى حدٍّ صار فيه ديناً. فالإبن هو إبن الأمّ حتّى لو حمل إسم الأب. والإنتماء منسوبٌ إلى سُلالة الأمّ لا لسُلالة الأب. لأنّ الأم كيانٌ لهُ حضور في خارطة الوجود، أمّا الأب فهو روحٌ تهيم في الفضاء وربّما ضائعة في مدارات الأفلاك. الأمّ حقيقة يُمكن لمسُها باليد، ولكن الأب حُلم، خيال، وَهم. و إستجابةً لهذا اليقين يجود القوم بنسائهم على الأغراب، ولكنّهم يبخلون برجالهم على نساء الغرباء، لإيمانهم بأنّ المرأة وتد للذريّة وشهادة لبقاء السُلالة في الأزمان لأن الوتد دليل وجود في الأرض، أمّا الأبناء الذين أنجبهم أبناء الأمّة من بطونٍ أجنبيّة فضياع لأنّ الآباء في مُقابل حضور الإناث غياب. ويبدو أن كاهنة القبيلة قد قرأت نواياي الخبيئة التي لم أكن لأعيها في ذلك العُمر المبكّر، فقرّرتْ أن تعتقلني بالوتد في ذلك اليوم الذي أقبلتْ عليّ بطفلتيها الحسناوين قائلةً (بلهجتها الماكرة البارعة في خلط الجدّ بالهزل) أنها رأت أن تنذر إحداهما لي وما عليّ إلاّ أن أختار. لا أذكر الآن شيئاً عن حقيقة إحساسي، ولكنّي أذكر جوابي. الجواب الذي أدهشها وراق لها أن تُردّده دائماً لأنه كان نبوءةً. قلتُ لها أنّي لا أنوي أن أختار رفقة بنات القبيلة لأنّي قرّرت أن أقترن بأجنبيّة! ضحكتْ طويلاً يومها، وأغرقتني بدعاباتها، ولكنّها لم تسخر منّي. كانت تلك المرأة الفذّة رئيّةً من الطراز الكلاسيكي حقّاً لأنّه إذا كانت نبوءتي قد تحقّقت حقّاً بعد عشرة أعوامٍ فقط من ذلك التاريخ، فإنّ نبوءتها كانت أقوى لأنّ الأقدار شاءت إلاّ أن تُحقّق رغبتها أيضاً يوم وجدتُ نفسي ألجأ إلى الواحة (بعد أن طُفتُ العالم ويئستُ من نساء هذا العالم) لأقترن بسليلة كاهنة الأجيال تلك؛ لأقترن بحفيدتها التي لم تكُن سوى إبنة تلك الحسناء التي هيّأتها في أبهى هيئة في عيد أحد الأيّام واقتحمتْ دُنيا عُزلتي لتُجيرني بها من السّير في طريق الضلال! ولكنّ العزاء أنّي لم أخذلها فكفّرتُ عن ضلالي يوم طرقتُ بابها بعد إنصرام الأعوام تلبيةً لندائها الحكيم وطلباً للغُفران؛ لأن وصيّة السلف تقول أنّنا لا نجد أنفسنا أخيراً، إن لم نُضيّع أنفسنا طويلاً!
ويبدو أن الحنين إلى شدّ الرحال والإنطلاق في الهجرة النائم في الجينات هو سرّ فِراري من الفخّ الذي شاءت سليلة الكهانة أن تنصبه لي، وهو سرّ عودتي إلى رِحابها أيضاً، لأنّ مُريداً تجري في عروقه دماء الهجرة بالوراثة لا يضع الوجهة نصب عينيه، ولا يعود يأبه لوجود غاية لهجرته، ولكن ينطلق كلّما إستثقل حضوره في المكان. غاية الهجرة تصير عندها طلسم إغواء في الهجرة. بل هاجساً، حاجةً، وجعاً ترياقُه في الهجرة. وكان على المُرِيد أن يُهاجر في دُنيا الله كثيراً، ويجتاز أوطاناً كثيرةً، وينزل ضيفاً على أُممٍ كثيرةٍ قبل أن يكتشف أن هذا الدّاء المدسوس بعيداً في الجينات ماهو في حقيقتهِ سوى ظمأ إلى المعبودة الأزليّة: الحرّية!
وإذا كانت تجربة المرأة الداهية دليلاُ صالحاً للبرهنة على التوق إلى الفرار، فإن تجربة أخرى كتبت لي الأقدار أن أعيشها بعد مرور ثماني أوتسع سنوات من التجربة الأولى لعبت فيها دور البطولة الشاعرة ومُربّية الأجيال الشهيرة الفقيدة خديجة الجهمي التي كانت تتولّى رئاسة تحرير مجلّة "المرأة" وتوطّدتْ صلتي بها عقب حركة عام 1969 الإنقلابيّة لتستكتبني بالمجلّة. كانت هذه السيّدة الفذّة تُحيط جيلنا برعاية لاعلى المستوى الأدبي فقط، ولكن على المستوى الدنيوي أيضاً على نحوٍ لم نعهدهُ في أمّهاتنا حتّى أنّنا لم نكن ندعوها سوى بإسم "ماما خديجة" لا من باب العرفان لرحمتها، أو الإكبار لشخصها وحسب، ولكن إعترافاً لها بحنانٍ أموميّ إفتقدهُ جلّنا في أمّهاتنا، سيّما بعد أن أضعنا عشّ الأمومة ووجدنا أنفسنا ضحايا ذلك الواقع الذي أحسن الحسن البصري وصفه عندما عبّر عنه بالقول أنّه يقتل من أقبل عليه ويجرح من أدبرعنه؛ وهو ما تعني ترجمته، أنّ ناموس الدنيا لابدّ أن يثخننا بالجراح بالزهد، في حين يستطيع أن يُميتنا موتاً فيما إذا حكّمنا في دنيانا الأهواء، لأن الدنيا كالسلطة التي لا تترك عشّاقها إلاّ أمواتاً!
"ماما خديجة" قرّرت في أحد الأيّام أن تستدرجني بحسناء حقيقيّة أيضاً على قلّة الحسان في زمنٍ شهد قلّة النساء بالمقارنة مع عدد الرجال. لقد تذاكرنا في إحدى زياراتي لها بمكتب المجلّة سيرة حضور المرأة في أدب ليبيا المعاصر، وكان أن زلّ لساني بالثناء على تلك الحسناء التي إلتقيتها في جلسات مؤتمر الأدباء الأوّل المنعقد عام 1968م، فما كان من المربّية الفقيدة إلاّ أن تكلّمتْ بروح العناية الأموميّة مقترحةً أن تتقدّم بطلب يدها. فوجئتُ بالطبع، لأنّي لم أنتظر الإقتراح أوّلاً، كما لم أتوقّع أن تكون صفقة مصيريّة كالزواج عملاً قابلاً للحدوث بمثل هذه السهولة. كان قبول العرض طيشاً منّي بالطبع لا بسبب الفضول، ولكن ليقيني بأن الأحلام لا يُمكن أن تتحقّق بكلمةٍ في جلسة. وأعترف اليوم بأنّي لم أرفض العرض إستجابةً للفضول ربّما، ولكنّي لم أُبدِ حماساً أيضاً بسبب الخوف من ورطة، لأني لم أكن بالطّيش الذي يعميني عن إستشعار خطر الإرتباط بإمرأة مُترفة (كما قيل لي) وفوق كل ذلك تمتلك مؤهّلاتٍ لا يحتلّ الجمال وحده شعرة شمشون في حشدها، ولكن هناك المركز الإجتماعي، والصّيت الأدبي، وفوق كل هذا وذاك هناك فارق السنّ الذي تكبرني فيه بعدّة أعوام. الخُلاصة أن هذه العوامل ولّدت في مُريد الإبداع روح التحدّي بوصفها تجربة رومانسيّة بعيدة المنال!
ولا أنسى اليوم الذي إستدعتني فيه "ماما خديجة" هاتفيّاً لزيارتها في مكتب المجلة الواقع في الطابق الذي يعلو مقرّ الجريدة حيث كنت أتولّى تحرير الصفحة الأدبيّة لتزفّ لي نبأ الموافقة على إتمام الصفقة التي حسبتها مستحيلة. زعزعني الخبر، وحيّرني، وطوّقني بالخوف برغم الإغواء، ولكنّه لقّنني درساً نفيساً لأنّي كسبت الرهان وأدركت أن الحلم مهما بدا مستحيلاً قابل لأن يتحقّق. كان فوزاً للتحدّي، ولكنّه نذيرٌ بالوقوع في الشَرَك أيضاً. إنه الصفقة التي سأخسر فيها الروح، لأنّ ما جدوى وجود روحٍ لا تتنفّس الحريّة؟ وكيف لي أن أُفلت من الوتد دون أن أخذل المربّية العظيمة التي كانت للأجيال أمّاً؟
ولكن من جانبٍ آخر: ماذا أفعل بنداء الواجب الذي كبّلتُ به نفسي يوم أخذتُ على عاتقي (في لحظةِ تأمُّلٍ عميق) أمانة قول حقيقة أمّي الكبرى المغتربة الصحراء وحقيقة أهل الصحراء؟ هل أملك الحقّ في أن أخذل رسالة في سبيل إمرأة لم أعرفها ولم أعشقها لم تكن المشكلة لتكمن في نيلها، ولكن في كيفيّة التخلّص منها كما علّمنا فلوبير؟ أعترف الآن أنّ الحرج الذي سبّبتهُ لـ"ماما خديجة" (وربّما هو الجرح) بفراري الثاني عابراً البحور إلى أبعد قارّة صار لي غصّة لم أغفرها لنفسي، لأنّي لم أرَها بعد ذلك التاريخ حتى يوم بلغني نبأ رحيلها عن عالمنا في تسعينيّات القرن الماضي.
18ـ الخروج
ضاقت بي الأرض وكتم أنفاسي حنينٌ مُميت. عبثاً رفرفتْ الروح تستجدي الرحيل، وعندما أعيتها الحيلة أسقطتْ نقمتها على الجسد فسقطتُ صريع المرض الذي كان يهرع لنجدتي في كلّ مرّة تتعرّض فيها الروح الهشّة لجورٍ أو لقمعٍ أو لأي إساءة، لأدرك مع الأيام أن الجرح المفتوح قدرٌ لحساسيّة هذا اللغز المسمّى روحاً. جرح على أهبّة الإستعداد للنّزيف في أيّ لحظة. ينزف لأتفه إساءة فلا يجد متنفّساً أو ترياقاً إلاّ في فشّ غلّه في كيان البدن الشقيّ. أمّا إذا أُضيفت إلى هشاشة الروح، كحساسية مفرطة، طبيعة أخرى هي حداثة العهد بهول الدنيا، فإن الحنين إلى الخلاص ينقلب حلماً، هاجساً، وسواساً. لم أكن بالوعي الذي يسمح لي بتفسير سرّ الحنين المُميت في ذلك العمر المُبكّر لأكتشف أنه رهين طول المقام في المكان. لم أكن أدري أن الإستقرار في أرضٍ أكثر من أربعين يوماً هو غيابٌ للحريّة يُهدّد عافية الروح في عقيدة أمّة الرحيل. وكي ترتوي الروح من معينها الوحيد الذي لا ينضب (وهو الحرية) فأوّل ما تفعله إذا أعيتها الوسيلة هو أن تبطش بالجسد لتُحقّق الخلاص، لتحقق الحرية، غير آبهةٍ بالجسد، وبصاحب الجسد، إن كان للجسد صاحب بعد فرار الروح!
كانت الأمّ تعاني في كلّ مرّة أسقط فيها صريع المرض. لم تكن تعاني وحسب، ولكنّها كانت تُصاب بدورها بالمرض مثلها مثل كلّ أمٍّ في الدنيا. كانت الحمّى تبلغ ذروتها إلى حدّ فقدان الوعي. لم تُجدِ عقاقير الأعشاب التي جلبتها معها من عالم الصحراء فأرسلت في طلب الممرّض الوحيد القائم في الواحة على أمر الصحّة. ولمّا كان هذا الممرّض قد ذاع صيتُه بإستخدام دواء وحيد هو حقن المرضى بالبنسلين، فقد كان من الطبيعي أن تعجزه مداواة علّة فريدة لا وجود لها في معجم الطبّ البشري هي إنتكاسة الروح! وتشاء الأقدار أن تتزامن الإنتكاسة الجديدة مع غياب الأب في عمله بوادي الآجال حيث اقتصرت رعايته لنا بزياراتٍ كلّما سمح وقته بذلك تاركاً شئوننا المعيشيّة في عُهدة حانوت البلدة في وقتٍ تزامن أيضاً مع إلتحاق شقيقي الأكبر بعاصمة الواحات سبها لينخرط هناك في سلك الشرطة. بعد أن هجر الدراسة بالسنة الثالثة الإبتدائية بسبب إستنكاره لاحتلال المرتبة الثالثة في صحيفة ذلك العام من حيث رأى في نفسه الكفاءة في الفوز بالأولويّة، أو بالمركز الثاني على أقلّ تقدير، فقام بتمزيق الوثيقة إحتجاجاً! أقبل الأب فرأى أن يُهوّن عليّ بمرافقته إلى واحة أوباري. وكي يُعطي الزيارة بُعْد النقاهة تعمّد أن يعبر بي الصحراء الرمليّة الواقعة بين الواحتين بواسطة بعيرٍ بدل الوصول إلى هناك بواسطة السيّارات التي تسلك طريق الشمال الذي ينحرف ليمرّ عبر سبها نظراً لإستحالة إجتياز بحر الرمال بعجلات السيارات في تلك الأيام.
بعد زيارة الأب أُتيحت لي فرصة في مرّة أخرى لزيارة الشقيق في سبها لأوّل مرّة. في الطريق الترابي الذي ينطلق من الواحة شاهدت عمّالاً بؤساء يعاندون العروق العصيّة ليسوّوا أرض الطريق الوعر بآلاتٍ بدائيّة تحت شمسٍ صحراوية لاتُطاق في قيلولة فصل الشتاء، فكيف بهجير الأصياف؟ ولكن هؤلاء الرجال الأشدّاء كانوا سعداء برغم كل شيء، لأنّ الفوز بعملٍ مّا في ذلك الزمن العصيب الذي تلا الاستقلال كان امتيازا استثنائيا، بل حظوة مستنزلة من السماء مهما شقّ أو إستعصى. وكانوا يهرعون لتحيّة السيارات العابرة في ذهابها لعاصمة الواحات وفي إيابها منها (على ندرتها) بروح الإحتفاء أملاً في أن تكون من بينها تلك المطيّة المنتظرة التي إعتادت أن تحمل لجموعهم الأجور كل نصف شهر. وبالوسع رؤية خيبة الأمل في سيمائهم في حال عبور الآلة دون أن تتوقّف لتغمر قاماتهم بعاصفةٍ من الغبار بدل أن تجود عليهم بالأجور.
في مدخل المدينة (عاصمة الجنوب سبها) وقع بصري على الإسفلت لأوّل مرة، ولا أنسى الإحساس الغامض الذي يُصاحب دخول ذلك العالم المديني المشطور بذلك الشريط الأسود إلى نصفين الذي تنساب فيه أجناس الآلات إنسياباً بدل أن تتمخّض وتتقافز وتتنتفض كما هو الحال مع السيارات الصحراوية في عبورها للطرق البرية. إنه أعجوبة لا بالقياس إلى الطرق البرية وحدها، ولكن بالمقارنة مع طريق السعف الذي مررنا به عند عبورنا للفاصل الرملي المهيب الواقع بين سبها وواحة براك الشاطي، برغم حقيقة الأخير كتحفةٍ فنّيةٍ تعجيزيّةٍ ظفرتها أيدي عمّال آخرين منذ زمن الإحتلال الإيطالي ليمدّوا بين الواحتين جسراً جسوراً يحطّم مشيئة الطبيعة القاسية ملقياً بين يديها الشهادة على عظمة الإرادة في المخلوق البشري كأنّه يرمي في وجهها بقفّاز تحدٍ يمتدّ على مسافة ستّين ألف متر كاملة!
أمّا الإحساس المجهول الذي عشتُه لحظة مشاهدتي لعالم تلك المدينة ولم يُكتب لي أن أنساه هو يقيني بأنّي أحيا تجربة سبق لي أن عشتُها يوماً. تجربة منسيّة كأنّها حُلم، ولكنّها برغم ذلك يقين، برغم أني أحياها للمرّة الأولى. إنّه إستحضارٌ مذهل لذاكرة غيبيّة لم تتكرّر سوى مرّة ثانية كانت أخيرة يوم أتيح لي أن أنزل مدينة موسكو بعد التجربة الأولى بسبعة أعوام، قبل أن أجد الطريق إلى المعارف التي تتحدّث عن الميلاد الثاني، أو تناسخ الأرواح، أو نظريّة أفلاطون عن المعرفة كنتاجٍ علمي نستعيدهُ بالذّاكرة من مخزون الحياة السابقة، ولا نتعلّمها في الحياة العاديّة عندما نظنّ أننا نتعلّمها!
أعترف اليوم أنه إحساسٌ زعزعني، لأني لم أكن لأدري وقتها أنّني، بهذا الوحي، إنفتح في وجهي باب الميتافيزيقا على مصراعيه. ذلك الباب الذي كان له الفضل في إطلاق سراح المُخيّلة لتعانق آفاق الآداب، وتحرير الروح الظمأى لإرتياد رحاب الحقيقة! إنّها لحظةٌ تصيب بالفزع، فتنقشع في ومضة؛ كأنّ فرارها هو قصاصٌ على اللذّة التي تولّدها. كأنّ زوالها ثمن الوهجْ الذي نلته مقابلها!
ولكن هل أفلحتْ الزيارتان في إرواء الظمأ الغيبيّ إلى الخروج؟
كانت المحاولتان بمثابة عقار لتسكين الداء، ولكنّ المرض اللئيم كان يستيقظ عقب كلّ عودة بعنفٍ أكبر، ممّا اضطرّ الأمّ لأن تحتكم للناموس القديم رحمةً بي: أرسلت بي إلى عاصمة الواحات وصيةً مدعومةً بعرف الأسلاف لأواصل تعليمي في كنف شقيقها الذي إستقرّ به المقام هناك أخيراً؛ كأنّ الناموس رأى في إنقطاع تجربة قدموس إستهتاراً بمشيئته فقرّر أن يذكّر الكلّ بكلمة الكتاب الضائع "آنهي" القائلة بأن سليل الأخت قدرٌ في عنق شقيق الأخت، لا في عنق الأب!
لم أكن أدري حتى ذلك الحين أنّ كل كائنات العالم المحيط كانت تتآلف وتتحالف لنسج الدسيسة المؤهّلة لتحويل هوسي بالرحيل علّة لا ترياق لها؛ لأن حدودها القصوى تزيينٌ لخلاصٍ لا وجود له إلاّ في الموت. فما لم يخطر لي على بال هو الطبيعة الغيبية التي تسكن حلم الهجرة؛ لأنّها لم تكن حنيناً للتحرّر من عبودية المكان للحلول ضيفاً على مكان، ولكنّها توقٌ للفرار من كل الأمكنة والحلول في الاّمكان. إنه الأمل الأخطر على الإطلاق لأن تحقيقه، كما أثبتت التجربة، ليس رهين الطلب في ربوع الأرض، ولكن رهين الحضور في ملكوت الربّ!
لم أكن أعلم أني أقطع أولى الخطوات، بالإنتقال إلى واحة الواحات، لأسير في طريق المجهول المجبول باللعنة. لأن هوية الغيوب دوماً حجاب يستوجب التعبير!
والتعبير دفاعٌ عن النفس.
التعبير إحتيالٌ على الموت.
ترويض العبارة إحتيالٌ على الموت، برغم هويّته كقبولٍ لمصيرٍ لايختلف عن الموت هو: العزلة!
إنه ضربٌ غامضٌ يستهوي: ضربٌ من لعبٍ بالنّار!
المبدع فراشة تتوق لِلثم لسان اللّهب!
19 ـ الضّلال
الإنتقال من حضيض الواحة إلى رحاب جبل "القارّة" بمدينة سبها، كان إسراءً من ظلمات الهاوية وصعوداً إلى تلك الشّعاف التي تستعيد الحضور المفقود في أوطان الحمادة الحمراء المعلّقة في برزخٍ بين السماء والأرض، كأنّ هذه القمّة الخرافيّة المكابرة التي كانت أرجوحة الطفولة تأبى إلاّ أن تدلّل أبناءها بتشييعهم إلى أبعد مدى في ملكوت سماءٍ مجبولةٍ بعمق الزرقة دوماً، مغسولةً بالشموس الأبديّة، لتعمّدهم بالإلهام. ألن يكون الإغتراب عن مسقط رأسٍ كهذا هو سرّ الإحساس بالكآبة المُميتة ورفض المقام في واحة الأنقاض؟
ولكن ها هو البيت المجاور لنقطة الشرطة، والواقع تحت معسكر يأويه جوف القلعة التاريخيّة، الذي يعتلي القمّة الجبليّة الوحيدة التي تُشرف على السهل الفسيح الممتدّ إلى جهات الدنيا الأربع حتّى تبتلعه الآفاق، يستميت الآن ليُحيي في وجدان المُريد روح السموّ التي فقدها منذ هجّرتْهُ قوىً أقوى عن رحاب فردوسه المفقود. ويبدو أن هذا التعويض لعب دوراً في ترويض الروح ليجعل من الحياة في المكان الجديد مُحتملة في حدّها الأدنى؛ لأن الحلم بالوطن المفقود مالبث أن انقلب هاجساً غامضاً كأنّه حبلُ سُرّةٍ آخر يفوق حبل سُرّة الجسد طغياناً يحيا فينا ليربطنا بمسقط الرأس بسلسلةٍ أطول من السّبعين ذراعاً ليُوسوِس فينا أينما حللنا. والدليل هو سيرة الّلهفة الغريبة التي كبّلتني طوال الأعوام التالية لأجد نفسي أتسلّق خاصرة أعلى قمّة في موسكو هي جبال فوروبيوف التي استُبدل إسمها القيصري إلى جبال لينين في عهد الإمبراطوريّة السوفييتّية، ثم مرتفعات "جوليبوش" في وارسو، ثم المرتفعات ذاتها بعد عودتي الثانية لديار روسيا، إلى أن استقرّ بي المقام في سفوح أعلى قمم أوروبّا الجبليّة وهي الألب السويسريّ. إنه ضربٌ من وفاء ميتافيزيقي لقمم "تينغرت" (الحمادة) الضائعة. إنها محاولة لقمع حنين لايُهزم إلى الوطن الضائع علّ الإعتصام برحاب السماء تشبّثٌ بتلابيب عروة وثقى لأنها وطن الإنسان الذي لايتجزّأ مهما تجزّأت الأوطان السفليّة التي تطبع قلوب السلالات الأرضيّة بأختام الهوية. لأنّ.. لأنّ الإنتماء إلى السماء، واللهفة إلى الضوء، هو الذي يجمع الذرّية البشريّة في هويّة مشتركة!
أليست الهوية السماوية هي رديف الفردوس المفقود في كلّ الثقافات؟
الحنين إلى الوطن الضائع، الحنين إلى مسقط الرأس إذاً هو حنين ديني. هو حنين إلى الله. وهو مالم يكن لي أن أكتشفه آنذاك. فأن يتلبّس بُعْد أرضي ّ في متناول اليد كالمكان مسوح الألوهة أمرٌ من قبيل التجديف في عقلٍ حديث العهد بتأويل لغز العالم. إنّه سؤال أوّل لإي أبجديّة الأسئلة الوجوديّة التي يحمل كلٌّ منّا شفراتها التي إذا تجاهلناها صرنا أهلاً لحمل لقب المواطن الصالح، وإذا استنطقناها فزنا بلقب الإبن الضّال!
ولكن المفارقة التي تبدو عدميّة هي حقيقة حبّ الربّ لمعبود الربّ التي كانت عبر الأجيال للضّلال. والسّبب؟ السّبب بسيط بساطة الحقيقة التي تقول أن الإنسان لايضلّ ضلالاً حقيقيّاً عبثاً. إنّه يضلّ بحثاً عن الربّ! لأنّ أيّ ضلال ليس ضلالاً إن لم يكن طلباً للربّ. والوصيّة النبوية التي نقرأها في إنجيل متّى ليست سوى البرهان على ذلك: "إذا كان لإنسانٍ مئة خروف، وضلّ واحدٌ منها. أفلا يترك التسعة والتسعين على الجبال ويذهب يطلب الضالّ؟ وإن إتّفق أن يجده فالحقّ أقول لكم أنه يفرح به أكثر من التسعة والتسعين التي لم تضلّ" (18:12،13).
تضلّ الشاة عن مرتع القطيع طلباً لراعٍ أقرب لها من حبل الوريد، لأى تجربة الأجيال برهنت أن ما نبحث عنه بعيداً هوما نعثر عليه قريباً في النهاية؛ ولكن الإهتدء غليه مشروط بالطلب. مشروطٌ بالسير في طريق الضلال المخيف الذي تتربّص بنا فيه الذئاب والثعابين وحتى التنانين!
القسم الثاني
أوّل الغيث في حقول العلقم قطرة!
«كأس الحياة كان يُمكن أن يكون حلواً حدّ الغثيان لو لم تسقط فيه بضعة قطرات من دموع!».
( فيثاغورس)
«علقمٌ هي الأفكار
كسمٍّ زعافٍ يستبيحنا
ليسري في الدّمِ
كأنّه، في هشيمٍ، هبّةُ نار! "
(شكسبير)
1ـ التّوق إلى النّار
مكتبة وزارة الأنباء والإرشاد صارت لي بيتاً ثانياً.
من العجيب أن تحفل واحةٌ مقطوعةٌ في قارّة منسيّة كالصحراء الكبرى بعددٍ من المكتبات الثريّة في ذلك الزمن العصيب الذي تلا إستقلالاً تحقّق عن عهودٍ تاريخيّةٍ سلختْ من عمر هذا الوطن النبيل أجيالاً من التبعيّة. وهو عملٌ لم يكن ليكون أعجوبة في نظر من لم يشهد ظاهرة القحط الثقافي المُبرمج التي تعرّض لها المكان لا لينقطع الحل بتأسيس مكتباتٍ جديدة (كنتيجة منطقيّة لتضاعف البحبوحة الإقتصاديّة الناجمة عن إكتشاف الثروات النفطيّة) وحسب، ولكن لتختفي من المشهد هذه المكتبات أيضاً، بيد تلك الحركة الإنقلابيّة التي برّرت قيامها بحُجّة تحرير الوطن من الثالوث الذي كثيراً ما راق للمُغامرين الظامئين للسُّلطة من إتّخاده مشجباً وهو: الفقر والمرض والجهل! وهو قطع دابر كلّ ما يمتّ للثقافة بصلة لم يقتصر على منطقة في البلاد دون منطقة، ولكنّه سُرعان ماعمّ كل الوطن كأنّه خطوة مدبّرة ممّا يُعطي الحقّ لشاهد العيان في إعتباره قحطاً ثقافيّاً مبرمجاً تنفيذاً لخطّةٍ مسبقة. ففي سبها تلك الأعوام إنتشر حرم المكتبات على طول طريق الإسفلت الذي يشقّ المدينة من أقصاها في الغرب ويشطرها نصفين حتّى يجتازها ليعبر الحقول المؤدّية إلى القارة في خلوات الشرق لتنتصب القلعة الحجريّة على القمّة كأقدم أثرٍ تاريخيٍّ يعود إلى القرن السادس عشر، أي إلى ذلك العهد الذي إستقدمتْ فيه الأميرة الشقيّة "خود" جيش الأتراك ليكون لها عوناً في ذلك العراك المُميت على السلطة مع زوجها حاكم واحات "فزّان" آنذاك. فهُناك مكتبة منظّمة اليونيسكو في حيّ "الجديد" بالمدينة القديمة، تليها بعد مسافة كيلو مترين أو ثلاثة المكتبة الأمريكيّة، ثمّ مكتبة نادي الموظّفين، وتقع مكتبة وزارة الأنباء والإرشاد في نهاية طريق الإسفلت المواجه للمدرسة المركزيّة وبداية الطريق المؤدّي إلى القارة التي تبعد عن مركز المدينة سبعة كيلومترات: في القارة هذه إستقرّ بي المقام، وفي المدرسة المركزيّة واصلتُ تعليمي، وفي مكتبة وزارة الأنباء أستجير في ساعات الفراغ. إنّها بمثابة همزة الوصل بين عالمين لا ينتظرني في أيّ منهما إلاّ الكتب لتكون محطّة إلتقاط الأنفاس أيضاً حضيرة كتب، لتصير الحياة كلّها رحلة كتاب، وكأنّ الجوع إلى الحرف المطبوع الذي عانيت منه طوال سنوات الإقامة في واحة الأنقاض تحوّل هنا إلى ضربٍ من تعويض، أو جنسٍ من إنتقام. إنّه نهمٌ غيبيّ إلى ما يخفيه هذا الجوف الرهيب الذي نسمّيه كتاباً. إنه بحثٌ دامٍ عن حلّ لوسوسة الهباء! بحثٌ عن تفسير للغز الدّسيسة التي أودعتها الصحراء في الجينات لتصير في الوجدان هاجساً، بل مسّاً كان على المُريد أن يعبر حقول علقمٍ كثيرة، ويُصارع تنانين خرافيّة كي يعلم أنّها ليست شيئاً آخر غير: الحقيقة! بلى. في بطون الكتب تنام الحقيقة، والويل ثمّ الويل لمن إحترف قراء الكتب بحثاً عن الحقيقة!
مع هذا لا ينبغي أن نستنزل سربالاً رومانسيّاً على المكتبة المعنيّة فنقول أنها أسطورة في الثراء. العكس هو الأصحّ. كانت شحيحة في عدد الكتب، وفي موضوعات هذه الكتب. كانت الأرفف جلّها خاوية بسبب حداثة العهد بالإنشاء كما خمّنتُ تالياً، خالية من كتب التراث نهائيّاً، في حين إحتلّت الكتب المترجمة النصيب الأوفر برغم ركاكة الترجمة، ولكن لها الفضل يرجع في تعريفي برموز الأدب العالمي (ببعضها بالأصحّ) برغم عجز النصوص في أن تشفي غليلي لأكتشف بعد زمن أن السرّ ليس خطيئة المتون، ولكن في روح الترجمة التجاريّة التي كانت ورم الثقافة العربية في تلك المرحلة. حاولت أن أجد الطريق إلى المكتبات الأخرى، ولكن أعجزتني الحيلة بالنظر لبُعد المسافة من مكان الإقامة في القارة أوّلاً، واشتراط إتمام إجراءات الإشتراك ثانياً، وهو ما لا سبيل له لا لجهلي بالمستلزمات وحسب، ولكن لكُرهي الفطري لكلّ مايمتّ بصلة لكل إجراء روتيني. وهي علّة مازالت تُلازمني إلى اليوم حتّى أني كثيراً ما فضّلت التضحية بالمكتسب على مُمارسة الروتين اللاّزم لإنجاز هذه المكاسب!
أمّا بُعْد المسافة عن المركز فكان تحدّياً يوميّاً سيّما بالنسبة لإنسانٍ إصطفته الأقدار بتلك العلامة الغيبيّة تمييزاً له عن بقيّة الأغيار (لأن من أحبّه الله وحده يؤدّبه الله كما تقول الأسفار)؛ لأن عليّ أن أقطع مسافة أربعة عشر كيلومتراً يوميّاً في الذهاب إلى المدرسة وفي الإياب مستعيناً على عطب القدم بإرادة المعرفة وحدها، وربّما وعياً مبكّراً بنداء الواجب. لم أعوّل كثيراً على منهج المدرسة في تحقيق المعرفة المأمولة، كما خذلني شحّ المكتبة الوحيدة الواقعة في المتناول، فلجأتُ إلى السوق. في مركز المدينة المعروف بإسم "قعيّد" إهتديت إلى مكتبة "بجاد" التجارية التي تبيع المجلاّت المصرية وبعض الكتب. وكنت أحرص على توفير ما تيسّر من الخمسة جنيهات التي إعتاد الأب أن يضعها في يدي كلّما مرّ على سبها في طريقه إلى واحة آدري أو عائداً منها، أو في طريق رحلاته إلى طرابلس، لكي أقتني الكتب والمجلاّت أيضاً فيما إذا سمح المال. ولم تكن المجلاّت لتروي ظمأ مُريد المعرفة بالطبع، ولكنّها حقّقت رسالة لا تقلّ نُبلاً هي ترويض النفس على القراءة بتحويلها عادة، بل طبيعة ثانية. وهو ما لا سبيل إليه بدون ماحقّ لنا أن نسمّيه "ثقافة القراءة". وهي ثقافة تُعاني محنة في عالم اليوم المكبّل بطُغيان تلك التقنية المدنّسة بسمّ الخياط التي غرّبت ثقافة المعرفة لتستبدلها بوهمٍ إسمه ثقافة المعلومة. رحلتُ في رحاب الكتب دون أن أُهمل المنهج بالطبع. كنتُ حريصاً على أداء الواجب، وعلى مواصلة التقليد الذي أخضعني للعقاب في الواحة: التفوّق! أقنعتُ نفسي بأنّي لا أخوض المنافسة مع الزّملاء في الفوز بالأولويّة إلاّ تلبيةً لنداء الواجب لكي لا أُصاب بالإحباط هُنا أيضاً، فلم أجد عُسراً في تحقيق هذا الهدف في المدينة بسبب غياب روح الإستماتة بين الزّملاء الجُدد عكس الزملاء في الواحة. هذا لم يُمكّنّي في الفوز بالأولويّة في نيل الشهادة الإبتدائيّة على مستوى المدينة أو الولاية بأسرها وحسب، ولكنّه حقّق لي الدّخول إلى حرم العشرة الأوائل على مستوى المملكة كلّها! وهو إمتيازٌ متوّجٌ عادةً بشرف نشر أسماء الفائزين في صُحف المملكة الرسميّة، وإذاعتها بالإذاعة، ومُكافأة هؤلاء بتنظيم رحلة مجانيّة إلى عاصمة الأحلام طرابلس! وهو إحتفاءٌ لابُدّ أن يُحيي في النّفس تلك الرّذيلة التي دأب دُهاة الواحة على إستئصالها من عقولنا بالعصا وهي: الغرور! وهو قصاصٌ يهون إذا قيس بالقصاص الذي إنتظرني عند أول محاولة طائشة منّي لحرق المراحل و التّمرُّد على الناموس المرسوم يوم قرّرت أن أختصر دراسة السنتين في سنة واحدة بالمرحلة الإعداديّة كما سيرد تالياً. لقد إكتشفتُ أن القصاص على مثل هذه المغامرة المكابرة إذا كان مجبولاً بالروح العفويّة في الواحة، فإنّه يبدو هيّناً إذا قيس بقصاص المدينة، لأنّه هنا مشفوعٌ بنصوص القانون الذي لا يرى ولا يرحم! والواقع أن احتراف ما تبدّى للنّاس تفوّقاً هو مالم يخطر لي يوماً على بال. أي أنّني لم أكن لأعيه آنذاك على النحو الذي يراهُ الأغيار، لأنّه في ظنّي لم يكن في حقيقته سوى جنسٌ من إنضباط فطريّ إستوجبته حياة الصحراء. ربّما تغذّى على التحدّي. تحدّي أوجدته الخسارة البدنيّة المتمثّلة في عطب البدن فتولّد الإحساس بالإضطهاد. الإحساس المبدع بالإضطهاد. وهو إحساسٌ مركّب لأن العلامة المطبوعة في القدم لم تكن علّته الوحيدة، ولكن الإنتماء إلى هوية مختلفة، وحمل شفرات ثقافة مغتربة، أمرٌ مؤهّل لمضاعفة الإحساس بالتّميّز، وبالتالي بنوعٍ من الإضطهاد. إنّه قدر الإنتماء إلى الأقلّية الذي لابُدّ أن يُعبّر عن نفسه سواء على مستوى تجريبي أو على مستوى اللاّوعي. فعقليّة الأقليّة في ظلّ حضورها في مجتمع الأغلبيّة هي اللغز الذي لم يهبه علم النفس حقّه من التّأويل إلى اليوم. وأعتقد أن سرّ هذه العقليّة هي التي غذّت روح العبقريّة في قبيلة مهاجرة كالعبرانيّين. ولا يلبث الأمر أن يزداد تعقيداً عندما يُصاحب هذا الإحساس التراجيدي القناعة (سواء الواعية أو اللاّواعية) بالأحقّية المبدئيّة في إمتلاك الهويّة الوطنيّة في حال كانت الأقليّة أهلاً أصليّين للمكان في مُقابل أهلٍ وافدين!
في تلك الأثناء كان ولعي بالأشعار قد بلغ الذروة. ولاتسعفني الذاكرة اليوم في إستعادة الكيفيّة التي مكّنتني من إستيعاب هذا الكمّ من الشعر الذي أهّلني لدحر الزملاء في المبارزات الشعريّة التي إعتاد المعلّمون تنظيمها في الفصول الدراسيّة إلى حدٍّ إنتهى بي الأمر لمبارزة صفّة كاملة من التلاميذ وحيداً، وتحقيق الغلبة برغم ذلك. وهو ما يدعوني لأن أتساءل اليوم عن الصحراء كتربة أخصب لإستنبات الشعر، في مقابل المدينة كأرضٍ أصلح لإزدهار الرواية. وهو جدلٌ تمليه طبيعة المكان. فالصحراء كفراغٍ عارٍ من طبيعة المكان لا يلبث أن يتحرّر من شروط المكان. إنّه مكانٌ هجر المكان، أو المكان الذي هجره المكان، لينقلب ظلّاً لمكان. فإذا كان العالم في الوجود جسداً، فإن الصحراء هي روح الجسد. هي روح هذا العالم المُعادي للروح. إنّها المكان الذي لا حضور له في المكان مثلها مثل الروح. ألا يُقال أن المكان هو روحٌ تجسّدت، كما أن الروح ماهي إلاّ المكان الذي تبدّد؟ الصحراء مكانٌ تبدّد ليترك وراءه في المكان المهجور روح المكان. وهي بهذا أنسب تراب لنموّ تلك اللحون المسبوكة في الكلم التي اعتدنا أن نُطلق عليها إسم الشعر. لأن ماهو الشعر حقّاً إن لم يكن حنين الروح؟ إن لم يكن وجْد الروح؟ إن لم يكُن نزيف الروح؟
أمّا الرواية فأمرٌ يليق بأن يكون دستور المدينة عن جدارة. الرواية بالمفهوم الكلاسيكي بالطبع، لا بالمفهوم الحداثي المطعّم بروح الشعر، بل وبحرف الشعر. ففي الوقت الذي تقف فيه الصحراء رديفاً لتلك الحريّة الضروريّة لهيمنة الشعر، تقف المدينة صلداً قريناً لأحابيل العلاقة، وساحةً لطغيان الأهواء، وجامعةً لتربية الصراع. إنّها وكر المنافع، وصرح الصفقة، في مقابل فراديس السليقة الزُّهديّة التي ينهل منها إله الشعر. فهل من قبيل المصادفة أن يستهوي الشعر سليل الصحراء في تلك المرحلة المبكّرة من التكوين الأدبي، فيبدأ بمُعاندة الأشعار قبل أن ينتهي به المطاف لإحتراف الرواية المجبولة بروح الشعر؟
التّوق إلى الشِعْر الخطوة الأولى في طريق الإستسلام لإغواء النار!
2 ـ الصّدمَة
لا أدري عمّا كان بوسع عدوس السُّرَى أن يحتمل التخبُّط في ظلام الدنيا لو خلتْ هذه التجربة من الحلم. فالرحلة تبدو اليوم حلم في نومة. حلم قصير في غفوة أقصر. ولكن الشعر لا يقتات إلاّ من هذا التجلّي. وهو الذي يجعل من هذا السحر سلطة لا تُقهر. ولولا الحلم (الأب الشرعي للشِّعر وللشّجن ولكلّ حنين) لفضّل عَدُوس السُّرَى أن يلفظ أنفاس النزع الأخير على قارعة أوّل طريق على الهوس بارتياد آفاق الطلب. مازلتُ أرى ذلك الفتى الملوّح بشموس الصحراء، والمبلبل بحمّى واقعٍ أسطوريٍّ تخفيه ذاكرة الحُلم وراء الصحراء، وربّما وراء البحار التي تحدّ نهايات الصحاري، يقف بمدخل ورشة بحيّ الجديد لإصلاح درّاجته الهوائيّة التي إشتراها للتوّ لتكون حجر الزاوية في حشد الأدوات التي إقتناها لإقتناص حلم الآفاق. كان يستمع إلى عامل الورشة وهو يُعاند عجلات آلة الأمل التي ستستبدل العجلتين بجناحين لتخترق هول الظلام لتحطّ في ممالك ماوراء البحور حيث يستقرّ الحلم معبوداً مجسّداً، ليتسلّى بثرثرة الرجل وهو يتحدّث عن الحظوظ التي وراء أبناء الجيل الذين شاءت لهم الأقدار أن يحيوا زمن "الذهب الأسود" الذي يختلف عن زمنهم البائس، في إشارة إلى عهد النفط الذي حلّ على الدنيا بتصدير أوّل شاحنة منذ سنتين ليبدأ تدفّق الثروة على المملكة منذ يومين؛ أي في اليوم الذي تمكّن فيه من إقتناء هذه العجلة الهوائيّة الرياضيّة بعونٍ من مدّخرات الخمسة جنيهات الأبويّة بالعاصمة ليعود بها إلى حاضرة الواحات حسب الخطّة المرسومة لإصطياد الحلم: حلم ٌ يدري أنّه لا يتحقّق بدون إجتياز المراحل، والمراحل لن يُمكن إجتيازها بدون الإنتهاء من عائق يبدو بلا جدوى برغم وقوفه شرطاً يعترض السبيل للإقلاع إلى أعلى! عائقٌ إسمه المدرسة لا سبيل لقطع دابره إلاّ بعبوره بأقصى سرعة وهو الذي لقّنته الصحراء وصيّة الهرولة المفضّلة لكلّ عدوسٍ قرّر أن يسري ليله. ولا يدري كيف ألهمته ذاكرة الحلم بحيلة حرق المراحل بإبتسار أعوام العلم مختصرةً في عامٍ واحدٍ بدل العامين.
كان وحْياً جنونيّاً يليقُ بفتى يُفكّر بذاكرة الحلم، لا بذاكرة الواقع. وكانت المسافة الواقعة بين مدرسة علي إبن أبي طالب الإعداديّة وقلعة القارة العتيدة هي أوّل عقبة في المغامرة؛ لأن قطع مسافة الثلاثين كيلو متراً على الأقدام في رحلة الذهاب الصباحي والعودة، ثم الذهاب المسائي والعودة سوف يستغرق يومين وربّما ثلاثة أيّام سيّما لإنسانٍ إصطفاه الربّ لِغلّ العلامة. هذا يعني ضرورة حلّ مشكلة المواصلات لتحقيق الغاية. أي الحصول على عجلة هوائيّة بأيّ ثمن. وهو ثمنٌ ليس هيِّناً بالنسبة لتلميذٍ يحيا على هِبات غير منتظمة من الأب. وحتّى إذا توفّر المبلغ فإنّ الأمر يستدعي السفر إلى العاصمة لإقتناء الوسيلة، لأن حاضرة الواحات ماهي إلاّ قرية تعدم وجود سوقٍ للدرّاجات كما تعدم وجود كلّ شيء برغم إسمها المهيب كحاضرة واحات. وزيارة العاصمة في حدّ ذاتها حدثٌ جليل يستوجب توفّر مالاً لم يُسعفه الحظّ لتحقيقه في مُكافأة العشرة الأوائل بسبب المرض.
هَدهَد هذا الطّموح آناء الليل وأطراف النهار. هَدهَد الطموح وهو يعلم بدرس التيه في الصحراء أن الحلم سيُسرِع لنجدته إذا أراد كما ينبغي. إذا أراد أكثر ممّا ينبغي. إذا أراد أكثر كثيراً ممّا ينبغي. لأنّ الطموح عندها لايبقى مجرّد طموح، ولكنّه ينقلب توقاً لتأدية واجب. إعلاءً لشأن رسالة. ينقلب قدراً! كل ما عليه أن يفعله هو أن يحلم و.. ينتظر. وبالفعل هبّ لنجدته الحلم يوم أقبل عليه الأب برفقة وفد زعماء القبيلة وأخذه معه في أوّل رحلةٍ له إلى عاصمة الأحلام. لم تكن تلك رحلة للحاضرة وحدها، ولكنّها رحلة لشريط الوطن الساحلي كلّه. فبعد أن إنتهى الوفد من مُقابلة عددٍ من الوزراء بطرابلس غادر إلى الشرق. إلى بنغازي، ثمّ إلى البيضاء، ثمّ إلى طبرق حيث توّج الوفد رحلته بزيارة الملك إدريس في قصر الخُلْد. وفي طريق العودة توقّف الوفد بطرابلس حيث إستطاع دُمية الأحلام أن يتمكّن من إقتناء بُغيتهُ الهوائيّة ليُدرك للمرّة الثانية أن الحلم قابل لأن يتحقّق بعد المرّة الأولى التي أدرك فيها الواحة مُستعيناً بأثر البعير وهو في سنّ الخامسة وربّما أقل من الخامسة!
إستطاعتْ المطيّة أن تهزم المسافة، ولكنّها لم تُفلح في قهر الطبيعة. فالعِراك مع موسم الزوابع الصحراوية كان بطوليّاً حقّاً. فرحلة الذهاب والإياب ذات طبيعة مزدوجة: شقٌّ صباحيّ لإرتياد صفوف السنة الإعدادية الثانية، وشقٌّ مسائيّ للإلتحاق بصفوف السنة الثالثة الإعدادية بنظامٍ مسائي مُسنّ خصيصاً لإتاحة الفرصة لأولئك الذين لم تسمح لهم ظروف العمل تلقّي نصيبهم من التعليم. وبرغم هيمنة المناخ القارّي (الصحراوي) على المكان، بيد أن تطرُّف هذا المناخ أعجز أبناء المكان من أن يتحوّل طبيعة ثانية بحُكم العادة، بل بحكم الولادة. فالحرّ حريقٌ لا يُطاق في أرضٍ لم تشهد أمطاراً تلطّف الأهوية منذ مئات السنين. هذا في الأصياف. أمّا في الشتاء فإن البرد لا يلبث أن يتحوّل صقيعاً قادراً على تجميد المياه في المواسير، وطرح طبقة من الجليد على سطح كلّ سلسبيلٍ بات عارياً متروكاً في عراء. وكنتيجةٍ لهذا التطرُّف في مزاج الطبيعة الصحراويّة لن يُدهشنا أن يُعاني أهل المكان من عللٍ مزمنة يأتي داء الرئة والروماتيزم على رأسها. فإذا أُضيف إلى جدل هذين القطبين ضيفٌ آخر أقوى عدواناً و أفتك سلاحاً متمثلاً في الريح الموسميّة التي تهبّ في فصل الخريف فإنّ البرهان في شهادة التطرُّف سوف يتضاعف. وأكثر ما يُدهش في غزوات هذا المارد هو نفَسهُ الطويل الذي يُبرهن على روحٍ معنويةٍ عالية تستطيع أن تخرق قوانين الطبيعة لتظلّ تعوي في الأنحاء أمداً قد يستغرق شهوراً دون أن تضطرّ لإ لتقاط الأنفاس ولو للحظة واحدة، كأنّها مخوّلة بتنفيذ وصيّة غيبيّة غامضة كثيراً ما تمخّضت عن تحوّلاتٍ جنونيّةٍ في خارطة المكان. فتجسيد الرسالة أرضاً عملٌ يهون دائماً في حالِ إكتفى الرسول بكنس لببٍ هُنا، وإقامة عقنقلٍ هناك، أو تشييد سدودٍ هنا، وردمِ فوّهة بئرٍ هناك؛ لأن أسوأ ما يطيب لهذا الداهية أن يفعل هو أن يهبّ مسلّحاً بتلك الكرات الشيطانيّة التي يُحسن إستعمالها كما لايُحسن مخلوق إستخدام سلاح وهي: حُبيبات الحصباء!
إن هذه الذرّات التي تكسو أرض المكان بألوانها الفاتنة لا تلبث أن تتحوّل بين يديّ مارد الزمان هذا قذائف مميتة تنطلق من فوّهات آليّة كأنّها الأسلحة الرشّاشة لتُطيح بكلّ من إعترض سبيلها. ولن يُكتب لي أن أنسى اليوم الذي حاصرتني فيه العاصفة الليليّة المحمّلة بفيض مثل هذه القنابل. كان موسم الرّياح قد أعلن عن نفسه في نهايات فصل الخريف بهجماتٍ متفرّقة، ولكنها ظلّت في الأيّام الأولى مُحتملة. ولكن المارد فقد صوابه فجأة. فقد صوابه في تلك الليلة التي صادفتْ عودتي من مدرسة المساء. لم يشُنّ غارته على شخصي أثناء عبوري لشوارع المدينة الليليّة الهامدة في هزيع تلك الليلة، ولكنّه إنتظر حتّى تلقّفني العراء المفتوح الواقع في المسافة الفاصلة بين المدينة وقلعة القارة كأنّه يُدبّر مكيدة! هناك باغتني! بل إنقضّ! إنقضّ وشرع يرجِمُني بوابلٍ من تلك الكرات التي لم يخطر ببالي يوماً أن يكون وقعها وقع سِلاحٍ فتّاك. في البداية كابرتُ. كابرت مُعوِّلاً بالحَدَس على قُصرِ النّفَس في طبيعة كلّ عنف، ولكن النفَس إشتدّ بدل أن ينقشع. لم تكُن تلك هجمة تقليديّة لريحٍ إعتياديّة. كانت تحدِّياً. كانت تحدّياً غيبيّاً. تحدّياً مجهولاً. وكان عليّ أن أنتظر زمناً لم يدُم طويلاً كي أُدرك أن ذلك التحدّي من رسول المجهول لم يكُن سوى رسالة المجهول!
لا أدري كيف إستطعتُ أن أحتمل رصاص ذلك السلاح الفظيع حتّى أدركتُ غابة النخيل التي تفصل بين المنطقتين السكنيّتين. كان الوجع في الوجه لا يُطاق كأنّ حريقاً حقيقيّاً شبّ في قسماته. كان الوجع شديداً في اليدين المتشبّثتين بمقود المطيّة الهوائيّة أيضاً وفي كلّ طرفٍ عارٍ. إستجرتُ بأحراش النخيل، ولكن الغزوة كانت أعظم شأناً من أن يعصم من بليّتها الشّجر. إنكمشتُ حول نفسي إنكماش العساعس، وإنكفأتُ على وجهي لأحتمي من بطش التّراب بالتّراب، مُطوّقاً وجهي بالسّاعدين؛ ولكن بلاجدوى! إستمرّت الحملة الجنونيّة مكذّبةً رهاني على وَهَن النفس في طبيعة العنف. كانت تلك تجربة تماهٍ بالطبيعة، تماهٍ بمشيئة أمٍّ تستبسل في تلقين سليلها درس النبأ اليقين. هذا النبأ لم يكن لي أن أقرأه إلاّ بعد فوات الأوان. إنّها التماهي الذي ذكّرني بتماهٍ أسبق سطّرته في الروح تجربة التّيه القديم. لقد سقطتُ بعدها طريح الفِراش لمُداواة الوجه المتخن بالجِراح. لم يفتني وقتها أن أتأمّل ماحدث فأُصحّح أوهامي عن هويّة الحصى، عن حقيقة الحصباء التي تشتدّ خطورتها كسلاحٍ تبعاً لحجمها، وتبعاً لقوّة هبوب الريح. ولم أكن بحاجةٍ لوصايا العُقلاء كي أدرك أن الطبيعة كانت لي في تلك التجربة أمّاً أرحم ممّا ظننت، لأن البليّة كانت ستكون أعظم بما لا يُقاس فيما لو إفترشتْ أرض تلك المنطقة حصباء بحجمٍ أكبر: حصباء بحجم قطع الحجارة! ولكن هل إستوعبتُ درس الأمّ؟ هل أحسنتُ قراءة رسالة المجهول؟
كلاّ بالطبع! لم يكُن لأُحْسِن ذلك وقتها، لأنّ قراءة رسائل القدر هو العمل الذي لم أحسِنهُ إلى اليوم، ولن أحسنه غداً إن أمهلتْ الأقدار فجادت بغد! والدّليل هو قيامي بتكرار التجربة (تجربة دراسة العامين الدراسيّين في عام واحد) في موسكو بعد ذلك التاريخ بأعوام لأقع ضحيّة عاصفة ثلجيّة ليليّة لم تقلّ شراسةً عن عاصفة الصحراء الرمليّة! كل ما إستطعتُ تأويله اليوم عند مُحاولة فكّ طلسُمات تلك التجارب هو العلّة. علّة تلك التجارب التي لم تكُن في الواقع غير الإحساس العدميّ ببُهتان الزّمن. بتحميل لغز الزمن بتلك الحمولة التي لم يعِدْ بها يوماً. إنّها تمرُّد على ناموس الصحراء، والمُجاهرة بكلمة العصيان لمبدأ "ميدّيياغز" الذي يسكُن جينات التكوين. إنّه ورم العقليّة الصحراويّة و سرّ الروح الزّهديّة التي تُديرُ ظهرها لكلّ شيء يأساً يقينيّاً من جدوى عمل أي عملٍ دنيويّ! وها هو صاحب الوجْد يواجه صواب وصايا الأجيال فيحصد بمغامرته الأولى خيبة الأمل! لقد قرّر المجهول أن يستبدل رسول الطبيعة فسخّر أبناء الطبيعة هذه المرّة كي يرجموه بالخبر اليقين. قالوا أن هناك قانون في مجال التعليم إسمه "نظام الثلاث سنوات" يمنع حرق المراحل ولايُجيز التقدُّم لتأدية إمتحان في الشهادة الإعداديّة قبل مُضيّ المهلة المقرّرة! قالوا أيضاً أنه قانون غبيّ حقّاً، ولكنّه يُخفي حكمةً لا نعلمها مادام الناس يخلعون عليه لقب القانون! وهكذا تبخّر أمل راهن عليه كثيراً، فلم يُفلح فوزه في السنة الثانية الإعداديّة بالأولويّة في التخفيف من هول الصدمة!
3 ـ التَّخَلِّي
نظام الثلاث سنوات؟! تساءلتُ يومها ومازلتُ أتساءل عن فلسفة ذلك النظام الذي يُسخّر حرف القانون لقمعِ أنبل ظمأ وهو الظمأ إلى المعرفة! هل يكمن السرّ في الخوف من إساءة إستعمال التراتب الزمني للإستحواذ دون وجه حقّ على برهان ذي قيمة نفعيّة يكمُن في قرطاسٍ ممهورٍ بتوقيعٍ يُعدّ في عُرف النظام الروتيني وثيقة رسميّة إسمها شهادة؟ ألا يبدو هذا المبرّر خلطاً ظالماً بين الشهادة كمُستندٍ يصلح للإستخدام في أغراضٍ دنيويّةٍ فانية في مقابل الحُجّة الأخرى التي تذهب إلى قاعة الدّرس للإستشفاء من مسّ المعرفة التي لم تكن يوماً وسيلةً للسّطو على حُطام الدنيا ولكنّها بمثابة القارب الذي يخوض في معمعان المحيط طمعاً في الفوز بقبس تلك الشمس الخفيّة التي كانت منذ الأزل وسواس كلّ روحٍ ممسوسةٍ بحلمٍ وهي الحقيقة؟
في كلّ حال فإنّ نيل الشهادة هو ما لم يخطر لي على بال، والدليل في إنّي لم أتقدّم لتأدية إمتحان الشهادة الإعداديّة متخطّياً السنة الثانية في المرحلة، ولكنّي خضت تجربة قاسية في العبور كلّفتني تضحية. ولكن التضحية هي القربان الذي لم تعترف به الأنظمة التعليميّة بسبب خضوعها لأنظمة سياسيّة مُعادية بطبيعتها للمعرفة، وبالتالي، للحقيقة؛ لأنها حميمة حرف، وخصم قيمة. إيمانها الحرف الذي يُميت وخصمها الروح التي تُحيي مثلها مثل كلّ منظومة شرعها الروتين لا الغاية التي خُلق من أجلها الروتين. ومهما كان المبرّر فإنه يعجز عن شراء المرارة الناجمة عن الصدمة.
فقد إحتملتُ سفراً إستغرق عاماً كاملاً. سفر لم تُتح لي فرصة إلتقام القوت إلاّ منكبّاً على الكتاب المطروح في حِجري. سفرٌ إحتملتُ فيه سهر الدّهر. سفرٌ تناهبتني فيه رحلة غضبات الطبيعة صيفاً وشتاءً. سفرٌ رجمني فيه الغرباء وكذلك ذوو القُربى بأقسى أجناس السخرية ليقينهم المُسبق بفشل مشروع يُرتجى منه سحق عامين دراسيّين في عامٍ في زمنٍ يستميتُ فيه أكثر الزّملاء إجتهاداً لإجتياز عتبة العام الدراسي الواحد ولو بأقلّ الدرجات. سفرٌ إستفزّ كِبرياء الأساتذة، وقرأوا فيه منكراً. صارت المُحاولة حدث الساعة في المدينة، ومازال شهود العيان الذين تبقّوا على قيد الحياة يتندّرون بسيرتها و يُذكّرونني بها كلّما إلتقيتُ أحد فرسان ذلك العهد.
كان لسان حال الكلّ يقول مع حكيم الزمان أن النجاح إذا كان رهين الجدّ في العمل، فإن المكافأة على النجاح رهينة الحظوظ! والنّصيب من الحظوظ هو ما خذلني في مغامرتي، وليس التفوّق في منهج السنتين الدراسيّتين مجتمعتين كما أشاع الأساتذة، وكما برهنتْ الأولويّة في السنة الثانية. ولكن العزاء لم يقنعني. لم يُقنعني العزاء لأني إكتشفتُ حقيقة المناهج وهويّة القائمين على تأليف المناهج، بل وماهيّة المسئولين على سياسة النظام التعليمي برمّته. فالجرح كان أعمق غوراً من أن يُداويه العزاء. والدّليل في تطرُّف قرارٍ مصيريٍّ كالتخلّي عن طريقٍ حسبتُه ملاذاً. قرار التضحية بمقعد الدراسة!
من أين لإنسانٍ حديث العهد بحقول العلقم أن يعلم أن مقاعد الدراسة إذا أُريدَ لها أن تخلو كنظامٍ تعليميٍّ من روح الإبداع القرين لكلّ معرفة حقيقيّة، إلاّ أنّ جدواها تكمُن في تأسيس هياكل الحاوية كضمانٍ للحصول على الكنز الذي تحويه الحاوية؟ إنّها إستعارة للأسطورة العالمية عن كنوزٍ الحصول عليها رهينٌ بنيل المفتاح الضائع الذي يستدعي الفوز به عبور البحور والقضاء على حارسه التنّين! النظام التعليمي في كلّ العالم ليس كنزاً، ولكنّه حارسٌ لتحصيل الكنوز. ولا سبيل للفوز بالكنز إلاّ بكلمة السرّ المشروطة لعبوره. ولكن أنّى لي أن أهتدي إلى هذه الأبجديّة قبل أن أسير في طريق تيهٍ جديد، وقبل أن أرتاد أوطان الجليد بحثاً عن الرمز المستغلق حتّى ذلك الوقت؟
4 ـ المَلَلْ
في البدء كان الخيار الشعري.
في البدء يكون الخيار الشعري دوماً بسبب الإستجابة للطبيعة الحُلميّة للشِّعْر، أو فلنقل لقُدرته على إرواء الظمأ الرومانسي للحريّة الذي يسكن كلّاً منّا، سيّما في مرحلة التكوين ـ التكوين المُبلبل بالبحث الوجودي المبكّر عن هويّة رسالية برهنتْ التجربة أنّها الشرط الأوّل في خلق ذلك التوازن الروحي الذي إعتدنا أن نسمّيه سعادةً، إنهُ هوسٌ أكثر كفاءة من ممارسة الحرية إذا قورن بالقصّ في المقابل. ولكن الشعر برغم ذلك يبقى مجرّد وعاء، يبقى مجرّد غناء، لحنٌ، لغة تهفو للتعبير عن قضيّة مادام الوعي بالذّات مازال طفوليّاً وعاجزاً عن طرح أسئلة وجوديّة، أو وجدانيّة. من هذه الفجوة لابُدّ أن يتسلّل شبحٌ لئيم هو السياسة؛ لأن هذه السعلاة الاّ أخلاقيّة وحدها تستطيع أن تذرّ الرماد في العيون فترتدي كل مسوح الزّور بما في ذلك مسوح الحقيقة بهتاناً أيضاً بالطبع! ففي وطنٍ كليبيا خرج للتوّ من قمقم إغترابه الوطني منهكاً ومحطّماً توّاقاً لإلتقاط الأنفاس سوف لن يملك عدُوس سُرَى حيلةً إلاّ البحث عن مثالٍ خارج الحدود. وعلى تخوم هذه الحدود يقف المشرق دائماً على أهبّة الإستعداد. يقف على أهبّة الإستعداد تاريخيّاً كما حدث دائماً لتزويد المغرب الشقي بحاجته من الزّاد في كل مجال. والزّاد المتداول في ستّينيّات القرن لم يكن ليكون غير التغنّي باللحون في مديح المجد القومي، فتلقّفتْ روح البراءة في الوطن البِكْر فيوضاً سخيّةً من هذه العطيّة التي تراءت ترياقاً لتحقيق الخلاص من داء الخواء، ومالبثت أن كشفت حقيقتها الخفيّة بحركة عام 1969 التي صادرت روح الوطن بفعل هذه العطيّة الخبيثة لأمدٍ زاد عن الأربعة عقود كاملة.
أشعار الإنفعال بالحدث القومي لم تعرف طريقها للنّشر، لأن الحماس ما لبث أن تبخّر أمام روح التعصُّب التي سُرعان ما تحوّلتْ سُعاراً منكراً شوّه نفسيّات أبناء الوطن التي تحلّتْ بالتّسامح إلى عهد الخمسينات القريب حتّى أنّي أنكرتُ أقربائي في حمّى هذا السُّعار المستعار الذي خدّر البسطاء وحوّل العقلاء إلى قطيعٍ يندفع في يقينه المجهول. ومازلت أذكر مجادلاتي الحامية مع أهل هذا العصاب من زملاء وذوي قُربى لينتهي بي المطاف إلى القطيعة مع الكثيرين لأبدو في نظرهم شاذّاً غريب الأطوار، فلم أجد سبيلاً غير الفرار إلى العزلة. في رحاب العزلة أقلعتُ عن الأشعار وإستجرتُ بالقصّ. وكانت "سرّ الإبتسامة" هي القصّة الأولى التي نشرتها ولم تكن القصّة الأولى التي كتبتها بالطبع. قصّة لم يبق لي منها سوى الإسم، لأنّي أضعتُ نصّها منذ زمنٍ بعيد كما ضاعتْ في مسيرة حقول العلقم قصصاً كثيرة.
ولكن .. ماسرّ فتنة الإستسلام للقصّ؟ لماذا ننساق لمُمارسة هذه الشعيرة كما لا ننساق لطقسٍ قدسيٍّ كالصلاة؟ ألا تبدو سلطة القصّ في هويّتها كشهادة على الوجود، أو فلنقل كشهادة على الحضور في الوجود؟ ماهو شعار شهريار "القصّ أو الموت" إن لم يكن الترجمة الصريحة للوصيّة السقراطيّة: "تكلّم لكي أراك" التي لن تعني في التأويل الأخير غير: "تكلّم لكي تحيا، وتُحيينا معك!"؟ القصّ إذاً سيرة. سيرة حياة فعليّة لا مجازيّة. قد تكون سيرة مبلبلة بلسان مخبول، تضيق بالصخب والعنف (كما في الرؤية الشكسبيريّة) دون أن نضطرّ لأن نعتنق معه الخاتمة المنطوقة بروح العدم القائلة: "وهي لا تعني شيئاً"! إنّها كسيرة حياة رواية معاشة سواء أكانت تعني شيئا أو لا تعني أي شيء. كما أن الحياة مرويّة سرديّة مبتسرة في اللغة. ولهذا قيل أن من لا يُحسن القصّ وحده لا يُحسن الحياة. فالوريد الذي تقتات علية الحياة هو رواية تلعب فيها عضلة اللسان دور الوسيط، لأن السرد هو نزيف الرّوح المؤهّل لأن يُميت أيضاً، كما يُحيي. يُميت في حال الإستنزاف. يميت في حال قول كلّ شيء إلى النهاية. وإذا كان فولتير يرى أن الملل يكمن في قول كلّ شيء، فإن قول كلّ شيء في ناموس الرواية لن يقف عند حدود الملل، لكنّه ينتهي إلى الموت. والرّؤية لن تُجانب الصواب في حال آمنّا بأن الملل ماهو إلاّ خطاب نعيٍ بحلول الموت.
قول كل شيء إلى النهاية إذاً هو النهاية. والدليل تُنجدنا به سيرة شهريار الذي يستنزل قصاص الموت بالرواية التي يخذلها نزيف الروح فتنتهي إلى الخاتمة. إنه قصاصٌ عادل بمنطق التماهي. قصاصٌ عادلٌ بمنطق الحياة كمتنٍ مرويّ. قصاصٌ عادلٌ لم تستوعب حكمته البعيدة سوى داهية كشهرزاد فلم تقل شيء إلى النهاية. شهرزاد التي برهنت أن الإنسان يستطيع أن يُحقّق الخلود لو تحلّى بالشجاعة ليروي إلى الأبد! إنّها المعجزة التي كان بوسع شهرزاد أن تحقّقها بالرواية لو لم يتدخّل الملل. الملل هنا هو رسول الموت الذي يُقنع صاحب الرواية بقبول الزُّهد في المزيد. بقبول الزهد في أن يعيش. ولهذا أصاب أسير الإسكندر الأكبر حكيم الهندوس الذي أجاب على سؤال: "متى يتوجّب على الإنسان أن يموت؟" قائلاً: "يتوجّب على الإنسان أن يموت عندما لا يريد الإنسان أن يعيش!" الرواية بهذه الرؤية بطولة من قرّر أن يحيا. الرواية مغامرة، ولكنها مغامرة فاتنة ما ظلّت طقس المبارزة مع الموت. إنّها قفّاز التحدّي في وجه الموت. إنّها الأسطورة الوحيدة التي أثبتت التجربة قدرتها على قهر الموت. وكيف لا إذا كانت رسالة السّرد الأولى هي صنع الأسطورة كما أوصى أرسطو؟
توقّف السّرد بفعل الملل يعني حلول الصمت. يعني خيار الصمت. ذلك الصمت الواقع في المجهول الذي يلي البرزخ حيث يُهيمن من إختار الصمت سرداً بديلاً منذ البدء.
في هذا الجانب يُهيمن الربّ!
5 ـ الحَدَسْ
يبدو تناول أحداث عام 1964 م عملاً ضروريّاً لإستكمال إرهاصات مجتمع الجنوب الليبيي في زمن تكوّن الوعي ذاك. وهي ضرورة لم تكن لتلعب دوراً ذي أهمّية في نزيف هذه الذاكرة لو لم تكشف لي عن طبيعة كنتُ حتّى ذلك الوقت أجهلها في نفسي، وهي العداوة الفطرية لذلك البُعْبع المنكر الذي سمّم روح العالم منذ عرفت البشرية هذه البدعة المدعوّة سياسةً! وهي أحداث سبقتْ مرحلة التخلّي الناتجة عن اليأس من جدوى البحث في مناهج التعليم عن سرّ ذلك المسّ المجهول الذي صار لي وسواساً منذ البدء وكان عليّ أن أغترب في دنيا الأنام طويلاً وأتجرّع علقماً كثيراً قبل أن أعبر إلى الجانب الآخر من البرزخ لأشهد ميلادي الثاني الذي كان لهُ الفضل في الكشف عن هويّة ذلك السرّ المدجّج بألقابٍ مهيبةٍ لا أدري عمّا إذا كان عليّ اليوم أن أستحي أم أتباهى إذا قلتُ أنّها: هويّة وجوديّة، أو حقيقة ماورائيّة، أم ببسيط العبارة: الألوهة!
إنها تلك المباديء أو المُثل الكبرى المخوّلة وحدها لتبرير نشاط المخلوق البشري وتكشف للمُريد (بل وتحدّد له) غاية رسالته الدنيويّة. وهي حمّى تبدو في ذلك العهد المبكّر مشوّشة ورهينة التخبُّط بسبب غياب تلك الرؤيا المؤهّلة لإلهام المريد بالسبيل للوصول إلى مايُريد بعد أن برهنت التجربة بأنّنا لسنا أشقياء إلاّ أنّنا نجهل ماذا نُريد. ولابدّ أن تكون سعلاةً كالسّياسة أوّل الأوهام التي تعترض سبيلنا لتلبّي النداء. إنّها تستدرج بإغواء القناع. إنّها تستهوي كما لا يستهوي شيء في الدنيا، لأنها توحي بقدرتها على إحقاق الحقيقة. إحقاق تلك الحقيقة التي لاوجود لها خارج السلطة. إنها الشَّرَك الأعظم في ديانة السواد الأعظم. وقد رأيت عندما إندلعت التظاهرات الطلّابيّة في ذلك العام كيف يندفع الزملاء إلى ذلك المعبد أفواجاً. ففي يناير شبّ الحريق في مدن السّاحل أوّلاً قبل أن تنتقل العدوى إلى الدواخل كما هو الحال دائماً. تنادت القوى الطلّابية إلى صفّنا في الإعداديّة للتحريض على المشاركة. إنسحب الأساتذة ما أن إقتحم الزعماء الصفّ الدراسي، ثمّ تحدّث أحدهم طويلاً. تحدّث بلغة لم أفهمها عن شعاراتٍ أكثر عسراً على الفهم. وعندما إنتهى تقدّم آخر وخاطبنا لإختيار من سيتولّى الإشراف على قيادة الصفوف والتنسيق مع بقيّة القادة في حملة الغدّ. وقد فوجئتُ بالطلبة يهتفون بإسمي. وكانت النتيجة أن تمّ إختياري بالإجماع. وهو إختيارٌ أحمق بالطبع علاوة على أنه خاطيء لعبت فيه لغة التفوّق دور الحسم ظنّاً من القوم بأن الأولويّة في النجاح الدراسي يؤهّل لأولويّة النجاح في قيادة الجموع أيضاً. لقد فات هؤلاء البسطاء أن التظاهر حرفة أخرى تختلف جذريّاً عن إحراز التفوّق الدراسي. لأنّ تنظيم الإحتجاج موهبة العاطل عن العمل، لا هواية مُريد العمل. فهي عتبة أولى في سُلّم السياسة التي لا يُمارسها إلاّ الكُسالى وكلّ من تقطّعتْ به سُبُل الفشل!
لقد إلتأم حولي الزملاء ليُهنِّئوني على الفوز بهذا الشرف. شرفٌ لم أفرح به لأنّي لم أفهمه. شرفٌ إستنكرته أيضاً عندما إنقشع الغبار وخلوتُ لنفسي. إستنكرته بتحريضٍ لجوجٍ من الحَدَس. الحدَس الذي ألهمني بحقيقتي التي لم تُخلق لمثل هذا السبيل. وكانت نتيجة المغامرة أن قُمتُ إلى مطيّتي الهوائيّة وفررتُ إلى رحاب القلعة. إعتزلتُ الدنيا هناك إلى أن عبرتْ العاصفة. عدتُ إلى المدرسة بعد يومين فقرأتُ في عيون الزملاء إستنكاراً لإنسحابي الذي حسبوه خيانة، في حين قرأتُ في عيون الأساتذة آي الإمتنان بدل الإنكار. لم أُبالِ لسرّ هذا الجدل بين الفريقين لأني كنتُ مأخوذاً بالوسام الذي تلقّيتُه من ضميري الذي باركني لأنّي إخترت الإنتصار لسجيّتي التي لم تر يوماً في حركة الجموع خلاصاً!
كان يجب أن أسلخ ستّ سنواتٍ أخرى من عمري كي أكتشف الإسم المناسب للنزعة التي تسلّطتْ على نفوس أهل تلك الأيّام وهو: روح القطيع! حدث ذلك في الشهور الأولى لإستيلاء حركة 1969 على السلطة، وبالتحديد في اليوم الذي حلّ فيه عبدالناصر ضيفاً على طرابلس في أوّل زيارة له إلى ليبيا. فقد تصادف مرور الموكب المهيب بشارع عمر المختار خروجي من مجمع الصحافة الواقع بميدان التاسع من أغسطس (الذي أصبح فيما بعد ميدان السويحلي) حيث كنت أعمل برفقة صديق وقور كان رئيساً لتحرير إحدى صحف البلاد التي أُوقفتْ عن الصدور بعد الإنقلاب وتوجّهنا لعبور الشارع مشياً على الأقدام في طريقنا إلى ميدان الشهداء. كانت الجموع في تلك اللحظة تكاثفتْ لتصطفّ على جانبي الطريق على طول الشارع إنتظاراً لوصول الموكب. وقد دعاني الصديق للتوقّف قليلاً من باب الفضول على حدّ تعبيره. إستجبت له على مضض لأنّي جاهدت حتّى ذلك الوقت في إجتناب كلّ زحام دون أن أدري لماذا. ولكن بتأمّلٍ عابر أستطيع اليوم القول أن السرّ يكمن في طبيعة الشفرات التي إستزرعتْها النشأة الصحراويّة بعيداً في غيهب الروح، وكان لابدّ أن يقوم المسلك اليوميّ يوماً بفكّ طلسم الجينات برمّتها عمليّاً، لأنّ الطينة المجبولة بروح الحريّة ظاهرة لن تُخفى.
إستجبتُ لرغبة الرجل وتوقّفنا. لم نجد لنا مكاناً بالطبع في الصفوف المرصوصة رصّاً فإكتفينا بالفرجة على الطريق من وراء الأسوار المحبوكة بالمناكب. ولحسن الحظّ لم يطلْ إنتظارنا لموكب الخلاص! لم يطل إنتظارنا لموكب الآلهة! لحظتها حدثت الزلزلة التي لم يقدّر لي أن أنساها أبداً. ففي اللحظة التي أطلّ فيها الموكب في عرض الطريق تدافعتْ الجموع وهاجتْ وهي تمزّق الحناجر بالهتاف. وفي لحظة أخرى تحوّل الهياج إلى جنون. إلى إعصارٍ جرف في طريقه كلّ شيء. إندفع السيل البشريّ ببنيانٍ مرصوص وانطلق لملاحقة الموكب الذي عبر الإسفلت متّجهاً صوب ميدان الشهداء. ومن حسن الحظّ أن تكون المسافة التي فصلتني عن الحشد في وقفتي هي ما أنقذني، لأنّ بُنيتي البدنيّة الهشّة لم تكن لتصمد أمام عنف الطوفان الذي سحق في طريقه كلّ شيء، بدليل إختفاء الرفيق الذي كان من الحشد أقرب مسافة. لقد أطاره الطوفان فلم أعثر له على أثر إلاّ في صباح اليوم التالي. عبّرتُ له عن قلقي عليه ظنّاً منّي أن الجموع إختطفتْهُ في سيلها الرهيب، ولكنّه أطلق ضحكة في وجهي ليعترف بأنّه لم يتمالك نفسه. إستسلم للتيّار تلبيةً لنداء التيّار على حدّ تعبيره!
لقد أدهشني أن يستسلم لمشيئة القطيع هذا الرجل الوقور الذي يكبرني كثيراً وكنتُ أحسبُه مثالاً أخلاقيّاً يحتذى، في أوّل هبّة وهْمٍ مُضحّياً بوقاره، وثقافته، وعقله، وإنضباطه، ليندفع إندفاع الصبيان وهو يهتف بشعارات الزّور بأعلى صوت! يومها فهمتُ (على نحوٍ مازال مشوّشاً) الهول الكامن في سلطة القطيع. في روح القطيع القادر بجرّة قلم على تغييب الإنسان عن حقيقته العقليّة كإنسان، على تغريب حتّى أئمّة العقلاء، وربّما أساطين الحكماء، عن هويّتهم لينساقوا كأنعامٍ عُجْمٍ في ظلمة القطيع المندفع إلى المجهول، المردّد بلاوعي لنداءاتٍ بليدةٍ كأنّها رطانات في لسان ببّغاء!
يومها أدركتُ جريمة هذه الروح، روح القطيع، التي تصنع بعمائها الروحي من الفرد البائس معبوداً، بل وربّ أرباب، في وقتٍ كان فيه النظام الجديد وقتها يتفنّن في وسائل الإعلام في شتم النظام الملكي بحجّة عبادة الفرد المتمثّل في الملك، لينتهي به المطاف بعد سنين إلى عبادة الفرد الأسوأ على الإطلاق المتمثّلة في الطغيان! في تلك التجربة البعيدة اليوم أدركتُ يقيناّ أنّنا نحن لا غيرنا المسئول الأوّل والأخير عن صنع الطغاة!
6 ـ المَلِكْ
في منتصف الستينيّات كان الحسّ الوطني يحتضر. ولم تنقذه حتّى التدابير السياسيّة التي توّجت بإلغاء النظام الولائي الذي كرّس الروح الإنفصاليّة لدى الأمّة اللّيبيّة منذ الإستقلال، هذا إذا لم يكن الأنسبْ أن أقول "كرّس الروح الإغترابيّة"! حدث هذا مع صعود نجم الهَوَس القومي، أو المدّ القومي كما يروق لمُريديه أن يعبّروا، على حساب التيّارات الأيديولوجيّة الأخرى كاليسار الشيوعي، أو اليمين الإسلامي. وكان روّاد هذا التيّار يقودون السواد الأعظم بتغذية روح القطيع بالوهم القديم؛ أي بالعزف على وتر الجوع إلى الماضي المتمثِّل في الظمأ إلى إستعادة الفردوس الضائع، بإقامة مجد الأمّة من جديد! وهو بالطبع إنكارٌ مبينٌ لناموس الحضارات المحكوم بمشيئةِ لغزٍ عدميٍّ غير قابل للخضوع للمنطق. فكما آلت الأقدار على نفسها منح الفرصة ولو مرّة واحدة على مستوى الأفراد، كذلك آلت على نفسها منح الفرصة مرّة واحدة على مستوى الأمم أيضاً. إنّه ضربٌ من إتاحة الفرصة لقول الكلمة ـ الرسالة. وهي غير قابلة للقول مرّتين. غير قابلة للإستثمار مرّتين. ولهذا السبب إستحال أن نعوّل على إستعادة مجدٍ زال، أو حضارة إستنزفتْ مبرّر وجودها، لأن هذا يُعدُّ تعلّقاً بالأوهام، ليس تربيةً للأحلام.
ولكن يسيرٌ أن تتعلّق الجموع بالأوهام، سيّما إذا حام حول معقلها المحترفون الذين يتفنّنون في الإحتيال عليها بتغذية روح القطيع لتضلّ السبيل. وضلال الأمم دائماً باهظ الثمن. والدليل في الضلال برّر فعليّاً منعطف 1969 م الذي خيّم بكابوس الأربعة عقود الذي لم يكن ليحدث لو لم تكن المعزوفة القوميّة هي الورقة الرابحة المستخدمة في تلك الحركة التي إتّخذت من إنكار الآخر ديناً، ومن قمع الرأي سبيلاً، ومن قطع دابر التسامح شريعةً، ومن راية التعصّب الأعمى شِعاراً، إلى الحدّ الذي وقع بالأمّة إلى الإلتفات إلى الوراء لتفتّش في ثنايا الماضي عن المثال المفقود! بلى! أحيت الصدمة في نفوس أبطال الأمس القريب الحنين إلى الوطن الضائع، الحنين إلى معنى الوطن الذي لابدّ أن يضيع كمفهوم في ظلّ أي نظامٍ شموليّ.
بحث الليبيّون عن الوطن الذي صادرته الأوهام، وغيّبته شعارات مميتة غايتها إحتقار الحقيقة، قبل أن يكون همّها الإحتفاظ بالكنز الوحيد الذي يستحيل الإحتفاظ به وهو السلطة لا لشيء إلّأ لأن هذه المعشوقة لا سبيل لترويضها، ولا للإحتفاظ بها، لأنها الوحيدة التي لا تترك عشّاقها إلاّ أمواتاً! فهل أصاب الأشقياء عندما صُدِموا فرأوا في النظام الذي لعنوه بالأمس بمثابة المثال اليوم؟
أُجيبُ كشاهد عيان فأقول أنّهم لم يصيبوا. لم يصيبوا لأن النظام الملكي الذي عِشتُه قمع الرأي أيضاً. لم يُصيبوا مرّة أخرى عندما قالوا أنه ديمقراطي. هذه الكلمة التي لم ترُق لي يوماً لأنّها لم تكن وفيّةً أبداً لصاحبة الجلالة الحرية التي كان من المفترض أن تكون ترجمةً لها. هل لأنّها إستعارة من معجم لا أخلاقي هو السياسة؟ لا أدري. ولكن اليقين أن كلمة ديمقراطيّة تبدو عاجزة دوماً عن التعبير عمّا يجب أن تعبّر عنه. عاجزة عن التعبير عن الخلاص في مقابل مصطلح الحريّة المستعار من ناموس الطبيعة، لا من معجم السياسة. مصطلح الحريّة المعبّر عن الخلاص في بُعْده الطبيعي، في بُعده الوجودي، في بعده الروحي، لا السياسي. أقول هذا دون أن أجهل هويّة الديمقراطيّة كتقنينٍ لمبدأ مثالي كالحرية وإستنزاله أرضاً لخلع مسوح دنيوية (أو نفعية) على جلالته. ولكن المحنة في عجز هذه الأحجية عن أداء وظيفتها على المستوى العملي أيضاً وإلاّ لما تغنّى بها الليبيّون بعد أن صُودِروا ليخلعوها مزيّة على نظامٍ لم يحترم لها حرمة، وأن يبلغ به الجنون حدّ المصادرة كما حدث مع النظام الجديد الذي يدّعي أنه لم يفعل بهم كلّ ما فعل إلاّ من باب الحرص على تحقيق خلاصهم! فأين العقدة يا ترى؟
أغلب الظنّ أنّ السرّ يكمن في نسبيّة هذا التقنين الجائر. نسبيّة ما إعتدنا أن نسمّيه ديمقراطية. فإن كان حلم الليبييّن زمن الكابوس هو الذهاب إلى صناديق الإقتراع للإدلاء بالأصوات الإنتخابيّة تعبيراً عن حريّة الإرادة، فإنّ هذا الخيار لا يعبّر عن أي ديمقراطيّة في الواقع، لأنّ النظام في عهد الملك إدريس كان يُبيح هذا الحقّ أيضاً، ولكنّه يُبيحه مشروطاً بفرض المرشّح الذي يستجيب لسياسة الدولة، أي مشروطاً بحقّ التزوير! وهو ماكنتُ عليه شاهداً في سبها عندما كانت السلطات البوليسيّة والسريّة تجبر المواطنين على إنتخاب أعضاء مجلس الأمّة الذين يُدينون بالولاء للملك، فإذا لم يستجيبوا لم يجنوا من عنادهم سوى الإضطهاد والملاحقة، لأنّ تزييف إرادتهم كانت على السلطات أيسر ممّا ظنّوا!
ولا أنسى كيف سلّط علينا أحد المهيمنين على السلطة في المنطقة صغارهم الأشقياء ليرجموني برفقة صديق بالحجارة لمجرّد إشتباه عقلاء تلك الفئة بإنتمائنا للفريق المنافس. أمّا في طرابلس فكانت الأنباء تصلنا عن فضائح تزوير كثيراً ما إنتهت إلى عراكٍ بالأيدي، وإلى ماهو أعظم وقعاً من الأيدي. ولم يكُن مستغرباً أن تنتعش روح التململ في القوم بالتزامن مع تحسُّن الوضع الإقتصادي الواعد بالبحبوحة مع تدفُّق عائدات النفط في الخزينة العامّة، لأنّ الإنسان وإن لم يكن من شيمه أن يحيا بالخبز وحده، بيد أن حضور الخبز كثيراً ماكان علّة التمرّد بالقدَر نفسه الذي كان فيه غياب الخبز سبب التمرّد.
في عام 1965 قادني سبيل التخلّي إلى الوظيفة. وكان الإلتحاق بوزارة العمل والشئون الإجتماعيّة أوّل العتبة التي لم تستمرّ سوى أشهر، لأني سرعان ما إنتقلت للعمل مُحرِّراً للصّفحة الأدبيّة بجريدة "فزّان" التي إستُبدِل إسمها بـ"البلاد" بعد أمدٍ قصير إستجابةً لتطلّع أبناء الوطن إلى وحدة الوطن عقب إلغاء النظام الولائي الثلاثي (طرابلس، برقة، فزّان) الموروث عن عهد الهيمنة الإستعماريّة. ينبغي أن أعترف بأن العمل الصحفي كمهنة كان حلقة مغرية أخرى في مسلسل الحلم الأكبر، الأبعد، الأكثر غموضاً ربّما بسبب ما تحقّقه من صيت. صار كثيراً مايبدو إنحرافاً من خلال هوس مُريديه بوهمٍ أكبر هو: المجْد! ولكنّنا في مقتبل أعمارنا هيهات أن يُبيح لنا عدم النضج إكتشاف الفرق بين الحلم بالمجد والحلم بما هو أحقّ بأن نحيا من أجله وهو الحقيقة، لأن النظرة الشائعة تغلّف كلّ نشاطٍ دنيوي بمسوحٍ يقف فيها المجد غايةً قصوى، حلماً أبعد منالاً، ولا نكتشف أن هذه العقيدة ماهي في حقيقتها النهائيّة سوى هوسٌ مستبطن بالسلطة! السلطة في مفهومها الوجودي أيضاً، لا السياسي وحسب. كان الإلتحاق بالجريدة خطوة أولى في طريق الصحافة الطويل، لأنّ صحيفة تصدر في الدواخل لم تكن لتشبع طموحي كإنسانٍ مغلولٍ بهاجس، ويحترف ممارسة الأحلام؛ ولكن غزو صحف العاصمة لم يحِنْ أوانه بعد، برغم إنه المشروع المؤجّل المجبول بالإغواء.
فإلى جانب المقال والنصّ الأدبي والقصّة القصيرة والدراسة الأدبيّة على تواضع التحليل، كانت هناك المقابلة الصحفيّة التي لم أكن لأعلم وقتها سرّ سحرها لو لم أعِش بعد أعوامٍ طويلةٍ التجارب التي أهّلتني لكي أكون موضوعاً لإستجوابٍ من هذا النوع يستهوي فرسان الصحافة في الشرق والغرب؛ فرسان الصحافة الأحدث عهداً بالمهنة بالذّات. فهل السرّ في فتنة الحوار، أم في إشباع شهوةٍ ذات بُعدٍ وجوديٍّ كالفضول؟ هل هو من باب الإستجابة للقناعة التي تقول أن الحقيقة رهينة الجدل، برغم الإيمان الآخر القائل بإستحالة وجود الحقيقة في أي جدلٍ لأنها تقع في مجالٍ خارج اللغة؟
ولكنّنا في مهد مسيرتنا نطرح سؤال الحقيقة عادةً، وكل ما نفعله هو الإستسلام لسلطان الحلم مسلّمين زمام أمرنا للهاجس كي يقودنا إلى رحاب الفردوس. وها أنا أُجْري الحوار مع كبار مسئولي المقاطعة، حتّى إذا لم يشفِ غليلي وجدتُ نفسي أُجري حواراً ممتعاً مع إمام الرواية العربيّة نجيب محفوظ. حوارٌ عشتُ تفاصيله في الحلم، و كان عليّ ترجمته على الورق قبل نشره في الجريدة. فهل كان حلم من هذا القبيل تعويضاً نفسيّاً (بالمفهوم الفرويدي) على خلوّ واقع المكان من الأدب والأدباء، أم هو إحتجاجٌ على الإحتفاء توليه وسائل الإعلام العربية (بما فيها المصريّة بالطبع) لكلّ بهلوان، في حين تتعمّد تجاهل حكيمٍ كهذا؟ ألا يبدو النهج لعنة تاريخيّة مارستها المؤسّسات الإعلاميّة والثقافيّة في الماضي ومازالت تمارسها إلى اليوم، إن حافز الحلم ماهو إلاّ سداد لديْن كبّلني به إمام الإبداع الروائي الذي لم أعترف بسواه وقتها (إلى جانب دوستويفسكي بالطبع) فجاد على شخصي باللقاء مكافأةً على وفاء؟ ويبدو أن اللقاء في مملكة الحلم المجهولة كان أجدى من لقاء في الواقع، لأنه ألهمني على نحوٍ مّا كتابة دراسة أدبيّة في أعمال الرجل نُشِرت على حلقات تحت عنوان: "فلسفة الجدّ والعبث في أدب نجيب محفوظ". ولِم لا يكون عالم الحلم أكثر ثراءً من عالم واقعنا الشحيح؟ ألا يكون ما حدث هو الترجمة الحقيقيّة لوصيّة إمام الأجيال هيراقليط القائلة بأنّنا باليقظة نملك عالماً واحداً، ولكنّنا بالحلم كلٌ يملك عالمه؟
بلى! كان عالم أحلامي يحتجّ على عالم اليقظة في تلك الأيّام لإغتراب غنيمة ٍ كنت أراها أنفس من كلّ غنيمة وهي الأدب. إغتراب الأدب في واقع ذلك المكان و ذلك الزمان. غيابٌ ما كنتُ أحسبه عزاء تلك الحياة البائسة دفعني للقيام بمغامرة التبشير بالأدب لإجبار الناس على حبّ الأدب. مغامرة الترويج لبضاعةٍ لا تعاني كساداً في السوق فقط، ولكنها تعاني الإنكار أيضاً. تعاني إنكاراً لأنها في العرف السائد رديفٌ لضياع! وكم يُدهشني اليوم أن أكتشف أن عقلية المجتمع البسيط ذاك كانت أقوى حُجّةً من عقليتنا التي تتباهى بالتعليم. لأنّ ماهو الأدب الأجدر بلقب أدب إن لم يكن سَيراً عدوساً في السُّرَى؟ ما هو الأدب الجدير بلقب أدب إن لم يكن ضلالاً عن سواء السَّبيل حتى لو تحجّج المتحجّجون فبرّروا السَّير في سبيل الضياع بالقول بأنّنا لا نجد أنفسنا إن لم نضيّعها، كما لا نعثر على ضالّتنا إن لم نفقدها؟ أوَ ليست الشاة المائة التي يتحدّث عنها الكتاب المقدّس تبدو في نظر الراعي أحبُّ من التسعة والتسعين التي لم تُفقد؟
الخُلاصة أنّي قرّرت أن أُعْلِي شأن الأدب بإختراع أسطورة الأدب. إستعنت بمكتبة وزارة الأنباء والإرشاد في الحصول على بعض المصادر وذهبتُ لنادي النهضة بمنطقة "الجديد" لأُلقي على الناس محاضرة بعنوان "الأدب والأدباء في ليبيا". عندما أُعلنَ عن موعد المحاضرة صِرتُ عُرضةً للسُّخرية من جديد، برغم أنّي كنت أحوَج ما أكون للتشجيع في مغامرةٍ كتلك. سخر منّي الأقارب والأباعد ورأوا في نيّتي ضرباً من جنون. تألّمت بالطبع بسبب ذلك الداء الذي مازلتُ أعاني منه حتّى اليوم: الحساسيّة الروحية المفرطة التي لم أكن لأعلم وقتها أنّها حميمة الحمَّى، حميمة الضلال، حميمة الأدب! ولكن لم أكن لأسمح لليأس أن ينال منّي ليقيني الخفيّ بأنّي لو إستسلمت له مرّة فسوف يصرعني إلى الأبد. ذهبت إلى النادي مساء أحد الأيام متوقّعاَ الأسوأ. وكم كانت مفاجأة عظيمة بالنسبة لي كثافة الحضور. قرأتُ مزاميري على القوم (لأنّ الحماس الناجم عن كثافة الحضور إمتلك أن يجعل منها مزامير حقيقيّة سيّما في ذلك الواقع الذي ظننته مُعادياً بفطرته لبدعةٍ كالأدب)
هذه التجربة شجّعتني على الإستمرار فقرّرتُ أن ألقي محاضرة ثانية عن أشعار عبد الوهّاب البيّاتي هذه المرّة. كان خياراً بَدَا موفّقاً من الناحية الأدبيّة (لأنّ روح أهل الواحات المطوّقة بشِعرٍ مجسّدٍ هو الصحراء كانت طبيعتها أكثر إستعداداً لتقبّل الأشعار مقابل النثر)، ولكن الخيار كان خاطئاً (بل وخطيراً) إذا تعلّق الأمر بنزعة أشعار الشاعر السياسيّة. ولم أكن لأكتشف ذلك إلاّ بعد الإنتهاء من كتابة المحاضرة لأفاجأ بوجوب تقديمها للرّقابة بالمطبوعات لإجازتها، وهو ما لم يحدث في التجربة الأولى. كنت أكثر براءة بالطبع (أو ربّما سذاجةً) من أن أعلم أن أي نشاط ثقافي يحمل هوية سياسية خفية في نظر النظام القائم، ويتوجّب على من يُريد ممارسته الحصول على موافقة مسبقة. ويبدو أن السلطات غفرت لي تجربتي الأولى ربّما لجهلى بالقوانين، أو ربّما ليقينهم بحُسن نواياي، وربّما لعدم ورود ما يمكن أن يستثير الشبهة من وِجهةِ نظرٍ سياسية، دون أن أكتشف بعد فوات الأوان أن عين النظام هي العين الوحيدة بعد عين الطبيعة التي لا تنام، وهي على كلّ شيء عليم، برغم قدرتها على غضّ الطرف!
وضعتُ النصّ بين يدي السيّد محمد عبد السلام مسئول المطبوعات آنذاك وانتظرتُ الموافقة يوماً، يومين، أيّاماً، بلا جدوى. فقرّرت أن أذهب للإستفهام عن سبب التأخير من الرجل، ولكنّ رجلاً آخر إعترض طريقي. سألني عن إسمي وطلب إبراز هويتي قبل أن يقتادني إلى رئاسة أمن فزّان في البنيان المجاور. هناك في قسم المباحث العامّة كان يجلس في إنتظاري رجل أنيق الهندام، تنطق فيه السيماء بعبوسٍ أبديٍّ وريبةٍ دهريّةٍ هي سليقة كلّ من نصّبته السلطات جاسوساً يستقصي أفكار الناس قبل أن يكون جاسوساً على ألسنتهم. عرفتُ فيما بعد أنّه السيد عبد الحميد محارب رئيس جهاز المباحث العامّة الذي يجتنب أهالي كلّ الجنوب ذكر إسمه. رحّب بي وأجلسني على كرسي قبالة مكتبه ثمّ أخرج ملفّاً أصفر اللون فتحه لأرى محتواه لم يكن سوى نصّ المحاضرة. بدأ الإستجواب الذي لا أذكر تفاصيله الآن، ولكنّي لن أنسى البيت الشعري الذي كان بيت القصيد. إنّه البيت الذي وردت فيه عبارة "الملك الحمار" في إحدى قصائد البياتي التي لا أذكرها الآن. فالأسئلة التمهيديّة كانت عابرة وعامّة، ولكن التركيز كان على المقصود بعبارة: "الملك الحمار". في تلك اللحظة فقط إكتشفتُ أن الأرض التي أدبّ عليها كل يوم هي مملكة، وأن النظام السياسي في البلاد هو نظامٌ ملكي، وأن هذا يعني أن القائم على أمر البلاد هو ببساطة ملك! فكيف يُنعت بلقبٍ منكرٍ كالحِمار مَن إعتاد أن يرِد على الألسن مسبوقاً بكلمة مهيبة هي: مولانا؟
قلتُ في الإستجواب أن الشاعر يقصد الملك عبد الإله في العِراق، وربّما لا يقصد أيَّ ملكٍ حقيقيٍّ على الإطلاق، لأن إستخدام الرمز ناموس الشعراء. ولكن هل إقتنع داهية الجواسيس ذاك؟ كلاّ بالطبع. تكلّم كثيراً لأفهم من وصاياه أنّه قرّر أن يغفر لي هذه المرّة مقابل مصادرة المحاضرة!
ولكن هل إنتهتْ تجربتي مع أجهزة المملكة الأمنيّة عند هذا الحدّ؟
هيهات أن أعلم أن ذلك الإستجواب لم يكن سوى البداية الأهون إذا قورنتْ بما انتظرني بعد أمدٍ لم يطُل كثيراً. فقد إقترفتُ حماقةً أخرى في نظر النظام عندما نشرتُ بجريدة "الأولمبياد" الصَّادرة بطرابلس (التي كنت مراسلاً لها في الجنوب) خبراً عن نيّة الجيش الإستيلاء على مبنىً فخم قيد الإنجاز لإتخاذه مقرّاً بالمنطقة بعد أن كان مُقرّراً أن يكون لرئاسة بوليس منطقة فزّان. كان خبراً عابراً لشائعةٍ تجري على ألسنة أهل الجنوب نشرتُه ضمن أخبارٍ أخرى أعتدتُ أن أُذيِّل بها مقالتي الأسبوعية بتلك الصحيفة المتوّجة بعنوانٍ ثابت هو: "فوانيس من الجنوب". خبرٌ بريء لم يخطر ببالي يوماً أن يكتسب بُعْداً سياسيّاً. حدث هذا عام 1967م. أي في وقتٍ لم يَعُد خافياً فيه على أحد الصراع المُميت الدائر في الخفاء بين قطبين يتنافسان على الهيمنة على سياسة البلاد هما الجيش وقوى الأمن التي تتزعّمها سلطة بوليسيّة مطلقة الصلاحيّات هي ما يُعرف بـ"القوّة المتحرّكة" التي ذاع صيتها أخيراً بسبب وحشيّتها في قمع المظاهرات الطلّابية. وكان من الطبيعي أن يتعاطف النظام السياسي القائم (بل وينحاز) إلى الجناح البوليسي الذي يحقّق له الأمان ضدّ الجيش كخصمٍ يرى في تنامي نفوذه خطراً دون أن يتّحذ موقفاً معلناً بالطبع. وها هو الرجل المطلق الصلاحيّات في كلّ ما له صلة بأمن مناطق الجنوب بأكمله، المتوّج المنكبين بأرفع رتبة عسكريّة في ناموس المملكة، الحاكم الفعلي لمنطقة فزّان، الملقّب بالزّعيم نوري خالد يستدعيني لزيارته بمقرّه الرهيب الواقع في قلب المدينة. أدهشني الإستدعاء لأني لم أتوقّع يوماً أن أمثُل بين يديّ هذا السلطان المهيب ذي البشرة القانية التي لا تُشبه بشرة الليبيين الملوّحة بالشمس، بشرة كولوغليّة الساحل الذين تجري في عروقهم الدماء التركيّة التي لم تختلف في عُرف القوم عن دماء الأمم النصرانيّة. الزعيم نوري خالد المدجّج المنكبين بالتيجان والنجوم والسيوف، بقامته المتوّجة بحدبة منكرة، الذي تنازل في أحد الأيام عن لون بشرته، وعن أصل سلالته، وعن تَرَفه، وعن حفنةِ ألقابه التركيّة، وعن رُتبه العسكريّة المجيدة، ليرتضي الذهاب إلى واحات الصحراء، متنكّراً لوصيّة الخبثاء الشائعة التي تقول أنّ العمل سائقاً لحافلة في حاضرة الوطن أفضل من الذهاب حاكماً على حاضرة الجنوب!
أقبل الرجل بنيّة بطوليّة في تلك الأيام لمجرّد قبوله الحلول في سبها المعفّرة بالأتربة، المتحجّبة أبداً بسُحب الغبار. ولكن إحساس الناس بهذا الإحسان ما لبث أن تبدّد عندما علموا أن الرجل لم يقبل العمل بينهم تواضعاً، ولكنّه جاء إجباراً. لم يتفضّل للحلول طائعاً، ولكن قصاصاً. وبرغم بقاء تفاصيل الجرم الذي إرتكبه في الشمال مجهولاً بَيْدَ أن الألسن أكّدتْ أنه لم يأتِ لحفظ الأمن في ديارهم تضحيةً كما توقّعوا، ولكنّه أقبل لتمضية عقوبة من أمر القائمين على أمر البلاد مثله في ذلك مثل كل الذين إنتدبتهم الحكومة في السابق للعمل في هذا المنفى! بلى! في تلك الأعوام كانت فزّان ما تزال منفى الدولة المركزيّة في الشمال كما كانت منذ مئات السنين، أي في زمن حكم الأسرة القرمانلية، وحكم الأتراك الذين سبقوا حكم القرمانليين.
ذهبتُ لزيارة هذا البعبع في منتبه فاستقبلني بسحنةٍ غامضةٍ موسومةٍ بعبوسٍ قبل أن يبدأ التحقيق. أعرب في البداية عن إستنكاره لنشر خبرٍ كهذا في صحف العاصمة قبل التحقّق من صحّته، فاستجرتُ بصيغة الخبر لتبرير هذه الخطيئة. قلتُ أنّ نصّ الخبر يبتديء بعبارة: "يُشاع.."، و الشائعة في عُرف المنطق لم تكن يوماً يقيناً، ولا جزماً يمكن أن يُعاقب عليه القانون. ولا أعرف كيف هداني الحدَس للتعلّق بهذه القشّة والتي لم أتوقّع أن تقصم ظهر البعير. وها هو الرجل المخيف الذي يرتجف في حضرته حتّى ذوي المقدرة في كلّ المنطقة يبتسم في وجهي. إنقشع قناع العبوس ونعتني بعبارة "يا إبني" لأوّل مرّة قبل أن يعترف بدهشته بقدرة معشر الصحفيّين على التنصّل من خطاياهم للإفلات من العقاب. ضغط على زرٍّ فدَخل النادل ليطلب لي قهوة. تحدّث بعدها عن سيرة هذا البنيان بحميميّةِ من يروي سيرة معشوقة. تحدّث عن الجهود التي بذلها في سبيل وضع هذا المشروع موضع التنفيذ. لم أستوعب وقتها سرّ الأهميّة التي يُمكن أن تكون لبنيانٍ إلى هذا الحدّ الذي تتحوّل فيه سبباً لتفجير الصراع بين أعظم سلطتين تتنازعان مصير البلاد. ولكنّي أدرك اليوم أنّ السرّ ليس في شحّ الموارد وبؤس الميزانيّة في تلك المرحلة الإنتقاليّة التي كان فيها إسكان الناس من أولويّات التنمية النفطيّة وحسب، ولكن في طبيعة الصّراع الخفيّ بين الفريقين. هذه الطبيعة التي يلعب فيها الكبرياء دور البطولة. وهو ما كشف لي عنه البُعْبُع عندما مال نحوي فجأة ليسرّ لي بصوتٍ متوسّل: "نحن نُريد هذا المبنى! نحن نُريد هذا المقرّ. لقد فعلنا من أجله المستحيل ومن حقّنا أن يكون من نصيبنا، لا من نصيبِ الجيش!". كم أدهشتني لهجة الرجل يومها! أيُعقل أن يتنازل هذا البعبع عن إستكباره ليتوسّل شابّاً غرّاً وهو صاحب السلطان الذي يُمسك بالصّولجان؟ خرجتُ من هناك لأُحدِّث نفسي كيف تسامح معي هذا البُعبع. لم يتسامح مع حُمْقي وحسب، ولكنّه توسّلني أيضاً! فهل تمتلك كلمة في صحيفة هذه القوّة التي تقهر مَن لا يُقهر؟ لقد توقّعتُ في تلك الورطة الأسوأ، وها أنا أخرج من المكان مُكلّلاً بشرفِ الإستجداء! وكان عليّ أن أنتظر أعواماً حتّى أكتشف حقيقة موقف الرجل الذي ظننتُه تسامحاً. فقد حدّثني الأب بعد عشر سنواتٍ من تلك الحادثة كيف قام الزعيم نوري خالد بدعوته ليشكوني له! لم يحدّثه بالطبع عن قضيّة البنيان، ولكنّه حدّثه عن توجّه إبنه السياسي الخطير! وعندما تساءل الأب عن هويّة هذا التوجّه السياسي الخطير أجابه بأنّه: الشيوعيّة! الأب قال لي بأنّه سخر منه، وصارحه قائلاً بأنّه من المضحك أن يعتنق إبنه هذه الشيوعيّة إذا كان هو الأب لم يسمع حتّى بإسمها، فكيف إستطاع الإبن أن يعثر عليها؟
رواية الأب نبّهتني إلى الجذور التاريخيّة للتّهمة التي لاحقتني وسمّمت دُنياي بعد إنقلاب 1969م، لأنّ ما لم يخطر لي على بال حتّى ذلك الوقت الحلف السرّي للأنظمة السياسيّة التي تبدو لِلملأ في عداء، ولكنّها ترث الوثائق التي تُدين الشرفاء مثل تَرِكةٍ نفيسةٍ ليُصبحوا منبوذين ومطاردين في كلّ الأنظمة وعلى مرّ الأزمنة. ولمّا لم يوجد دُخانٌ بلا نار كما يُقال فقد إستنتج مخبروا الأجهزة الأمنيّة إنتمائي للأيديولوجيا الشيوعيّة من خلال صداقاتي بأدباء اليسار في البلاد الذين كنت ألتقيهم بإنتظام أثناء زياراتي المتكرّرة إلى طرابلس أمثال عبدالله القويري، وجيلاني طريبشان، وأمين مازن، وعلي بيري، وغيرهم من الذين سيرد ذكرهم. وإذا كانت النزعة اليساريّة هي أفيون الوَسَط الثقافي في تلك المرحلة، فإن إعتناق الشيوعيّة هو ما لم يخطر لي على بال، ولا أظنّه خطر على بال أصدقائي أدباء الحاضرة لا بسبب قناعاتي الدينيّة أو الوجوديّة فقط، ولكن لسببٍ أبسط وهو جهلي بها حتّى ذلك الحين. أي قبل أن يتبلوَر موقفي من هذه العقيدة المعادية للإبداع بطبيعتها لأكسب عداوة أدباء عرب كثيرين في موسكو تالياً، بسبب هذا الموقف دون أن أخسر صداقة الأدباء الروس الأدْرَى بحقيقتها! وأعترف اليوم بأنّ هذا الموقف كان وليد الحَدَس أكثر من كونِه وليد تجربةٍ أوعلم؛ أو بالأصحّ كان رؤيويّاً بالنسبة لإنسانٍ كانت له الروح الرؤيويّة خارطة طريق منذ البدء فلم تخذله هذه الروح أبداً. وأعتقد أن سبب بصم أهل الثقافة بهذه التهمة (التي كانت حتّى في العُرف الإجتماعي كبيرة كبائر) ليس الجهل بحقيقتها كنظامٍ مؤسّس في حزب يشترط إعتناق الماركسيّة، ولكنّه سببٌ ناجمٌ عن سوء نيّةٍ في سياسة الأجهزة الأمنيّة التي تدري جيّداً عدم إنتماء هؤلاء لمنظّمة حزبيّة من هذا القبيل، لأنّ الجميع يعلم بخلوّ ليبيا من أي حزب بهذه الشروط. وأكثر ما أدهشني ومازال يُدهشني إلى اليوم هو ذهاب مبدعٍ لينتمي إلى حزب! إنّه في يقيني خيارٌ لا يختلف عن ذهاب المبدع ليضع في يديه القيد طوعاً! إنّه تسليم زِمام الأمر لقوّةٍ خارقةٍ في قدرتها على إبادة الإرادة وإماتة الروح. إنّها صفقة مع ميفستوفلس بإمتياز!
حديث الأب المتأخّر كشف لي سرّاً آخر. كشف لي سرّ تساهل الزعيم الرّهيب مع شخصي. هذا التساهل الذي ظننتُه تسامحاً، في حين دلّل لي إستدعاء الرجل للوالد على خوفٍ بَدَل التسامح. فالسلطة الحقيقيّة في ليبيا ذلك الزمان كانت ما تزال بيد أعيانِ القبائل. ولم تكن السلطات الحاكمة بفزّان تجرؤ على إستصدار أمر إعتقالي دون أن تقرأ حساب القبيلة، وحساب ردّة فعل الأب كزعيمٍ لهذه القبيلة! وكان العُرف يقضي في مثل هذه الأحوال اللجوء للقبيلة ولِوليِّ الأمر بالقبيلة قبل إتّخاذ أيّ إجراءٍ إداريّ، فكيف بالإجراء السياسي؟ وهو ما فعله البُعبع بناءً على شورى دُهاة الحكم في المنطقة.
ولكنّ المثير في هاتين التجربتين مع أجهزة أمن فزّان هو النتيجة ذات الطبيعة النبوئيّة التي إنتهى إليها موضوعَيْهما. فعقب إنقلاب 1969م جلستُ أستمع في الأيّام الأولى للمذيع وهو يقرأ برقيّات التأييد التي ظلّت الإذاعة تتلقّاها من مختلف فئات المجتمع إبتهاجاً بالحَدَث. وقد عبّر أحدهم عن رحيل الملك إدريس إلى اليونان التي لم يعُدْ منها ببيتٍ شعريٍّ قديمٍ يقول:
"ذهب الحمارُ ببنت عمرٍ
فلا رجعتْ ولا رجع الحمارُ!"
تذكّرتُ لحظتها عبارة "الملك الحمار" التي كانت سبب الإستجواب ومبرّر حجب المحاضرة، فأيقنتُ أن ثأر الأقدار لنا رهينٌ بزهدنا في الثأر. ويكون ثأرها أعظم كلّما كان تسليمنا أعظم قدراً. وهو ما أثبتته الأيّام في تجربة البنيان التي إستفزّت بعبع الأمن: فما أن إنتهى العمل من تشييد المقرّ المنتظر حتّى إستولَى عليه الجيش ليتّخذه مقرّاً بعد الإنقلاب عملاً بوصيّة الأجيال القائلة: "الويل للمهزومين!".
7 ـ الفَسَاد
ولكن ما سرّ التململ الذي قاد إلى إنقلاب 1969م؟ وهل عاش الناس تملمُلاً حقّا؟ هل كان الملك إدريس السنوسي هو السبب، أم سياسات ساسته هم السبب؟ من المعروف أن الملك إدريس لم يكن لا حاكماً مستبدّاً ولا فاسداً. بل سيرته الزهديّة خلعتْ عليه مسوحَ درويشٍ يعتزل الدنيا في قصر الخلد بطبرق إستنساخاً لسيرةِ أسلافه من أهل التصوّف الذين إعتنقوا الخلوة في رباطٍ هنا وزاويةٍ هناك أمثال الجدّ محمّد السنوسي مؤسّس هذه الحركة الدينيّة الذي إتّخد من واحة الجغبوب مقاماً. وهي حركة لم تلعب في الماضي دوراً تبشيريّاً في أواسط إفريقيا فحسب، ولكنّها لعبت دوراً تحريريّاً أيضاً سواء في مقاومة تغلغل الإستعمار الفرنسي في قلب القارّة، أو في التصدّي للغزو الإيطالي لليبيا. ولم يكن الليبيّون ليجتمعوا بعد الإستقلال تحت راية الملك إدريس لو لم ينتمِ الأخير إلى سُلالات الحركة السنوسيّة ذات النزعة السياسية المجبولة بالدِّين. ولا أحد يستطيع أن ينفي أن تولّيه كان الضمان الوحيد لوحدة الوطن الليبي الممزّق الأوصال. وهو دورٌ رمزيٌّ إذا إستطاع بروحه الزهديّة أن يُنجزه بإخلاص. أعتقد أنّنا لا نملك الحقّ في إتّهام الرجل بالتقصير في قيامه بهذه الرسالة البطوليّة في تلك المرحلة العصيبة، لأن خطيئة ما حدث بعدها رذيلةٌ من صُنع الترجمة لا من إبداع الأصل. أعني أن محاولة تحويل الدِّين إلى دولة مغامرة لم تُفلح يوماً، لأن الدولة مفهومٌ معادٍ بطبيعته للدّين. ففي الوقت الذي تتغنّى فيه الديانات بالقيم الأخلاقيّة تروّج الدولة لديانة أخرى تصير فيها السياسة معبوداً، بديلاً للربّ، وتقوم القوانين الوضعية ركيزةّ تحلّ محل النواميس الأخلاقيّة. إنّها مغامرة تشييد الفردوس على الأرض التي إنتهت إلى كارثة إنسانيّة في كلّ مرّة قبل أن يستفيق أقوياء هذا العالم من أوهامهم ليقنعوا بالحدّ الأدنى من المستحيل الأقصى متمثّلاً في نظامٍ يعتنق حريةً لم تعبّر عنها يوماً الديمقراطيّة إلاّ قبولاً بمبدأ " ليس في الإمكان أبدع ممّا كان "، تحت راية عدالة هيهات أن تفلح في تحقيقها القوانين الوضعيّة بإغتراب القوانين الأخلاقية. وكان من الطبيعي أن تفقد الحركة الدينية (كالحركة السنوسيّة) مبرّر وجودها ما أن تطأ وصايا مريديها عتبة معبد إسمه الدولة. وكان على رسولها (الملك إدريس) أن يسلّم مقاليدها، بل وشِعار مجدها المتمثّل في التاج، لمحفل الكهنة القائمين على أمر المعبد الجديد لتتولّى هذه العصابة اللئيمة المتنكّرة في مسوح الكهنة مسئوليّة إدارة شأن السّواد الأعظم المسكين بروحٍ جديدةٍ ركيزتها ذَرّ الرماد في العيون، وبسياسة ٍ جديدةٍ ناموسها المنفعة، وبديانةٍ جديدةٍ ربُّها المال!
بلى! في هذا العالم الخالي من الشّعر، بل ومن أيِّ مثال، تبدأ إستباحة الأوطان. تتكشّف الأقنعة ليتبارى أبطال المسرحيّة في نهب الوطن. لا يكتفون بنهب ثروات الوطن، ولكنّهم ينهبون روح الوطن أيضاً، فلا يملك صاحب المُثُل إلاّ أن يستغيث. بلى! إستغاث الملك إدريس عام 1962 م بأعلى صوت إستنكاراً لما حدث! كنتُ في زيارةٍ للأب في مقرّ عمله بأوباري يومها. وكنت أتسلّى بسماعِ المدياع عندما سمعتُ ذلك الصوت الفاجع للشيخ الجريح وهو يستنكر في بيانه الغريب كبائر الحكومات المتوالية على حُكم مملكة لم يملك منها إلاّ الإسم، ويتوعّد بالتخلّي عن حكمٍ لم يتولَّ مقاليده يوماً، ويناشد أصحاب الضمير أن يهبّوا لنجدته في نيّته لتطهير البلاد من الفساد!
والمثير حقّاً ليس أن تشهد البلاد فساداً، ولكنّ المدهش هو أن يصير الفساد ظاهرة تدعو ملكاً للإنسحاب من بلادٍ مفلسةٍ بالطبيعة تعيش حتّى ذلك الوقت على المساعدات الأجنبيّة ولا وجود فيها لشيءٍ يمكن أن يُسرَق غير الصحراء! ولكن المفارقة أن الفساد في الذّمم خلّة خبيثة لا تستأسد إلاّ في مثل هذه الأوطان الخالية ممّا يُسرق كالصحراء، ولو لم يكن الأمر كذلك لما قام مصطفى بن حليم رئيس الوزراء في الخمسينات ببيع صحراء جنوب غرب ليبيا المسمّاة "إيجليه" (حاسي مسعود) إلى فرنسا لتصير منذ ذلك التاريخ إلى اليوم مصدر الجزائر النفطيّ الوحيد!
بلى! لقد إختلسَت الحكومات المتعاقبة قُوْت النّاس المتمثّل في المساعدات الأجنبيّة إختلاساً منتظماً لينتهي الأمر برؤساء هذه الحكومات بِبيع تراب ليبيا في الصفقة المشبوهة الذائعة الصِّيت. ومن يقرأ محاضر إجتماعات مجلس الأمة في بداية الستينات سيُصاب بالذهول من هول الإتهامات الشجاعة الموجهة من أعضاء هذا المحفل إل أعضاء الحكومة بشأن الفساد! في هذا المناخ الموبوء من الطبيعي أن يبدو الشيخ (الأقرب أن يكون في خلوته الإختيارية ناسكاً أو درويشَ طريقةٍ) مغترباً لا عن مملكته وحسب، ولكن عن دُنياه أيضاً. فَقَدر الذين إرتضوا أن يملكوا دون أن يحكموا هو المنفى!، لأنّ الذين وجدوا أنفسهم سادةً لا يتحلّون بروحٍ أخلاقية حتى يعبأوا بأشقياء أمثال الملك إدريس فيستجيبوا لندائهم أو يُعيروا إنتباهاً لإستغاثاتهم؛ لأنّ دورهم كملوك أن يقنعوا بكونهم رمزاً للملمة الشمل، والعرش الوحيد المناسب لصاحب الرمز هو الرباط، هو الزاوية، هو قصر الخُلْد الذي لا يختلف عن واحة الجغبوب!
ولكن هذا المنفى لم يمنع الملك الدرويش من أن يلقّن القوم درساً في النزاهة، بل دروساً في النزاهة، في زمنٍ صار فيه الفساد هو العملة السائدة، برغم أنّه فسادٌ سيبدو بعد حين نزاهةً أيضاً إذا قورن بالفساد الذي سيسود في النظام الذي سيلي. وسيرة نزاهة الرجل بدأت في الخمسينات بحادثة مقتل مستشاره الشلحي الأكبر بيد أحد أقرباء الملك، إبن أخيه الشريف على ما يُروى. وقد توقّع الجميع أن يتسامح الملك بشأن العقوبة بحكم القرابة، ولكن الدولة فوجئت بالملك يُصدر مرسوماً ملكيّاً بتشديد الحكم على الجاني بدل تخفيف القصاص على سليل الأسرة المالكة. وهكذا تمّ تنفيذ حكم الإعدام في الرجل بدل السجن المؤبّد!
هذا عن درس العدالة. أمّا درس النزاهة فتُترجمه أسطورة أخرى أعقبتْ رحلته إلى الخارج التي لم يعُد منها: فقد قضت اللوائح الماليّة بالمملكة وجوب صرف مبلغٍ ماليٍّ لكلّ مسئولٍ بالدولة عند السفر للخارج في ٍمهمّةٍ رسميّةٍ على أن تتمّ تسوية هذه العُهدة عند العودة طبقاً لمستنداتٍ قضى التقليد بالتّغاضي عنها بحيث يُصبح المبلغ غنيمة قانونيّة غير قابلةٍ للإسترجاع فعليّاً. وقد فوجيء سَدَنَة إنقلاب 69 م بعد شهورٍ من إستيلائهم على السلطة في البلاد برسولِ الملك يحمل مغلّفاً يحوي مبلغاً بثلاثين ألف دولار أمريكي المتبقّي من العهدة المالية البالغة خمسين ألف دولار لتغطية مصاريف لا العائلة الملكيّة وحدها، ولكن مصاريف الحاشية الملكيّة أيضاً! وهو ما يعني أن صاحب الجلالة لم يُنفق في رحلته إلى اليونان وتركيا سوى عشرين ألف دولار بما في ذلك نفقات الحاشية، فأعاد الثلاثين ألف دولار الأخرى إلى بيت المال مشفوعةً بمستندات صرف العشرين الباقية! الملك إدريس السنوسي هو الإنسان الذي لم ينصفه الجيل، ولا التاريخ؛ لأنّ الزهد إذا كان في نظر أهل الباطل دروشةً، فإن النزاهة لابدّ أن تبدو في نظرهم بلاهةً. وفي زمنٍ تغترب فيه القيم كهذا لابدّ أن تستيقظ الشهوة إلى التغيير. التغيير! إنّه الدمية المعبودة في ناموس أولئك الذين أعجزهم أن يغيّروا ما بأنفسهم!
8 ـ المَخَاض
في الفترة الواقعة بين 1966م و 1969م بلغت النهضة الصحفيّة في البلاد ذروتها تتصدّرها جريدة "الحقيقة" الصادرة ببنغازي مدعومةً بقفزةٍ تقنيّةٍ في الشكل، وبكوكبةٍ من فرسان القلم في المضمون، لتشهد الحركة الثقافيّة الليبية على يديها ميلاد ظاهرة صادق النيهوم الذي كان يكتب من منفاه في فنلندا بروح سخريّةٍ فلسفيّةٍ وذخيرةٍ ثقافيّةٍ ثريّةٍ استهوت عشّاق الأدب، وميّزتْه عن نزعة السرد التقليدي آنذاك. ولم أكن أدري في تلك الفترة التي كنتُ أتابع فيها نصوصه بشغف أن تجمعنا الأقدار في مؤتمر الأدباء الأوّل المنعقد بطرابلس عام 1968م حيث كان نجم ذاك المحفل بلا مُنازع. فبعد فراغي من مُداخلتي عن أمثال الطوارق فوجئتُ به يتقدّم نحوي ليُعرب عن رغبته في تعلّم تلك اللغة المغمورة التي جَرَتْ على لساني للتّوّ أثناء ترجماتي لوصَايا القوم. عبّر عن رغبته بتلك اللهجة المميّزة المشفوعة بروحِ السخريةِ فلا يُعرف عمّا إذا كان جادّاً، أم هازلاً. كان الرجل حتّى ذلك الحين شخصيّة أسطوريّة ملفوفة بالغموض. شخصيّة أسطوريّة لا في منطقه، أو أسلوبه الأدبي، أو في مظهره وحسب، ولكن في شخصه أيضاً، وفي سيرته الدنيويّة المثيرة للجدل. وهو ما من شأنه أن يوقظ الحَسَد في نفوسِ ضعاف النفوس ليجد الرجل نفسه وقد حقّق مجداً بصنع الخصوم؛ لأن الصيت هو ما لا تُطيقه طبيعة البشر، ولن يهنأ لهؤلاء بال ما لم يرجموا صاحبه بحجر!
كان إنطباعي الأوّل على شخصه هو عريّ الروح! إنّها تلك الغنيمة الملتبسة التي تختم على صاحبها ببُعْدٍ إغترابيّ، بسيماء التراجيديا. إنّها البصمة التي لا تُفلح في إخفائها البهجة التي تشعّ في الوجه، ولا المرح، ولا إيماء الذكاء الذي تنطق به العينان، ولا الظمأ إلى المعرفة الذي يتسلّط في المقلتين. إنه تاجُ قداسة ٍ على رؤوس الأبرياء، ولكنّه شعارُ خطرٍ بالقَدَر نفسه؛ عُريّ الروح تاجُ قداسةٍ لأنّه نِتاج حريّة، ولكنه شعارُ خطرٍ بسبب غياب أي حولٍ أو قوّة، لأنّ شفرة النصل تترصّد الروح العارية، وقَدَرها نزيفٌ حتّى أنفاس النزع الأخير، لأنّ الحريّة ليست ملاذاً، ولكنّها صليب!
لم أتوقّع يومها أن يصير لي صاحب هذا الوجدان الرومانسي خلّ روحٍ ربطتني به صداقة نقيّة إستمرّت منذ ذلك التاريخ حتى يوم إستودعته تراب معشوقته بنغازي في خريف 1994م، كما لم أكن لأتنبّأ أيضاً بأن الحجارة التي بدأت الأوساط الثقافيّة ترجم بها النيهوم آنذاك سوف تصير لي يوماً أيضاً قَدَراً لا لشيء إلاّ أن ما يُسمّى نجاحاً هو الخطيئة التي لا تُغتفر في عُرف الشعوب. وبرغم إستطاعته تأسيس مدرسةٍ بأسلوبه الأدبي المميّز فتَنَتْ جيل من أدباء الستينات الشبّان فحاكوا هذا الأسلوب (دون أن يرتقوا إلى مستوى أفكاره بالطبع) بيدَ أنّه لم يَحْظَ بالإعتراف الذي يستحقّ على المستوى الثقافي العربي. وها هو يعترف لي بعد ذلك التاريخ بربع قرن قائلاً أنّ سبب هذا المنفى يكمن في الهويّة. هذه الهويّة المغتربة آنذاك مرّتين لا مرّة واحدة: مرّةً لإغترابها عن العالم بسبب عزلة دهور حوّلتها غنيمة للمجهول، ومرّة بسبب سقوطها في جبّ نظامٍ سياسي عدميّ عقيدته الجنون. وكان من العسير بعدها (بل ومن المستحيل) أن يقتنع أيّ مخلوق بصواب وصيّة أرسطو القائلة أن من ليبيا يأتي الجديد! إنّ الجديد في هذه الحال سوف يُعَدُّ إستفزازاً جديراً بإنزال القصاص بدل أن ينال ما يستحقّ من إعترافٍ، أو عنايةٍ، أوإكبار. وهي تجربةٌ لم أكن لأدرك مرارتها لو لم يُقدّر لي أن أحيا تجربة مماثلة. فردّة الفعل في مثل هذه الحال لا تكتفي بالإستنكار، ولكنّها تُجابَه بأشرس أجناس العداوة أيضاً. ولكن العداء المجانيّ الكبير مهّد له عداءٌ مجانيٌّ أصغر أصابني بجرحٍ عميق لسببٍ بسيطٍ وهو أنّي لم أكن لأستوعب في ذلك العهد المبكّر من إقبالي على الدنيا أنّ الإنسان للإنسان ذئب برغم أنّ الذئب للذئب ليس ذئباً! وقبل سرد فصول هذه العضّة الممزوجة بالسُّعار، من الصواب تناول حيثيّاتٍ سبقتها لا لتبريرها، أو تفسيرها (لأنّ لا وجود لتبريرٍ ولا لتفسيرٍ لأيِّ فعلٍ شرّير)، ولكن تلبيةً لمنطق يقتضيه تسلسل الأحداث. فالحلم بالفردوس كان أفيوننا أيضاً؛ لأنّ التطلّع إلى عالم مأمول تسود فيه العدالة ويحقّق عنقاء الأجيال الأسطوريّة المسمّاة سعادةً لم يكن مثالاً رومانسيّاً في ذاكرة الماضي، ولكنّه كان غاية وجودنا أيضاً. غاية وجود النخبة الثقافيّة بالذّات برغم تباين الرؤية. هذه الرؤية التي لم نكن حتّى ذلك الوقت لنجرؤ فنقول أنها أيديولوجيا.
إنّه زمن الظمأ إلى الحقيقة، لأن الفطرة حقلٌ بتولٌ يهفو لتقبّل البذار بقطع النظر عن هويّة البذار، فيبدأ التخبّط. تخبّط الظامئين لملء الخواء الرّوحي فتكون الهِبَةُ إنحرافاً باديء ذي بدء. لأن الحقيقة هي ما لا يُنال بدون تراكم الإنحرافات، بدون الإعتراف بتراكم الإنحرافات. وقد تزامن هذا الطلب بحلول نكسة 67م. تزامنت النكسة في مرحلة الطلب الخجول لتطعن طبيعته البتول، وهي طعنة لم تحدث دون أن تصحب معها وصيّةً بالنسبة لأمثالي الذين لم يعلّقوا الآمال منذ البدء على ما كان يُعرف بـ"المشروع القومي". جاءت الهزيمة المنكرة لتقول لنا بالحرف الذي يُميت بأنّ من العبث البحث عن الحقيقة في السياسة. وأضافت الأسوأ فقالت أن الساسة عصابةٌ ليست طريدة الحقيقة وحسب، ولكنّهم أعدى أعداء الحقيقة! بعدها بدأ إشمئزازي بكلّ شيء مؤدلج سيّما في مجال الأدب. إشمئزازٌ عاش في الباطن دوماً وحدّثني به الحَدَس مِراراً قبل أن يطفو خارجاً بفعل بلبلة الأعوام التي تلت النكسة. وهي نكسةٌ لم أقرأ في أسبابها الرسالة التي تشدّقتْ بها وسائل الإعلام بوصفها هزيمة عسكرية أو سياسيّة أو أيديولوجيّة، ولكنّي قرأت فيها بوحي الصحراء ما لم يُقرأ وقتها. قرأت فيها بُعدها الأخلاقي! وأعتقد أن عدم قراءة هذا البُعْد هو السبب الذي أدّى إلى هزائم أخرى. أدّى إلى الهزائم المُخجلة التي توالت على المنطقة منذ ذلك التاريخ إلى اليوم. وأحسب أن العماء القومي، أي ذلك التعصّب المجبول بالسُّعار الجنوني، قد غذّى المحنة الأخلاقيّة لتصير داء المجتمع الخبيث. ذلك أن القائمين على أمر الناس من أهل الحكمة لم يُدركوا أنّ المبالغة في الدفاع عن النفس هو عدوان، لأنّ البرزخ الفاصل بين القطبين المتضادّين شعرةٌ أكثر هشاشةً ونحولاً من خيطٍ في نسيجِ عنكبوت. وكم أحزنني مرأى خُصومي بالأمس في المغامرة القوميّة وهم ينكّسون بعد النكسة الرؤوس. هرعتُ في قرائاتي