يتناول الكاتب الآراء النقدية والأدبية في نظرية الشعر التي تعقد الصلة بين الشعر والتصوف، ويرى أن السرغيني أدرك قيمة التراث الصوفي إدراكاً يقوم على الاسترفاد منه دون استلهام نماذجه، فنص كتابته لا شكل له، ويصعب على التقعيد للحركته الدائمة في الكشف.

الشاعر محمد السرغيني وغواية التراث الصوفي

عبد الرحيم عوّام

أحس الشاعر المعاصر بغنى التراث الصوفي وثرائه، لأنه يحفل بإمكانات فنية ومعطيات ونماذج تستطيع اْن تمنح القصيدة المعاصرة طاقات تعبيرية لها من القدرة على الإيحاء والتأثير في وجدان المتلقي، لما اكتسبته من القداسة والحضور الدائم. وعودة الشاعر إلى هذا المعين الثر، تأكيد للصلة التي تربط الشعر بالتصوف. ويعزو الدكتور محمد بنعمارة هذا الرجوع الى عدة أسباب تمثلت في:

- التشابه القائم بين التجربتين الشعرية والصوفية، من حيث الرغبة في الاتحاد بالكون والارتباط بالوجود. وهو ما يجعل الصوفي والشاعر في حاجة الى طبيعة بعضهما البعض، فالمتصوف يحتاج الشعر ليعبّر عن أحواله وتجربته الإلهية، والشاعر يستمد من التصوف مادة لشعره.

- إحساس الصوفي والشاعر بقصور اللغة العادية وميلهما للإشارة والإيحاء بالرمز.

- الهروب من سلطة الواقع والحس والعقل، والإنطلاق بحرية دون قيود تحدّ من رؤية العالم والأشياء.

- الإبداع الشعري هو البؤرة التي تجمع الصوفي والشاعر للتعبير عن معاناتهما وخلاصهما الشخصي(1).

وقد ذهب د.علي عشري زايد إلى تفسير العلاقة بين الشعر والتصوف، فوجدها قائمة التماثل والتشابه، وذلك في قوله بأن: "الصلة بين التجربة الشعرية –خصوصاً في صورتها الحديثة التي يغلب عليها الطابع السرياني– وبين التجربة الصوفية جد وثيقة، وتتجلى في ميل كل من الشاعر الحديث والصوفي إلى الاتحاد بالوجود والامتزاج به"(2).

ويرى الشاعر محمد السرغيني أن العلاقة بين الشعر والتصوف قديمة: "إذ أن كثيراً من المتصوفة المسلمين أثر عنهم شعر، أو كانوا شعراء لهم دواوين، كابن عربي والحلاج وابن الفارض والششتري، وهذا حتى بالنسبة إلى المتصوفة المسيحيين كالقديسة طريسا الأبيلية(...) وكذا المتصوف المسيحي يوحنا الصليبي(...)، وهذا أيضاً حتى بالنسبة إلى الشاعر اليهودي أبينصور المتصوف الفاسي..."(3).

ويلتقي الشعر والتصوف أيضاً، من حيث كونهما تجربة تمتاز بالجد والإرتقاء عن تفاهة اليومي والمألوف، وتجاوز الواقع عبر التضايف بين "رمزية الشعر ودينامية العلاقة بين الألوهية والإنسانية"(4).

وليس غريباً أن نجد الشعراء المعاصرين يهتمون بالبحث عن "رابطةعضوية" بين الشعر والتصوف، حيث يعترف إليوت في كتابه "وظيفة الشعر ووظيفة النقد"، بأهمية هذه المرحلة الدينية التي سارت في طريقها التجربة الصوفية بقوله: "إن هناك صلة قوية بين التصوف وبعض ألوان الشعر، ولا يتحتم أن تكون هذه الصلة صلة فكرية، بل قد تكون صلة سيكولوجية بحثة"(5).

ولعل الدافع الذي جعل إليوت يعتبر نزوح الشعراء المعاصرين إلى التصوف تحدوه دوافع سيكولوجية، هو التشابه بين معاناة المتصوف والشاعر المعاصر وممارستهما الواعية. ويزكي هذا الرأي د.إحسان عباس الذي يرى أن اتجاه الشعر الحديث إلى التصوف هو مستوى من القوة بما يجعله أبرز سائر الاتجاهات فيه. وربما يكون اليأس الذي غلب على بعض الشعراء وخيبات الأمل، التي أصابتهم في طموحاتهم الوطنية والتقدمية عامل غذى الاتجاه الصوفي في شعر الحداثة العربية، وربما يكون هذا الاتجاه محاولة للتعويض عن العلاقات الروحية، والصلات الحميمية التي فقدها الشاعر وتلطيفاً من المادية الصلب الخشن(6).

أما أدونيس فيرى في سياق بحثه عن علاقة الشعر بالفكر، أن نصوص الشعراء والمتصوفة، تخترق النظم المعرفية وتنظيراتها، حيث تحقق في بنيتها وفي رؤيتها "علاقة عضوية بين الشعرية والفكرية"، وتفتح أمامنا بحدوسها واستبصاراتها "أفقاً جمالياً جديداً، وأفقاً فكرياً جديداً"(7).

وهذا الأفق الفكري الذي يفتحه النص الصوفي في وجه النص الشعري المعاصر، هو انطلاقة نحو المجهول واللامرئي بحثاً عن المعرفة الحقيقية من خلال الحدس والرؤى والكشف، وهذه عناصر انعكست على تجربة الابداع بما يتجانس معها، فاتسعت رؤيتها وضاقت عبارتها ليخرج نصاً ذا تقنية كتابية غريبة معقدة تحاول كشف الواقع وتعريته.

وهذا ما نلمسه عند الشاعر محمد السرغيني الذي تحول نصه الشعري إلى عتبة لما يظل غير معروف ويدعوه إلى معرفته، وكأنه يقول: أعلم أنني لا أعلم، فيدخل في مغامرة التعبير –عما يرفضه العقل والمنطق- باللغة التي تدخل في علاقات كلها رموز وإشارات وإيحاءات لا تفهم بالعقل وحده، ولن يمكن فهمها تأويلاً. فهي شعرية تحاور الفكر عبر محاورة اللغة، مما يحررهما معاً من الوظيفة والعقلانية.

لقد نظر إلى التراث الصوفي على أنه كيان له أبعاده الفكرية والإنسانية، وأحس أن عليه أن يعي هذا التراث ويتفهمه ويدركه من خلال الإحساس بالمعنى الإنساني فيه أو ما عبر عنه بقوله "استكناه الباطن الإنساني"(8)، وذلك استوجب منه قراءة ذلك التراث من زاوية معاصرة يربط فيها الماضي بالحاضر، لاستيعاب الوجدان الإنساني من خلال حضارة العصر وتحديد موقفه الشعري منه كإنسان معاصر.

فبماذا يمكن تفسير عودة الشاعر محمد السرغيني للتراث الصوفي لتحديث تجربته الشعرية؟ هل هي حاجة نفسية أملتها طبيعة الظروف التي عاشها الشاعر من تحولات سياسية واجتماعية؟ أم هي حاجة فكرية دفعته لفتح أفق جديد يوسع دائرة رؤاه؟ الواقع أن شاعرنا قد أدرك قيمة التراث الصوفي إدراكاً يقوم على الاسترفاد منه دون استلهام نماذجه لأن "التكرار في الشعر لا نفع منه،على الصعيد الفني، ولا بقاء له"(9). إضافة إلى كون الشعر يحيا بقوة الدفع في التراث الصوفي من جهة، ومن جهة أخرى يمكن اعتباره ملجأً زمنياً ثابتاً ضد الحاضر المادي المتحول والمتماوج، وضد الواقع المزيف.

وقد عبر عن انتمائه إلى مبدعين منوها بهم، وإن لم يعاصروه، هؤلاء هم "الدعاة ورثة المعرفة. الدعاة الساهرون على رعاية شؤون العالم.الدعاة الإشعاعيون المكلفون بإدماج كواكب ما فوق العالم في العالم. الدعاة المتشبثون بالقلم واللوح والحبر واللغة من أجل صوت العالم. الدعاة اللاجئون إلى الفوروم الضيق، وفي الفوروم الضيق رحابة العالم.. أبو حيان التوحيدي، ابن عربي الحاتمي، محمد بن عبد الجبار النفري (....)(10)، فالشعر عنده صيرورة فاعلة سرمدية دون تغيير، يبتعد عن العابر والموسمي الذي يتلاشى، ويدخل في دائرة النفي، ولذلك يكتب ومن ورائه الماضي واْمامه المستقبل، وبين الماضي والمستقبل تنشأ الكتابة تعبيراً عن الحالات والأوضاع الثقافية والإنسانية الراهنة، بحيث لا يزول فعلها لزوال الظروف التي كانت سبباً في نشوئها.

والكتابة عنده فعل مبيّت يتجاوز الشكل، لأن الشكل تقييد، وهي خاصية استمدها من الكتابة الصوفية، وخاصة من ابن عربي، كما استمد من النفري المناورة في إنتاج الدلالة: "يا ابن عبد الجبار النفري –أيها السائل بالأجوبة عن الأسئلة– أيها المجيب عن الأجوبة عن بالأسئلة"(11).

ومن شعرية هذه الكتابة: التكثيف في المعنى والاعتماد على الرمز والايحاء، لأنهما مصدران خصيبان للتعرف على العالم، مركوزان في الجملة التي تحاول الانفتاح على المكنونات الأخرى المحيطة بنا. والرمز والإيحاء من ميزات الفكر الصوفي الذي تسوده سلطة الفعل، والفعل وحده الموصل إلى الغاية والغاية لا نهائية.إذن فالفعل لانهائي.

هكذا يتحول النص السرغيني إلى نوع من الكتابة التي لا شكل لها، شأنه شان الكتابة الشعرية الصوفية. هذه الكتابة "ليست أدباً بالمعنى المصطلح عليه، وإنما هي نوع آخر يصعب تحديده وتقعيده، فهذه الكتابة حركة دائمة من اكتشاف ما لا ينتهي، تتضمن هدماً مستمراً للأشكال، فهي لا تستقر في الشكل..."(12).

 

أستاذ باحث.

الهوامش:

1- الأثر الصوفي في الشعر العربي المعاصر، د محمد بن عمارة، شركة النشر والتوزيع المدارس، البيضاء، ط2001-1422-ه. ص160-159.

 -2استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، د علي عشري زايد، منشورات الشركة العامة والتوزيع والإعلان، طرابلس، ط1، 1986، ص105.

 -3مجلة نزوى، ع36، أكتوبر 2003 شعبان 1424ه، ص.168

4- الأثر الصوفي في الشعر العربي المعاصر، ص161.

-5 استدعاء الشخصيات التاريخية، ص.106

-6 اتجاهات الشعر المعاصر، إحسان عباس، دار الشروق، بيروت، لبنان، ط2، 1992، ص.161

-7 الشعرية العربية، أدونيس، دار الآداب، بيروت، ط1، حزيران (يونيه) 1985، ص60-61.

-8 حوار د. محمد السرغيني لجريدة الاتحاد الاشتراكي،.ع6232، الجمعة الأول من شتنبر2000.

-9زمن الشعر، أدونيس، دار الفكر، ط5، 1976 (1406هـ)، ص36.

10- وصايا ماموت لم ينقرض، د محمد السرغيني، منشورات جامعة سيدي محمد بن عبد الله، سلسلة إبداع، ص116.

-11 نفسه.

-12 الشعرية العربية، ص.78