المثقف العضوي وعملية الهيمنة والسيطرة:
والواقع أننا في حاجة هنا إلى تصحيح الفهم الشائع والخاطئ لأطروحة جرامشي حول المثقف العضوي قبل مواصلة تناول أدواره المختلفة عنده. وهو تصور زاده خطلا ما أدعوه بوقوع الكثيرين في غواية هذا المصطلح اللفظية، والتي بدا معها وكأنه يطرح تعريفا شيقا لنوع جديد من المثقفين الثوريين؛ حيث استخدم المصطلح كثيرا في العربية وكأنه صياغة جديدة للمثقف الثوري. الذي يرتبط بأحلام الجماهير ويدعو للحق والعدل. ومما زاد الأمر خلطا هو أن المثقف العضوي عند جرامشي يمكن أن يكون مثقفا ثوريا، ويمكن أيضا أن يكون مثقفا تابعا بأسوأ معاني هذا المصطلح، فالمحافظون الجدد في أميركا مثلا، وهم أبشع صور المثقف في عالمنا المعاصر، مرتبطون عضويا بالطبقة الأمريكية المهينة ومعبرون فكريا وثقافيا عن رؤاها ومطامحها. فالمثقف يكون مثقفا عضويا وفقا للطبقة التي يرتبط بها عضويا من حيث ممارساته الثقافية. «حيث يستمد وضعه في نهاية الأمر من علاقات طبقية راهنة أو سابقة. ويخفي ارتباطه بتشكلات طبقية تاريخية ما. لأن المثقف العضوي هو العنصر المفكر والمنظم لطبقة أساية محددة. وما يميز هؤلاء المثقفين العضويين ليس مهنهم، والتي يمكن أن تكون أي وظيفة مميزة ومهمة لتلك الطبقة، وإنما وظيفتهم في توجيه أفكار الطبقة التي ينتمون إليها عضويا وبلورة تطلعاتها»(7)
المهم أن ندرك أن مصطلح المثقف العضوي ليس بأي حال من الأحوال حكم قيمة على المثقف الذي يضطلع بدوره في المجتمع، وإنما هو توصيف علمي دقيق للعلاقة بين المثقف وشبكة العلاقات الاجتماعية والسياسية التي تتولد عنها آليات الهيمنة في أي مجتمع من المجتمعات. فالعلاقة العضوية التي يتحدث عنها جرامشي بين المثقف وطبقة معينة، سواء أكانت مسيطرة أم تسعى لاحتياز السيطرة بسبب طول معاناتها من قهر الطبقات الأخرى وهيمنتها، هي علاقة عضوية توسطية Mediated يصبح فيها المثقف واسطة وأداة لتحقيق مكانة تلك الطبقة على شبكة علاقات القوى. لأن من ييسر لنظام معين أو لمؤسسة حكم معينة أسباب الهيمنة والإدارة السياسية هو مثقف عضوي. بمعنى أننا لو تحدثنا عن نظام مبارك مثلا والفاعلين في تحقيق هيمنته التي دامت لثلاثة عقود، سنجد أن فاروق حسني (وزير الثقافة) وحبيب العادلي (وزير الداخلية)/ أو جابر عصفور (أمين المجلس الأعلى للثقافة) وحسن عبدالرحمن (مدير جهاز أمن الدولة) كانا لازمين عضويا لتحقيق هيمنة النظام وتسويغ صورته أو قبوله بمعسول الكلام أو بالقمع. فهما وجهان لعملة واحدة غايتها تحقيق الهيمنة والسلطة. وكانوا جميعا مثقفين عضويين بالنسبة لهذا النظام ولعملية هيمنة الطبقة الفاسدة التي يحكم باسمها. فعلاقتهم جميعا بالنظام: سواء في وزارة الثقافة أو وزارة الداخلية هي العلاقة العضوية الحقيقية بالمعنى الذي يقصده جرامشي، وليس للأمر أي علاقة بالطبقة الاجتماعية التي جاء منها أي منهم بشكل فردي، سواء أكانت في قاع المجتمع أم في وسطه، فقد كانوا مثقفين عضويين لطبقة «رجال الأعمال» وأساطين النهب والفساد والمال الحرام.
وبنفس التصور نجد أن كل المثقفين الذين ناوأوا هذا النظام، على مد فترة سيطرته، وحاولوا النيل من هيمنته والتشكيك في الأسس التي تنهض عليها شرعيته، من صنع الله إبراهيم إلى فاروق عبدالقادر مثلا، هم أيضا مثقفون عضويون قرروا زعزعة هيمنة الطبقات الفاسدة التي كان يخدمها ويسوغ هيمنتها على الصعيد الثقافي كل من فاروق حسني وجابر عصفور، والارتباط بأحلام الطبقات المقهورة وبلورة رؤاها وصبواتها في خطاب مناوئ يستهدف الكشف عن خواء الأسس التي تنهض عليها هيمنة هذا النظام الفاسد وسيطرته. فالمثقف العضوي عند جرامشي لا يعتمد على الفصاحة وحدها كما كان الحال مع المثقف التقليدي القديم، والذي كان وضعه التقليدي في المجتمع يسربله دائما بهالة عابرة للطبقات. لأن هذه الفصاحة ليست أكثر من عنصر خارجي ينهض على التحريك اللحظي للعواطف والأهواء، وهو الأمر الذي كان يشكو منه بيندا من قبله. وإنما على المشاركة الفعالة في الحياة العملية كمنشئ ومنظم ومقنع دائم للجماهير بأهلية الطبقة التي ينتمي إليها ثقافيا، وليس على فصاحته كمجرد حطيب. لأن غرامشي يعتقد أن ممارسة السلطة تتم بواسطة العقل أكثر من القوة. حتى تتم السيطرة على الجماهير، يتوجب على النخبة أن ترسخ في أذهان هذه الجماهير أيديولوجيا قادرة على أن تبرمج قبولهم السلطة، التي تهيمن عليهم. «لأن نمط وجود هذا المثقف لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يعتمد على الفصاحة وحدها، وهي عنصر خارجي ومحرك لحظي للمشاعر، وإنما على المشاركة الفعّالة في الحياة العملية/ كمنشئ ومنظم ومنافح دائم عن رؤى ومصالح، وليس كمجرد حطيب مفوه. ولذلك فإنه يتمتع بمكانة أسمى من تلك التي يتمتع بها المتخصص في الرياضيات البحتة برغم أهيمته العضوية للطبقة كذلك. لأننا إذا لم نتجاوز الدور التقني العضوي للمثقف كعمل، إلى دوره التقني كفاعل سياسي واجتماعي في التصور والسياق التاريخي نخطئ في فهم كل من دور المثقف ودور الثقافة معا»(8)
ويكشف جرامشي في مقاله المهم عن «تكوين المثقفين» كيف يخرج المثقف العضوي من إهاب المثقف التقليدي. فقد كانت نسبة كبيرة من المثقفين التقليديين من ذوي الأصول الفلاحية، في جنوب إيطاليا خاصة، وهو نفس الأمر في مصر وفي كثير من بلدان عالمنا العربي. حيث كشف جرامشي عن أن هناك علاقة بين الريف كمستودع للقيم الراسخة والتي قلما تتغير، وبين ميل المثقف التقليدي لأن يكون المعبر عن تلك القيم الراسخة وعن الضمير الجمعي. «فعلى المستوى التاريخي كانت هناك مجموعات متخصصة تنهض بوظائف المثقف تكونت في علاقة مع كل الطبقات والشرائح الاجتماعية، وخاصة مع تلك التي تحظى بدرجات أعلى من النفوذ والأهمية. وكانت هذه الجماعات تعيش عملية تبلور شاملة ومعقدة في علاقتها بالطبقات الاجتماعية المهيمنة. وكانت هذه الجماعات تعيش عملية تبلور شاملة ومعقدة في علاقتها بالطبقات الاجتماعية المهيمنة. لأن أحد أهم خصائص أي جماعة تسعى إلى الهيمنة هو صراعها من أجل استيعاب المثقفين التقليديين والانتصار الأيديولوجي عليهم.(9) ويتحقق هذا الاستيعاب والاحتواء بصورة أسرع وأشد فاعلية كلما استطاعت الجماعة الساعية للهيمنة النجاح في نفس الوقت في خلق مثقفيها العضويين».(10)
تاريخ عربي من العسف والخيانة:
أكتفي هنا بهذا القسم من تصور جرامشي عن المثقف، وأعود إلى اعتراف إدوار سعيد بغواية تصورات بندا عن المثقف رغم مثاليتها وإطلاقيتها، لأن هذا الاعتراف، وإلى حد كبير، هو سر أعجاب المثقف العربي الحقيقي والمستقل بها. لأن هذا الإعجاب ابن ميراث طويل في الثقافة العربية يحتفى بهذا النوع من المثقف المثالي، الذي لا يخشى في الحق لومة لائم، والذي يدرك أن خير الجهاد هو جهاد النفس، وأن كلمة حق عند سلطان جائر، هي لب عمل المثقف وجوهر رسالته. فكتب التراث العربي الكبيرة، منذ «سيرة» ابن هشام وحتى «مقدمة» ابن خلدون، مليئة بقصص هذا النوع من المثقف الذي يجاهر بقناعاته، وهو يدرك أن تلك القناعات قد تصطدم مع مصالح السلطة الحاكمة ومع الخطاب الذي تنهض عليه شرعيتها. وقد جمع أحد الباحثين مؤخرا في دراسة مهمة عن (أركيولوجية الفساد والسلطة: في النصوص الأدبية والمدونات العربية القديمة) عددا لا يحصى من وقائع العسف بالمثقف الذي يجاهر برأيه في مواجهة السلطة، منذ عهد الخلفاء الراشدين وحتى نهاية عهود المماليك.(11)
وقد بدأت إشكاليات المثقف العربي القديم في الكشف عن وجهها الإشكالي منذ زمن «الفتنة الكبرى» الباكر، حيث يحكي لنا طه حسين بأسلوبه المنطقي ونثره الناصع تفاصيل أولى عمليات التنكيل بالمثقفين لموقفهم وآرائهم التي لا تعجب الحاكم. حينما كتب والي الكوفة، سعيد بن العاص، إلى ثالث الراشدين عثمان بن عفان بشأن جماعة من مثقفي الكوفة من اليمانيين تنتقد ما ترتب على قرار سابق لعثمان عام ثلاثين هجرية من استقطاب اجتماعي وطبقي صارخ. وكان سعيد قد تخير وجوه الناس وقراءهم وذوي الصلاح منهم {يعني المثقفين منهم} ليدخلوا عليه إذا لم يجلس للعامة، وليسمروا عنده إذا كان الليل. وجرى في السمر نقاش احتد فيه المثقفون على سعيد، وانتقدوا الكثير مما كان يدور. وغضب لذلك صاحب الشرطة لأنهم ردوا على الأمير ردا غليظا فزجرهم، فقاموا إليه فضربوه. «فقطع سعيد سمره، واحتجب عن هؤلاء الناس، فلزموا مجالسهم وأنديتهم، وأطلقوا ألسنتهم في سعيد، وفي عثمان وفي قريش، وتسامع بعض الناس بهم واجتمع بعض الناس إليهم. فكتب سعيد إلى عثمان ينبئه بأمرهم، ويذكر أنه يخافهم أن يفتنوا الناس. فأجابه عثمان أن يسيرهم إلى الشام. وكتب إلى معاوية يأمره بلقائهم واستصلاحهم».(12)
نحن هنا بإزاء أول قرار من السلطة بنفي أول مجموعة من المثقفين المعارضين في الإسلام، لأن رأيهم يخالف رأي الوالي، ولأن الخليفة يريد أن يتقي هذا الرأي وأن يخرس ألسنتهم، بدلا من أن يستمع إليهم ويقارعهم الحجة بالحجة. بل إن كتابة الخليفة إلى معاوية وأمره إياه أن يلتقيهم وأن يصلحهم، يوشك أن يكون النواة الجنينية لما يعرف في عالمنا المعاصر الردئ باسم Rendition والذي تمارسه الولايات المتحدة الأمريكية ضد معارضيها بإرسالهم إلى بلدان عميلة مثل مصر في عصر مبارك المخلوع وغيرها، كي تقوم تلك البلدان التي لا يسود فيها منطق أو قانون «باستصلاحهم» على الطريقة الحديثة، طريقة حبيب العادلي وعمر سليمان وزبانيتهما. وما أن نتابع ما فعله معاوية معهم حتى نتأكد أننا بإزاء نمط ونموذج Prototype ترسى قواعده وسيتكرر لاحقا. إذ يؤكد طه حسين أن «الشيء المهم هو أن سعيدا قد نفى هؤلاء الناس عن أرضهم، ولست أدري إلى أي حد يجوز للأمير أن ينفي المسلمين من أرضهم سواء أكان هذا النفي من عند نفسه، أو بأمر من الخليفة.»(13) ويستنكر طه حسين مسلك الخليفة وأميره، مؤكدا «أنه لم تقم بينة على أن هؤلاء الناس من القراء والصالحين وأصحاب البلاء في الفتح، {أي ممن لهم تاريخ ودور ثقافي يعتد به} قد حاربوا الله ورسوله أو سعوا في الأرض فسادا. فهم لم يخلعوا يدا من طاعة، ولم ينكروا سلطان عثمان ولا سلطان واليه عليهم. وإنما كانوا يشهدون الصلاة مع هذا الأمير، ويؤدون ما عليهم من الحق. وكل ما يمكن أن يؤخذوا به هو أنهم نقدوا سيرة الأمير أو بعض قوله ... فأما نقدهم أعمال الأمير وأقواله فحق لهم لا ينازعهم فيه منازع. وكان الشيخان {يقصد أبا بكر وعمر} يطلبانه إلى الناس قبل عثمان. فما ينبغي أن يعاقبوا عليه .. فأما نفيهم من الأرض فأمر عظيم.»(14)
ويكشف لنا طه حسين كيف استنكر الكثيرون من الصحابة والمثقفين هذا الأمر العظيم، لكن هذا الاستنكار لم يمنع معاوية من أن يقوم معهم بمهمة الـ Rendition خير قيام. فيضيف بذلك إلى عقوبة النفي عقوبة التعذيب. «وقد تلقى معاوية هؤلاء النفر فأنزلهم في كنسية {لاحظ الإهانة والحبس معا} وأجرى عليهم ما يقيم أودهم، وجعل يسعى إليهم مرة، ويدخلهم عليه مرة أخرى. يناظرهم ويؤامرهم ويعظهم، فلا يبلغ منهم شيئا ... ويظهر أن معاوية لم يستيئس من إصلاح هؤلاء النفر فحسب، وإنما خافهم أيضا على أهل الشام. وكان معاوية كثير الخوف على أهل الشام، فكتب إلى عثمان يستعفيه من إقامتهم عنده فأعفاه. وتقدم إليه في أن يردهم إلى مصرهم، فلم يكادوا يعودون إلى الكوفة حتى أطلقوا ألسنتهم في سعيد وفي معاوية وفي عثمان.»(15) وتتواصل فصول الشد والجذب بين المثقفين المعارضين والسلطة التي بدأت صنوف من الفساد تدب فيها، فتوهن شرعيتها في نظر رعيتها، وتخاف على سلطتها وشرعيتها منهم فتنفيهم للمرة الثانية، ثم تضطر بعد إخفاق النفي والحبس في ترويضهم إلى الاستجابة لبعض مطالبهم، فيعزل عثمان سعيد عن الكوفة، ويولي عليها من يختارونه هم أميرا لها، ألا وهو أبو موسى الأشعري.
ولم ينزل عثمان بسهولة عند رأي هؤلاء المثقفين، وإنما لأن آخرين غيرهم رأوا كذلك كيف أخذ الحاكم يحيد عما يرون أنه الحق، ويحابي ذوي قرابته وعصبته على حساب من هم أجدر منهم بالمناصب. ولا يكتمون عن غيرهم ولا عن العامة رأيهم ذاك. فقد كتب الأشتر وهو أحد مثقفي الكوفة في ذلك الوقت إلى عثمان ردا على كتابه لأهل الكوفة الذي نهاهم فيه عن العصيان والاحتجاج على نفيه لزملائهم، وطلب منهم فيه طاعته كولي للأمر، حينما ردت الكوفة عنها وليه الفاسد سعيد بن العاص يقول: «من مالك بن الحارث إلى الخليفة المبتلى الحائد عن سنة نبيه النابذ للقرآن وراء ظهره. أما بعد، فقد قرأنا كتابك؛ فانهِ نفسك وعمالك عن الظلم والعدوان وتسيير الصالحين، نسمح لك بطاعتنا. وزعمت أنا قد ظلمنا أنفسنا، وذلك ظنك الذي أرداك فأراك الجور عدلا، والباطل حقا. وأما محبتنا فإن تنزع وتتوب وتستغفر الله من تجنيك على خيارنا، وتسييرك صلحائنا، وإخراجك إيانا من ديارنا، وتوليتك الأحداث علينا، وأن تولي مصرنا عبدالله بن قيس أبا موسى الأشعري وحذيفة، فقد رضيناهما. واحبس عنا وليدك وسعيدك ومن يدعوك إليه الهوى من أهل بيتك إن شاء الله والسلام.»(16)
هكذا ترى كيف يجعل المثقف طاعته لولي الأمر مشروطة بأن ينهي نفسه وعماله عن الظلم والعدوان، وعن تسيير غيره من المثقفين الصالحين {أي نفيهم}، وأما محبته له فهي مشروطة بأن ينزع أي يتراجع عن غيه، ومحاباة أقاربه، ويتوب ويستغفر الله من أخطائه. فقد كان عثمان قد اسرف في تلك المحاباة، فولى الوليد بن عقبة على الكوفة، وولى عبدالله بن عامر على البصرة، وجمع الشام كلها لمعاوية بعد أن كانت ثلاث ولايات مستقلة هي الشام وحمص وفلسطين تشارك في إدارتها قريش غيرها من أحياء العرب، وولى عبدالله بن سرح مصر بعد أن عزل عنها عمرو بن العاص. وقد رضخ عثمان فيما يتعلق بالكوفة لضغوط المثقفين المعارضين، ولكنه لم يرعوِ فاستمرت الفتنة.
وكانت تصرفات عثمان مع المعارضة، وكلها يمكن أن ننظر إليها على أنها معارضة مثقفين في تلك الفترة، تتعهد جذوتها وتزكي نيرانها عن قصد وعن غفلة. فقد كان عثمان «إذا ضاق عمّاله ببعض المعارضين من أهل الكوفة والبصرة، أمر عامله في هذا المصر أو ذاك بنفي هؤلاء المعارضين إلى الشام، حيث يتلقاهم معاوية، فيؤدبهم باللين والرفق ما وسعه اللين والرفق، ويؤدبهم بالشدة والعنف حين لا يرى من الشدة والعنف بدّا. وقد ضاق معاوية برجل عظيم الخطر من أصحاب النبي هو أبو ذرّ الغفاري، ولم يستطع أن يبطش به لمكانه من رضى رسول الله عنه وإيثاره إياه ولسابقته في الإسلام. ولم يستطع أن يفتنه عن دينه بالمال، فشكاه إلى عثمان. وأمره عثمان بتسييره إلى المدينة. ولم يطق عثمان نفسه معارضة إبي ذرّ فأخرجه من المدينة واضطره إلى أن يقيم في الرملة حتى مات.»(17) هكذا نتعرف منذ صدر الإسلام على مختلف صنوف البطش بالمثقف المعارض واستخدام أجنة الوسائل التي سنعرفها فيما بعد في مختلف درجات مروحة الترغيب والترهيب. حيث كان معاوية يعاملهم باللين ما نفعه اللين، وبالشدة حين لا يجد منها مناصا. كان يغويهم بالمال وقد تكدس في خزائنه واكتنز منه الكثير، واستطاع أن يفتن به اصحاب النفوس الضعيفة ممن نصفهم الآن بأنهم من المثقفين الخونة عن دينهم، وهذا سر سخط أبي ذرّ عليه. ومن لم ينفع معه الترهيب ولا الذهب لم يكن أمام عثمان إلا نفيه حتى الموت كما جرى الحال مع إبي ذر الذي مات في منفاه من القهر والضيم.
وقد «أنكر المسلمون على عثمان موقفه من ناقديه ومعارضيه؛ فهو قد انحرف عن سيرة عمر في ذلك انحرافا عظيما. فعمر لم ينهَ عماله عن شيء كما نهاهم عن أن يستعبدوا الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا. ولم يحذرهم من شيء كما حذرهم من العنف بالرعية والاعتداء على أبشارها وأشعارها ... فأما عثمان، فمهما يكن اعتذار أهل السنة والمعتزلة عنه، فإنه أسرف وترك عماله يسرفون في العنف بالرعية ضربا ونفيا وحبسا. وهو نفسه قد ضرب أو أمر بضرب رجلين من أعلام أصحاب النبي: ضرب عمّار بن ياسر حتى أصابه الفتق، وأمر من أخرج عبدالله بن مسعود من مسجد النبي إخراجا عنيفا حتى كسر بعض أضلاعه. ومهما يكن من أمر هذين الرجلين الجليلين، ومن نقدهما له، وتشهيرهما به، وتشنيعهما عليه؛ فما نعلم أنه حاكمهما أو أقام عليها الحجة، أو أباح لأحد منهما الدفاع عن نفسه. إنما سمع فيهما قول عماله أو قول خاصته ثم عاقبهما دون أن يقيم عليهما البينة. وليس له من هذا كله شيء»(18)
هكذا بدأت الفتنة بمحاباة الأقارب، وتولية من لا يصلح للولاية، واضطهاد أصحاب الرأي أو الاجتهاد المخالف بالنفي تارة والضرب أخرى والتعزير ثالثة. وهكذا بدأ الشقاق الأول في صدر الإسلام حينما تجاوز الخليفة وأمراؤه الحق، وصادر حرية الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا، كما قال عمر. ويوشك من يتأمل الكثير من أحداث الفتنة الكبرى التي انتهت بثوار الأمصار يأتون إلى حاضرة العالم الإسلامي بشكواهم فلا يجدون من يستمع إليهم، أو يهتم بشكواهم، فينتهي بهم الأمر إلى حصار عثمان وتسوّر داره، وقتله في بيته. أقول يوشك من يتأمل هذا كله أن يجد أن قيم الحرية والعدل والمساواة كانت موضوع تلك الصراعات. وأن دور المثقف حينما تتعرض تلك القيم للخلل خو أن يعترض، وينصح ويقوّم. وأن جوهر الفتنة أو الخلاف الذي أدى إلى الثورة أو الفتنة، فلم تكن مفردة الثورة بمعناها الاجتماعي والسياسي معروفة بعد في هذا الزمن البعيد، هو الحرية والعدل. حرية المثقف في أن ينتقد الحاكم، وأن يجد هذا النقد لديه آذانا صاغية، تستجيب وتغير وتصلح كل اعوجاج. فقد كان العهد المضمر في بيعة الخليفة هو تلك الحرية. لأن الخلافة عهد بين أحرار. «عهد بين الخليفة ورعيته، قوامه أن يلزم الخليفة نفسه أن يعمل بكتاب الله وسنة رسوله، وأن ينصح للمسلمين ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وأن يطيع المسلمون أوامر الخليفة ويجتنبوا ما ينهى عنه في هذه الحدود. فإن نكث الخليفة عهده فسار في المسلمين سيرة ينحرف بها عن كتاب الله وسنة رسوله، وعما التزم من النصح للمسلمين، فلا طاعة له على رعيته. ومن حق هذه الرعية أن تطالبه بالوفاء بما أعطى على نفسه من عهد، فإن استقام فذاك، وإلا فللمسلمين أن يبرؤا منه وأن يلتمسوا لهم خليفة غيره.» (19) ولهذا أيضا كان أول ما قاله أول الراشدين أبو بكر الصدّيق في خطبته التي تروى عنه عقب بيعته «إن أحسنت فأعينوني، وإن أخطأت فقوموني ... أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم.»(20)
الفتنة الكبرى والاستقطاب بين المثقف والسلطة:
هكذا يكشف العهد الأول، أو العقد الاجتماعي السياسي الأول، الذي قامت عليه السلطة البشرية الأولى في الإسلام، بعد موت الرسول (صلعم) الذي كان يتلقى الوحي عن الله عزّ وجل، عن أنه عهد بين أحرار متساوين في الحقوق والواجبات، «إن أحسنت فأعينوني، وإن أخطأت فقوّموني»، وعلى أسس بالغة الدقة والوضوح. وقد استمر هذا العقد واتسم قدرا أكبر من الصرامة مع عمر بن الخطّاب الذي وضع أساس الحكم في خطبة تولية الحكم بعد أن فرغ من دفن إبي بكر، على مستويين: الأول هو أن يقوم هو بنفسه بإحقاق العدل وتوفير الحرية. «بأن ما حضره من أمر المسلمين باشره بنفسه، ولا يباشره أحد دونه، وما غاب عنه من أمرهم ولاه أهل الأمانة والكفاية، فإن أحسن هؤلاء الولاة زادهم إحسانا وإن أساءوا نكّل بهم. فلم يغير طول خلافته من ذلك العهد شيئا»(21). والثاني هو ما يخص من لا يستطيع أن يباشر أمرهم بنفسه. فقد رسم لعماله، أي ولاته على الأمصار، سبل التعامل مع الرعية بوضوح وجلاء. إذ كان عمر «لا يمل من أن يقول لأهل المدينة، ولمن ورد عليه من أهل الأمصار: إني لم أرسل عمالي ليضربوا أبشار الناس ولا ليظلموهم، وإنما أرسلتهم ليعلموا الناس دينهم وسنة نبيهم، ويقسموا بينهم فيئهم، ويقيموا أمرهم كله على العدل. وكان كثيرا ما يتقدم إلى عماله في ألا يضبوا المسلمين فيذلوهم، ولا يحرموهم فيكفروهم، ولا ينزلوهم الغياض فيضيعوهم. وكان لا يرى أحدا من بعض جيوشه إلا سأله عم أمره كله، وعن أمر الجند، وعن سيرة قوادهم فيهم.»(22)
لكن ممارسات عثمان التي تناولنا بعض جوانبها، مهما كان تبرير المبررين لها وتبرير عثمان نفسه لبعضها، تشكل نكثا بهذا العهد الأول أو العقد الاجتماعي الأول الذي أرسى على أساسه الشيخان، أبو بكر وعمر، قواعد الحكم المثالي بين الراعي والرعية منذ صدر الإسلام. وأتاحت هذه الممارسات للأجنة الأولى للنزاع بين المثقف (وهو هنا من القراء وحفظة القرآن وشراحه، أو الصحابة أو المتفقهين في أمور الدين والدنيا) والسلطة في صدر الخلافة الإسلامية أن تتبرعم وتنمو بشكل سريع وخبيث. وسرعان ما أخذت هذه الأجنة في التنامي إبان فصول الفتنة الكبرى حينما اختلط الأمر، وبدأت الحروب بين المسلمين والمسلمين، وليس بين المسلمين والكفار لفتح الأمصار، ونشر دين الله، ودفع أعدائه بعيدا عن ثغور الإسلام. ومع الحرب بين المسلمين بعضهم البعض دبت الفتنة واندلعت نيرانها، وتداخلت التأويلات والمكائد، التي كانت مكيدة عمرو بن العاص الشهيرة في التحكيم أولاها ولكنها لم تكن الأخيرة، وأخذت الأمور تزداد تعقيدا برغم حكمة علي بن ابي طالب وعمق بصيرته. فقد كان رابع الراشدين، علي بن أبي طالب، هو للأسف الشديد، ووفق شهاب الدين الخفاجي صاحب (شفاء الغليل)(23) أول من شيد السجون في الإسلام. وقد سمى سجنه الأول لمرارة المفارقة نافعا، والثاني مخيّسا، لأنه يخيّس المحبوسين أي يذللهم ويذلهم. «وهو الذي يقول بحسب رواية ابن منظور في لسان العرب مادة خيس: أما تَراني كَيِّساً مُكَيّسا، بَنَيْتُ بعد نافِعٍ مُخَيّسا باباً كبيراً وأَمِيناً كُيِّسا، ونافع: سجن بالكوفة كان غير مستوثق البناء، وكان من قَصَب فكان المحبوسون يَهْرُبُون منه».(24)
وتواصل منذ ذلك العهد المبكر الصراع بين السلطة والمثقف واصحاب الراي المخالف. لا فرق في ذلك بين خليفة صالح يخشى الله في رعيته مثل رابع الراشين علي بن إبي طالب، وخليفة طالح ماكر مثل معاوية بن أبي سفيان. فحتى عمر بن عبدالعزيز الذين يتغنى الكثيرون بعدله وصلاحه حتى لقب بخامس الراشدين، فقد عذب عندما كان واليا على المدينة في عهد الوليد مثقفا حتى الموت، وهو خبيب بن عبدالله بن الزبير الذي جلده حتى مرض ثم مات وذلك بأمر من الوليد لأنه كان يبشر بسقوط دولة بني أمية.(25) فتعبير هذا المثقف عن رأيه أدى به إلى التعذيب حتى الموت لأن خطابه الثقافي تنبأ بما حدث فعلا بعد أقل من قرن من الزمان. وليس لأنه ارتكب أي كبيرة من الكبائر التي طالما ارتكبها الحكام دون عقاب. ويكشف قصي الحسين في كتاب (اركيولوجيا الفساد والسلطة) عن آليات تفشي الاستبداد والقهر والعصف بالمثقف ذي الرأي الحر والمستقل منذ استيلاء معاوية على السلطة في الدولة الإسلامية بواحدة من أشهر خدع المثقفين وألاعيبهم في التاريخ القديم، ألا وهي خدعة التحكيم الذي أنهت عهد الخلفاء الراشدين وبدأت بدهاء معاوية عهد الأمويين واستبدادهم وفسادهم. وخدعة التحكيم نفسها ليست إلا واحدة من أكثر أحداث ألاعيب المثقف شهرة في تاريخ العرب والإسلام. فنحن هنا بإزاء واحد من أولى تجليات المثقف العضوي الذي يعي الرابطة العضوية التي تربطه بآليات السلطة.
فقد روى لنا طه حسين أن عمرو بن العاص كان في فلسطين حينما وقعت الفتنة وقتل عثمان، وأنه قال عن نفسه «أنا أبو عبد الله ما حككت قرحة إلا أدميتها» يريد أن يقول أنه قد مهد للفتنة والثورة بعثمان فأحكم التمهيد وانتهى الأمر إلى غايته. وأنه استشار ولديه فيما يفعل حينما بايع الناس عليا، وأبى معاوية أن يبايعه مطالبا بدم عثمان. فأشار ابنه عبد الله أن يعتزل الناس حتى يلتم شمل المسلمين، وأما ابنه محمد فقال له «أنت ناب من أنياب العرب، وما ينبغي أن تبرم الأمور وأنت متخلف، وأشار عليه بأن يلحق بمعاوية» فقال عمرو معلقا على رأي ولديه: «أما عبدالله فقد أشار علي بما ينفعني في ديني وآخرتي، وأما محمد فقد أشار علي بما ينفعني في دنياي».(26) إذن كان عمرو بن العاص واعيا أنه يعمل لدنياه حينما اتخذ قراره بالانضمام لمعاوية. وكان يعي أن ما يجازف به في خدعة التحكيم قد ضمن ثمنه، وهو ولاية مصر حتى مماته حسب اتفاقه مع معاوية. ولذلك كان رده على أبي موسى الأشعري، حينما ثار الأشعري وهو يشاهد خداع عمرو بن العاص له بالغ الدلالة. فبعد أن قدم عمرو أبا موسى الأشعري فقام وقال بعد حمد الله والثناء عليه أنهما اتفقا على خلع علي ومعاوية وترك الأمر شورى بين المسلمين، قام عمرو وقال «إن هذا قد خلع صاحبه وأنا أخلعه مثله. ولكني أثبت صاحبي. فقال له أبو موسى مالك، لا وفقك الله! غدرت وفجرت. إنما مثلك كمثل الكلب، إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث. فقال له عمرو إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارا».(27) ورد عمرو وصفه لإبي موسى الأشعري بأنه كالحمار يحمل أثقالا، تأكيد لأننا بإزاء خلاف بين مثقفين، يحمل أحدهما عبء الأسفار بأمانة وضمير، بينما يتلاعب الثاني بما يعرف ابتغاء متاع الدنيا، وجاه السلطان.
وبدأ عصر المثقف الداهية الذي يوظف ثقافته، لا ابتغاء مرضاة الله وإنما لقاء الجاه والمال والسلطة. بينما آثر أبو موسى الأشعري تحت وطأة الخدعة الرهيب، فما كان في مقدوره أن يتصور أن يلجأ أحد الذين صحبوا النبي إلى الغدر، آثر أن يركب راحلته ويعود بها إلى مكة ويقضى بها بقية أيامه مهمشا ممرورا، نادما على أنه لم يسمع رأي أبن عباس بألا يتكلم إلا بعد أن يسمع من عمرو أولا. واستمرت الفتنة، وانتصر الغدر والدهاء على الصدق وقول الحق. لكن هذا الدهاء سرعان ما كشر عن أنيابه مع عبدالملك بن مروان الذي بدأ عهده بخطبته الشهيرة عام 75 ه بقوله «أما بعد، فلست بالخليفة المستضعف (يعني عثمان) ولا الخليفة المداهن (يعني معاوية) ولا الخليفة المأفون (يعني يزيد)، إلا أنني لا أداوي أدواء هذه الأمة إلا بالسيف حتى تستقيم لي قناتكم.»(28) وأخذ البطش بعدها في التنامي في عهده، فهو الذي قال «والله لا آمر أحدا أن يخرج من باب من أبواب المسجد، فيخرج من الذي يليه إلا ضربت عنقه».(29) فما أن يبدأ البطش عاقلا حتى يفقد عقله بسرعة مدهشة في سعيه الملتاث لتأسيس جبروت الحاكم والذي يكون وجهه الآخر عادة هو الزراية بحرية المواطن وحقوقه. وإذا كان التاريخ العربي حافلا بأمثال عبدالملك بن مروان والحجاج بن يوسف الثقفي وغيرهما من الباطشين الذين أفقدتهم السلطة كل عقل ومنطق، فإنه عامر في الوقت نفسه بالعديد من الهامات الثقافية التي تصدت لهذا البطش ودفعت ثمنه غاليا.
المثقف ومتغيرات المشهد المصري:
بعد أن تناولنا تصور جرامشي للمثقف العضوي، ودوره في تحقيق ما يدعوه بالهيمنة الاجتماعية والثقافية، وبعد أن عدنا لأولى تجليات هذا المفهوم في صدر الإسلام، علينا الآن تأمل بعض ما جرى في المشهد الثقافي المصري على مد العقود الأربعة الأخيرة. وكيف لعب المثقف المصري دورا في تحقيق هيمنة النظام الذي ثار عليه المصريون في 25 يناير2011، أو في زعزعة تللك الهيمنة والتشكيك في شرعيتها. وبداءة وقبل التريث عند تفاصيل ما جرى لابد من التذكير بأن العلاقة بين المثقف والسلطة الحاكمة التي تحتاج إليه لتعزيز هيمنتها الاجتماعية والثقافية، وفي انتاج خطاب ثقافي ينشر هذه الهيمنة بن الناس، اتسمت دوما بالتوتر والإشكالية. ووصلت في أحيان كثيرة إلى حد المواجهات الصادمة التي كانت تنتهي عادة بالمثقف إلى السجن الفعلي منه أو المعنوي، أي الذي يكتفي بحبس الرأي الحر والتضييق عليه. منذ ارتكب محمد علي في مطالع القرن التاسع عشر مذبحة المثقفين الشهيرة، والتي أطاح فيها بالزعامات الثقافية التي أتت به للحكم، وعلى رأسهم عمر مكرم وأحمد المحروقي وعبدالله الشرقاوي وحسين السيوطي وابن شمعة (شيخ الجزارين) وحجاج الخضري، بعد مذبحة القلعة التي تخلص فيها من المماليك. منذ ذلك التاريخ البعيد والمؤسسة السياسية تسعى لاحتواء المثقف وتدجينه أو البطش به وتهميشه. وتاريخ الثقافة في أي بلد عربي في القرنين الأخيرين هو، في وجه من وجوهه تاريخ هذا التوتر بين المؤسسة السياسية والثقافة الحرة أو المستقلة لو وجدت من ناحية، ومعها في مستوى آخر، التوتر بين المثقف الذي تم احتواؤه وتحول إلى أداة طيعة في يد المؤسسة أو بوق لها، أو أحد كلاب حراستها الأيديولوجيين، وبين المثقف الحر المستقل الذي يحرص كما يقول إدوار سعيد على أن يطرح الحقيقة في مواجهة القوة/ السلطة، مهما كانت سطوة تلك السلطة الغاشمة.
وإذا عدنا لمصر التي يدور حديثنا حولها سنجد أن هذا التاريخ موصولا لم ينقطع، منذ نفى خليفة محمد علي رفاعة رافع الطهطاوي إلى السودان بعد سنوات قليلة من رحيل محمد علي الذي كان الطهطاوي من أعلام مشروعه التحديثي. مرورا بنفي محمود سامي البارودي وعبدالله النديم في عهد توفيق وعقب الاحتلال البريطاني لمصر، وحتى يوم الناس هذا. صحيح أن هذه الفترة الطويلة شهدت عدة عقود خلت نسبيا من هذا التوتر إبان ما يعرف بالتجربة الليبرالية المصرية في النصف الأول من القرن الماضي، وإن لم تخل هذه التجربة الليبرالية من توتراتها بين المثقف التنويري ونقيضه التقليدي أو السلفي. كما شهدت تلك الفترة الطويلة أيضا بعض الحكام الذين كانت لهم مشاريعهم الوطنية، كما كان الحال مع مشروع الخديوي اسماعيل التحديثي في جعل مصر قطعة من أوروبا، ومشروع جمال عبدالناصر القومي. لكن وجود المشروع مهما كانت وطنيته وحداثته، كما كان الحال مع المشروع الناصري مثلا، لم ينه هذا التوتر، أو يخفف حدته. فقد عانى مثقفو اليسار واليمين على السواء من بطش عبدالناصر ودكتاتوريته، وبقي العديد منهم لسنوات وراء القضبان.
لكن أسوأ ما نجم عن فترة حكم عبدالناصر في مجال الثقافة، وهو أمر عانت منه الثقافة المصرية والعربية من بعدها لعقود طويلة، أنها انتجت نظام حكم شمولي مكن المؤسسة السياسية من السيطرة شبه الكلية على الساحة الثقافية. وقد استغرق هذا الأمر عدة سنوات، وعدة إطاحات بقامات ثقافية كبيرة خلال ما عرف بأزمة المثقفين في الخمسينات، وتغييب شريحة واسعة منهم في المعتقلات كي يستقر لها هذا الأمر، وكي تصبح جل الأدوات التي تشارك في صناعة الثقافة تحت سيطرتها، بدءا من أجهزة الإنتاج الثقافي من نشر وتوزيع وانتاج فني، وحتى خلق المكانات ومحاصصات القيمة من توزيع أعمدة الصحف وبرامج الإذاعة والتليفزيون حتى منح التفرغ وجوائز الدولة. وقد استطاعت المؤسسة أن تفعل هذا كله في المرحلة الناصرية بقدر من اليسر وبمشاركة شريحة واسعة من المثقفين واحتوائهم بسبب اقتناع قطاع واسع منهم بمشروعها الوطني الذي سرعان ما تلقى ضربة مصمية عام 1967.
فلما جاء خلفه، أنور السادات، وقرر توجيه مسار مشروعه صوب اليمين، والتخلي عن كل طموح وطني، والتبعية الكاملة للمخطط الأمريكي الصهيوني في المنطقة تحت لواء عراب هذا التحول الجذري هنري كيسنجر بهواه الصهيوني الواضح،(30) بدأ هو الآخر عصره بالصدام مع المثقفين. بدأت طبيعة الصدام بين المثقف والسلطة في التغير، وبدلا من المواجهة المباشرة الفظة والبطش الكريه، والذي لم يكن باستطاعته القيام به بداءة لافتقاده للشعبية والشرعية في بدايات حكمه، أخذ في استحداث استراتيجيات جديدة لتلك المواجهة. وهي استراتيجيات نظام ضعيف يستجدي الهيمنة وغير قادر على فرضها بالإدارة السياسية حسب تعريف جرامشي. ولذلك لا يستطيع، كما كان الحال مع عبدالناصر الذي تمتع بشعبية واسعة بسبب مشروعه الوطني، وما أحدثه من حراك اجتماعي واسع في المجتمع، مواجهة خصومه من المثقفين بمنطق البطش والقوة، لأنه يفتقد إلى تلك القوة التي لابد لها أن تستند إلى هيمنة اجتماعية وثقافية كانت غائبة عنه معظم سنوات حكمه، باستثناء ثلاث سنوات بدأت بحرب أكتوبر 1973 وانتهت كلية مع انتفاضة 18 و19 يناير 1977. لذلك كان ضروريا أن يلجأ النظام إلى أشكال جديدة ومراوغة من البطش بالمثقف الوطني، وحبس رأيه إن لم يستطع حبسه شخصيا، وتهميش خطابه.
بدأت بإجراءات لجنة محمد عثمان اسماعيل الشهيرة بفصل عدد من الكتاب والمثقفين العاملين في أجهزة الإعلام الرسمية من «الاتحاد الاشتراكي»، مما يجردهم من الأهلية للعمل في الصحف المملوكة له، وهي في حقيقية الأمر كل الصحف المصرية وقتها. وكان على رأسهم كتاب كبار بقامة يوسف إدريس ومحمود أمين العالم وغيرهم. ثم تواصلت بخلق مناخ طارد للمثقفين داخل مصر من ناحية، وفتح أبواب الخروج منها إلى المنافي والمهاجر العربية والأوروبية من ناحية أخرى، وإبعاد عدد من أستاذة الجامعة عن مناصبهم، وإفساح المجال أمام التيار الإسلامي للإجهاز بالتعاون مع الأمن على كل أشكال النشاط الطلابي الذي كان يتسم وقتها بالوطنية ورفض التبعية والولاء لمشروع الاستقلال والتحرر. لتفريغ مصر من عقلها النقدي واستمرت عبر نشر خطاب الانفتاح الاقتصادي الجديد الذي يروج للثراء السريع ويشوه كل منجزات مرحلة التوجه الاشتراكي وقطاعه العام. ثم وصلت إلى تسييد خطاب الاستسلام لمخطط العدو الصهيوني في المنطقة، وفتح سفارة له في أكبر عاصمة عربية، والتخلي عن قضية التحرر والاستقلال.
وواصل خلفه، حسني مبارك، نفس الاستراتيجيات المراوغة التي تجزل العطاء لمن يروج للخطاب المطلوب، وتهمش كل من يطرح أي تصورات مغايرة. وخاصة في العقدين الأخيرين من حكمه، فلم يعد لدى المؤسسة مشروعا يشارك فيه المثقفين، أللهم إلا مشروع مواجهة خطر ما سمي فيما بعد اغتيال السادات بالإرهاب والمتأسلمين. وبعد تحقيق الصلح مع العدو الصهيوني لم يعد لدى المؤسسة نفسها مشروعا غير محاربة أي دعاوى حقيقية للديموقراطية، والحفاظ على السلطة الشمولية بأي ثمن. لكن المؤسسة تعلمت من درس السادات الذي بدأ عهده بإغلاق المجلات الثقافية، وتحويل هيئة الكتاب إلى هيئة لطباعة ورق تغليف البضائع، وأطاح بالمثقفين، فخلق مناخا مترعا بالسخط الشعبي، فجاءت بمهندس ثقافي حاذق في شخص فاروق حسني طرح احتفاليات المهرجانات في مواجهة الثقافة الحقيقية، وعزز من قبضة المؤسسة على آلة صناعة المكانات وشراء الولاءات من منح وجوائز. وواصل استراتيجياته المراوغة التي تجزل العطاء لمن يروج للخطاب المطلوب، وتهمش كل من يطرح أي تصورات مغايرة. وخاصة في العقدين الأخيرين، وهي الفترة التي استعان فيها فاروق حسني بجابر عصفور لإدخال المثقفين الحظيرة حسب التعبير الأثير لديه.
فدور المؤسسة الرسمية في تدجين المثقف واحتوائه في زمن مبارك، أو «إدخاله الحظيرة» واستخدامه كمدافع أيديولوجي عن النظام، ومشارك في صياغة خطاب هيمنته على الواقع السياسي والثقافي والاجتماعي اتسع بطريقة غير مسبوقة. حيث انفقت الملايين على الثقافة عبر صندوقها الخاص «صندوق التنمية الثقافية». وتم اختراع استراتيجيات الإبراز والتهميش والوصول بها إلى درجات من المراوغات الجهنمية غير مسبوقة. هنا لابد من الاستشهاد بما يقوله إدوار سعيد في الفصل الخامس من كتابه (تمثيلات المثقف)، حيث يتناول العلاقة الشائكة والمعقدة بين المثقف والسلطة. بادئا الفصل بحكاية دالة يقص فيها مواجهة مع طيار سابق، شارك في حرب فيتنام، قبيل الدخول إلى قاعة للمحاضرات، ولما سأله ماذا كنت تفعل أثناء الحرب، أجاب كنت في الطيران. ولما سألة بالتحديد وماذا كنت تفعل هناك، كانت الإجابة بما دعاه سعيد باللغة المهنية الاحترافية «استهداف المكتسبات/ المقتنيات Target Acquisitions» بالطبع! وهو مصطلح يعترف سعيد أنه احتاج إلى عدة دقائق كي يفهم معناه الحقيقي. فاللغة المهنية لاتصف الفعل بقدر ما تسوغه. لأن الفعل الحقيقي ليس استهداف مكتسبات، وإنما تدمير أهداف على الأرض من بشر ومنازل. سرعان ما تحول في اللغة المهنية إلى شيء محايد بل إيجابي، لأن المفردة الانجليزية المكتسبات أو المقتنيات تنطوي على الحرص والمكسب معا، بصورة تقوم فيها اللغة المهنية لا بتقنيع الجريمة فحسب، وإنما بتحويلها إلى شيء محبب، وكأنه مكسب في لعبة.(31) هذه الحكاية الدالة يتخذها سعيد أمثولة لما يقوم به المثقف الذي يوظف طاقته الثقافية في خلق خطاب يمكن نظام يفتقر للمصداقية والمشروعية من الهيمنة على الواقع، والزج به في وهاد الهوان والتبعية. وقد أغنتني الثورة المصرية عن أن أحاول هنا البرهنة على أن الواقع المصري كان يعاني من التردي والهوان، أو عن أن النظام الحاكم فيها كان مفتقدا للشرعية. لكنها لم تغنني عن ضرورة الحديث عن بشاعة الدور الذي قام به المثقفون الذين نجح فاروق حسني، بفضل مساعده الهمام جابر عصفور، إدخالهم إلى الحظيرة في تعزيز هيمنة هذا النظام البغيض، وفي تهميش المثقف الحر والتنكيل الرمزي به.
هنا لابد من كلمات سريعة عن أهمية مجموعة المصطلحات المهمة التي بلورها عالم الاجتماع الفرنسي الكبير بيير بورديو حول مجال الانتاج الثقافي، وآليات عمله، سواء تلك التي تتعلق بالذوق أو بعمليات تخليق القيمة، أو الدور والمكانة. وله في هذا المجال مصطلحان مهمان هما رأس المال الثقافي ورأس المال الرمزي، ولكلاهما دور مهم في الحراك الذي يحكم آليات العمل في المجال الثقافي. أما رأس المال الثقافي فإنه يتعلق بمختلف المعارف الثقافية التي يراكمها المثقف، ويعتمد عليها في عمله الثقافي سواء أكان إبداعا أو ممارسة لدور، كما يتعلق بكفاءة هذا المثقف في استخدام تلك المعارف وتوظيفها وفقا لما يتمتع به من مواهب وكفاءات. وهو نوع من المعرفة المعقدة التي تتجاوز المحفوظ الثقافي وتنطوي على كل ما يستوعبه المثقف ليصبح قادرا على انتاج الثقافة، وفك شفرات نظمها الداخلية، بل والإضافة الخلاقة لها. أما رأس المال الرمزي فهو ما يراكمه المثقف من شهرة وتكريس واعتراف في الحقل الثقافي، ينهض عادة على جدلية المعرفة والاعتراف. وكما هو الحال مع رأس المال الاقتصادي الذي لايتم توزيعه بالمساواة أو بالعدل، فإن توزيعهما في المجال الثقافي يتسم بقدر كبير من عدم التكافؤ.
لكن الأمر المثير بل الخطير بالنسبة لهذين النوعين أنه يمكن تحويلهما ـ بعواقب وخيمة ـ إلى رأسمال اقتصادي، من خلال استخدامهما للحصول على مواقع متميزة في سوق التبادل الاقتصادي والسياسي. غير أن أهم ما تكشفت عنه دراسات بورديو في هذا المجال أنه لايمكن تحويل أي منهما للآخر بسهولة، فلا ايمكن لأثرى السراة أن يحول ماله الاقتصادي إلى رأسمال ثقافي أو رمزي. كما أن ازدياد رأسمال المثقف الرمزي لا يعني بالضرورة ارتفاع نصيبه من راس المال الاقتصادي، بل العكس في كثير من الأحيان. ذلك لأن بورديو يطرح في هذا المجال ما يسميه بقوانين العالم الاقتصادي المقلوبة، التي يخسر فيها الفائز كثيرا من رأسماله الرمزي كلما حول رأسماله الثقافي والرمزي إلى رأسمال اقتصادي. فرأس المال الرمزي لا يتناغم مع رأس المال الاقتصادي، فكلما زاد حظ المثقف من المردود المالي لعمله الثقافي، كلما قل حظه من رأس المال الرمزي حسب نظرية بورديو في هذا المجال. حيث أن كتابة عمل أدبي يصبح على قائمة أعلى الكتب مبيعا، ويعود بمردود اقتصادي كبير على كاتبه، يتحول في مجال الانتاج الثقافي إلى عقبة أمام تكريسه أدبيا، وبالتالي ينتقص من رأسماله الرمزي. فأجاثا كريستي مثلا تبيع أكثر من شكسبير، وأضعاف ما يبيعه جيمس جويس، ولكن رأسمالها الرمزي في المجال الأدبي ضئيل جدا بالقياس لرأسمال شكسبير أو جويس.
والواقع أن أي مثقف يحرص على أن يحصل على أكبر قدر من رأس المال الرمزي، ويراكم من أجل الحصول عليه رأسماله الثقافي وينميه. بل يواصل العمل في مجال الانتاج الثقافي ليبلور مصداقيته وشرعيته من خلال انتاجه الأدبي والثقافي. ولكنه ما أن ينتقل المثقف من مجال الإنتاج الثقافي إلى مجال العمل الثقافي حتى تزداد المسألة تعقيدا، بسبب صعوبة استقلال المثقف والتشابك المعقد بين اقتصاديات رأس المال الرمزي وعلاقات القوى الثقافية والسياسية على السواء. وغواية السلطة في هذا المجال مثل غواية الكسب السريع في السوق السوداء بالنسبة للعالم الاقتصادي، حيث يدمر مثل هذا الكسب السريع كل الأخلاقيات التي ينهض عليها النظام الاقتصادي نفسه، حتى ولو حقق لصاحبة بعض المكاسب الموقوتة.
فإذا كان رأسمال المثقف الرمزي هو رديف سمعته ومصداقيته في الواقع الذي ينتمي إليه، ويطمح للعب دور فيه. فإنه كلما كان المجتمع سليما وحرا ومفتوحا كلما كان توزيعه لرأس المال الرمزي على مثقفيه حرا وسليما مثله، وكانت رقابته على مثقفيه قادرة على حمايتهم من الزلل الثقافي والأخلاقي، ومن غوايات المؤسسة السياسية على السواء. حيث لا ينفصل رأس المال الرمزي ذاك عن موقف المثقف من مجموعة القيم والمبادئ التي تتسم بها الثقافة في كل مجتمع من المجتمعات الإنسانية، باعتبارها مستودع القيم الإنسانية الكبرى والمدافع الأمين عنها: من العدالة والحق والحرية والاستقلال والكرامة والشجاعة ... وغير ذلك من القيم. فالمثقف هو حارس هذه القيم، وهو ضمير المجتمع وترمومتر سلامته.
لذلك يقترن المثقف بقيمة أساسية تعرف بالانجليزية باسم integrity وهي كلمة احترت في ترجمتها للعربية، فليس ثمة مفردة واحدة في العربية قادرة على الإحاطة بكل دلالاتها، وتغطية كل جوانبها. لأنها تعني الاستقامة والنزاهة والكبرياء والترفع عن الصغائر وسلامة الخلق، والقدرة على تنكب مواطن الزلل، وقول الحق دون وجل. وفيها شيء من الأمانة والمثالية والفروسية أيضا. وهي الصفات التي كان يتسم بها الأنبياء وأصحاب الرسالات على مر العصور، والتي عانوا بسببها في مختلف المجتمعات. وقد ناب عنهم المثقف في مجتمعاتنا المعاصرة في حمل هذه الأمانة، وظل وفيا لهذه القيم الأخلاقية، وهو ما يجعل رأسماله الرمزي رأسمالا إنسانيا عاما عابرا للثقافات. فالقيم التي يتخلق على أساسها رأسماله الرمزي هي الأخرى قيم عابرة للثقافات وهي التي جعلت للثقافة تلك القيمة الكبرى في كل المجتمعات.
تزييف رأس المال الرمزي:
لكن ما قام به فاروق حسني، وزير ثقافة مبارك، وتابعه الهمام جابر عصفور، لم يخطر لبورديو على بال وهو يطور أفكاره اللامعة عن رأس المال الرمزي. لأنه أمر يخص عالمنا المتخلف وحده، ألا وهو ما أسميه عملية تصنيع رأس المال الرمزي الزائف، والذي يشبه تزييف العملات وإغراق السوق بها. لكن الفرق هو أن العملات المزيفة يتم كشفها واستبعادها لصرامة قوانين السوق، بينما تتكرس المكانات الزائفة ويتعزز دورها في واقعنا الثقافي العربي بلا رقيب. فكل القوانين التي استقاها بورديو لعملية تخليق رأس المال الرمزي وتبادله مبنية على المجتمعات الغربية التي تتسم بقدر كبير من الحرية والشفافية واحترام القوانين الوضعية منها والأخلاقية. أما مجتمعاتنا ذات الصبغة الشمولية العشوائية والمترعة بالفساد السياسي والاقتصادي والأخلاقي على السواء فلها قوانينها الخاصة التي تصدق مفاهيم بورديو على جانب منها، ولكنها لا تتناول الجوانب الأخرى. ففي الفترات التي اتسمت بقدر من الحرية والشفافية ووجود مشروع وطني يرود حركة الواقع المصري كان هناك قدر من المنطق ومقدار من الحرية يتخلق معهما رأس المال الرمزي وفق القواعد التي صاغها بوردييو منذ رفاعة الطهطاوي وعلى مبارك، وحتى نجيب محفوظ ويوسف إدريس، مرورا بطه حسين وعباس العقاد ويحيى حقي وغيرهم. لكن غياب تلك الحرية منذ المرحلة الناصرية وحتى اليوم، وتنامي درو المؤسسة السياسية في الحقل الثقافي أنتج مجموعة من الآليات الجديدة التي تحتاج من الدارس إلى تأملها والتعرف على طبيعة حركتها.
فمع غياب الحرية تعرض المنطق الذي تنهض عليه مقولات بورديو لكثير من الخلل الذي تنامت وتيرته خلال العقود الثلاثة الماضية.
فحينما يخفق المثقف في تحقيق رأسمال رمزي حقيقي لنفسه يجد أن السبيل السهل هو ممالأة مؤسسة السلطة وركوب آلتها الثقافية والإعلامية الضخمة، واختراع مشاريع وهمية لها مردود موقوت. ولأن آلة المؤسسة الثقافية الضخمة تسعى هي الأخرى للحصول على قدر من المصداقية في المجال الثقافي ـ خاصة لأن الوضع في الثقافة العربية له خصوصيته الناجمة عن أن المجال الثقافي العربي الأوسع هو المجال الفاعل والمبتغى بالنسبة لرأس المال الرمزي، وليس مجرد المجال القطري وحده ـ فأنها تسعى لاستقطاب مثقفين حققوا قدرا من رأس المال الرمزي في المجال العربي الأوسع، واستخدامهم لتحقيق مخططاتها، أو تبيض صورتها. وهي عملية شبيهه بعمليات تبييض الأموال المعروفة، والتي يستخدم فيها الكذب والتدليس على نطاق واسع. لكن الأمر تجاوز الآن ذلك بكثير، حيث نجد أن المؤسسة ـ وخاصة في العقدين الأخيرين ـ تسعى لإضفاء مكانات وشرعيات مزيفة على من احتوتهم من المثقفين في الوقت الذي تعزز فيه من حربها على من يتأبون على الاحتواء وتهميشهم، بل تشويه سمعتهم في نوع من عمليات الاغتيال المعنوية التي تجرى كل يوم في الساحة الثقافية.
ففي هذا المناخ المترع بأنواع شتى من الثقافة الزائفة بدأت تتخلق آليات تزييف رأس المال الرمزي، وإضفاء مكانات وهمية على من يعانون من الإملاق في هذا المجال. خذ على سبيل المثال لا الحصر بعض الأسماء التي كانت مرشحة لجائزة الدولة التقديرية التي كانت أرفع جوائز الدولة قاطبة، وحققت لنفسها قدرا من المصداقية من خلال راس المال الرمزي لمن نالوها في بداياتها من طه حسين إلى توفيق الحكيم ويحيى حقي ونجيب محفوظ .. وغيرهم. وإن جاءت المؤسسة وقد بدأت في التماهي مع شخص الحاكم نفسه في السنوات الأخيرة بجائزة تجبها وهي جائزة مبارك التي ابتدعها جابر عصفور بمباركة وزيره فاروق حسني. كيف تضم قائمة جائزة الدولة التقديرية أسماء مثل عبدالله التطاوي وعبدالعال الحمامصي ومحمد الجوادي وفتحي سلامة وعفت الشرقاوي، ونبيل رشاد صالح نوفل .. وغيرهم ممن لم يسمع بهم أي مثقف عربي؟ ولا يرشح لها محمد البساطي أو رضوى عاشور أو فاروق عبدالقادر أو سيزا قاسم أو صنع الله إبراهيم وغيرهم من الذين ينضمون إلى قائمة من حققوا رأسمالا رمزيا كبيرا بالرغم من، أو بالأحرى بسبب، أنهم لم يحصلوا على أي من جوائز المؤسسة مثل يوسف إدريس وجمال حمدان من قبلهم.
فساد المثقف وخيانة الثورة
اتسم عصر مبارك المخلوع بالانحطاط والفساد في كل المجالات، فقد عاشت مصر على مد أربعة عقود مرحلة مستمرة ومتواصلة من التردي والهوان. التردي في جميع المجالات من التعليم الأساسي والجامعي إلى الصحة والمستشفيات، ومن الزراعة إلى الصناعة والاقتصاد، ومن العمران الذي تحول إلى عشوائيات تحيط أحزمتها القبيحة بالمدن إلى المواصلات وحوادث القطارات والطرق وغرق العبارات. فقد أصبح الفساد فيه هو القاعدة وليس الاستثناء، فانهارت معه القيم واستشرى ما دعوته في دراسة سابقة بسلم القيم الاجتماعية والأخلاقية المقلوب، حيث أصبحت القيم النبيلة التي ينهض عليها ازدهار كل المجتمعات السليمة، من صدق وأمانة وعلم واجتهاد ونزاهة في قاع السلم، بينما ارتفعت القيم المنحطة من الكذب والجهل والنهب والفهلوة والصفاقة والضعة إلى قمة السلم حيث ارتفع مردودها جاها وأموالا للكذبة والانتهازيين، وترديا وانهيارا للمجتمع ككل. أما الهوان فحدث عنه ولا حرج، حيث حول النظام الساقط مصر إلى «الكنز الاستراتيجي» للعدو الصهيوني، فعاث في المنطقة فسادا. وهان شأنها حتى تجاسرت عليها بغاث الدول، وتطاولت عليها بلاد لم يكن لها مكان على الخريطة من قبل.
لذلك لم يكن غريبا أن تنحط الثقافة هي الأخرى طوال العقود الأربعة الأخيرة، كما انحط التعليم وهانت السياسة، وأن يدخل المثقفون إلى حظيرة هذا النظام الفاسد الفاقد للمصداقية والشرعية معا. وبدلا من أن ينهض المثقف بدوره العقلي والنقدي في تعزيز الوعي، وإرهاف الضمير، وقيادة مجتمعه إلى التطور والازدهار، أصبح خادما للاستبداد، ومبلورا لخطاب هيمنته المغشوش وحارسا لأيديولوجية الانحطاط، وتحول إلى أداة لأحكام قبضة السلطة الأمنية على الواقع، وانتاج خطاب تدليسي يعزز هيمنتها عليه، ويجمل وجهها القبيح. وبدلا من أن يكون المثقف ممثلا لضمير الأمة وحارسا لقيمها العقلية والأخلاقية، أصبح كلب حراسة لحماية النظام، ينقض بشراسة على من يعارضه أو يكشف عريه من المصداقية والشرعية. وينطلق بنباحه الكريه في وجه من تسول له نفسه قول الحقيقة وكشف تدليس خطابات سكان الحظيرة الفاسد.
هكذا تحول المثقف، الذي أغدق عليه النظام الفاسد الساقط أمواله ومناصبه وجوائزه المغشوشة التي تنفخ في قيمته وتمنحه رأسمالا رمزيا مزيفا أيضا، إلى تابع بائس لأجهزة الأمن التي تسيّره وتوجهه كالدمية. يتباهى بصداقته الحميمة للجلاد، ويتحول إلى كاتب تقارير تافه يلهث وراء فتات ما تقدمه له النظم الاستبدادية العربية التي استخدمته بذكاء طوال عقود الانحطاط الأخيرة. يأكل على موائدها جميعا، فقد كان أعلام نظام مبارك الثقافي هم في الوقت نفسه نجوم الجنادرية، أو ضيوف المربد، أو قناص جوائز العقيد المجنون ومبرري خطاب هيمنته، والمحللين للكتاب الأبلة، أقصد الكتاب الأخضر، ونقاد انتحار رائد الفضاء في قصص العقيد. بينما عانى المثقف الحقيقي وحراس شرف الكلمة من التهميش والحصار، لا من النظام وحده، وإنما أيضا من كلاب حراسته ممن يعتبرون أنفسهم من المثقفين. وكان المثقف الحر والمضطهد يعرف أنه يدفع ثمن خياراته، وأن مثقفي حظيرة النظام وأتباع «الوزير الفنان» يجنون أيضا ثمار اختياراتهم.
لكن المثير للحزن والسخرية، أن مثل هذا المثقف التابع البائس لم يسقط مع سقوط النظام بعد الثورة، ولم يكتف بما جناه من رأسمال رمزي أو فعلي مغشوش إبان حراسته الأيديولوجية للنظام الساقط. ويدفع بعد الثورة ثمن خياراته البائسة فينزوي بعيدا يلعق جراح خزيه. وإنما سارع بصفاقة لا نظير لها في أي مكان في العالم، للحديث باسم الثورة والدفاع عنها، والزعم بأنه كان لمرارة المفارقة، من المبشرين بها. مع أن دلائل انحطاطه تملأ «اليوتيوب» والانترنت، وأن الحبر لم يجف بعد عن آيات ملقه للنظام الساقط الكريه. وتحول خطابه المغشوش في مدح الثورة إلى العملة الردئية التي تطرد العملة الجيدة من السوق. وتبشر بضرورة استمرار الاستبداد الذي لا حياة له ولا دور إلا بخدمته. وأخذت الثورة تعاني من خطاب هذا المثقف التدليسي كما تعاني من مؤامرات الثورة المضادة عليها وفلول النظام. فهو الطليعة الثقافية الممثلة لهما معا وقد ارتدى قناعه الجديد، حسب نظرية فرانز فانون الشهيرة «جلد أسود وأقنعة بيضاء»، ولكن بعد أن زالت مرحلة الاستعمار القديم الذي تحدث عنه فانون، وأصبحنا في عصر الاستعمار الجديد الذي لم يتورع المثقف البائس عن دهان وجهه بأصباغه القبيحة.
فهذه العصابة التي استقوت بالنظام الفاسد وتمرغت في ذهبه، وظهر أبرز نجومها وقد أحاطوا برأس النظام الفاسد، مبارك المخلوع، في الصورة الفضيحة التي استهدفت الدفاع عن نظامه المتهاوي، والذين شبههم أحد الكتاب بالأحد عشر كوكبا الذين خروا ساجدين. ومع «نجوم» الصورة الفضيحة من «المثقفين» بين قوسين أيضا أقطاب الاجتماع الأشهر مع ابنه الفسل الذي كان رئيسا للجنة السياسات، والقابع الآن في سجن طرة. هذه العصابة هي التي قامت بتسويغ سياساته الخرقاء، والتي انتهت بنظامه ذخرا استراتيجيا للعدو الصهيوني، والأمريكي من ورائه. ولا يمكن بأي حال من الأحوال الفصل بين تسويغ هذه العصابة لخطاب الاستبداد وحصولها على تلك المراكز والمناصب الثقافية، ولا بين هذا الرباط العضوي بين «مثقفيها» والنظام الساقط، وبين تدهور مصر وهوانها.
لقد ارتكب كل هؤلاء المثقفين شتى صنوف الخيانة التي عددها جوليان بيندا في كتابه الشهير ذاك، ولن تفيدهم ذرابة ألسنتهم في تبرير ما قاموا به، ولازالو يبررون، ولا في التمويه على الشعب المصري، أو على الجمهور الثقافي العربي، الذي لا تنطلي عليه حيلهم مهما كانت ذرائعهم ومهاراتهم في تسويقها. فقد كانت خيانة الأمانة الثقافية، والتخلي عن الرأي النقدي العقلي الحر المستقل، من شروط دخول حظيرة «الوزير الفنان» مهندس ثقافة الانحطاط في عهد مبارك المخلوع. وكان خلع كل ما له علاقة بالقيم الثقافية أو بمستقبل مصر على باب المؤسسات الثقافية شرط دخول حظائرها والاستمتاع بعلفها الوفير. فعلى عكس تعريف بيندا للمثقف بأنه ممتلئ بثقافته وقيمه الفكرية والأخلاقية بصورة تجعله قادرا على مقاومة كل إغراء مادي، والزراية بغوايات القوة المسيطرة وسلطانها، كان أفراد تلك العصابة عبيد العطايا المالية التي أجزلها لهم النظام الفاسد المخلوع، وكانوا يلهثون وراء فتات ما يلقيه لهم «الوزير الفنان» من مناصب وسلطات. فقد كان النظام يدرك شبقهم للمادة والسلطة على السواء، بعد أن تخلوا عن الثقافة بمعناها الحق، وهي حماية لكل مثقف من تلك الغوايات. ولذلك أجزل لهم العطاء في شكل رأسمال فعلي، وصل إلى حد الملايين بالنسبة للبعض، أو رشاوى رمزية من جوائز ومناصب ونفوذ، كان يتحول دوما إلى منافع مادية، لا علاقة لها بالثقافة من قريب أو بعيد.
صحيح أن خيانات المثقفين، وخطاباتهم التبريرية وشقشقاتهم على مد العقود الماضية في تسويغ الاستبداد وإضفاء هالة كاذبة على نظام تتكشف مع الأيام فصول عمالته البشعة للعدو الصهيوني، لم تنطل على الشعب المصري، ولم يقتنع شبابه على الخصوص بأي من كتاباتهم وممارساتهم في تبرير الانحطاط وتسويغه. وقام الشعب بثورته العظيمة مناديا بإسقاط النظام الفاسد والمهين لمصر ولتاريخها وثقافتها. فكيف يمكن إسقاط النظام والإبقاء على عصابته الثقافية؟ وهل باستطاعة أي من رموز تلك العصابة أن يساهم في بناء ثقافة جديدة جديرة بثورة شعبنا العظيمة؟ صحيح أن قدرتهم على التلون عجيبة وذرابة ألسنتهم غريبة. فهل هذا هو السر في الإبقاء على كل هذه الرموز المنحطة في مواقعها؟ صحيح أنهم خدّام طيعون لكل نظام، فهل ما يطمح إليه النظام هو الإبقاء عليهم وتمكينهم من إجهاض الثورة والإجهاز عليها من الداخل؟ هل هذا هو ما يطمح الأمين الجديد للمجلس الأعلى للثقافة إلى تحقيقه؟ هذه أسئلة أتركها مفتوحة في نهاية هذا المقال: فقد نعود إليها في مقالات قادمة لأن مصيبتنا في الثقافة كبيرة وفادحة.
هوامش
(1) راجع في هذا المجال كتاب أندرسن الشهير Benedict Anderson, The Imagined Community: Studies in the Origin and Spread of Nationalism (London, Verso, 1982).
(2) راجع إدوار سعيد تمثيلات المثقف، وكل الصفحات التي سيشار إليها في البحث بعد ذلك هي من الطبعة الإنجليزية Edward Said, Representations of the Intellectual: The 1993 Reith Lectures (London, Vintage, 1994), p. 5
(3) راجع دفاتر السجن، وهي مجموعة ضخمة من كتاباته في السجن تقع في 2848 صفحة، صدرت ترجمتها الكاملة بالانجليزية مؤخرا، لكني أعتمد هنا على أولى ترجماته الانجليزية بعنوان (مختارات من دفاتر السجن) Antonio Gramsci, Prison Notebooks: Selections, ed. Quintin Hoare and Geoffery Nowell-Smith (London, Lawrence & Wishar, 1971), p. 8.
(4) المرجع السابق (مختارات من دفاتر السجن)، ص 3
(5) راجع Attilio Monasta, “Antonio Gramsci” Prospects: the quarterly review of comparative education, (Paris, UNESCO: International Bureau of Education), vol. XXIII, no. 3/4, 1993, p. 598.
(6) جرامشي، (مختارات من دفاتر السجن) ص 12.
(7) المرجع السابق، ص 3.
(8) المرجع السابق، ص 9.
(9) بمعنى أننا إذا أخذنا نظام مبارك المخلوع كمثال في هذا المجال، سيمكننا أن نفهم أهمية سعي فاروق حسني (وزير الثقافة) في إدخال المثقفين التقليديين إلى حظيرته سيئة الصيت، وأهمية الدور البارز الذي لعبه مثقف كان لديه بعض المصداقية مثل جابر عصفور (أمين المجلس الأعلى للثقافة) في إدخال المثقفين الذين استعصوا علي الاحتواء قبله إلى تلك الحظيرة. كما سيمكننا أن نضع كل ما كانوا يعرفون بأعضاء لجنة السياسات من المثقفين العضويين للنظام الساقط من دور مهم في خلق الشريحة الأخر من المثقفين العضويين الجدد للنظام الساقط.
(10) أنطونيو جرامشي، (مختارات من دفاتر السجن) ص 10.
(11) راجع قصي الحسين، (اركيولوجية الفساد والسلطة: في النصوص الأدبية والمدونات العربية)، بيروت، دار البحار، 2009.
(12) طه حسين، (الفتنة الكبرى: عثمان)، القاهرة، دار المعارف، د. ت. ص 110.
(13) المرجع السابق، الصفحة نفسها.
(14) المرجع السابق، ص 111.
(15) المرجع السابق، ص 112.
(16) أنساب الأشراف للبلاذري، ص 46 طبع القدس. والمقتطف مأخوذ عن المرجع السابق، ص 129 – 130.
(17) طه حسين، (الفتنة الكبرى: علي وبنوه) ص 57.
(18) طه حسين، (الفتنة الكبرى: عثمان) ص 198.
(19) طه حسين، (الشيخان)، القاهرة، دار المعارف، ص 51.
(20) المرجع السابق، ص 52.
(21) المرجع السابق، ص 201.
(22) المرجع السابق، ص 203 – 204.
(23) راجع قصي الحسين، المرجع السابق، ص 147، وقد أخذه عن شهاب الدين الخفاجي (شفاء الغليل)، بيروت، لبنان، 1987، ص 287.
(24) المرجع السابق، وابن منظور (لسان العرب) مادة خيس.
(25) راجع قصي الحسين، المرجع السابق، ص 13.
(26) راجع طه حسين (الفتنة الكبرى: علي وبنوه) ص 61 – 62.
(27) المرجع السابق، ص 100.
(28) راجع قصي الحسين، المرجع السابق، ص 10.
(29) المرجع السابق، نفس الصفحة.
(30) للمزيد من التفاصيل حول دور هنري كسينجر في هذا التحول راجع كتبه الثلاثة التي كتب فيها مذكراته في البيت الأبيض، Henry Kissinger, white House Years, Years of Upheaval and Years of Renewal وراجع أيضا كتاب محمد حسنين هيكل الأخير (مبارك وزمانه) الذي نشر 2012.
(31) إدوار سعيد، (تمثيلات المثقف) ص 63.