تكشف الباحثة الجزائرية عن أحد الأسس المنهجية الأساسية التي اعتمد عليها الباحث المرموق عبدالوهاب المسيري في دراساته المهمة عن اليهودية والصهيونية، وتقيم علاقة تناظر واختلاف بين فهمه للنموذج كمنهج للتحليل، وبين نظريات غربية نظرت بدورها للنموذج في العلوم الطبيعية والاجتماعية على السواء.

النموذج باعتباره منهجا في التحليل

عند عبد الوهاب المسيري

ليندة صياد

يرجع الأصل اللغوي لكلمة نموذج إلى المصطلح اليوناني PARADEIGMA ويعني "مثال الشيء" وقد وظف مفهومه العام في علم الاجتماع بمعنى نموذج التفكير والمعتقد الذي يفرض على كل فرد ينتمي إلى جماعة معينة. كما استعمل أفلاطون هذا المصطلح على أنه المثال الأصلي وتعتبر الأشياء صورا له.(1) ومن أجل تحقيق أهداف المنهج التفسيري الاجتهادي يتبنى المسيري النماذج بوصفها أدوات تحليلية. ويعرف النموذج بقوله: «هو بنية تصويرية، يجردها العقل البشري من كم هائل من العلاقات والتفاصيل والوقائع والأحداث، فيستبعد بعضها لعدم دلالتها (من وجهة نظـر صاحب النموذج) ويستبقي البعض الآخر، ثم يرتبها ترتيبا خاصا وينسقها تنسيقا خاصا بحيث تصبح (من وجهة نظره) مترابطة بشكل يماثل العلاقات الموجودة بالفعل بين عناصر الواقع.»(2)

وما يمكن استخلاصه من هذا التعريف أن النموذج عملية عقلية تقوم على التجريد والانتقاء وتؤدي إلى تكوين خريطة إدراكية يحملها الإنسان في عقله ووجدانه، وقد تشكلت من خلال ثقافته ومنتجات حضارته، وكذا حياته الخاصة، فبعد عملية التجريد؛ وتتم بشكل واع وفي غالب الأحيان بشكل غير واع، يقوم بإهمال وتهميش بعض الحقائق والعلاقات، والاحتفاظ بالبعض الآخر، باعتبارها أكثر دلالة وأهمية، وهنا تظهر التحيزات الكامنة.(3) واستخدام النماذج أمر حتمي وضروري في عملية الإدراك؛ لأن الإنسان لا يدرك الواقع بشكل مباشر وآلي، بل من خلال النماذج الإدراكية الكامنة في الظواهر الاجتماعــــــية وقوانينها، وكذا في النصوص التي يقرؤها أو يكتبها، لهذا تتمثل مهمة الباحث في اكتشاف سمات النموذج المهيمن في مجتمع أو حضارة ما.(4) والنماذج الإدراكية تسمى أيضا نماذج معرفية لأن: "لكل نموذج بعده المعرفي، وخلف كل نموذج معايير داخلية، تتكون من معتقدات وفروض ومسلمات، وإجابــات عن أسئـلة كلـــيـة ونهائية، تشكل جذوره الكامنة وأساسه العميق، وتزوده ببعده الغائي".(5)

 ومن أجل تحليل سلوك الإنسان وتفسيره، يجب بداية معرفة النموذج الإدراكي الذي يحدد إدراكه لواقعه، ثم بعد ذلك يتم تجريده لتوظيفه في تفسير سلوكه، وهذا ما يعـرف بالنمـوذج التحليلي. فالباحث يستخدم النموذج كأداة تحليلية، من خلال رصد الحقائق والمعلومات، ثم يقوم بعد ذلك بتفكيكها والربط فيما بينها ، ثم تجريدها وتركيبها بغية وضع المتشابه منها في إطار واحد. والنموذج التحليلي يعبر عن وجود علاقة بين الذات والموضوع ، حيث يمثل الرصد وتلقي المعلومات، الجانب الموضوعي، أما التجريد والتركيب فيمثلان الجانـب الذاتـي والاجتهادي الذي لا يمكن فصله عن الخيال والقيم والتحيزات. لكن ليس هناك تطابقا بيـن النموذج والواقع، فعندما يتبيَن عجز النموذج عن تفسير الواقع، لابد من تعديله لزيادة مقدرته التفســيرية، وهذا يـؤدي إلى تكوين علاقة حلزونيـة بين النمــوذج التحليلي والواقع.(من الواقع إلى العقل ومن العقل إلى الواقع).(6) إذن فالنماذج التحليلية تمثل إنتاجا إبداعيا ذاتيا، هدفه توضيح الواقع بشكل أعمق. وكذا تكوين رؤية كلية للظواهر والأفكار عن طريق الربط بين العديد من التفاصيل والأحداث المتــــــفرقة ومن ثم الربط بين العام والخاص، المجرد والمتعين، الذاتي والموضوعي. وهي كذلك وسيلة للابتعاد عن الموضوعية المادية المتلقية والكشف عن تركيبة الواقع والظاهرة الإنسانية. وفكرة النماذج استمدها المسيري من منهج دراسة العمل الأدبي، حيث يقوم الناقد بالربط بين الصور المتناثرة في أجزاء النص، ثم يجرد منها نمطا أساسيا، أو وحدة كامنة وراء التنوع والتفاصيل، حتى يصل إلى الموضوع المباشر الظاهر (Subject).

 لقد مكنته قراءاته في أعمال الناقد الأمريكي "ماير أبرامز" Meyer Abrams ، خاصة كتاب "المرآة والمصباح" الذي قدم من خلاله تاريخا للنقد الأدبي الغربي، انطلاقا من موضوعات أساسية ثم يربطها بتاريخ الأفكار. بالإضافة إلى أعمال الناقد الأدبي "رينيه ويليك" René Welelk الذي كان يبحث دائما عن وحدة ما وراء التفاصيل الفكرية والنقدية التي يقدمها. كما أن فكرة النموذج قريبة في معناها من مصطلح النمط المثالي (Ideal Type) الذي استخدمه "ماكس فيبر" كأداة تحليلية.(7) والنمط المثالي ليس قانونا علميا، وإنما هو أداة تحليلية "تهدف إلى عزل بعض جوانب الواقع وإبرازها، حتى يتسنى إدراكها بوضوح، ومعرفة أثرها في الواقع ، أي أنه حين يقوم الباحث بصياغة نموذج ما ، فإنه يتصور أنه بمثابة صورة مصغرة تتطابق مع العلاقات التي تشكل بنية الظاهرة موضع الدراسة والتحليل وتعطيها خصوصيات."(8)

 والمقصود بذلك أن المنهج الذي اعتمده ماكس فيبر يرتبط أساسا بنسق اجتماعي معين، وبالظروف والمشكلات الاجتماعية الملموسة، مستبعدا بذلك المفاهيم النظرية التي يستخدمها علماء الاجتماع. لهذا فالنماذج ليسـت غاية مطلقة ولكنها أداة لفهم الواقع الاجتماعي وتفسيره. وتتمثل الغاية المنشودة في تكـوين نظرة كلية تفسر العلاقات التي تربط بين مختلف جوانب الظاهرة وبالتالي تفهم الظاهرة الإنسانية باعتبارها ظاهرة مركبة وليست ظاهرة بسيطة وجزئية.(9) إلا أن المسيري لم يحصر النماذج التفسيرية في طابعها النظري بل عمل على تفعيلها وتطبيقها عند دراسة الظاهرة اليهودية من سياقات مختلفة (اجتماعية واقتصادية وسياسية ودينية) ولم يكتف بالبحث التاريخي والمصادر الدينية. ومن خلال بحثه العميق المؤسس على فكرة النموذج التحليلي توصل إلى نتائج قابلة للتطبيق ومن بينها: ضرورة التخلص من الربط بين اليهودي وكل الظواهر السلبية، باعتبارها مصدرا للشر، بل يجب البحث عن الأسباب التي أوجدت هذه السلبيات وربطها بالحضارة الغربية. وكذلك النظر إلى اليهودي في تركيبيته الإنسانية لمعرفة مواطن ضعفه وقوته.(10)

 لهذا حاول المسيري في المجلد الأول من الموسوعة طرح معالم المنهج الجديد الذي يصلح لدراسة الظواهر الإنسانية، ويمكن تطبيقه على حالات مختلفة. وهو منهج تفكيكي استخدمه لتحليل العقيدة اليهودية انطلاقا من كتبها المقدسة، ومراجعة المفاهيم المتداولة، بهدف الكشف عن التناقضات الداخلية في النص. حيث يذهب إلى أن العقيدة اليهودية ليست كيانا عضويا متجانسا، فتصور اليهود للإله مثلا يختلف من مصدر إلى آخر، ومن فترة إلى أخرى. ولذلك فهناك رؤيتين للإله مختلفتين، إحداهما توحيدية، والأخرى حلولية وثنية. ولقد تم تسجيلهما في العهد القديم رغم تناقضهما الواضح. وهذا ما يسميه المسيري بالتركيب الجيولوجي للعقيدة اليهودية. وهكذا يصل إلى وضع مصطلح بديل هو "العقائد اليهودية" (بدلا من مصطلح العقيدة اليهودية) لأنه أكثر تفسيرية ومطابقة للواقع. وطبق المنهج نفسه على معظم المصطلحات اليهودية والصهيونية، مثل "الهوية اليهودية"، "التاريخ اليهودي"، "الشعب اليهودي".(11)

وحتى يكون مفهوم النموذج عند المسيري واضح الدلالة متميزا عن غيره من المفاهيم الأخرى المتشابهة "كالنظرية" و"الإطار المرجعي" و"البارادايم"، فضَلنا تحديد الخصائص المرتبطة بمفهوم النموذج عند المسيري أولا ثم الفرق بينه وبين المفاهيم المشابهة له. تعتبر النماذج المعرفية الإدراكية والتحليلية لدى المسيري طريقة يعتمدها الباحث لتفسير الظواهر الطبيعية أو الإنسانية وهي تتفرع إلى نموذج اختزالي ونموذج مركب.

1- النموذج الاختزالي: ويسمى كذلك النموذج البسيط، والنموذج المغلق، والنموذج الواحدي، والنموذج الموضوعي المادي (المتلقي)، ويتجه نحو اختزال العالم إما إلى عنصر واحد (مادي أو روحي) أو إلى عدة عناصر (عادة مادية) بسيطة. ويستبعد فاعلية الإنسان ككيان حر، مسؤول ، مبدع ويرده إلى ما هو دونه (الطبيعة / المادة) وبالتالي يلغي كل الخصوصيات والثنائيات وأشكال التنوع، والرؤية المعرفية الكامنة في هذا النموذج تعتبر عقل الإنسان متلق سلبي ، يسجل بشكل آلي معطيات العالم الخارجي. والسمة الأساسية للنماذج الاختزالية هي استبعادها التركيبة الإنسانية تماما، وكذلك اعتبارها دور الإنسان ثانويا.(12)

2- النموذج المركب: ويسمى أيضا "النموذج المنفتح" ، و"النموذج التعددي" ، و"النموذج الفضفاض" (ويقابل النموذج الاختزالي)، ويضم عناصر متداخلة مركبة، وانطلاقا منها يتم إدراك الواقع الخارجي من غير اختزال عناصره المتعددة المكونة له (المادية والروحية، المثالية والواقعية، المعلومة والمجهولة)، وفي إطاره لا يمكن اختزال المسافة بين الخالق والمخـــــــــلوق، وبين الإنســــــــــــــان والطبيعة، لوجود علاقة تفاعل وتكامل غير عضوي بين عنصري كل ثنائية. كما لا يمكن القضاء على باقي الثنائيات الفضفاضة مثل (كل/ جزء، عام/ خاص، ذات/ موضوع، محدود/ ولا محدود.) لأنها صدى للثنائية الكلية والنهائية (خالق/ مخلوق). ويعتبر الإنسان في هذا النموذج جزء لا يتجزأ من الطبيعة، ولكنه متجاوز لها، ولا يرد في كليته إليها. حيث تنبع بعض جوانب فكره من واقعه (المادي الطبيعي أو الإنساني) والبعض الآخر من فكره، نابع من ذاته (الربانية الإنسانية غير الطبيعية) المتجاوزة لذاته المادية والطبيعية.(13)

والنموذج المركب يعتبر المعرفة ممكنة، وبالتالي يمكن الوصول إلى الحقيقة، لكن ليس إلى اليقين المطلق أو التفسير النهائي (فالمعرفة تكون في حدود إمكانيات الإنسان أما الحقيقة المطلقة والعلم المطلق، عند الله وحده) وهو ما يؤدي إلى صياغة نظرية شاملة، حاكمة، كبرى، تحمل في ثناياها رؤية للكون، وللأمور المعرفية الكلية والنهائية. ويعبر عنها كذلك بالنموذج الكامن وراء كل الظواهر. ووجود النظرية الكبرى أمر ضروري في كل مجتمع حتى لا يلجأ الباحث أثناء بحثه إلى صياغة أفكاره في إطار المقولات التفسيرية الكبرى لمجتمع آخر أجنبي عنه. لكن لا يفهم من هذا أن النظرية قانون عام يسري على جميع الظواهر بشكل حتمي، لأن التاريخ لا يأخذ مسارا ثابتا، ولا يتطور بنفس الطريقة في كل المجتمعات، لهذا تستعمل فكرة الأنماط التاريخية المتشابهة لفهم مسارات التاريخ المختــلفة،(14) وهــــــذا ما يعـــرف "بالمتتالية النمــاذجية" وهي«رؤية تصورية يجردها عقل الإنسان من الوقائع والظواهر... وهي ترصد الظواهر لا في تكونها، وإنما في نموها وتطورها عبر حلقات مختلفة».(15) أما "اللحظة النماذجية" فهي عكس المتتالية النماذجية حيث تكشف عن عدم إمكانية تحقيق النموذج بشكل كلي في الواقع، ولكن توجد لحظات نادرة يقترب فيها النموذج من حالة التحقق الكــــــامــــــل." مثـــــــــلا اللحـظة النـازيـــــــة أو الصهيونية التي يظهر فيها العالم والإنسان بحسبانهما مجرد مادة توظَف."(16)

إذن من خلال ما سبق نستنتج أن النموذج المعرفي عند المسيري يرتكز على مبدأ أساسي هو فكرة المرجعية أو الإطار المرجعي، والمقصود به: «الفكرة الجوهرية التي تشكل أساس كل الأفكار في خطاب ما، والركيزة النهائية الثابتة له التي لا يمكن أن تقوم رؤية العالم دونها. والمبدأ الواحد الذي ترد إليه كل الأشياء وتنسب إليه، ولا يرد هو أو ينسب إليها»(17). وهناك نوعان من المرجعيات: المرجعية النهائية المتجاوزة (نابعة من رؤيته التوحيدية) «هي التي ترتكز إلى نقطة خارج عالم الطبيعة والمادة والحواس الخمس، وهي في النظم التوحيدية الإله الواحد المنزه عن الطبيعة والتاريخ، الذي يحركهما ولا يحل فيهما، ولا يمكن أن يرد إليـهما».(18) والمرجعية النهائية المتجاوزة تمثل مرجعية النموذج المركب. والمرجعية النهائية الكامنة «هي التي ترتكز إلى نقطة داخل العالم، ومن ثم فالعالم يحوي داخله ما يكفي لتفسيره دون حاجة إلى اللجوء إلى أي شيء (رباني أو إنساني جوهري) خارج النظام الطبيعي ... فلا يوجد سوى جوهر واحد في الكون، مادة واحدة يتكون منها كل شيء وتصبح الطبيعة/ المادة هي المرجعية الوحيدة النهائية».(19) وهذه المرجعية هي في الأساس مرجعية النموذج الاختزالي الذي يختزل الواقع إلى عناصر بسيطة وهي في الغالب عناصر مادية.

إذا كان الهدف من النموذج هو قراءة الواقع المتغير والمتشعب الجوانب، وإدراك الوحدة الكامنة وراء التنوع، فإن هذا الأمر ليس سهلا إذا ما ارتبط بالنموذج الحضاري حيث تكـون الاتجاهات والأبعاد الحضارية غير مدركة من الناحية المادية، فهي كامنة في الواقع داخل تفاصيل متعددة ومتشابكة، ولذلك يكون التعميم أقل يقينا وأكثر خلافا مقارنة بالتعميم المبني على العناصر الاقتصادية والاجتماعية. ورغم كون النموذج الحضاري متأصلا في وجـدان الأفـراد- حتى يصبح خريطتهم الإدراكية- فلا يعني هذا انتفاء الحرية عن الإنسان وبالتالي عدم تحمله مسؤولية أفعاله، بل الحقيقة خلاف ذلك فهو يعارض ويقدم البدائل، لأنه أكثر تركيبا وعمقا من النماذج المعرفية التي يؤمن بها.(20) ومن بين المفاهيم المتصلة بمصطلح النموذج هو مفهوم النظام المعرفي الذي اعتبر هدفا سعى المعهد العالمي للفكر الإسلامي إلى تحقيقه من خلال تقديم ندوات وأوراق عمل لتحديد مفهومه ومجاله، وطبيعته وأبعاده. ومن بين الإسهامات المقدمة لتوضيح مدلول النظام المعرفي، هو تعريف الدكتور"فتحي حسن ملكاوي" حيث يقول: «هو منظومة من الأفكار التي يعطي تكاملها رؤية كلية وفهما شموليا للكون والحياة والإنسان».(21) وإذا تأملنا في معاني هذا التعريف فإننا نجدها لا تختلف عن مفهوم المرجعية عند المسيري، إذ تمثل مسلمات النموذج الكلية التي تجيب عن الأسئلة الكلية والنهائية حول الله، الطبيعة والإنسان. أما المعرفة التي يكتسبها الإنسان فلا تكون منفصلة عن إطار النظام المعرفي الذي تنتمي إليه، والدليل على ذلك قوله: «أما المعرفة، فإنها تأخذ دلالاتها وأهميتها من تلك الرؤية الكلية التي تحكم فهم الإنسان لنــــفســـــــــه وموقــــــــعـه في الكـــــون، والغرض من حياته، وطبيعة المعرفة التي يكتسبها من المصادر المختلفة وتؤثر بطريقة مباشرة في منهجية تفكيره وتحدد أنماط سلوكه ونشاطه العقلي والعملي». معنى هذا أن سلوك الإنسان ليس استجابة عفوية مؤثرات خارجية، بل هو ناتج عن البناء العقلي والمعــــرفـــي للإنســـــــــان والذي تشكل انطلاقا من النظام المعرفي الذي يتضمن عوامل ثقافية وحضارية.(22)

 لقد اقترن مصطلح النموذج القياسي (البرادايم Paradigm) بتوماس كون (*)Thomas Kuhn (1922 – 1996) حيث يرجع إليه الفضل في وضع دلالة اصطلاحية حولته إلى مفهوم علـمي فـي إطار فلسفة العلم، بعدما كان في الاستعمال اللغوي يُعتمد في تصريف عدد كبير من الأفعال اللاتينية حيث ينظر إليه كأصل يمكن استنساخ نماذج أخرى منه. أما في العلم فهو على، العكس إذ لا يكون النموذج قابلا للاستنساخ والتكرار.(23) ويعرف" توماس كون" النموذج المعرفي «بأنه مجموعة من المعتقدات، والقيم والخطط (التكنيك) المرتبطة بأفراد المجتمع العلمي».(24) كما وظف كون مصطلح "النموذج" بوصفه مصطلحا عاما، لأن العلم في فترة من الفترات يحقق ارتباطا كليا بين نظريات مختلفة، مما يجعل جماعة من العلماء في عصر معين تشترك وتتفق حول نموذج ما، «رغم اختلافهم في المرجعية النهائية أو رؤيتهم للعالم، لأن مرجعهم هو النموذج الذي يضم قانونا أو عدة قوانين مرتبطة بنظرية علمية معينة».(25)

وتتلخص نظرية "كون" في تحليل النظرية العلمية كنظرية ثورية، وكل ثورة لها "البرادايم" أو النموذج الخاص بها، وسيصبح كل نموذج عبارة عن إطار معرفي يحدد مفاهيم الحدود (أي المصطلحات) التي ترد فيه فقط، ولا يستطيع أن يحدد تلك التي تردفي إطار آخر، مثلا " مفهوم الكتلة " في فيزياء نيوتن يختلف عن مفهومها في فيزياء أينشتاين. لهذا فكل معرفة صحيحة قياسا إلى نسقها وبالنسبة إلى نموذجها.(26) كما أن المعرفة لا تزداد عن طريق التراكم بل عن طريق الثورات المتسببة في الخروج من نموذج قديم، إلى نموذج آخر جديد، تتمخض عنه نظريات جديدة. فليس هدف النموذج المعرفي الجديد إضافة معارف جديدة إلى المعرفة السابقة، بل هي عملية تغيير ومراجعة للأسس والمعتقدات التي كانت سائدة، لأنها أظهرت نقصها وعدم فعاليتها في معالجة القضايا المطروحة.(27)

ومن خلال هذه المعطيات يتبين لنا الفرق والاختلاف في مفهوم النموذج بين المسيــري وكـــون، ويمكن تحديده فيما يلي:

* إن نموذج "توماس كون" يقوم أساسا على تحليل حركة تاريخ العلم وتفسير حاضره مع تحديد النموذج المعرفي السائد في فترة معينة. بينما نموذج المسيري يتطلع إلى المستقبل منطلقا من الحاضر ومستفيدا من الماضي، لأن هدفه إدراك خفايا الظاهرة من جوانبها المختلفة.(28)

* يتعامل "كون" مع تطور العلوم في صورتها الكلية ومن خلالها تبرز قدرته التفسيرية والتحليلية التي لا يمكن استخدامها خارج المجال الأكاديمي. إلا أن نموذج المسيري يتعامل مع القضايا التفصيلية والجزئية والواقعية بصـورة مبـاشرة، بعدما قـدم إجابات محددة وواضـحة عـلى الأسئلة النهائية الكبرى، لأنها مقدمة أساسية للنموذج.(29)

* يتميز نموذج "كون" بالتجريد والتنظير، ولا يرتبط بالواقع إلا في حالات نادرة، لأن مجال بحثه محدد، إذ يتناول قضايا العلم ونظرياته وتحولاته الكبرى، بوصفها جاهزة وقابلة للتوظيف من طرف الباحثين، ومن ثم فهي ساكنة، في حين يتميز نموذج المسيري بالحركية والقابلــيـة للتغيــيـر والتعديل، ويجمع ما بين التجريد والواقعية، وما بين الفلسفة والمنهج، ويحدد للباحث أدوات المنهج التي تقوده إلى طريق الحقيقة وبالتالي يمكن الباحث من اكتشاف النموذج الذي يتلاءم مع طبيعة موضوعه.(30)

* نموذج "كون" مقيد لأنه تحت رحمة حتمية اجتماعية، فإذا تبنى المجتمع العلمي اكتشـافا جـديـدا وكثر أنصاره، تحقق واقعيا وأحدث ثورة علمية ومن ثم يتأسس النموذج المعرفي الجديد، وهو قريب من مفهوم النظرية الكبرى، بينما نموذج المسيري منفتح ولا تحده قيود لأنه كامن في الظواهر الاجتماعية والفكرية من غير وجود قوى مسيطرة، علمية كانت أو اجتماعية. "بحيث يستطيع أي باحث منفردا أن يكشفه ويخرجه إلى حيز الوجود، دون أن تكون هناك ضرورة للحصول على إجماع علمي من مجتمع أكاديمي معين."(31)

 لكن رغم هذه الاختلافات توجد جوانب اتفاق بين النموذجين، وتتمثل في اهتمام كل منهما بتكوين نموذج تفسيري يوضح ويعلل ظواهر ومشكلات معينة. فبعد ملاحظة الــوقائع ووصفها ثم تحليلها إلى عناصرها، وبعد ذلك القيام بتركيبها، يتم الكشف عن خفاياها وتحل ألغازها لتصاغ في إطار نموذج كلي يفسر العلاقات التي تربط بين مختلف جوانب الظاهرة. بعد عرض منهج المسيري القائم أساسا على الموضوعية الاجتهادية، ورفض الموضوعية المتلقية، وتبني النموذج منهجا في التحليل، نصل إلى النتائج الآتية:

-      لقد نبع منهجه التفسيري من تطور رؤيته الدينية والفكرية لأنه يريد تجسيد المنهج النظري في الواقع العملي، وفق رؤية إسلامية وإنسانية. فهو يتخذ النموذج أداة تفسيرية صالحة لتفسير الظواهر الطبيعية والإنسانية وهذا ما يمكننا من الوقوف على القدرة الإبداعية للعقل البشري في الكشف عما هو كامن وراء الواقع وعدم التمسك بالرؤية الشائعة، ومن ثم يمكن التمـــــــــييز بين الإدعــاء والاعتقاد الفكري من جهة، وبين السلوك والممارسة الفعلية من جهة أخرى.

-      يرفض المسيري الرصد المباشر لتفاصيل الواقع المادي بغرض تحصيل أكبر قدر من المعلومات، لأن هذه الطريقة تجعل العقل سلبيا ومنفعلا، لكن الواقع يبين أنه ليس بإمكان الإنسان الإبداع إذا لم يتوفر على المعارف والمعلومات الكافية، وهذا ما لوحظ في "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية" حيث وجدناها حافلة بتفاصيل كثيرة حول هجرات اليهود، وأصولهم وأوضاعهم السياسية وعلاقتهم بالحضارة الغربية. وحتى وإن لم تكن هذه التفاصيل مقصودة لذاتها، فقد أفادت في تبيان حقائق كامنة وراء الظواهر.

-      إن النموذج وسيلة لفهم الظاهرة في تفاعلها وتركيبها، أي في حالتها الكلية وبالتالي نجد المسيري بهذا المفهوم يخالف الفكر الغربي الذي يهتم بتفكيك الظاهرة وتحليلها إلى أجزاء، ثم تفسير الأجزاء وهي منفصلة عن بعضها البعض.

- إذا حاولنا إدراك الغايات البعيدة للنموذج المعرفي سنكتشف أن المسيري لا يتناول الظواهر المختلفة بالدراسة والتحليل، وعقله صفحة بيضاء وإنما يتضمن مفاهيم ورؤى نابعة من مرجعيته الكلية وعقيدته الدينية التي نشأ عليها، فما من أحد إلا وتصرفاته وعقائده تعبر عن نموذج ما في ذهنه، مثلا التصور المعرفي الإسلامي يجمع بين المصادر المعرفية الثلاثة وهي: العقل، التجربة، الوحي، في حين يقوم النموذج الغربي على العقل والتجربة. لهذا تختلف رؤية كل منهما للكون ولذاته باختلاف النموذج الإدراكي لكل منهما.

وخلاصة القول هو أن التعامل مع الواقع من خلال النماذج يبين لنا أن الموضوعية المطلقة الخالية من التحيزات غير موجودة. لأن لكل باحث نموذج خاص يجعله يصطفي ويختار المعلومات وفق ما يراه مناسبا، فيبعد بعضها ويركز على البعض الآخر وهو بهذا الموقف لا يمكنه أن يبعد خياله وقيمه الأخلاقية وبالتالي تحيزاته.

 

باحثة من جامعة الأمير عبد القادر قسنطينة

البريد الالكتزوني: sayadlynda@yahoo.fr

 

هوامش:

(1)  Grand Dictionnaire de la philosophie. Larousse. Canada-Montréal, Edition 2005. P 768.

(2)  عبد الوهاب المسيري: دفاع عن الإنسان(دراسات نظرية وتطبيقية في النماذج المركبة) ، ص 298.

(3)  عبد الوهاب المسيري: رحلتي الفكرية، ص 368.

(4)  المصدر نفسه: ص 371.

(5)  عبد الوهاب المسيري: العالم من منظور غربي، دار الهلال، القاهرة، 2001، ص 20.

(6)  عبد الوهاب المسيري: دفاع عن الإنسان (دراسات نظرية وتطبيقية في النماذج المركبة)، ص 301

(7)  عبد الوهاب المسيري: رحلتي الفكرية ، ص ص، 364،365.

(8)  عبد الوهاب المسيري: دراسات معرفية في الحداثة الغربية، ص 387.

(9)  عبد الله إدالكوس: النماذج التفسيرية: دراسة في الأدوات التحليلية عبد الوهاب المسيري، مجلة أوراق فلسفية،ص 142.

(10)  عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، مج1 ، ص 160.

(11)  عبد القادر بوحلوفة: "منهج عبد الوهاب المسيري في نقد اليهودية" من خلال موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، مذكرة ماجستير، جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، قسنطينة، 2005، ص ص 42، 43.

(12)  عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، مج1، ص ص 147،148

(13)  المصدر نفسه: ص ص 157، 158.

(14)  عبد الوهاب المسيري: الدفاع عن الإنسان (دراسات نظرية وتطبيقية في النماذج المركبة)، ص 322.

(15)  عبد الوهاب المسيري: رحلتي الفكرية، ص 382.

(16)  المصدر نفسه :ص 384.

(17)  عبد الوهاب المسيري: العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، مج2 ، ص 453.

(18)  المصدر نفسه والصفحة.

(19)  المصدر نفسه والصفحة.

(20)  عبد الوهاب المسيري: دفاع عن الإنسان(دراسات نظرية وتطبيقية في النماذج المركبة)، ص303.

(21)  فتحي حسن ملكاوي: نحو نظام معرفي إسلامي، المعهد العالمي الفكر الإسلامي، الأردن، ط1، 2000، ص30.

(22)  المصدر السابق والصفحة.

(*)  توماس كون Thomas-Kuhn: فيلسوف ومؤرخ أمريكي للعلوم ، عرف الشهرة مع كتابه الثورة الكوبرنيكية (1975)، ثم مع بنية الثورات العلمية (1962)، (جورج طرابيشي، معجم الفلاسفة، دار الطليعة، بيروت،ط3 ، 2006، ص 540).

(23)  توماس كون: بنية الانقلابات العلمية، ترجمة سالم يفوت ، دار الثقافة ، المغرب، ط1 ،2005، ص 45.

(24)  توماس كون: تركيب الثورات العلمية، ترجمة ماهر عبد القادر محمد،دار المعرفة الجامعية،مصر ط3،2000،ص 245.

(25)  محمود زيدان: مناهج البحث في العلوم الطبيعية المعاصرة، دار المعرفة الجامعية القاهرة،د ط ،1990، ص116.

(26)  جلال شمس الدين : البنية التكوينية لفلسفة العلوم، مؤسسة الثقافة الجامعية، القاهرة، د ط، 2009، ص139.

(27)  توماس كون : بنية الانقلابات العلمية ،ص191.

(28)  نصر محمد عارف: النماذج المعرفية عند المسيري وكون، في عالم عبد الوهاب المسيري تحت إشراف أحمد عبد الحليم عطية، مج1 ، ص188.

(29)  المرجع نفسه: ص 190.

(30)  المرجع نفسه: ص ص 192، 193.

(31)  المرجع نفسه: ص 195.