يكشف الناقد المصري الذي تتبع كتابات القرن الجديد الروائية، عن كيف أن هلوسات رواية جديدة ظهرت قبيل اندلاع الثورة بأسابيع تنطوي في حقيقة الأمر على نذير واضح بأن اندلاعها وشيك، وترهص بمساراتها، وكأن الواقع هو الذي يحاكي الرواية بعدما استطاعت الرواية في استبطانها لهذا الواقع أن تستشرف ببراعة مستقبله.

الهلوسة الروائية في «أسد قصر النيل»

شوقي عبدالحميد يحيى

مازالت الرواية هي التعبير الصادق عن نبض الشعوب والمرجع الأوفي في معرفة أحوالها ونبض مشاعرها. فبعد أن تجذر الضياع وزادت سطوته أمام انسداد آذان السلطة عن سماع شكوي الطبقة التحتية في المجتمع والتي أصبحت تزداد كل يوم فقرا وقهرا، وتاه صوتها في المناداة بالحرية الحقيقية والديمقراطية الحقيقية، ولم يعد أمامها ما تخشي عليه، وضاع الأمل في الحصول علي نصيب من كعكة الوطن. فظهرت المواجهات المباشرة في نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين. فساد الرواية اللغة الخشنة الكاشفة عن فضائح المجتمع التي لم تعد خافية أو مستترة، فلجأت الرواية إلي الحديث المباشر عن الفساد، فظهرت "عمارة يعقوبيان" لعلاء الأسواني، وبرزت علي السطح مشكلة أولاد الشوارع "تغريدة البجعة" لـ مكاوي سعيد، وتفشي الهروب إلي الجنس "السحر الأسود" لحمدي الجزار، "كائن العزلة" لمحمود الغيطاني، وغيرها وغيرها.(1) وقد ركزت رواية هذه الفترة علي منطقة وسط البلد، كتعبير شبه مباشر عن المواجهة مع ساكني هذه المنطقة، والمراد بها منطقة الوزارات – خاصة وزراة الداخلية – وكناية عن تواجد الحكومة عامة. وقد تخففت رواية هذه الفترة كثيرا – وتلاشت تماما في الكثير منها – فكرة الحدث المركزي التصاعدي، واعتمدت علي مجموعة المشاهد الأفقية – المتجاورة – التي تصنع تكثيفا لرؤية ما، فتعطي رؤية كلية في النهاية، بما يمكن القول معه أن الرواية اصبحت تعتمد التنامي الأفقي، فضلا عن إزدياد تشظي الزمن وبداية اختفائه، والذي اختفي كليا فيما جاء بعد ذلك.

وواصلت السلطة والحزب الحاكم غيهما متناسيين ومخططاتهما الرامية إلي الاستيلاء الكامل علي البلاد، متمادين في مشروع التوريث، متناسين الفوران المتزايد بين صفوف الشعب، الذي بدأ ينذر بثورة قد لا تبقي ولا تذر. وساد اليأس كثير من طبقات الشعب الذي تزداد معانته يوما بعد يوم، وأصبح يسير في الشوارع مشتت الذهن، فاقد القدرة علي التركيز. فخرجت للنور في بدايات العقد الثاني من هذا القرن، روايتان تشابهتا في أسلوب السرد، وتشابهتا مع سمات المرحلة التي كانت الثورة فيها قد اختمرت فكرتها، وأصبحت علي وشك الانفجار. فاستخدمت كلتاهما، دون اتفاق، وهو ما يؤكد تعبير الرواية الصادق عن نبض الشارع، ويؤكد أيضا حساسية المبدع لذلك النبض، فخرجت "عاشق تراب الأرض"(2) لأحمد الشيخ في مارس 2011، وإن كانت قد ارتكزت علي الهم الذاتي، إلا أنها تصاعدت به إلي الهم العام. بينما كانت رواية "أسد قصر النيل"(3) لزين عبد الهادي قد خرجت للنور في يناير 2011 . وما يمكن أن نطلق عليهما (الهلوسة الروائية). حيث قامتا علي التفكك الشديد والمرهق للزمان والمكان، والحدث، إن جاز أن نقول أن هناك حدث. ففي "أسد قصر النيل" – وهي ما سنركز عليها هنا - كانت الثورة حاضرة بقوة، رغم أنها لم تكن قد اندلعت شرارتها بعد، حيث تشير الرواية أنها مكتوبة ما بين ديسمبر 2007 ويناير 2011.

يحمل زين عبد الهادي أدوات العوم والغطس، ويسير بنا نحو النيل الهائج أمواجه، ويدعنا نقف علي كوبري قصر النيل، علي بعد أمتار من ميدان التحرير، أمام أسوده الأربعة الساكنة بلا حراك، تاركة العصافير والغربان تبول علي رؤوسها، دون أن تتحرك فينا أو فيهم نخوة الكرامة علي ملك الغابة التي نعيشها. بينما يسبح هو فوق المياه، يدير عدسته في كل اتجاه، ويغوص إلي القاع، في طين النيل وقاذوراته التي قذفناها إليه، دون أن يعترض هو الآخر. فلا يختلف المشهد في الإعماق عما هو علي السطح، فكل الاتجاهات، وكل المشاهد تدعو للقرف وللاشمئزاز. ويخرج من النهر مترجلا في شوارع المدينة، تدمي قدماه من الأشواك، ونحن معه. نتألم ونئن، لكننا سائرون وراءه في لذة الألم، فقد عهدناها، واستعذبناها، فكان حقا علينا ما عانيناه. وربما كان من قبيل الصدفة، أن يكون تخصص د. زين عبد الهادي هو المعلوماتية، تلك التي كانت الوسيلة الفعالة وغير المتوقعة لمسيرة الثورة المصرية السلمية في 25 يناير 2011، وكانت هي الوسيلة التي يتعرف بها هو ويطلعنا علي ذلك العالم المزدحم المنير، والذي من خلاله يتعرف علي بنات "البلاي بوي" ويظل معهن في الخيال، ويتعرف علي "ميغان" تلك التي تواعده للحضور بشحمها ولحمها، ولم تأت، ليظل هو المتطلع إلي الغرب، ويظل يعايش الوهم والخيال. في إشارة من تلك الإشارات الكثيرة، والتي يعتمد عليها العمل الممتع "أسد قصر النيل"، والتي لايقول فيها شيئا محددا، ويقول في ذات الوقت كل شيء، كل شيء كان حتما أن يؤدي إلي الخامس والعشرين من يناير. فنحن لا نستطيع أن نحدد حدثا ما في طول الرواية المتجاوزة للأربعمائة صفحة. ولكننا أمام عديد المشاهد التي قد تبدو غير متجانسة. فحين نري أحد الرواة يتحدث عن عائلته، لا نلبث أن نفاجأ بأن الحديث انتقل – بسلاسة لم تشعرنا بتلك النقلة- الحديث عن التوريث، أو عن مقابلة مع باحثة صينية، أو عن قواد في الجيارة. حيث تتطلب الرواية اليقظة التامة، والوعي القرائي، وصولا إلي نهايتها التي يحملنا إليها الكاتب علي محفة من المتعة، مستخدما طريقة الجبرتي، أو هيرودوت، حينا، وحينا الحديث بضمير المتكلم، وحينا بضمير الغائب. فتنوعت الرواية بين الضمائر، وتنوع الرواة، وتنوعت المشاهد، وتنوع الجو المحيط بكل مشهد. لتتوحد في النهاية المشاعر، وترتفع الحرارة الدافعة للثورة. فكانت الثورة.

الدوائر السردية

تنقسم الرواية إلي عشرين فصلا. وكل فصل مقسم إلي عدد من المشاهد يتوافق الكثير منها حول موضوع معين، وقد يضم بعض المشاهد التي قد تبدو خارج السياق. وإن لم تكن خارج البنيان الروائي. الفصل الثلث –علي سبيل المثال- يتكون من تسع لوحات متنوعة، تسجلها عين الراوي من رصيف الشارع حول الكوبري، تتنوع الرؤية فيها، وتؤكد أن كل شيء في الشارع تغير عما عهده الراوي، ليأتي الفصل التاسع ليوضح أن الشيء الذي لم يتغير وسط هذه المتغيرات هو [المسكوت عن اسمهِ] في إشارة إلي الرئيس القابع فوق الكرسي لعشرات السنين. وليبدأ الفصل الرابع بعنوان [لا تصالح..] في إشارة إلي فصيدة "أمل دنقل" الذي إعتبر أيقونة من أيقونات التحرير طوال أيام ثورة الخامس والعشرين من يناير. ويدور الفصل بمشاهده الأحد عشر مشهدا حول إخوة الراوي. لنتعرف علي دائرة ضيقة من الدوائر العديدة حول الراوي، وكأنها الدوائر المتحلقة حول الحجر الملقي في المياه الراكدة. وقد صنعت المفارقة بين صورتهم الفاسدة – كما رواها الراوي- وبين أسمائهم التي توحي بغير ذلك (رجب، شعبان، رمضان) وما ترمي إليه الإشارة من تناقضات المجتمع/ النظام، بين الظاهر والباطن. حيث يتصل كل منهم ويمثل نموذجا من النظام. كما أن وصف الإخوة بهذه الصفات، يوحي بمدي تشوه الصورة التحتية التي عليها المجتمع. حتي الأخت، الطبيبة، والتي من الممكن أن تكون قد أنقذت من ذلك المصير الذي أصبح عليه الإخوة، فإنها أيضا لم تسلم من التشوه بصورة مختلفة، فقد اكتشفنا أن زوجها، الطبيب أيضا، إنسان شاذ، لتتشوه تلك المنطقة الاجتماعية أيضا.

 ثم تتسع الدائرة قليلا. فنتعرف في الفصل الخامس علي توزيعات القوي في البلاد. إذ تحدث (الجبرتي) عن انقسام البلاد إلي ثلاث عواصم. عاصمة النخبة، وعاصمة الموظفين أو الطبقة المتوسطة، وعاصمة الأغلبية، أو القلة الصامتة. ليعود في الفصل السادس، المتكون من تسعة مشاهد أيضا. ورغم أنها تتنوع في التناول، إلا أننا نتبين أن الراوي قد عاد إلي ذاته بحثا عن ذاته وسط هذا الكم من السواد. حيث نجده في دار النشر سعيا وراء نشر روايته التي يراها المتنفس، ويراها الضوء الخابي وسط هذا الركام. وحيث يفترض في كاتب الرواية الشرف، فلا يمكن أن يكتب الرواية غير شريف. ونراه – الراوي- في مشهد بين إخوته، وكأنه يبحث عن ذاته بينهم، إذ يمثلون الأصل للفرع الذي يمثله هو. وينتهي الفصل بمشهد وكأنه الولوج إلي داخل ذاته، ليبحث عن أسباب تعلقه بأغنيته المفضلة، والتي تصنع الخلفية الموسيقية للرواية (سمر واين) ولماذا تعلق بها، ورغم أنه يعرف السبب، ويعرف العلة، إلا أنه يبخل في البوح بها، ليترك لنا نحن القراء البحث عن السبب. وكأنه بطريقته في السرد يقول لنا (مش هقول لكم). ومن خلال عدد من الفصول نتعرف علي مناطق مختلفة من البلاد، والتي تلعب دورا في الحياة سواء حياة الراوي مثل منطقة – أو دولة – بين السرايات – الفصل السابع. أو منطقة الجيارة - الفصل الثاني عشر- تلك المنطقة التي أنجبت "عبده قرني" سمسار الانتخابات ومصدر من مصادر الحشيش وغيره من المخدرات، وفيها نتعرف أيضا علي أسوأ ما في البشر، كما في طيبة/ مصر وهو نصفهم/ نصفها الأسفل. كما يتحدث الفصل الحادي عشر عن حكاية خالد سعيد – دون بالطبع أن تذكر اسمه تحديدا – وكيف يتعامل الأمن مع الناشطين من الشباب.

وتتسع الدائرة حول الراوي/ الرواة. في الفصل الرابع عشر لتشمل العالم. فنتعرف علي العالمة الصينية وكيف أن الصينيين يستفيدون من كل شيء، كل شيء، حتي مقاسات الواقي الذكري، في مقابل الوقت المجاني لدينا، وكيف لا نستطيع استغلاله. ونتعرف علي أمريكا ومدي الحرية فيها، في مقابل القمع عندنا. ونتعرف علي الأمير العربي القاطن في الدور السادس والعشرين من الفندق، والذي ليس له من عمل إلا استجلاب النساء والفتيات، وكيف نلهث وراءه لتوريد ما يريد، للدرجة التي يصطحب فيها المصري ابنته بنفسه. وماذا لدينا من أمراء وأميرات أيضا، يسكن القصور ويشترين الأصوات، ويتزوجن من رؤوس الأموال المسيطرة علي السلطة.

وفي الفصل السابع عشر، وعندما تكون الرواية قد أوشكت علي الوصول لمحطتها الأخيرة تبدأ ذاكرة الراوي -الغائبة منذ عشرين عاما- في العودة إليه في ميدان التحرير، تلك المنطقة التي هي مسرح أحداثه، بشكل متعمد. فيتذكر اسمها، سلوي ... ولكن زين عبد الهادي لا يريد أن يسقط بنا في جو الأفلام العربية. حيث أنه رغم عودة الذاكرة، وعلمه بأن اسم حبيبته سلوي، إلا أنه غير متأكد. إذ ربما كان اسمها بالفعل سلوي، وربما كان غير ذلك. فالمهم هو عودة الوعي له. فهو لايريد لنا أن نستكين ونتقاعس منتظرين النتيجة منه، لكنه يظل يناوشنا حتي النهاية طالبا منا التفكير والاستنتاج وإعمال الفكر. فما روايته بالتي تقدم نفسها لقارئها علي طبق من فضة.

ويتداول سرد هذه الدوائر أكثر من راو. فبينما يتولى الجزء الأكبر منها أحد شخوص الرواية، ويدعي "فتحي" – المؤلف الضمني - ليتناول بضمير المتكلم الغوص في أعماق الشخوص، ويكون هو العليم. غير أن هذا الـ(فتحي) يتآمر علينا ويخفي الكثير من الأشياء، متعمدا في كثير من الأحيان، وغير عامد في بعض منها، مما يضطر "زين عبد الهادي" – المؤلف الفعلي- للتدخل، كاشفا بعض ذلك الذي خفي علينا، وليشعرنا، بين الحين والآخر- أننا نعيش الواقع الفعلي، ويطلب ألا نستسلم للخيال الذي يبثه فينا "فتحي". فنتعرف من "زين" علي الكثير من الأشخاص الذين لهم دور في إنضاج عجينة الثورة، المتشكلة من أعضاء حركة كفاية و6 أبريل، وكذلك نتعرف علي الشاعر أحمد فؤاد نجم، ومحمد هاشم – وإن لم يذكره صراحة، وعلي الكثير من كتاب الرواية في دائرة ميريت. وبين الحين والحين، يتدخل "هيرودوت" مرتديا وشاح السارد الثالث، ليصف لنا بعض المشاهد علي أرض طيبة، وأفعال بعاريرها. ويكون لكل منهم أسلوبه في السرد، وطبقته في اللغة، ليساعد التنوع في إضفاء الكثير من الظل في حر المسير تحت هجير المشاهد الصاهدة في مسيرة رواية جاوزت صفحاتها المألوف في الرواية في الفترة الماضية. ولتصبح الرؤية الكلية: راو تدور به الأرض في حلقات ضيقة، تأخذ في الاتساع والتباعد والتعدد من حوله. فيشعر بأنه انقسم إلي ثلاثة. فيأخذ في السرد المشتت، وكأنه يهذي أو (يهلوس) لكنه يعلم تمام العلم ما يقوله، ويعنيه.

الرواية والثورة

علي الرغم مما تبدو عليه الرواية من تفتيت وتشتيت وتشظي، إلا أن خطا أساسيا يمكن أن نتوصل إليه، يسير وفق أسلوب منطقي ممنهج. يبدأ بالأسباب، وينتهي بالنتائج، لتصل الرواية بقارئها لحد الإشباع الساعي إليه كلما تناول عملا إبداعيا. فقد ارتكزت الرواية علي قاعدة مربعة، انقسمت إلي عدد من المربعات الصغيرة المتبادلة الألوان. لتضعنا في مواجهة لوحة شطرنج. ولتحول الشخوص عليها، وشخوص طيبة/ مصر كلها عليها إلي قطع شطرنج، لكل منهم دوره عليها. فمنهم العساكر أو البيادق، وهم القطع الأكثر علي الرقعة، يقفون في الصف المؤخر، وتكون حركتهم محدودة بخطوة واحدة، بخلاف الأحصنة التي تستطيع القفز والمناورة، وتقع في الصف الأول لتستطيع الدفاع عن الوزير، والملك، الذي يعمل الجميع في خدمته. ولا يسقط الملك إلا بثلاث كشات، وقد وصل زين عبد الهادي في نهاية روايته إلي تلك الكشات الثلاث (الفصول الثلاثة الأخيرة المعنونة كلها بـ "كش ملك"). فسقط الملك، وسقط معه مشروع التوريث.

لذا كان استخدام الرواية لتلك الحيلة بها من الذكاء الروائي الكثير. فالمشروع الذي كان قائما، والذي كان أحد أهم أسباب ثورة الخامس والعشرين من يناير. هو نسيان النظام أننا نعيش في جمهورية، لكنه أراد توريث البلاد لإبنه، وكأننا أمام ملك لا رئيس. ينضاف إلي ذلك من أسباب الغضب والثورة عديد الأسباب التي ضمنها الرواة، وضفرها عبد الهادي في ضفيرة متناسقة، وضاغطه للفعل. فلو أن هذه الرواية صدرت قبل 25 يناير، وأتيح لها أن تصل لقارئها علي نطاق واسع، لكانت أحد المهيجات للثورة، ولكان زين عبد الهادي في مكان لا نعرفه. علي الرغم من اللجوء لحيلة من حيل ستينيات القرن الماضي، وهي السرد علي طريقة الرمز. حيث أصبحت مصر/ طيبة، وأصبح المصري/ بعرور، وأصبح الرئيس/ المسكوت عن اسمه، وكأنه بلغة الرواية يود أن يقول (اللي ما يتسمى)، وارتدي السارد ثوب التاريخ. فعن الرئيس نفسه، يستفز السارد عديد الصور الكبيرة المنتشرة بطول البلاد وعرضها. [فقد كانوا جميعا مشغولين، وبشغف لا يقل عن شغفهم التاريخي بالخلود، مشغولين بمتابعة مباراة كرة قدم في استاد عظيم تحتله صورة ملونة بحجم هائل "للمسكوت عن اسمه" تشبه إلي حد بعيد التماثيل الهائلة التي خلفها لهم أجدادهم في الصعيد، تماثيل ضخمة هائلة تبرز دائما سطوتهم القديمة علي الحياة، سطوة ما قبل الموت وحتي بعد الموت .. وبدورهم نقلها سادة الأمن نافخو أبواق محبة "المسكوت عن اسمه" مرة أخري إلي طيبة] ص17. وفي مقابل تلك الصورة عن الرئيس الملك الفرعون الـ(إله)، تاتي صورة الشعب/ الرعية، ليتضخم الفارق، وتتأذي النفوس، خاصة إذا ما كانت تلك الصورة لا توجد إلا هنا: [منذ قديم الأزل والوهم فيما يمكن تحقيقه مبعث وجودهم الحقيقي، في نظر البعض ممن يعيشون في بعض القارات الأخري، أنها أحط الأوهام في الحياة، وهو تجن واضح تماما في ظل عدم معرفة هؤلاء الغرباء للأسباب التي تقف وراء اختيار أهل طيبة لهذا النوع من الحياة المكتظة بخيالات وحرية ر تتحقق غالبا، خصوصا في ظل مداهمات رجال الأمن من العاصمة الجمهورية لأوكارهم المظلمة والمختبئة في أحراش مدينتهم العجيبة، أو خطب المسكوت عن اسمه الممتلئة بالحديث عن الإرهاب الذي سيأكل الأخضر واليابس، وتناسلهم الخرافي، ومدي تعبه وكده كل صباح في سبيل إطعامهم جميعا، وهي مسألة شبه مستحيلة لكنه يقوم بذلك بمساعدة من الإله] ص 19.

وفي مقابل هذه الصورة نتعرف علي ما يزيد الصورة قتامة: [فقد كان معروفا أن "المسكوت عن اسمه" سارق، وهو في خطبه لا يهتم كثيرا بسرقات من يرأسهم، وانتقل داء السرقة "للمسكوت عن اسمه المبجل" الإبن، والذي كان يقول عنه الأب أنه يساعده، ولم يقل أبدا يساعده في ماذا] ص160. بل لم يكن الشعب محشورا في سكناته في القبور يعاني فقط وينظر إلي سرقات المسكوت عن اسمه وابنه فقط، وإنما امتددت السرقات، وعم الفساد وزراءه وحاشيته كذلك: [وشخصيات عدد كبير من رجال الأعمال خصوصا الذيم يحملون أصولا كلبية، أو اصولا تنتمي للطبالين في الملاهي الليلية، ووزراء نصفهم لم يستكمل تعليمه، ويمتاز بقدرته علي تقبيل ايادي حرم "المسكوت عن اسمه" بقبلات لم تتوافر حتي لكلارك جبيل في سينما هليود، إنه جيش طويل من المتنطعين والمتحذلقين النطاطين] ص 98 – 99 . كل تلك كانت ضغوط داعية للانفجار. كان التوريث فيها هو القشة التي قصمت ظهر البعير، لذا كان حظه في الرواية كبير: [وربما يأتي مع التعديلات ما يدفن الجمهورية نفسها، لن يبقي منها سوي اسمها بعد التوريث الذي يجري لإعداده علي قدم وساق] ص 71، [علي عكس ما يقوم به "المسكوت عن اسمه المفوه" الذي امتلآت خزائنه بأموال أهل طيبة، يقال بأنه يلجأ للتوريث حتي يطمئن إلي استمرار الشعب علي هذا النهج النادر] ص 117.

وإذا كان زين عبد الهادي قد استخدم بيادق الشطرنج للتعبير عن الطبقات التحتية من المصريين، فقد وضع عليهم مسئولية الخلاص بأنفسهم. عليهم أن يفعلوا المستحيل، حتي لو باضت الحيوانات - وكان يمكن أن تستخدم الإشارة للدلالة علي استحالة التحقيق، في الدلالة علي التشاؤم، غير أن ما انتهت إليه الرواية ليس به من التشاؤم ما يؤيد ذلك. لذا فهذا التأويل مرفوض. طلب زين من الكلاب أن تبيض، أن تخرج تلك البيضة التي ستفقس الكتكوت، الديك الذي سيصيح. الذي يؤذن لصلاة الفجر. ذلك الفجر المنتظر. أي أنه يدعو للثورة، فأنطق الكلب ليشير إلي قرب ميعاد البيض، أي الميلاد المنتظر، وكم كان موحيا في تلك الإشارة والربط فيحكي الكلب: {بحكم أني ما زلت صغيرا، كان الهواء اللطيف يداعبنا علي القطعة المقدسة المسماة كوبري قصر النيل، وهي دائما كانت أرض ميعاد تلك البيضة، كان الزحام قد بدا يخف، وكنت أشعر بأن زمن البيضة قد أتي! .. هو .. هو.} ص368. ولم تكن عبارة {وهي دائما كانت أرض ميعاد تلك البيضة} عبارة مجانية، حيث لم يكن ميدان التحرير هو رمز الثورة في 25 يناير وفقط، وإنما تشير العبارة إلي تاريخ لهذا الميدان، ارتبط بالثورات، وارتبط بالتحول. فقد شهد عدة مواجهات بين المحتجين والقوات الأمنية، منها بدأت أحداث ثورة 1919 ومظاهرات 1935 ضد الاحتلال الإنجليزي وثورة الخبز في 18 و19 من يناير عام 1977، ومنها أيضا كانت ثورة 25 يناير عام 2011

واستغل زين هذا الرمز أيضا للإشارة إلي نوع من أنواع التعذيب في أقسام الشرطة المصرية، حيث طلب الضابط من المحتجز أن يبيض، كنوع من الإذلال الذي يمارس في الأقسام. فكانت الإشارة تعطي أكثر من دلالة. وهي السمة التي تميز الكثير من الإشارات، والرواية أيضا. وكانت هذه إحدى معوقات الثورة، فكيف تقوم هذه البيادق بثورة والأمن يتعقب أي محاولة للتنفيس، ولا يبث عيونه وجنوده (البلطجية) في كل مكان حتي وهم يمارسون لامبالاتهم، وتيههم في ملكوت المخدرات و(المتوهات) خلاصا من حياتهم البائسة: {لم يكن لدي ما أفعله سوي الهروب إلي دولة (بين السرايات) حيث يجلس الجميع للصباح يتجرعون الشاي والقهوة وحبوب التريمادول والفياجرا والحشيش والحديث عن النساء، والخناقات التي نشبت مع بعض البلطجية الذين أصبحوا يسيطرون علي الحي، يفعلون فيه ما يشاءون باتفاق مسبق مع الأمن، وربما مع (العياذ بالله)(4)} ص262 .

غير أن زين عبد الهادي – ومعه شباب الخامس والعشرين من يناير- لا يعدم الوسيلة التي يشعرون فيها بالانتماء لشيء، بعد أن فقدوا الانتماء لدولة أو عاصمة لم تعد لهم، مؤكدا أن الشعب إذا أراد الحياة، فلا بد أن يجد الوسيلة التي يحطم بها قيوده. ولم تكن تلك الوسيلة إلا وسيلة الاتصال عبر الانترنت: {ويكون ذلك إيذانا بتجوالي في العاصمة الرابعة التي يسكنها حوالي مليونين ممن ينتمون للجنسية الطيبية، أغلبهم من الذكور الضائعين أمثالي فيما أظن، وهم لا يشعرون بأي انتماء لدولة ما أو عاصمة أخري من العواصم الثلاث، إنهم يفضلون الإقامة أغلب الوقت في العاصمة التي لا يعرفهم فيها أحد، وحتي عهد قريب لم يكن رجال الأمن يعرفون عنها شئ}ص50 .{ كان يوم الوقفة الاحتجاجية المقرر سلفا، عبر الانترنت علمت بذلك} ص375 . {وشبكة الإنترنت التي ساهمت إلي حد كبير في إزاحة الهم عن كاهل أهل طيبة} ص387 . فماذا كانت نتيجة هذه الاتصالات؟

يجيبنا جبرتي قصر النيل من خلال بردية قديمة:

{سيستقظ الميتون الأحياء

ثلاثة من الشرفاء

سيخرج منهم ألف ..

وسيخرج من الألف مليون ..

سيقومون.

بعد أن تمتلئ بالملح والشقوق

تزهر البردي

لتعود المدينة من جديد} ص380 -381 .

وليترجم شباب الخامس والعشرين من يناير ذلك الحلم الذي عبر عنه زين عبد الهادي قبل أن يخرج إلي أرض الواقع: {فيما كانت تمتمات الشيخ تتعالي إيذانا بظهور البيضة العظيمة، كانت تخرج من خلف القط الصغير علي مهل، كانت المعجزة تتحقق، وكانت الأسود الثلاث الثلاثة تزأر معلنة عن بداية حلول اللعنة، كانت صفحات الإنترنت قد امتلأت بالثورة، وكانت الشوارع مزدحمة بأبناء طيبة صغار السن، الذين كانوا يتكاثرون في كل الأنحاء، كان كوبري قصر النيل يحملهم دون أن يئن، كأنه كان ينتظرهم بلهفة وشوق، الأسود نفسها كانت تزأر وكانوا يسمعونها، كانوا يدركون جيدا أنها معهم} ص 390 .

وإذا كان الكثيرين من المبدعين والكتاب قد حاول إنطاق ما كتبه قبل الثورة بما يتفق وفعل الثورة. فلن يكون إدعاء علي "أسد قصر النيل" التي تنبأت بالفعل بالثورة في: [نقف مستقلين وكفاية وحركة السادس من أبريل وكتاب وفنانين من أجل التغيير ومن الوفد والغد وبعض من حزب اليسار وبعض المشاهدين من الشعب الذين يحاولون تقدير درجة المغامرة، لم أكن أدري أن ثورة ما يمكن أن تنمو علي مثل هذه النار الهادئة] ص247 .

اللغة والأسلوب

لايستطيع القارئ إلا أن يشعر أن زين عبد الهادي يملك أسلوبه الخاص القائم علي الحميمية التي تشعرك بأنك جالس علي مقهي وسط مجموعة من الأصحاب. فاللغة خالية من التعقيدات اللفظية، قريبة من لغة التخاطب العادية، وإن خلت من الألفاظ العامية، فهي فصيحة متداولة، أو ما يمكن أن يقال عنه لغة المثقفين. وهو ما يتناسب مع الرواة الذين أشرنا إليهم، وهم بالطبع يتعاملون مع الإنترنت، فهي متسقة مع شخوص الرواية من جانب، ومن جانب آخر تتسق مع المادة المقدمة، والتي اعتمدت كثيرا علي (المعلوماتية). فقد احتشدت الرواية بالعديد من المعلومات. الثقافية علي وجه الخصوص. وإن شابها – اللغة – بعض الأخطاء الإملائية التي كنت أربأ بعمل مثل هذا أن يقع فيها، خاصة في استخدامات الهمزة. وهي علي العموم ليست كثيرة في عمل بهذا الحجم.

فمثلا ينتهز زين الفرصة ليقدم لنا معلومة، قد تبدو لنا الآن عادية، إلا أنها إلي جانب طرفتها، وقدرتها علي خلق الحميمية لمقاربتها للحس الشعبي، المتجاوب مع النغمة – الشعبية أيضا – الأساسية، والتي تعتبر كنغمة الإيقاع في المنظومة، وهي "زحمة يا دنيا زحمة" والتي تعيد للأذهان عصرا بكامله عاش علي أنغامها مع مطربها الشعبي (أحمد عدوية) والتي حرص زين علي أن تكون صورته هي صفحة الغلاف، وهو ما قد نعود إليه. أقول ينتهز زين الفرصة للحديث عن الأكلة الشعبية (الفتة) والتي يثر ذكرها شهية القارئ العارف بها للطعام، وغير العارف بها للمعرفة، وهو لا يقدمها هنا لمجرد أنها أكلة شعبية وفقط، وإنما هو ينفذ من خلالها للتعريف بمعتقد شعبي، يفيد بالضرورة في طبيعة ذلك الشعب، فضلا عن استخدام ضمير المتكلم كي يشعر القارئ بأنه واحد من عامتهم، يأكل مما يأكلون. فيوضح: {تلك الأكلة الساخنة التي لا يمكنني مقاومتها علي الرغم من أنها غالبا ما تمتلئ بالخبز المقلي والأرز والصلصة الممزوجة بالثوم والخل والمرق المثقل بالدهن وقطع اللحم، والتي توضع في طبقات فوق بعضها البعض في شكل رمزي لقدرة أهل طيبة علي البناء، كأنه شيء يجري في خلاياهم الوراثية، ناهيك عن رائحتها التي تتخلل كامل شعيرات أنفي الدموية، فاقبل عليها إقبال المشتاق، وبعد أن أنتهي منها تخور مقاومتي، فأسقط في نوم عميق أو أسترخي لخمول لا يقاوم غير عابئ بالحياة نفسها، فيما تمثل لهم تلك الأكلة غاية المرام في دفع شكماناتهم الذكورية إلي أقصي درجة من الاحتقان الذي لا يمكن الفصل فيه إلا علي أسرة غرف النوم كما يدعون} ص20 . فنستطيع هنا تبين ولع أهل البلاد بالبناء، إشارة إلي أصولهم الفرعونية، وبناء الأهرام فيما مضي، وفيما هو الآن، فالتفكير في ما يمكن أن يساعدهم في العملية الجنسية، وكأنها غاية المراد من رب العباد.

كما كان الكاتب بارعا في مداعبة قارئه – إضافة إلي اللغة الحميمية – بأن يدخله معه في لعبة الشطرنج التي يقوم عليها العمل كخلفية تخيلية، والتي تدعوا من يلاعبه – القارئ – إلي التأمل من جانب، ومن جانب آخر محاولة التوقع. فالشكل الذي جاءت عليه الرواية، والأقرب للهذيان. فتبدوا الرواية غير متماسكة. فما يستسلم القارئ للكاتب يسير في طريق، حتي يفاجأ بأنهم ليس الطريق الذي كان فيه من لحظات. أي أن الاعب الآخر – القارئ – كان يتوقع من الطرف الآخر حركة معينة لإحدي قطع الشطرنج، لكنه يفاجأ بأن لعبة أخري هي التي حدثت. كما الحيلة التي لجأ إليها زين عبد الهادي في النهاية، وهي جعل الفصول الثلاث الأخيرة بعنوان "كش ملك" تجعل القارئ – خاصة من يعرف لعبة الشطرنج- يقرأ وكأنه يلعب. كما أن الكاتب لعب مع قارئه علي فكرة التشويق التي أجادها. فما كان يبدأ في مشهد معين، حتي يفاجئ قارئه بالانتقال لمشهد آخر، ولا يروي شوقه إلا بعد مسافات طويلة.

 عتبات النص

أول ما يطالعه القارئ لأي نص، هو العنوان. عنوان العمل. ويبدأ في البحث عن هذا العنوان طوال متابعة القراءة. والعنوان هنا يثير التساؤل وحفيظة القارئ، كل من يعرف كوبري قصر النيل، يعرف أنه يحرسه أربعة أسود. فلما اختار الكاتب واحدا منها فقط ليتسمي به العمل "أسد قصر النيل"؟! ثم يطالعنا في بدايات الرواية بالحديث عن واحد من الأربعة: {متجها لكوبري الخديوي إسماعيل المسمي قصر النيل لأحتك بالأسدين اللذين يقعان في مقدمة الكوبري من ناحية ميدان التحرير، وحين أصل إليهما أتعامي كذلك عن الأسد الذي يجلس إلي اليمين واحدق في الأسد الرابع المرتكن إلي اليسار بجوار كازينو (قاف) الذي كان يؤمه حكامهم الأتراك والباشوات، وتحول الآن لملتقي بعض العربان، وبعض هواة الحب. لم يكن بهذا الشكل منذ العشرين عاما، كان ملاذا للمتظاهرين، يقف فوقه كل من وقف بجانب عبد الناصر، وكل من وقف مع السادات أو ضده، كان يتحمل ذلك، الآن أشعر بأن هذا الأسد قد فقد كرامته تماما. كان أسد قصر النيل قد تم تلويثه تماما منذ ما يزيد عن العشرين عاما، أعرفه منذ ثلاثين عاما ربما.} ص66، 67 . ثم يدور الحديث، والأحاديث بعد ذلك عن أسد قصر النيل. ليزداد التساؤل. إذا كانت هذه هي رؤية الكاتب لهذا الأسد، فما علاقته بما سبق أن ذكرناه من أفعال الرواية وأحداثها؟ إنه يقف علي النقيض تماما منها. إلي أن نصل إلي نهايات الرواية لنجد في الحديث عن الثورة وكانت الجموع علي كوبري قصر النيل: {وكانت الأسود الثلاث (الثلاثة) قد نفضت ركام التاريخ وبدأت في الحركة، مطيحة بكل شيء، لكن ما حدث أنها بدأت تتشقق ليظهر منها هؤلاء الصغار، كانت الدماء تملآ شوارع المدينة وضواحيها، لكن الحياة لم تنته، كان هؤلاء الأولاد الجدد قد خرجوا من باطن الأسود} ص391.

فإذا ما ربطنا بين صورة الأسد المغضوب عليه، والأسود التي أخرجت شباب الثوة، يتكشف لدينا علي الفور بأن الأسد الذي تلطخ وفقد كرامته منذ نحو عشرين سنة وربما ثلاثين، إنه علي الفور صورة المخلوع الذي ظل يحكم مصر طوال ما يقرب من الثلاثين عاما. ولنتعرف أخيرا علي أسباب اختيار زين عبد الهادي لعتبته الأولي. وهنا أيضا نتبين لماذا كان فقدان الذاكرة لعشرين سنة. فلم يكن الأمر بالفعل فقدان للذاكرة، بقدر ما كان رغبة في إسقاط تلك السنوات من الذاكرة. وأحب هنا أن أناوش الكاتب زين عبد الهادي، حيث ذكر [من وقف بجانب عبد الناصر، وكل من وقف مع السادات أو ضده] فالرؤية الأيدولوجية واضحة هنا في الاقتصار علي (من يقف بجانب عبد الناصر) بينما حين الحديث عن السادات (من وقف مع السادات أو ضده) وهو ما يوضح مساحة من الخلاف مع السادات. وربما تلك الرؤية هي التي اقتصرت علي ذكرهما فقط، في الوقت الذي تحاكم الرواية تزوير التاريخ، أليس من تزوير التاريخ أن نتجاهل أول من نادي بالديمقراطية وعودة العسكر إلي ثكانتهم بعد 1952 وهو محمد نجيب؟ خاصة ونحن نتحدث عن أسود ثلاثة، وليس إثنان فقط؟

وإذا ما انتقلنا إلي العتبة الأخرى وهي لوحة الغلاف الذي لم يحمل سوي صورة شبه باهتة للمطرب الشعبي أحمد عدوية، وكأنها أتت من زمن مضي. ومعها هلال يتوسطه ثلاث نجمات ليعيد إلينا صورة العلم المصري القديم. ونقرأ للراوي الناطق باسم زين عبد الهادي يتحدث عن أغنية عدوية: {أما "زحمة" فهي تعكس انتمائي اللانهائي لهؤلاء غير المعنيين لا بالجمهورية ولا الملكية} ص53 . أي طبقة المهمشين، طبقة الصامتين، وكأن زين عبد الهادي قد أراد تكريمهم بعد أن تخلوا عن صمتهم. وكأن زين عبد الهادي أراد بروايته أن يقدم اسطورة شعب مع حاكم نسي أنه يحكم شعب مصر. فهب شعب مصر ليذكره. ولتظل "أسد قصر النيل" علامة في مسيرة الرواية المصرية والعربية بما صنعته من جمع لمتقابلات كثيرة. فعلي الرغم مما يبدو عليه السرد وكأنه واضح قد يصل حد المباشرة، إلا أنه للوصول إليه لابد من ركوب الصعب وإعمال الفكر، حتي لتبدو أنها السهل الممتنع. وما يبدو كأنه (هلوسة روائية)، فإنه عمل محكم وبه من الصنعة قدر ما فيه من الموهبة. كما تجمع الرواية بين التاريخي (بالعودة إلي تواريخ بعيدة) وبين اليومي الحاضر. بين العادات المتحكمة منذ أزمان في تصرفات البشر، وبين آخر مستجدات العلم. بين الواقع بمرارته وسوداويته، وبين الخيال الطامح والمتكئ علي إشراقة الأمل. وقد ساعد ذلك كله علي التدفق وسرعة الإيقاع التي حافظت علي القارئ طوال هذه الصفحات. دون أن يشعر بالملل، بل كانت المتعة واللهفة هي المحفة التي حملته علي أجنحتها. وقد يساور القارئ الشك في إمكانية كتابة هذه الرواية قبل الخامس والعشرين من يناير، لاعتبارات عدة، رغم التواريخ المثبتة عليها. ولكنا نستطيع القول بأنها بتواريخها، تحفة إبداعية، وإن كان بعض منها قد تمت إضافته بعدها، فإنه تؤكد علي قدرة إبداعية أكثر توهجا.

وسوف تكون "أسد قصر النيل" بداية لخط جديد في الكتابة الروائية.

 

Sh:yehia@yahoo.com

 

هوامش:

(1) - انظر كتابنا " بواكير الرواية العربية في القرن الجديد – دراسات تطبيقية – مركز الحضارة العربية – نوفمبر 2008

(2) - عاشق تراب الأرض – أحمد الشيخ – روايات الهلال – مارس 2011 .

(3) - أسد قصر النيل – زين عبد الهادي – ميريت للنشر والتوزيع – يناير 2011 .

(4) - يستخدم الكاتب هذا التعبير كناية عن أمن الدولة .