تكتب الروائية المغربيةعن نساء متوحشات يذكرننا بالأمازونيات، يقمن مملكتهن على قهر الرجال وتجريم الحب، فيما يسعى (صحصوح) لتحرير ذاته بالمعرفة وتسعى (شموسة) لتحرير ذاتها بالحب، إنها مغامرة شرسة في أحراش الطبيعة البكر، بحثا عن الحب والحقيقة، وقراءة أسطورية لتاريخ الجنوسة (الجندر).

نهر الصبايا (رواية)

سمية البوغافرية


I

تورم صدره من شدة انتظارها وهي لم تأت بعد.

أجال بصره في كهفه المظلم، إلا من ضوء شحيح يصله ميتا من بين منعرجاته والتواءاته المخيفة، فتقدم خطوات ثقيلة نحو البوابة الحجرية المستديرة الضيقة، والتي تبدو وكأنها فصلت على مقاس حيوان ضخم ليحتمي فيه ريثما تبدو له فريسته فينقض عليها ويجرها لصغاره بالداخل.

أطل حذرا من البوابة. وصهد الأصيل يلفح وجهه ويعرق جسده. أرهف سمعه آملا أن يسمع خطواتها تقترب، فيهدأ قلبه وضجيج رأسه. لم يسمع شيئا غير نعيق الغربان يصله من بعيد ومتقطع. فعاد إلى مخبئه في أقصى الكهف يجر جسده النحيف وخيبة أمله، وهلعا شديدا من أن تكتشف إحدى حفيدات الجدة عطوف القطوف مخبأه فتهجم عليه وتمزقه.

تذكر أنها أول أمس، لم تبطل الحديث عن صُهيل حتى ثقل من كلامها وشعر بالغيرة من هذا الفتى الذي اقتحم حياتها فجأة. فخمن بعقل مشوش، وقلب مقبوض في أنها لن تأتي اليوم أيضا. بل وذهب حد التفكير أنها قد شرعت مع فتاها في حصص العشق، وأنها ستدخل معه جنان الحب ولن يراها أبدا..

الشمس بدأت تنحرف جهة اليسار، والظلام بدأ يسربل كهفه وهي لم تصل بعد. توسد ذراعيه المشبوكين. علق عينيه المضببتين الحزينتين على نتوءات في سقف كهفه. يخمن في مصيره وفي أيامه المقبلة التي لا يشك في أنها ستكون موحشة، ومتشحة بالسواد في غيابها، وهو الذي يرى دائما نور الحياة من خلال عينيها المبتسمتين. هز كتفيه متصنعا اللامبالاة، ومحاولا في الآن ذاته، حمل نفسه على الانصياع لسنة الحياة في الكون مرددا في قرارة نفسه: "شموسة قد نضجت، وصار من حقها أن تختار فتاها الذي ستدخل معه جنان الحب. ليتها تحسن اختيار فتاها، وألا تكرر حكاية أمنا العشقية المرعبة التي لا زالت تجلد قلبها وتذكي شراستها حتى اليوم."

انفتحت لعينيه بوابة الجد الأعظم على مصراعيها، بوابة الخلاص كما يراها دائما من الجحيم الذي يتقلب فيه الرجال على أيدي نساء الجدة عطوف... ولجها بعينين مفتوحتين. واستلم كتاب الحقائق من يد الجد الأعظم، وراح يقرأه في حضرة الجدة عطوف القطوف العملاقة. وهي تضمحل وتسيح أمامه حتى لم يعد يرى لها من أثر غير كومة شعرها الكثيف الطويل والذي يبدو مثل كومة من رؤوس أشجار مبتورة. عبثت به الرياح قليلا وحملته في طريقها لتنثره على أشجار نهر الصبايا. وهو حريص ألا يصل زغب واحد منه إلى البنات الصغيرات اليانعات المتفتحات حوله كشقائق النعمان. إحداهن، اسمها حياة، في سن حفيداته الطيبات الرقيقات اللاتي لم تتلوث أنفسهن بنفس الجدة عطوف القطوف الشرسة، تتمرغ على جسده وتذوب عشقا وحبا فيه. وكثير من البنات في سنها يقفن على بابه ينتظرن دورهن ليفتح لهن قصره، وقلبه. لكنه أقفل قلبه وجوارحه على فتاته، حياة، التي كانت أول من طرقت بابه.

استفاق من حلمه الجميل على صوت حوافر فرس يصعد الجبل إليه. فأرهف السمع وبسمة رفيعة ترسم شفتيه الرقيقتين، وآثار حلمه الجميل ما زالت تدغدغ وجدانه وتنشر فرحة خرافية في أعماقه. كأنه بالفعل فعل ما عجز عليه الرجال منذ قرون طويلة، وبلغ نفق الجد الأعظم، واستلم منه كتاب الحقائق الذي يشغل باله منذ أن وعى الحياة. أحس بالجوع إلى الطعام الذي تجلبه له أخته شموسة دائما معها، فتمدد في أقصى كهفه متظاهرا بالنوم، ينتظر أن توقظه أخته التوءم بعنقود عنب تمرره على شفتيه، فيفتح شدقيه على آخرهما ليبتلعه بعدما يصدر صوتا مخيفا: هممممم.. فتفزع شموسة وتند عنها صرخة.. ثم يغرقان في ضحكة مجلجلة وهما يتعانقان بحب وشوق لا ينطفئ في نفسيهما...

انتفض واقفا هلعا مرعوبا على إثر صوت أنثوي حاد، يقترب منه يناديه:

ـ صحصوح.. صحصوح..

تأكد له بأنه ليس صوت أخته الرقيق المفعم بالحنية، فارتمى على الجدار الخلفي للكهف، مادا ذراعيه وساقيه كما المصلوب، وعيناه الوجلتان تستشفان مخبأ في المنعرجات الضيقة أمامه. لا مخبأ في هذا الكهف الضيق الذي ينتبذ دائما نهايته.

دفع بجسده المتذبذب نحو الخلف، وهو يتمنى لو ينشق الجدار ويبتلعه قبل أن تصله يد أنثى، أو يشتم رائحة عطرها التي تستشري في كيانه كمادة سامة تكاد توقف نبضات قلبه.

هي تقترب حذرة. تتكئ بيد على جدار الكهف، وبيد أخرى تحمل قفة وتكاد تصل إليه وصوتها لا ينقطع:

ـ صحصوح.. صحصوح.. أنت هنا؟..

انكمش على نفسه حد تداخل أعضائه في بعضها. عيناه مرعوبتان لا تقران في مكان، ولسانه يضخم ويثقل في فمه ولا يقوى على الرد عليها..

وضعت القفة بجانبه، تنظر إليه بعينين تفيضان شراسة وعطشا إلى جسده المنكمش المتذبذب هلعا ورعبا من أن تنقض عليه وتمزقه. سلخت عنه ملابسه قطعة وراء أخرى، وقذفتها أمتارا عنه. تعلق قميصه على الجدار بينما سقط سرواله العريض أرضا. وهو يرتعب مستسلما ليديها، وينصت لكلامها الذي يخترق أذنيه كالسنان الحادة:

" أنا شقشوقة صديقة أختك.. هي من بعثتني إليك مع هذه القفة.. إنها ستبدأ اليوم حصص العشق مع فتاها صهيل. وقد رأيتها تجره من شعره إلى بحيرة العشق لذا لم تقو على المجيء إليك.. إنها قد نضجت، وتعترف لك بأن نارا أقوى من حبها لك تستعر ببدنها كلما رأت صهيلا.. أنا أيضا نيراني تستعر في بدني الآن.. أنت تشبه كثيرا فتاي شبلول الذي ألقيته في نهر الصبايا.. لقد أوصتني أختك شموسة بأن أترفق بك.. لن أؤذيك يا ولد.. هيا لا تثير شراستي، ولا تنكمش هكذا مثل ديك مريش.. تمدد وأطلق ساقيك.. هيا أطلق ساقيك.. وإلا عضضت جزرتك الذابلة هذه ولكتها بين أسناني، ونثرتها فتاتا للغربان التي تنعق حول كهفك.... "

***

تقول أمي باستمرار، إني حينما ولدت أرعبت الكل بصراخي، وإني لم أهدأ حتى سمعتُ صرخة ميلاد أخي التوءم.... هي تحكي لي تفاصيل حكاية ميلادي أنا وأخي صحصوح، وأنا أنظر إليها وأقول في داخلي بيقين لا يشوبه ذرة شك إن علاقتي بأخي صحصوح ترجع إلى ما قبل ولادتي. وأن جزءا من روحي هجرني واستقر في جسده. وأن صراخي المرعب ذاك، كان على شق روحي الثاني الذي ظل مع أخي.

أجل، أنا متأكدة من هذا القول. فأنا دائما أبكي لبكائه، وتلك النهنهات التي لا تفارق فمه حتى وهو نائم، ذاتها تمزق دواخلي. ويكفي أن أنظر في عينيه وأعرف ما يختلج في صدره، وقبل أن يفصح عنه. كان أمامي، في زاويته التي تحبسه فيه أمي أبدا وأنا ممدة بجانب أمي، أتوسد ركبتها وهي تفل لي رأسي وتغني لي أغنية النضج. كنت جد بعيدة عن النضج. لكن لا أدري لم أمي مصرة أن تدخلني في هذه المرحلة العمرية قبل أوانها؟!. وأخمن أحيانا أنها لو كانت تملك سمادا، أو وصفة سحرية لإنضاجي بسرعة ما ترددت على الفعل.

حفظت كثيرا من أغنية نضج الفتاة من شدة ترديدها على مسمعي كل مرة بصوتها المترنم العذب. بل ويحدث في كثير من الأحيان وأدخل من خلال أغنيتها الجميلة عالم النضج، وأطوف في حدائقه.. وأقف أميرة أمام بوابة جنان الحب مع أميري، أنتظر مع الجماهير الغفيرة حولنا افتتاح البوابة لنحلق طائرين وندخلها. لم أكن أرى ذلك الأمير الذي سأدخل معه جنان الحب غير أخي صحصوح الذي ينظر إلي من زاويته كقط جائع، وغشاوة من الحزن تغطي محياه. بل رأيت دموعه قبل أن تبدو في عينيه الحزينتين. فدمعت عيناي قبله. أعلم من نظراته الحزينة أنه يرغب في أن أقاسمه بعض نعيمي. لذا أشرت إليه بإصبعي بأن يتقدم إلي، وينام فوق ركبتي الصغيرة، وأفل له رأسه، وأضفر له شعره كما تفعل لي أمي، وأدندن له بمقاطع أغنية النضج. وهكذا سأقاسمه بعض نعيمي الذي تتوق إليه نفسيته.

ففرح أخي وتقدم حذرا بخطوات بطيئة، وعيناه تراوحان بين ركبة أمي وبين ركبتي التي أطرق عليها براحة يدي وأشجعه أن يقترب، وألا يخاف. اقترب وأحنى رأسه ليتوسد ركبة أمي. فركلته بكل قوتها، وارتطم رأسه بالجدار، فارتفع صراخه. واندفعت إليه أمي لتخرسه إلى الأبد، وهي تحضنني إلى صدرها، وتسند رأسي إلى كتفها حتى لا أرى أخي صحصوح الذي ترفع قدمها لتدهسه، وهي تكز على أسنانها وتقول له:" إن لم تخرس سأدهسك كحشرة صغيرة، يا عاري الذي نما في أحشائي دون أن أدري.."

انكمش أخي صحصوح على نفسه، يرتعد ويخنق في داخله صراخه، وبكاءه الذي يذكي شراسة أمي ويهيج غضبها دائما. فصار وجهه أحمر، ومنفوخا مثل بالون هواء على وشك الانفجار. والصراخ الذي يخنقه في داخله يتسرب من أنفه كضباح فرس صغير، ويدوي في حلقه كصوت رياح تأتي من بعيد. فتوقعت أنه سينفجر في حينه، ويموت فانزلقت من حضن أمي، وارتميت على جسده النحيف، أحضنه إلي وأحول بينه وبين قدم أمي بجسدي الصغير حتى لا تدهسه. وظللت بجانبه أكفكف دمعه حتى نام في حجري، وأنا أمسح على رأسه بيد، وبيدي الأخرى أجفف دموعي التي سالت بغزارة أكثر منه. لم أنم ليلتها حتى كاد الفجر يطلع، بسبب نهنهاته المسترسلة، ولإحساسي بأني من سقته إلى جحيم أمي....

هذه الحكاية سكنت ذاكرتي من يوم حدوثها، ولا زالت تدمي قلبي إلى الآن. وكانت في البداية تسكب في نفسي بحرا من الهلع والخوف من أن أستيقظ يوما، وأجد أخي صحصوح قد دهسته أمي أو دبرت له أمرا لقتله وإبعاده عنها، لأنها لا تحتمل رؤيته أو سماع صوته كما تردد مرارا. وحينما كبر قليلا، صرت أخشى عليه من أن تصطاده إحدى الفتيات الشرسات، كما يطلق عليهن دائما، وتعطنه في بحيرة العشق، وتحرمه إلى الأبد من جنان الحب، ذلك الحلم الوحيد الذي يعيش عليه كل فتى في مملكة الجدة عطوف القطوف كي يتحرروا من جحيم أيامهم. لذلك ظللت وقتا ألازم أخي كظله لأرد عليه كل أذى أو خطر يستهدفه. وكنت أستعين أيضا، بكل حيلي وشغبي الصبياني لأرسم حلقات الفرح في فضائه. فكنت أنجح أحيانا، فيحدث وأرى الابتسامة على وجهه. وأحيانا، أسمع قهقهاته الرنانة التي أشعر بأنها من قلبي تنبعث، وأتمنى ألا يطبق فمه ويقطعها. وحينما كبر قليلا صرت أدفعه إلى أن يتأقلم مع واقعه كما غيره من الذكور حوله. وأفرح حينما ألمس بعض الرضا من خلال ظلال ابتسامة رفيعة ترف على شفتيه، أو من خلال هزة رأسه، وأحيانا يخرج عن صمته فيعدني بأنه سيحاول. فهو صامت أغلب الوقت.

ولكن ما لم أتوقعه منه بتاتا، هو ما فاجأني به يوما وهو على عتبة النضج. كان منكمشا في زاويته كما العادة، وينظر إلى أبي النحيف، الذي يرتعد من شدة البرد الذي سكن جسده وحده بسبب ما كالته له أمي من اللطم والركل. يومها، تمنيت لو كان أبي سمينا مثل أمي حتى لا تقوى على حمله وتقذفه تلك القذفة العنيفة. وحتى إن اجتثته من الأرض، فلن تقوى على رفعه إلى أعلى ما تسمح به ذراعاها القويتان وتقذفه بكل تلك الوحشية. سمع خطو أمي يقترب من الباب فاستجمع أطرافه، وانكمش على نفسه يرتعد مما ستدخل به. فجاءته بمنقوع أعشاب ساخن، ومضت تسقيه إياه برقة وحنية كأنها شخص آخر. وأخي صحصوح ينظر إلى أبي الذي يرتعد، وسائل المنقوع يسيل من طرفي فمه. وبصعوبة يقوى على ابتلاع قليل منه بسبب الرجفة المذبذبة لكل جسده. فهمس في أذني الذي ألصقته بفمه وعيناه الحانقتان على أبي:" الكل خائف من لعنة الجدة عطوف القطوف، ومن طوفان غضبها أن يجرفنا إلى نهر الصبايا كما حدث مع أجدادنا الأولين، في حين لم ينتبه أحد إلى أن هذا الخوف العارم الذي يسكن أفئدة الرجال، هو اللعنة الحقيقية التي حلت بنا. ملعون هذا الخوف وملعونة هذه الجدة الــ.. "

أخرست فمه براحة يدي، وضغطت على رأسه حتى أسقطته على وسادته، ثم ألقيت عليه اللحاف. حينها عرفت أن أخي صحصوح الصامت والمنغلق دائما على نفسه، يخطط لأمر خطير، قد يعرضه، إن نجا من لعنات أمي، للعنات الجدة عطوف القطوف طوال حياته..

ويوم اقتحمت عليه أول مرة كهفه الذي فر إليه ذات صباح مشئوم، قال لي ويده ترتعش في الهواء:" ليت يدي بأصابعها الخمسة هذه تقوى يوما على صنع المعجزات في هذا الواقع الأهبل الذي أراه يمشي على رأسه، ويمضي بنا إلى الهاوية بقوانين الجدة عطوف القطوف. لا أدري ماذا ينتظر جدنا الأعظم حتى ينهض، وينفذ فيها وعيده فينقذنا من جبروتها، ومن نسائها الشرسات التي زرعتها في طرقاتنا كأشجار الصبار؟!.. أشد ما أخشاه أن تكون الجدة عطوف القطوف قد بلغت قطب جدنا وقبرته وكتابه، أو أنها كتفته في أقصى قطبه الجنوبي، وتراه بدوره ينتظر من يفك عقاله ويرفع الكمامة على فمه.."

مسحت على رأسه وأنا أترجاه أن يهدأ. وفي ذات الوقت، أدفعه بلين إلى أن يعود إلى مكانه في أقصى الكهف ليطعم ما جلبته له معي من الأكل. أبعد يدي عنه بعنف، ولطم جدار الكهف بقبضتيه يقول غاضبا متشنجا والزبد يتدفق من فمه:"ويحكم أيها الرجال المتخاذلون.. كلكم تخافون من جمرات الجدة عطوف القطوف، ومن ويلات نهر الصبايا.. كلكم تدارون عريكم وقبحكم ببسمة الرضا التي ترسمها لكم في السحب، أو في الشمس أو في المنام لتستيقظوا من نومكم تتباهون بها أمام بعضكم.. سأمضي إلى جدنا الكبير، وأقتحم نفقه ولن أخشى جمراتك أيتها الجدة المتغطرسة، اللعينة."

ثم نزل يلتهم طعامه بشراهة لم أعتدها منه طيلة اعتكافه في كهفه. وأنا متصنمة في مكاني أنظر إليه وعيناي تتدفقان بغزارة، وكل كلمة تأتي على لساني أبتلعها، ليقيني التام بأنها لن تفيد في شيء، بعدما انتعل أخي صحصوح الدمار، وصار بركانا على أهبة الانفجار..

***

كانا نائمين. وضوء الفجر الخافت يتسرب إلى غرفتهما كضيف خجول، حينما صعقا بصوت أمهما الرعدي المألوف لديهما:" اليوم ستلقي حتفك أيها المعفون.. اليوم سألحقك بأجدادك.. نهر الصبايا هو مكانك أيها القذر..". فتململا في فراشيهما، بعدما لفظا زفرات سخط وضيق من أسطوانة أمهما المعهودة. فمنذ صغرهما وأمهما تردد هذا الوعيد الممقوت، الذي يصلب شرايينهما للحظات، لكنه ينتهي مرارا بقنابل صوتية تروع سكينتهما، وتذيب قلبيهما هلعا على مصير أبيهما، ثم تذوب في الهواء ويمضي كل واحد إلى حال سبيله كأن شيئا لم يحدث.

عاصفة عابرة تجتاح المكان وتخلف ما تخلفه من آثار ثم ترحل: هكذا خمنا

لكن صراخ أمهما علا هذه المرة بشكل فظيع. تجاوز حده المعهود، يقطعه صوت أبيهما المكتوم، وتوسلاته بأن تغفر له ذنبه. انتفضا واقفين وتسمرا في الباب. كانت أمهما تجر أبيهما، إلى خارج غرفتها، من شعره، الذي لفت به معصمها بإحكام، وهي شبه عارية. تزمجر والزبد يتطاير من فمها. وفخذاها الغليظان الأبيضان يبدوان بارزان من فتحة ملاءة بيضاء ربطتها أعلى صدرها، ونهداها المتدليان الممتلئان كبالونين منفوخين يبرزان أيضا من ذات الفتحة ويرتطمان ببعضهما، ويميلان يمينا ويسارا تبعا لميلانها وهي تجر والديهما, وهو ينكفئ على لحافه يغطي به جسده العاري، ويتوسل إليها أن تسامحه، ويقسم لها بأنه لن يكرر فعلته. فترفع قدمها المفلطح، وتدوس على فمه لتخرسه. فيرتفع صياحه واستصراخه، وهي مستمرة تجره وراءها نحو فرسها لتلقيه في نهر الصبايا.

لم يطق صحصوح الصبر، فاندفع لينقذ أباه الذي يحبه، ويستحب دائما أن تفيض أمه بشراستها على جسده الغض من أن تكيل أباه من نهر وحشيتها ما استفاق عليه اليوم. لكن أخته شموسة أحاطته بذراعها وردته إلى الخلف. وأقنعته أن يصمت ويقبع في زاويته حتى لا تلحقه أمه بأبيه وتصير الكارثة كارثتين. فهي حينما تشتعل ويفيض نهر شراستها لا يستطيع أحد أن يقف في وجهها، إلا وجرفته إلى جحيمها، خاصة إذا كان ابنها صحصوح الذي تراه دائما وصمة عار نمت في أحشائها دون أن تدري.

اطمأنت على أخيها، واندفعت خارجة إلى الفناء الرحب. وقفت على مسافة خطوتين من أمها. تبكي، وتتوسل إليها أن تطلق سراح أبيها الذي يكاد شعره يقتلع في يدها. ومع ذلك استمرت تجره نحو فرسها غير آبهة بصياح ابنتها شموسة وولولتها وتوسلاتها، كأنها لا تسمع توسلاتها ولا تراها، وهي التي تسكن فورة غضبها وتصير جمرة منطفئة لا روح فيها بمجرد ما تنظر إلى وجه ابنتها، وتسمع صوتها الرقيق.

ترك صحصوح نافذة غرفته، وقطع الفناء كالسهم، يطل مرعوبا وحذرا من باب البيت. كانت أمه تضفر شعر أبيه مع خصل ذيل فرسها، وأبوه يتقوس حول رجليها يقبل قدميها، ويلحس أصابع رجليها كي تغفر له ذنبه الذي ارتكبه، والذي لا يعرفه صحصوح ولا أخته. ولا يظنانه جرما كبيرا يستحق موت والديهما.

فهي أحيانا، تشتعل دون سبب، وتكيل أبيهما من الضرب، والركل ما لا يقوى حتى فرسها على تحمله لمجرد أنه نظر إليها نظرة لم تستسغها. فتتهمه بأنه يبيت له شرا في داخله، وهو المنكمش دائما على نفسه ينتظر إشارة من إصبعها ليتحرك على إثرها. ولم يحدث يوما، أن رفع صوته في البيت حتى وإن فقأت عينيه. وحينما ينغرس نصل الألم في قلبه، ينزوي في الظلام يبكي بصوت مكتوم.

وفي الأسبوع الأول من كل شهر، تنقض عليه فتعضه وتعتصر روحه بين يديها القويتين ثم ترفعه قدر ما يسعفها طول ذراعيها وتلقيه أرضا بكل قوتها. حتى تخيلها ولداها بأنها من ستعتلي عرش الجدة عطوف القطوف بعد موتها، إن ماتت. لذا كان أبوهما يفر منها إلى الصيد. يلقي الشباك في عرض البحر ليصطاد السمك، ولا يعود إلى البيت إلا بعد أسبوع أو عشرة أيام تكون قد أذاقت فيه ابنها الصغير صحصوح من ويلات لسانها الكثير. ترفعه بين يديها كالريشة، وتمضي تعتصره مع الجدار ثم ترخيه لافظة في وجهه بشراسة مخيفة:" أكره اليوم الذي ولدت فيه مولودا ذكرا." ثم تحضن ابنتها شموسة إلى صدرها. وتظل تشتم رائحتها حتى تهدأ. ثم تقوم وتغير لها ملابسها، وتضفر لها شعرها، وتعد لها طعاما شهيا مما تحبه، وتنصحها أن تدعو أخاها ليأكل معها. ثم تخرج ولا تعود حتى آخر النهار.

وكانت شموسة تكرهها من شدة ما تكيله لأخيها صحصوح من قسوة يدها التي لا تكل من الضرب والقرص. وتشعر دائما بأنها قد نالها من ويلات أمها ما نال أخاها بالضبط، رغم أنها لم تمسسها بأذى يوما. فتظل بجانبه تمسح دموعه وتداعبه وتطعمه بيدها، ولا تدعه حتى تنتزع منه ضحكة من ضحكاته الرنانة المتفتحة في قلبها زهرا أخضر، كأنها تخرج من جنان الحب وليس من فم أخيها صحصوح، الذي تحبه أكثر من حبها لنفسها. ثم ينطلقان بعيدا حيث لا تراهما أمهما. يجريان ويلعبان في البساتين حول بيتهما. وفي الليل، تستغفل أمها وتظل تحضنه إلى صدرها، تهدهد ظهره وتغني له أغنية النضج، ولا تدعه حتى يتغلب على هواجسه المرعبة من أن تنقض عليه أمه فتقتله. وحينما يطبق جفونه وينام، تقبله ثم تتسلل خفية إلى فراش أمها. ويحدث أحيانا، أن يغلبها النوم فتنام بجانب أخيها. وبمجرد أن تفيق حتى تتسلل كالفأرة إلى مكانها بجوار أمها. ومرات كثيرة، كان أخوها يدفعها لتعود إلى مكانها قبل أن تكتشف أمها حيلتها فتعاقبها، وتحرمها من الاقتراب منه واللعب معه.

وحينما كان يسمع خطوات أمه تقترب من البيت، أو يتناهى إليه صوتها الرعدي، يهرع إلى أخته مرعوبا ويختبئ وراءها. وإن كان فيما بعد، لم يعد يخيفه صوتها القارص من كثرة ما ألفه. كما صار اليوم، هو من يخاف على أخته شموسة ويحملها على كتفيه ليعبر بها الجداول. ويرفعها بذراعيه النحيلتين القويتين ليضعها فوق حصانها. ويظل يمشي بجوارها خوفا من أن تسقط. ويطيعها في كل شيء تقترحه عليه. تسمر الآن خلفها يطل على أمه، وهو يلهث ويخنق نفسه. وصدره يعلو ويهبط. وعيناه المحمرتان المتوهجتان بشرر الغضب مصوبتان كالسهام إلى أمه، التي تركل أباه ويداها تضفران شعره مع خصلات ذيل فرسها تستعد لتنطلق به نحو نهر الصبايا. اندفع ليمضي خارجا غير آبه بما سيلقاه من أمه، لكن أخته شموسة ظلت متسمرة وسط الباب، تشد بيديها على العضادتين بكل قوتها لتحول بينه وبين الخروج. فحملها كمتاع اعترض طريقه ووضعها بجانب الباب، وحرر نفسه بعنف من يديها المشبوكتين بلباسه، وقفز خطوات جبارة بعيدا عن أمه، وهو يقسم لها إن لم تحرر أباه وتعود في وعيدها، سيسبقها ويلقي نفسه في نهر الصبايا المخيف. ثم لعنها ولعن الجدة عطوف القطوف التي تمدها بكل هذه القوة والجبروت. فحدقت إليه بعينين تمطران شررا مخيفا، وهي تقول والزبد يفيض من طرفي فمها:

ـ سأسحقك أيها الوغد الذي أبلاني به رحمي، وسألقيك بيدي في نهر الصبايا إن قبضت عليك

ـ سأسبقك إليه ليبتلعني ويزفرني سما يسري في عروقك، وعروق الجدة عطوف القطوف الظالمة..

ـ عليك لعنة الجدة عطوف القطوف إلى الأبد أيها العاق

واندفع إلى الأمام كالسهم بين الأشجار. يصعد التلال ليسبق أمه إلى نهر الصبايا، غير آبه بصرخات أخته المسترسلة والتي سقطت أرضا شبه مغمى عليها من شدة الهلع على مصير أخيها ومصيرها إن ابتعد عنها.

***

استفاقت من غيبوبتها الخاطفة، وجلست في مكانها أعلى المصطبة، على بعد أربع أو خمس خطوات من باب البيت. وروحها تفيض بكراهية شديدة لأمها، أكثر من أي لحظة قاسية مرت بها في حياتها. عيناها الصارختان تنظران تارة، إلى أخيها المنطلق إلى نهر الصبايا، وتارة أخرى تنزلان إلى أبيها المربوط من شعره إلى ذيل الفرس الذي يجره في ذات طريق أخيها فوق الحشائش اليابسة والنباتات الشوكية والأحجار... والأتربة تتصاعد حوله، وأمها تستحث فرسها بحركات ساقيها بأن يسرع لتلحق بابنها صحصوح..

بعينين مفتوحتين هاجرهما الدمع، ظلت تتابع المشهد التراجيدي أمامها وهي تقول بدون صوت وبدون حركة تبدو على أطرافها: "اليوم ستنتعش أيها النهر. سيلقى في جوفك أبي وأخي، واحدا تلو الآخر، وستتجشأ، وتطلق نفسك المشحون بأنفس الرجال الذين ابتلعتهم، نسيما عليلا لتحيى به الجدة عطوف القطوف أبد الدهر. وأمي سترتاح من أخي، ومن أبي، وستبحث لها عن ضحية أخرى تشبع غرائزها، وتنفث فيه نهر وحشيتها الذي لا ينضب. أنا وحدي من يموت ويسيح في مكانه كقطعة زبدة. لا أقدر حتى على الوقوف أو رفع صوتي كما كنت. وما فائدة الصراخ وكل شيء يمضي كما تشاء أمي. "

شعرت بأن السماء انطبقت فوق رأسها وحدها، وأن طوفان الدمار يجرفها حيث يجرف أباها وأخاها. تنفست بعمق، وطفرت من عينيها دمعات صامتة انحدرت ببطء على وجنتيها الحمراوين، وشهقت شهقة الانبعاث حينما رأت أمها على قمة الربوة. تقفز من فوق فرسها، وتتفقد زوجها العاري من كل شيء حتى من صوته.. فقط، دماء وخدوش نازفة تكسو جسده المعفر بالأتربة. وقد هجرتها شياطينها، وتنحني وتفك شعر زوجها الذي يتقوس حول رجليها كالخنفس. حملته وألقته فوق فرسها وعادت به إلى البيت في خطوات بطيئة بينما خطوات ابنها صحصوح كانت تلتهم الطريق نحو نهر الصبايا دون أن يكلف نفسه جهد التفاتة واحدة إلى الوراء.. إلى أخته... 

اندفعت وراءه تجري بكل طاقتها غير آبهة بما ستفعله بها أمها إن علمت أنها انطلقت نحو أخيها لترده إلى البيت. اعتلت الربوة تنادي عليه بكل ما تسمح به حنجرتها المتورمة بالصراخ. ترجع الجبال أصداء صراخها في هذا الصباح البارد الهادئ، كأن لا أحد يسكن بلدتها الجميلة غير أسرتها. التفت إليها أخيرا، وهو يتكئ على ركبتيه، ويلهث، ونفسه يتقطع. لوحت له بيدها تبدي له الفرح، وتخبره بالإشارات، بأن أمه قد أطلقت سراح أبيهما. استأنف طريقه وصعد الجبل بذات السرعة التي انطلق بها من بيته.

خمنت بينها وبين نفسها بأنه سيتعب، ويجلس في مكان هادئ يتخفف فيه من فاجعة صباحه، ثم يعود إلى البيت كما حدث ذات صباح قريب. فالنهر بعيد ولن يقوى على الوصول إليه مهرولا أو ماشيا في يوم واحد. هكذا طمأنت نفسها، بعدما شعرت بعدم قدرتها على اللحاق به، بسبب انهداد مفرط يلبس كل جسدها.

مضت خلف البيت تجر خطوها إلى المغسلة، لتغتسل من ثقلها ومن آثار صباحها الخانق. وكانت أمها قد عادت بدورها لتنام بعد أن عقمت جروح أبيها بقارورة منقوع الأعشاب البرية التي ألقت بها فارغة في وسط الفناء تدحرجها الرياح الخفيفة جهة الباب. وعاد سكون أول النهار يسود كأن لا شيء قد حدث.

وهي تخلع ملابسها، تذكرت ما حكته لها أمها ذات صباح استيقظت فيه على مزاج رائق حتى أنها رأتها تمد قدح ماء لأبيها وتناوله له بيدها فسألتها:

ـ لماذا تقسين على أبي، وهو طيب، ويطيعك في كل شيء. وإن أمرته أن يركع لك لفعل وهو يضحك.

فخنقت ضحكتها قائلة لها وعيناها على أبيها الذي يحتسي شرابه المعشب الذي أعدته له:

ـ الرجال لا ينفع معهم اللين. إن فرشنا لهم الحرير، وكسوناهم بالحرير كما تتمنين، يا مجنونتي الصغيرة، ستنبت لهم مخالب وأنياب مثل التي كانت عند أجدادنا الذين ابتلعهم نهر الصبايا المبارك. ومهما قمشوا، وغاصوا بأنيابهم ومخالبهم في أجسادنا وأرواحنا لن يشبعوا.. لذا نكسر شوكاتهم، ونجفف جذور شراستهم قبل أن تنمو وتورق..

ـ أفهم أمي من كلامك، أنك تحبين أبي كما أحب أخي صحصوح؟

ابتسمت لها وغيرت مجرى الحديث قائلة لها:

ـ لحظة ميلادك صرخت وولولت كأنك قذف بك في قدر ماء يغلي، وروعت كل النساء حولي، وأذهلت الجميع بسكوتك أيضا بسماعك صرخة ميلاد أخيك صحصوح. ابتسمت تنصتين لصراخه الذي ظل ثلاثة أشهر لا ينقطع إلا أثناء نومه ولحظات أكله.

كادت شفتاها تفتران عن ابتسامة لطيفة، كما تفعل كلما قصت لها أمها هذه الحكاية. لكن صراخ أخيها اليوم وهو يرى أمه تسوق أباه إلى حتفه لازال يدوي في أذنها، ويدمي قلبها. وقسمه بألا يعود إلى البيت، وأنه سيلقي نفسه في نهر الصبايا قبل أبيه أغرق قلبها في بحر الهلع والرعب.

حاولت أن تلطف نار قلقها بسكب دلاء من المياه الباردة على جسدها الغض الأبيض. ولما لم تجد في استجداء بعض الطمأنينة، قامت وحملت جسدها وغرسته تحت الشلال البارد المتدفق من الأعلى آملة أن يغسلها من قلقها، ومن هواجسها العاصفة بها بلا هوادة من أن يلقي أخوها نفسه في نهر الصبايا، ويتركها وحدها تجابه جبروت الحياة التي صارت تكرهها مثله..

مضى أكثر من ساعة من الزمن ولم يعد بعد. والشوق والحنين إلى أخيها بدأ يلهب صدرها مع هلع مدمر يبتلعها إلى النهاية من أن يمضي في مغامرته وألا يعود. أو يصاب بلعنة الجدة عطوف التي تطاول عليها بلسانه هذا الصباح، فتحيله غبارا كما فعلت بكثير من الرجال الذين أبدوا نقمتهم على قوانينها.

اقتلعت جسدها من تحت الشلال المائي، وشرعت تلبس ملابسها في عجلة من أمرها، ثم خرجت وهي تلف شعرها الطويل المفحم، وتربطه أعلى رأسها، ومضت تجري وهي تكمل ارتداء ملابسها.

بلغت الربوة العالية، وجلست هناك مسندة ظهرها عند جذع نخلة وارفة حيث كانت  وأخوها يتسابقان لبلوغها، وحيث كان يحلو لهما الجلوس واللعب دائما بعيدا عن نظر أمهما. ظلت تلهث ونفسه يتقطع كأنها أول مرة تقطع هذه المسافة، وعيناها تجوبان المكان. تأمل أن يظهر لها أخوها، أو يقفز لها من مكان ما، ويمضيان يومهما معا كما عادتهما. يستعيدان أحداث مصيبة صباحهما ويضحكان عن فصولها التي انتهت بنوم والديهما طوال النهار. ثم يمضيان يبنيان قصورهما كما يشاءان ويهدانها بأيديهما ويقهقهان عما خاضا فيه من أمور غريبة. أشد ما يذهلها ويفجر ضحكها، همسه في أذنها بأنه سيصل يوما إلى الجدة عطوف القطوف، ويخنق نفسها ويعتليا معا عرشها، ويسنان لمملكتهما الجديدة قوانين أخرى لا علاقة لها بقوانين الجدة عطوف. فتسعد وهو يرسم لها مكانها بجانبه فوق العرش، وكيف سيخرجان كل ظهيرة في لباس سلطاني، ويمتطيان جواديهما وسط موكب من الجنود، يجوبان كل مرة، ضاحية من ضواحي مملكتهما.

جابت كل القصور والمدن والضواحي في لباس سلطاني رفقة أخيها، وجسدها ملتصق بجذع الشجرة، واستيقظت من نومها العميق، ومن أحلامها اللذيذة وأخوها لم يعد بعد.

وسقط الليل وأوى كل واحد إلى فراشه، وظل فراش أخيها فارغا وهي تنظر إلى مكانه وتبكي عليه. شارف الليل على طي ستاره ولم يغمض لها جفن. ومع بشائر الصباح الأولى، امتطت فرسها، وساقت معها كلبها وانطلقت في رحلة البحث عنه، وهي تقسم مع كل نفس تلفظه أنها لن تعود إلى البيت إلا وأخوها صحصوح في يدها.

وقفت على أعلى الجبل وأجالت بصرها حوله. فبدت لها البلدة، وهضابها الخضراء، وسفوحها المشجرة وثمارها المختلفة، وكذا الأشجار الوارفة المحيطة بنهر الصبايا ولم يبد لها أثرا لأخيها. انخطف قلبها من الهلع، وكلبها يلهث بجانبها، ثم بسبس بذيله ونزل هابطا فأعقبت بحذر طريقه المنزلق الذي تمضي فيه لأول مرة في حياتها، وقلبها يكاد يتوقف من أن يكون أخوها قد وضع حدا لحياته، بل لحياتها التي لا تدري كيف ستمضيها دونه. ودموعها الباردة تنحدر على وجنتيها تلطف جمرات قلبها. نبح كلبها الذي توقف هنيهة في مكانه ويكاد ينطق من شدة الفرح. فبدا لها أخوها في الأمام يجري كالمجنون فصاحت وهي تقدح سرعة فرسها برجليها:

ـ صحصوح.. صحصوح.. توقف عن الجري وعد إلي.. عد إلي يا صحصوح.. أمي قد فكت سراح أبي.. عد من أجلي ومن أجل أبي.. إنه سيجن إن غبت عنه..

استأنف طريقه بدون بوصلة تقوده. يجري تارة جهة اليمين، وتارة جهة اليسار وتارة ينزل وهي تعقبه، وتبذل جهدا لتسبقه أسفل الجبل وتحول بينه وبين نهر الصبايا. وحينما رأته ينحني ويدخل بوابة الكهف أعلى الجبل المطل على نهر الصبايا، ولم ينزل في اتجاه النهر، توقفت في مكانها تفكر فيما ستفعله، خاصة وأن الصعود إليه من مكانها أمر لا يخلو من خطر بسبب الانحدار الشديد، والصخور الملساء التي تكسو المنحدر. ثم عادت أدراجها تركض خلف كلبها...

***

II

كنت أود أن أبدأ معك، عزيزي القارئ، هذا الفصل بكشف الستار عن شخصية الجدة عطوف المهابة، والغوص عميقا في السر الذي أفرز هذه الشخصية النادرة، لكن ارتأيت أن أؤجل الحديث عنها، وأمنحك، عزيزي القارئ، مشاركتي اكتشافها معي من خلال ما سأنثره من معلومات حولها. ربما جئتك في الأخير بالصورة التي كونتها عنها، وربما أيضا فاجأتك بأغرب مما بنيته في خيالك.

سأحدثك في هذا الفصل عن أم شموسة. فهي أيضا شخصية مرعبة وحكايتها تستحق التوقف عندها.. فهي لا زالت تحتفظ بجمال مثير رغم تقدمها في السن. وحتى أثناء لحظات اشتعالها وإطلاق فيض شراستها، تبدو كقرص الشمس في قمة توهجه. وقد ورثت عنها ابنتها شموسة كثيرا من آيات جمالها، وسحر جاذبيتها. وكل شاب كانت تصادفه في طريقها تقول عنه إنه هو فتاها الذي ستدخل معه جنان الحب. فتبدأ معه حصص العشق بجنون، ثم سرعان ما تتركه لتعزل آخر يبدو لها أجمل من الأول الذي لا يرقى إلى مستوى جمالها الفاتن.

وقع اختيارها أخيرا، على فتى أختها الصغرى. الشاب الوسيم الرشيق الذي سحرها ببسمته الخجولة، فساقته بكل جمالها وقوتها إلى بحيرة العشق لتبدأ معه حصص العشق، كأنه الفتى الوحيد على وجه الأرض. وأختها الصغرى تعقبها باكية وتتوسل إليها أن ترجع في قرارها وتدع فتاها.

ولجتا معا بحيرة العشق كما لم يحدث قط في تاريخ مملكة الجدة عطوف القطوف. تناوبتا على فتاهما الوسيم الظريف الخجول والقوي، والذي يبذل قصارى جهده ليفوز في حصصهما العشقية الجحيمية. فيحدث مرارا أن يبلغ به الإنهاك ذروته وهو يتنقل بين أحضانهما، فيلقيانه شبه ميت على ضفة البحيرة في نهاية كل حصة. لم يكن يبتغي غير أن ينجو بجلده ويخرج من تشتته بين أختين حيا، ويدخل جنان الحب حيث يستعيد حريته ويقضي فيه بقية عمره طائرا حرا. ولأشد ما يخشاه ويلهب صدره أن ينتهي من هذا العذاب بتلطيخ سمعته، ويظل أبد الآبدين تتقاذفه النساء كما فعلت الأخت الكبرى بضحايا كثر من الشبان الذين لطخت شرفهم في حصصها العشقية وفي النهاية ركلتهم لتتعلق بهذا الشاب وحده.

ظلتا تتناوبان عليه حتى أنهيتا التسع وتسعين حصة. كانت دائما تسيطر فيها الأخت الكبرى على الفتى ولا تحرره من بين أحضانها إلا وهو أشبه بقطعة قماش من شدة الإعياء. فتتلقفه الأخت الصغرى وتحضنه إلى صدرها حتى يسترد نفسه وتبكي من تعكير أختها عليها هذه الحصص التي طالما حنت إليها نفسها وتمنت أن تخوضها وحدها مع فتاها مثل بنات سنها. ليشتعل في قلبها القلق من أن تفوز به وتدخل معه جنان الحب دونها أو يدخلانها معا مع فتى واحد وتنغص عليها سعادتها في جنان الحب أيضا.

الكل صار يتساءل ويترقب بشغف وفضول كبيرين نهاية هذا العشق الذي تورطت فيه أختين تعلق قلبيهما بفتى واحد.

ـ لمن سيحسم إله الحب هذا العشق الخرافي الذي لم يحدث حتى في الأحلام؟

ـ هل ستدخل الأختان معا جنان الحب مع فتى واحد ؟

ـ أم أن إله الحب سينتصر لإحداهما؟

ـ هل سينتصر إله الحب للأخت الجميلة القوية، المثل الأعلى لحفيدات الجدة عطوف أم للصغيرة المهادنة التي لم تقو على انتزاع فتاها من أحضان أختها؟

كان الجو ربيعيا والشمس تسلط أشعتها اللطيفة على الجموع المهرولة جهة بوابة جنان الحب لترى نهاية هذه القصة العشقية الغريبة التي سيحسم فيها إله الحب في غضون ساعات قليلة. 

جماهير غفيرة قدمت من أقاصي المملكة واحتشدت في الباحتين الواسعتين على جانبي بوابة جنان الحب. منذ الصباح وأعينها مشدودة إلى المصطبة العالية المنتصبة أمام بوابة جنان الحب. والبعض، خاصة كبار السن من النساء والرجال، جلسوا أرضا من شدة الإعياء ينتظرون وصول الأختين.

وصلت الأخت الكبرى يسبقها صخب الموسيقى. تبدو من فوق فرسها كجوهرة كبيرة. تلمع للأعين من كثرة المجوهرات والعقيق الذي يغطيها وفرسها من تاجها الذهبي حتى أخمص قدميها. اعتلت المصطبة المزينة بالورود وبرقائق ذهبية والعقيق المنثور حولها. والموكب المرافق لها يصخب بقرع الطبول وأهازيجه المدعية للفرح والرقص. لكن الفرح تجمد في القلوب وسكنت الأجساد في أماكنها لا يهتز لها عضو رغم الموسيقى الصاخبة. الكل يتطلع إلى الخطوة القادمة. الرقاب تشرئب إلى الأسفل تنتظر وصول صاحب الحظ الذي سيدخل معها جنان الحب ويتحرر من قيود قوانين الجدة عطوف القطوف المنحازة أبدا للمرأة. والحسرة والألم تفيضان من بعض العيون المتعاطفة مع الأخت الصغرى التي لا يدري أحد مصيرها..

هلت أخيرا، بعد وقت يسير وهي في كامل أناقتها وأبهتها السلطانية التي لا تقل فخامة عن أختها الكبرى. صعدت إلى المصطبة أمام الجماهير المشرئبة أعناقهم إليها. والموسيقى تصدح بشكل متناغم من الموكبين المرافقين للعروسين المتقابلين على جانبي المصطبة. وتحت إيقاعات موسيقية هادئة ومتناغمة تأتي من كلا الطرفين، يستحث كلا الفريقين بصوت شجي إله الحب أن ينتصر لإحداهن دون الأخرى، وتدخل جنان الحب مع فتاها الوسيم الذي لا يدري أحد مصيره.

وفي جو مشحون بالترقب والخوف والفضول، همست بعض الألسن في الآذان بأن الجدة عطوف القطوف قد شرخته إلى جزأين لترضي حفيدتيها المهووستين به. والأخت الكبرى تهتز فوق فرسها وتلتفت من فينة إلى أخرى إلى أختها الصغرى والشرر يلمع في عينيها رغم البسمة التي ترسمها على وجهها. في حين ظلت الأخت الصغرى واقفة على حافة المصطبة شامخة لا تتحرك ولا تشغل بالها إلا بلحظة اختراقها مع فتاها بوابة جنان الحب أمامها والتي ما زالت منغلقة كأن لا أحد يقف على عتبة بوابتها. في الوقت الذي كانت بمجرد ما ترتفع أهازيج الزفة حتى تبدأ في الانفتاح ورائحة ساحرة تنبعث منها وتنتشر في المكان.

انصرفت الأعين عنهما، واشرأبت إلى الأسفل على إثر صوت الطبول لترى الحال الذي سيصل عليه فتاهما قبل أن تحيله الجدة عطوف القطوف إلى غبار تذرره على رؤوسهم. وصل وفي كامل أبهته وأناقته، وعطره النافذ يلف الأنوف من مسافة بعيدة والبشاشة تغمر وجهه المشرق. وفرح عارم ينبض في قلبه ويبتسم للكل ينثر قبسا من فرحة عمره لكل القلوب حوله. وقف وسط الأختين مستقبلا بوابة جنان الحب. بسمة رفيعة تختم شفتيه الرقيقتين كأنه تلقى وعدا من إله الحب بإدخاله في جنانه. عيناه معلقتان على بوابة جنان الحب. لا ينظر إلى الأخت الصغرى ولا إلى الأخت الكبرى ومسحة من الرضا والاستسلام لقدره وما يقرره إله الحب ترسم ملامح وجهه وإن كان قلبه يخفق لإحداهن، للأخت الصغرى..

اقتربت منه الأخت الكبرى وهمست في أذنه من خلف أسنانها المشدودة:

ـ إياك أن تدع قلبك ينبض لغيري...

ابتسمت للعيون وعادت إلى مكانها تهتز فوق فرسها. وظلت الأخت الصغرى شامخة وعقلها وروحها أودعتهما في جنان الحب أمامها كأنها هي أيضا تلقت وعدا من إله الحب بدخولها. وأشرق وجهها المدور الصغير وفاض سحرا وبهاء يخطف الأبصار.

انفتحت بوابة جنان الحب محدثة صريرا مزعجا للحواس كما لم يحدث من قبل، فأصم الناس آذانهم براح أيديهم. ولازال يطن في الآذان رغم مرور عقود من الزمن على الحادثة. وقبل أن يكتمل انفتاحها، طار الفتى طائرا خفيفا من وسطي الأختين وظل يحلق حول الباب المنفتح نصف افتتاح حتى عقبته الأخت الصغرى. تعانقا في الباب وتداخلا في بعضهما. استحالا ذات واحدة وولجا جنان الحب كنسمة هواء ثم صفق الباب محدثة صوتا رهيبا زلزل القلوب هلعا. سقطت على إثره الأخت الكبرى أرضا تخلع ذهبها ومجوهراتها وترجم به الأعين وعيناها الشرستان تحومان حول الشبان المرتعدين أمامها دون أن يقووا على الهرب، وهي تقسم في داخلها بمجد وعزة الجدة عطوف، أنها ستظل تلطخ شرفهم حتى لا يدخل واحد منهم جنان الحب.

قبضت على فتى في مقتبل العمر وجرته وراءها من شعره إلى بحيرة العشق. قبل أن تقترب من ضفافها أزكمت أنفها رائحة عفنة لا تدري مصدرها، وانتكست الأشجار المصطفة على جوانب البحيرة، وتعكرت مياهها. انتابتها حالة من الغثيان والدوخة من هذه الرائحة التي لم تقدر على تحملها، فركلت الفتى وانطلق هاربا من وابل لعناتها.

ذات الأمر، يتكرر معها كلما جلبت معها فتى آخر إلى بحيرة العشق. فتركله ركلة مميتة وتلقيه في البحيرة وتعود أدراجها صارخة كأن أفاعي قد خرجت لها من مياه البحيرة. فاقترنت في الأخير بأول من لطخت سمعته. ومعه أنجبت توأما: صحصوح وشموسة التي تعِدٌها منذ طفولتها الأولى لتكون أصغر فتاة تدخل جنان الحب، وهي كلها أمل بأن بدخول صغيرتها سيبرأ جرح قلبها الغائر.

***

مذ بدأت تفاحتاها الصغيرتان تتحفزان لتغزوان صدرها، وأمها لا تكف عن تذكيرها:

ـ أميرتي شموسة لقد نضجت.. عليك أن تعزلي أجمل الشبان وأقدرهم على تحمل تقلباتك الجميلة لتدخلي معه جنان الحب

ـ لا أريد أن أفارقك أمي. أخشى أن تقترفي جرما في أبي وتلقين به في نهر الصبايا حين غيابي.

نظرت إليها وهي تزم شفتيها تخنق ضحكتها. تلمح لها بأن تهديدها المطبوع على لسانها مجرد حيلة لقهره. فطمأنت قلبها كأنها تلقت منها وعدا بأنها لن تؤذي أباها في غيابها. فأضافت شموسة ترمي عليها ما يضنيها في الصميم:

ـ ولا أريد أن أترك أخي، صحصوح، يعيش في الكهف الذي اعتكف فيه منذ شهور، ولا يريد أن يخرج منه

ـ أنا أيضا قلقة من جهته. فهو عنيد، شقي منذ ولادته، ولا يسمع إلا صوت نفسه.. أخشى أن يسقط في يد فتاة شرسة تلوثه في بحيرة العشق، ثم تلفظه كلقمة فاسدة..

ـ سأحميه، يا أمي، من النساء الشرسات قدر ما أستطيع، وسأظل ألازمه وأرعاه حتى يدخل جنان الحب

زفرت أمها زفرتها المؤلمة، وتوارت تخفي عن ابنتها دموعها. وقامت شموسة بدورها خارجة تحمل قفتها، وامتطت فرسها وهي تخمن في حكاية طرد أمها من جنان الحب والتي مضت عليها ثلاثة عقود من الزمن ولم تبرأ منها بعد. لا زالت تدمي قلبها وكأنها وقعت اللحظة. كما أنها لا زالت تلعلع في سماء البلاد ويتحدث عنها الصغير والكبير كأنها حدثت يوم أمس. لذا بمجرد ما يتطرق أحد لجنان الحب حتى تطلق زفرات حارقة، وتتفجر دموعها. وأحيانا تنفجر غضبا، وتنقض على زوجها كأنه السبب فيما حدث، وليس تهورها وطيشها.

"لا شك في أن وقعها كان مؤلما على قلبها لذا تحذرني دائما من الوقوع في خطئها، وتنصحني أن أحسن اختياري لطائري. لكن أي طائر سأفكر في انتقائه، أو البحث عنه وقلبي مسكون بأخي صحصوح يا أماه؟!. وبحر من القلق يجرفني إلى الهاوية كلما فكرت في مصيره. من ذا الذي سيتفقده في كهفه، ويقطع طول هذه المسافة حتى يصل إليه بقفة مملوءة بالطعام الذي يشتهيه ؟.

آآآه، كم أخشى أن يستمر في عناده، ويذود بالكهف إلى الأبد من شراسة النساء. لا أدري ماذا سيخسر إن استسلم لفتاته، واجتهد في حصص العشق حتى يفوز فيها، ويدخل جنان الحب معها. فهو الحلم الذي يعيش عليه كل شاب في سنه. والشباب أمثالهم غالبا ما يحظون بهذه الجنة التي كلنا نحلم بدخولها.

"أحقا أحلم بدخولها ؟"

ليته يسمح لي بدخولها معك، يا أخي صحصوح! ما كنت اخترت أحدا لولوجها دونك. وهكذا ستنتهي محنتك ومحنتي أيضا. علي أن أطمئن عليك أولا، ثم أختار فتاي الذي سأدخل معه جنان الحب. وهاتان التفاحتان النابتتان على صدري.. صارتا تحرقانني، وتنتابني رغبة عارمة في مصهما كرضيع جائع.. وكلما لامستهما شعرت بنار تندلع في جسدي. لا أدري ما هذا الذي يحدث معي؟ صار جسدي غريبا عني وصرت غريبة عنه. كأن جنية تسكنه ولست أنا؟

سمعت صوتا رقيقا عذبا كأنه ينبعث من قصبة الناي مع هرج يقطع خرير مياه النهر الهادئ. فألجمت إليها عنان فرسها ترهف السمع وبسمة ماكرة تعلو شفتيها الحمراوين. ثم اقتربت. أزاحت أغصان الأشجار المنتصبة على ضفاف النهر بهدوء، لتكتشف صاحب هذا الغناء الجميل وهذا الهرج الذي يحدثه في النهر الهادئ أبدا..

كان شابا جميلا في عمر أخيها صحصوح أو ربما أصغر منه قليلا. رشيق كالرمح مثله تماما. وصدره عريض ويداه قويتان. ترفعان دلوا كبيرا وتسكبانه على فرسه، وصوته العذب لا ينقطع على الغناء ومدح فرسه وهو يدلك رأسه، فعينيه، فرقبته، وصدره وبطنه. وينحني فيغسل قوائمه واحدة تلو الأخرى.. لا يترك مكانا من جسد فرسه إلا وفركه بحنية. أذابها في مكانها جماله وعذوبة صوته، وشعرت بنار تجتاح جسدها وأنها أقوى من أن تسيطر عليها. تتأجج كلما تخيلت يده التي تسري على جسد فرسه تمسح جسدها و.. شعرت بالغيرة من هذا الفرس بين يديه.. أمسكت بتفاحتيها الملتهبتين كمن يخشى أن تطيرا منها أو تنفجران من شدة الحرارة المشتعلة فيهما.. وحديث صديقتها شقشوقة عن لعبة العري وفتنتها تزيد لهب جسدها..

وقفت على حافة النهر عارية أمامه. ومضت تلقي حصى صغيرة بجانبه لتلفت انتباهه إليها، وحتى لا تفزعه في هذا النهر الذي لا شك قطع الطريق إليه ليلا حتى لا يصادف في طريقه فتيات شرسات من حفيدات الجدة عطوف. رفع عينيه إليها فزعا، مرعوبا رغم البسمة اللطيفة التي تلقيها عليه، وهي تتقدم نحوه بخطوات بطيئة وتسأله:

ـ ما اسمك ؟

بصوت متلعثم خجول رد ورأسه محني:

ـ اسمي صهيل

ـ أنا اسمي شموسة، وشقيقي اسمه صحصوح.. أنت تشبهه كثيرا.. قالت ويداها تغترفان الماء، وتلقيانه عليه، وهي تضحك له. وهو ما زال يتخفى وراء فرسه، ويتجنبها، كأنها جنية خرجت له من النهر، وأنها ستحرقه بهذه النيران المشتعلة في جسدها والتي تزداد استعارا كلما اقتربت منه أكثر.

ـ وما اسم فرسك يا صهيل؟.. إنه جميل..

قبل أن يجيبها، كانت يداها تمتدان إليه، وترفعان ملاءته التي عقد أطرافها أعلى ركبتيه. أوقفته بين يديها تتملى شكله المنحوت كأنه رمح، ووجه المورد المحني، وعيناه الكبيرتان المطبقتان، وشفتاه الحمراوان، وشعره الذهبي المتدلي كالحرير على جانبي رأسه.. كل شيء فيه  يهيج كل خلية في جسدها وينسيها العالم كله. داعبت الزغب الخفيف المنثور أعلى صدره، وعيناها تحدقان إلى شفتيه الممتلئتين الصغيرتين الشهيتين، فامتصتهما في قبلة حارة لذيذة، طالما تمنت أن تفعلها مع أخيها، صحصوح. لكن خوفها من لعنة الجدة عطوف من أن تمزق جسدها وتنثره فتاتا على أشجار الصبار المتوحشة، كانت تجعلها تتراجع على الفعل.

لم تحرر شفتيه من فمها حتى شعرت بفرسه سيبتلعها بضباحه الشرس. كأن مدية صدئة تمرر على رقبته. فهز قلبها روعا. احتمت بجس صهيل وأشارت عليه بنبرة فزعة امتزج بها الغضب بأن يسكت فرسه المشئوم ويخرجه من النهر. والفرس يزداد هيجانا كلما سمع صوتها. يفتح جيبي أنفه ويغلقهما بشراسة، حتى خشيت أن يستنشقها كالهواء إن بلغها.

مسح صهيل على رأسه ووجهه وهمس في أذنه فهدأ. وساقه وراءه ليربطه بجانب فرس شموسة التي تتعقب تهافت خطواته المضطربة بلذة عارمة، ويداها تداعبان تكورات جسدها كأنها تكتشفه لأول مرة.

عاد إليها متذبذبا مرتبكا، ورأسه مطأطأ. يدفع إليها جسده العاري، كأنه يدفع به إلى حفرة من نار. فانحنت تغترف الماء، وتلقيه عليه، كما فعلت في الأول وهي تبتسم له. تحاول أن تلين خوفه قبل أن تدخل معه في لعبة العري. فلم تعمل بنصيحة أمها بأنها أميرة، حفيدة الجدة عطوف القطوف، وأن عليها أن تمزق فتاها شر تمزيق. تتذكر قول أخيها: "حمتك الآلهة من أنفاس الجدة عطوف يا شموسة.. ليت كل الفتيات مثلك... " فتفيض على صهيل برقتها، وتجره بلين غير معهود إلى لعبة العري، ولكن مع ذلك قررت في داخلها ألا تدعه حتى تنطفئ آخر جمرة من نيران جسدها المستعرة..

لم تقم من فوق جسده حتى خمدت حرارة جسدها، وشعرت بخدر لذيذ يذيب كيانها وتتمنى ألا تستفيق منه. ولولا أخوها صحصوح الذي ينتظرها، لظلت ملتحمة بصهيل حتى صباح اليوم التالي. قبلته، وقامت مستعجلة لتمضي إلى أخيها. فقام بدوره. يلبس ملابسه وعيناه تقطران حزنا عميقا، وتخنقان الدموع. ينظر من تحت أهدابه، إليها تارة، وإلى فرسه تارة أخرى. انحدر الدمع على وجنتيه حينما رأى دموعا غزيرة تسيل من عيني فرسه. فظلت شموسة متسمرة في مكانها، ترقب باندهاش وذهول هذا المشهد الغريب، والمؤثر الذي انفطر له قلبها حزنا ودمعت له عيناها هي أيضا. حثت صهيلا على أن يسرع إلى فرسه ويحرره من رباطه. وامتطت فرسها وسنان هذا المشهد المحزن يستبد بذاكرتها، ويعكر لذة لحظتها، وفرحتها العارمة بعثورها على فتاها.

***

كانت في طريقها إلى أخيها صحصوح، وجوارحها منصرفة إلى فتاها صهيل الذي سكن عقلها وأوردتها مذ أن لعبت معه لعبة العري. عضت سبابتها ندما على تسرعها في خوض معه هذه المغامرة وأخوها ما زال معتكفا في كهفه. دمدمت بصوت ثقيل بنبرات الألم:" كان علي أن أطمئن على أخي صحصوح أولا، وأدبر له سبيلا لإخراجه من عزلته قبل أن أورط نفسي في هذا العذاب"

سمعت صياح صديقتها شقشوقة وهي تنادي عليها وتركض خلفها على فرسها الأشهب. فألجمت إليها فرسها والتفتت وراءها. فغر فمها، وجحظت عيناها اندهاشا حينما بدت لها بمفردها وهي اللصيقة بفتاها شبلول في ليلها ونهارها. وقد أخبرتها منذ أيام بأنه فتاها الذي اختارته لتدخل معه جنان الحب، وأنها ستشرع معه حصص العشق. فما الذي جاء بها إلى هذا القفر الموحش الذي لا يسمع فيه غير نعيق الغربان، وصياح الرجال الذين تسوقهم نساءهم إلى نهر الصبايا؟

أول سؤال طرحته عليها وهي تسير بمحاذاتها كان عن فتاها شبلول، فردت عليها شقشوقة بنبرة حزينة وهي تخنق دموعها:

ـ شبلول مات يا شموسة.

ـ مات؟!.. كيف؟ وأنا منذ يومين رأيته معك في كامل حيوته وفرحه

ـ أنا من ألقيت به في نهر الصبايا

ـ وعظمة الجدة عطوف، لأنت مجنونة!!.. هيا احكي.. أي جنون ركبك حتى تتجرئي وتقتلين فتاك؟!

ابتلعت ريقها وهزت كتفيها مبدية عدم الاكتراث وقالت وهي تبذل جهدا لتبدو متماسكة:

ـ شبلول لا يستفيد من الدروس.. هو من جنا على نفسه... لا زال يراني طفلة صغيرة يحركها كما يشاء. غفرت له ذنبه الأول لكنه كرره مرة أخرى، وبفظاعة أكبر، فقررت أن أتخلص منه قبل أن تنزل علي لعنة الجدة عطوف القطوف.

ـ وما هذه الدموع التي أراها في عينيك يا شقشوقة؟ وإلى أين أنت ذاهبة؟

ـ ذاهبة إليه

ـ ألم تقولي أنه مات؟

ـ أجل لقد كممت فمه، وأوثقت يديه ورجليه، ودحرجته كالكرة من أعلى هذا الجبل المطل على نهر الصبايا. سأريك من أين دحرجته حينما نصل إلى قمته.

ـ ولمَ تبكين الآن؟

ـ ــــــــــــــــــــ

ـ أنت تحبينه يا شقشوقة. ومن يحب عليه أن يغفر ويتنازل ولا يلتفت إلى قوانين الجدة عطوف إلا إذا أهانها

أجهشت بالبكاء وراحت تندفع بفرسها وهي تقدح سرعته بطرق أسفل بطنه بساقيها، فاعترضت شموسة طريقها ودعتها للنزول والجلوس معا حتى تهدأ ثم تستأنفان طريقهما.

فألقت رأسها على كتف صديقتها تبكي كطفلة صغيرة، وشموسة تمسح على رأسها وتواسيها. حتى بلغتا شجرة قريبة فجلستا متقابلتين. شقشوقة تسند ظهرها عند جذع الشجرة تخربش بعود يابس وسط الأوراق اليابسة كأنها تبحث عن شيء ضاع منها، في حين كانت تتهرب من عيني شموسة، التي لم تهضم بعد إقبال صديقتها على قتل فتاها. ثم أمسكت بيديها تنظر إلى عينيها قائلة لها:
ـ احكي لي ماذا جرى بالتفصيل. وعز الجدة عطوف القطوف التي وضعت في أيدينا كل الشبان، ما فهمت عنك شيئا. ولولا هذا الحزن الذي يقطر من عينيك لظننتك تمزحين. ثم لم كل هذا الحزن والألم، وأنت شابة جميلة ومرحة وقلبك الغض الذي تعلق بشبلول سيتعلق بأحسن منه؟. هيا تماسكي واحكي يا شقشوقة ماذا صار بينكما؟..

لم تقو شقشوقة على حبس دموعها فأضافت شموسة:

ـ لم أتخيل يوما أن أرى إحدى حفيدات الجدة عطوف ستنهار من أول تجربة عشق كما أراك الآن. هيا كفي عن البكاء واحكي لي ما جرى.

ـ علاقتي بشبلول لم تكن مجرد علاقة بين الفتاة وفتاها. فنحن منذ كنا طفلين صغيرين ونحن مع بعض. معه اكتشفت الحياة، وأشياء كثيرة عرفتها عن طريقه مبكرا جدا، وقبل نضجي بسنوات. فكنت أجري وراءه حتى يدخل كهف سنتول الذي حدثتك عنه. وفيه جربنا كل الحماقات معا. فهو أكبر مني بخمس سنوات وهو من عرض علي لعبة العري. وتحت تحريض عينيه، كنت أتعرى من ملابسي كأني إن لم أفعل لن أراه أبدا. فصرت بمجرد أن أدخل الكهف، أتجرد من ملابسي كما رأيته يفعل. ونغوص معا بكل نشوتنا في لعبة العري. حتى صرت أشعر مع الأيام أني قد أستغني عن الماء والهواء، ولا أقدر على الاستغناء عنه.

وحينما كبرت وصرت ناضجة مثلك الآن، لم أفكر في غيره، ولم تراودني فكرة تغييره بسواه. وقررت بيني وبين نفسي بأنه هو فتاي الذي سأدخل معه جنان الحب. لكنه ضيع عليه فرصة العمر بتهوره. ونسي تماما أني قد صرت كبيرة وناضجة، وأنه عبد في يدي أحركه كما أشاء، وأنه إن رسب في حصص العشق التي كنت سأقوده إليها سيحرم من جنان الحب إلى الأبد. شبلول لا يستفيد أبدا من أخطائه، يا شموسة. لقد نسي تماما يوم سقته كجيفة عفنة وألقيته في حظيرة أبي لينظف روث المواشي ويعيش وسطها لأيام. ولو صرحت يومها، أمي بحقيقة فعلته لأخذته بيدها وألقته فوق طوابي الصبار أو في نهر الصبايا. كنت أحن عليه رغم ذلك، فألقي إليه مما نأكله ونشربه. فلم أتركه يشرب بول البقر والمعز والخرفان، أو يأكل روثها كما فتى خالتي الذي بادر بتقبيلها.

قلت بيني وبين نفسي أنه قد اتعظ، واستوعب الدرس فعفوت عنه وسقته في سلاسله إلى كهفنا. وهناك خضنا لعبة العري التي لم أشعر بنشوتها مثل ذلك اليوم لأنها كانت بمبادرة مني. لكنه ما أن خرجنا من كهفنا، وحررته من سلاسله حتى تطلع إلى وجهي بكل وقاحته وجلافته وقال لي:

ـ كنت أعلم أنك ستصفحين عني، وسنبدأ حصص العشق في أقرب وقت. عيناك كانت تحدثني بهذا. هيا شقشوقتي لنبدأ حصص العشق.. هيا أسرعي..

ومضى يجرني من يدي كأنه من سيهبني شرف دخول جنان الحب ولست أنا. لذا ألحقته بأسياد مملكة الرجال الذين ما زال يفكر بطريقتهم. فعدت إلى بيتي أرقص من الانتشاء بما فعلت. لكن بمجرد أن خلوت بنفسي حتى غبت في نوبة من البكاء والحسرة لم أفق منها إلى اللحظة.

أنا لا أطيق نفس رجل آخر غير شبلول يا شموسة.. هذه هي الحقيقة المؤلمة التي اكتشفتها، لكن بعد فوات الأوان. أخشى أن أظل أجلد نفسي ندما على ما فعلته حتى أموت وتجاور روحي روحه.. صرت أكره الجدة عطوف القطوف. ولا أدري إن جنت عنا وآذتنا بقانونها الصارم أم نفعتنا. وفيم سيفيدني وسام شرفها.. هل سيرد لي فرحي وشبلولي؟..

ـ سأدعو لك الجدة عطوف أن تسوق إليك قطيعا من الشبان لتعزلي من يرد إليك فرحك. اطوي صفحة شبلول وانطلقي كما كنت. وعظمة الجدة عطوف ما فكرت يوما أن أراك تبكين وتصلي إلى هذه الحالة من الانهيار. شبلول أذنب وأهانك مرتين وأنت جازيته على فعله، ولو لم تفعلي لفعلت به الجدة عطوف ما هو أنكى وأقسى.. أو ربما لو رأتك في هذه الحالة لجعلتك عبرة لكل حفيداتها.. هيا قومي واخلعي عليك هذا الحزن الذي لا يليق بحفيدات الجدة عطوف.

ـ عليك أن تطوي صفحة شبلول وتخلعيه من تفكيرك نهائيا حتى لا تغضب عليك الجدة عطوف القطوف.

ـ أجل، علي أن أبحث عن آخر، وأسكن روح شبلول في جسده وندخل معا جنان الحب علي أرتاح من عذابي

قامت شموسة ومدت إليها يدها تسحبها إليها وتضحك لها. تعانقتا يضحكان وامتطيتا فرسيهما.

بدا لشموسة صهيل قادما يجري يركض فوق فرسه فصرخت بفرح جنوني:

ـ انظري، انظري.. إنه قادم.

ـ من ؟ شبلول؟

ـ كلا إنه صهيل.. فتاي الذي اخترته لدخول جنان الحب معه. سنبدأ اليوم حصصنا العشقية. رجاء، شقشوقة، خذي هذه القفة إلى أخي صحصوح إنه في الكهف. خطوات معدودة تنزلينها على شمالك ستبدو لك بوابة كهفه. إعطي له هذه القفة، وترفقي به وساعديه على الخروج من عزلته.. وداعا.. وداعا

ظلت شقشوقة في مكانها تحضن إليها القفة وتتعقب اندفاع صديقتها لتعترض طريق فتاها صهيل، وشعرها الأشقر يطير خلفها وفرسها يطير بها كأنها ركبت له جناحين حتى غابت عن ناظريها. ثم دلفت نحو بوابة الكهف حيث أشارت لها مستغربة من أمر صديقتها التي تقطع يوميا كل هذه المسافة من أجل أخيها لتتفقده وتجلب له الطعام. وأخيرا، توصيها به خيرا كما لو كان بنتها أو أختها الصغرى. وتذكرت صحصوح بشعره الأشقر الطويل، وعينيه البنيتين المتقدتين حذرا منها أيام كان صغيرا، ويهرب منها كلما اقتربت منه ليتخفى وراء أخته شموسة التي لا تفارقه. وكم ظلت أياما تفكر فيه وتنوي أن تقطع صلتها نهائيا بشبلول وتتعلق به. إلا أنها كلما تلصصت عليه من بعيد، كانت تجده منكمشا على نفسه، مستغرقا في تفكير عميق في أمر ما كأنه يفكر كيف سيخيط الأرض بالسماء ليسحب أطرافها ويجلس عليها بدل هذه الأرض التي زهد فيها. وهؤلاء تحذر الجدة عطوف القطوف من الاقتران بهم. وتقول إنهم يجرون النكد على النساء، ولا يعرفون كيف يثيرون البهجة في نفوسهن. لذا صرفت النظر والتفكير فيه وعادت إلى شبلول المرح المنطلق المقبل على الحياة بشراهة مذهلة، كأنه امرأة وكل الورود مزروعة في طريقه. فغفرت له ذنبه، وحررته من حظيرة أمها بمجرد أن سكب عليها نظراته الماكرة المتقدة نشوة التي تجذبها إليه كالمغناطيس، وتستحيل بين يديه إلى لاشيء. بل وتنسى أحيانا أنها حفيدة الجدة عطوف القطوف التي عليها أن تمسك زمام الأمور، وأن عليها أن تلجم حماسه وشراهته. كانت لا تدري شيئا غير البحث عن البهجة والفرح والمرح، لذا سلمته نفسها كأنه هو الأنثى وليس هي. وهذا ما استغله شبلول ليقترف جريمته الأولى، فالثانية فارتكبت فيه جريمة العمر التي تستحق بها تاج الجدة عطوف القطوف وتقليدها وسام الحفيدات المثاليات.

بلغت بوابة الكهف الذي يعتكف فيه صحصوح، فقفزت من فوق فرسها وقلبها يخفق. يخفق بشدة وهي لا تدري إن كان يخفق فرحا بلقاء من كان تتمنى أن يكون فتاها يوما، أم انتقاما من شبلول الذي أهانها. كل ما تدريه أن عفاريت جسدها فوق سيطرتها.. تتنطط كأنها ستجد بداخله شبلول وليس صحصوح الهزيل الحالم أبدا بعالم جديد.

****

كأنها ماضية إلى نهر الصبايا وليس إلى بحيرة العشق التي تتوق إليها كل فتيات سنها.

أجل، انقباض شديد يعتري صدرها، ووخزات حادة تثقب قلبها وتفسد عليها فرحة عمرها.

لا تشعر شموسة بتاتا بتلك الفرحة التي كانت تراها على وجوه الفتيات وهن ماضيات أو عائدات من حصص العشق مع فتيانهن. دفعت فتاها صهيل إلى البحيرة،وظلت في مكانها عارية منكمشة تحت شجرة وارفة من الأشجار الكثيرة المخضرة الباسقة المحيطة بالبحيرة. تنظر إليه وهو يسبح بأقصى سرعته، ولا تدري ما تمليه عليه غير أنه كلما قطع البحيرة ويصل إلى مكانها يقطع عليها تفكيرها بذلك الهرج الذي يحدثه في الماء، فتنهره بلهجة حادة بأن يعود ليقطعها مرة أخرى، وهي تتمنى في داخلها لو يقطعها في ظرف نصف يوم بدل هذه السرعة التي يبذلها ليدخلا ربما في لعبة العري داخل الماء. ظلت ساهمة غائبة عن مكانها ولحظتها، وكلما داعب وجهها غصن شجرتها لتوقظ فيها الحياة تردها عن وجهها كما ترد ذبابة مشاغبة، فتغرق في التفكير في أخيها ومسحة من الحزن تكسو محياها.

ذات الانزعاج والضيق الذي ملأ صدرها يوم غادر أخوها صحصوح البيت، ينتابها الآن مع إحساس فتاك بأن كارثة ستحدث له إن افترقت عنه. منذ يومين لم تره عيناها ولا تدري كيف قضى يوميه دونها. "سيموت في كهفه جوعا، أو سيغادره رأسا إلى هلاكه إن سار نحو جدنا الأعظم. وإذا اجتاز صهيل حصص العشق التسع والتسعين بنجاح ودخلنا بعدها جنان الحب فلن أراه أبدا.. يا إلهي كم أشعر بالحزن. كان علي أن أنتظر حتى يدخل أخي جنان الحب ثم أخوض حصص العشق مع صهيل وألحقه في غضون شهور قليلة. وهناك في جنان الحب، سنعيش أطيارا كما كنا في بحيرتنا الأولى حينما كنا في رحم أمنا.. أشعر أني غدرت به، وأنا التي وعدته بأن أكون له أما وأحرسه برموش عيني وأذود عنه كل الشريرات إن وقفن في طريقه.. ليتها صديقتي شقشوقة تقوى على إخراجه من حاله وترفق أبه كما نصحتها..."

سمعت اصطخاب المياه في الأسفل، في البحيرة، فرفعت رأسها عاليا تطل على صهيل الذي يسبح نحوها بحيوية بارزة كأنه لم يقطع البحيرة طولا وعرضا. وأشعة الشمس تتسرب لطيفة من بين أغصان الأشجار فتلمع شعره البني الفاتح الذي يغطي وجهه. يقف أمامها ويزيح شعره على وجهه بيديه، فتبرز لها عينيه اللوزيتين وهو يبتسم لها بخجل. تبدى لها في جمال أسطوري فهز أوتار قلبها. وتمنت لو تتحرر من حزنها وتلقي نفسها في بحره وتخوض معه كل فنون العشق في بحيرتهما الهادئة.

أشارت عليه بيدها بأن يلف على نفسه ويقطع البحيرة عرضا.

ثم عادت تغوص في أحزانها كأن الغصن الذي تديره في ماء البحيرة وترسم به حلقات على سطحها تقلب بها أحزانها وأوجاعها التي لا تدري كيف تسربت إلى قلبها بكل هذه القوة. رفعت يدها عن الغصن وانمحت الحلقات أمام عينيها وكان فتاها صهيل يدنو منها. يرفع إليها رأسه ثم يدور حول نفسه وشعره يدور حوله كالمروحة. يرشقها ببسمة لطيفة ثم يغوص إلى العمق في حركة مثيرة.. ابتسمت له بلذة وهي تنتصب واقفة تتعقب حركاته المثيرة بانتشاء. والأشجار بدأت تحني رؤوسها فترسم خيمة في الأعلى، تتخلله أشعة لطيفة فتضيء بحيرتهما وتنعكس صورها على البحيرة فتتلون بلونها الأخضر البهيج. ألقت بكل شهوتها في البحيرة لتخوض أول حصة من حصص العشق مع فتاها الذي أحبته بكل جوارحها. تعانقا عناقا أذاب كيانها حتى صارت لا تدري من المختبر والمدير لحصص العشق إن كان هو أم هي؟. سلمت له نفسها بأن يفعل ما يشاء كما لم يحدث في بحيرة العشق أبدا. انصهرا في كيان بعضهما. لحظات مذيبة لروحيهما أمضاها معا احتفاء بحصتهما الأولى.

استفاقت من نشوتها المخدرة، فأحاطت عنقه بذراعيها تتملى وجهه وهي لم تصدق نفسها بعد، أنها عثرت على فتاها، وأن الذي بين يديها هو بلحمه وشحمه ونوره من ستدخل معه جنان الحب. هو فتاها صهيل الوسيم الطويل ذو العينين الخجولتين والحادتين، والذي اختارته دون سواه لتهديه شرف دخول جنان الحب. كلما تطلعت إليه تشعر بذوبان يصيب كل خلية فيها فتقسم بينها وبين نفسها بأن تظل لينة معه حتى آخر حصة من حصص العشق التسع والتسعين.

سمع صوت فرسه الحزين فارتخى كأنه يود الهرب من أحضانها، واستحال بين يديها خرقة بالية لا روح فيها. حاولت بعث الحياة فيه ومسح الحزن والدموع من عينيه لإنهاء حصتهما كما بدآها. لكن لا شيء يوقظ الحياة في جسده الميت كأنه لم يكن سمكة قبل لحظات تذيب أحزانها وروحها وتفجر نار الشهوة في جسدها.. حاولت معه مرة ومرتين ومع كل محاولة تشعر بأنفاس جدتها تسري في عروقها ورغبة حادة تجتاحها في نهش عضوه الذابل ولوكه ثم بصقه في بحيرة العشق التي أحالها بفتوره إلى بحيرة الموت.

أخنقت في داخلها أنفاس الجدة عطوف التي اجتاحتها كالبركان فتفجرت ضباحا من أنفها بسبب فتوره هذا الذي لا تدري سببه ولا سر هذه الدموع في عينيه المتوسلتين إليها أن تدعه يمضي قبل أن يسقط ميتا. ركلته بكل شراسة. فأمسك بغصن الشجرة وقفز فوق فرسه الذي مد إليه رأسه وألقاه فوق ظهره ثم طار يطوي به الروابي وشعره تنفخ فيه الريح وراءه وهي تتعقبه وفي داخلها تضطرم نيران شهوتها وشراستها أيضا.

ظلت في مكانها تنتظر عند شجرة السنديان الوارفة حتى يأتي غدا مع الفجر لتبدأ معه حصة جديدة من حصص العشق. تمني نفسها بأنها ستنال منه ما فاتها اليوم. "سأكون معه ألين من اللين. لن أرهقه بقطع البحيرة طولا وعرضا. وسأخلع نفسي من أحزاني وأستعد لصبيحة العمر، صبيحة زفنا إلى جنان الحب. فما يشدني إلى صهيل أكبر وأعمق من أن يمسه هذا الفتور الذي اعتراه بمجرد أن سمع ضباح فرسه. سأسامحه وسأظل أسامحه وألين معه في حصص العشق حتى يجتازها كلها بنجاح، وندخل جنان الحب حيث سنعيش طائرين نطوف في سموات العشق إلى الأبد."

توسدت راحة يدها تحلم بحصة الغد وصبيحة دخولها جنان الحب مع صهيل الوديع الجميل. وكادت تنام على إيقاع هذا الحلم الجميل، لولا شوكة القلق تخز قلبها شر وخز وهي تتذكر أخاها صحصوح المعتكف في الكهف كحيوان كسير.

نظرت إلى السماء وإلى القمر المنير الذي يسلط عليها ضياءه اللطيفة من خلال أغصان الأشجار التي تهتز تحت نسيم لطيف عذب. بدت لعينيها الطافحتين رجاء وحنية أن النجوم الصغيرة تبتسم لها فرددت في أعماقها: " يا رب الرحمة والحب، أفرج كربته وساعده على الخروج من محنته واجعل مأوانا جنان الحب، ولا تحرمنا منها كما حرمت منها أمي وأبي...

***

تدلف حذرة إلى كهفه بعد أن مضت أسابيع عن اقتحامها الأول لجسده. وكل عفاريت جسدها المقموعة لأسابيع تيقظت دفعة واحدة، وتتقافز تدفعها إلى الداخل كأنها ستجد هناك بالفعل حبيبها شبلول. كل شيء في هذا الكهف المطل على نهر الصبايا يذكرها بكهف سنتول المطل على بحيرة العشق حيث خاضت أول مرة لعبة العري مع شبلول وهي ما زالت طفلة. ساقتها قدماها في خطوات سريعة إلى الداخل وهي تنادي بصوت منغم:

ـ شبلوووول.. شبلوووول...

ثم استدركت وهي تهز رأسها تنتشل نفسها من ذكراه، ومضت تتقدم ببطء حتى بلغت صحصوح الذي وجدته في مكانه حيث تركته قبل أسابيع.

وضعت القفة بجانبه وظلت واقفة تتمعنه من قمة رأسه حتى قدميه. وهو ممدد على ظهره بقامته الفارعة في ملبوسه البرتقالي الهفهاف العريض، وشعره الطويل يتدلى على جانبيه، وذراعاه متشابكتان أعلى صدره والنور يسطع من وجنتيه البارزتين. عيناه مغمضتان. كان هائما في عالمها الذي دخله من اللحظة التي اقتحمت فيه كهفه وجسده أول مرة ولم يستطع الخروج منه.

اقتربت منه ومسحت على ذقنه وشنبه. ثم هوت وقبلت شفتيه.

شعرت بلذة بالغة وهي تقبل أول مرة شابا بمبادرة منها كما ينبغي لحفيدة الجدة عطوف القطوف. وفي ذات الوقت، شعرت بوخزات حادة في قلبها بسبب استسلامها في صغرها لقبلات شبلول، ولتحريض عينيه، كأنه سيد من أسياد مملكة الرجال القديمة.

فكت أزرار قميصه، وهو مستسلم لها ومطرق الرأس. لا يرفع عينيه إليها رغم رغبته العارمة في أن يفعل. لم يكن استسلامه خوفا من قانون الجدة عطوف القطوف، ولا من شراسة شقشوقة المحتملة، وإنما لأمر غريب عنه يشعر به يكتسح نفسه، ويذيبه بين يديها. ويشعر معه أنها لو أخذت سكينا وقطعته إربا ما فعل إزاءها إلا ما يفعله الآن.

تحركه بين يديها كما لعبة صغيرة. وتشعر بانتقام لنفسها من شبلول، وبرد اعتبار لها وهي تقلبهكما تشاء. رفعت عنه لباسه قطعة قطعة. عاريا استوى واقفا أمامها. رأسه محني ينتظر ما تمليه عليه حتى ينفذ. استلقت في مكانه وجرته إليها بعنف وأدخلته في لعبة العري. ما فتئت أن شعرت بزمام نفسها تضيع منها، وأن عفاريت جسدها تنفلت منها. وأنها تنصهر في بحره دون أن تدري من الفاعل ومن المفعول؟ من المبادر ومن المستجيب؟؟ استفاقت من نشوتها وهي تحضن إلى صدرها شبلول بكل حبها. فتحت عينيها على صورة صحصوح بطابعه الخجول الهادئ المنكمش على نفسه. فدفعته بعيدا عنها بكل قسوتها. ثم خرجت من النفق وهي مزهوة بما فعلت. وكأنها اغتسلت من إهانات شبلول المتكررة التي لا زالت توخز قلبها بحدة، وتشعرها بأن كثيرا من لعنات الجدة عطوف القطوف تحوم في سمائها وأنها قد تصيبها يوما. وإن كانت لا تستطيع حتى لحظتها أن تنساه. شبحه يقفز لها حيث ولت وجهها. وصورته لا تغيب عن من أمامها، كأنها ساكنة شبكيتي عينيها.

امتطت فرسها، وانطلقت مسرعة تعيد أدراجها كأنها تسوقها الرياح العاتية، وصحصوح واقف في باب كهفه يتابعها وشيء من روحه يشعر أنه قد أخذته وتوارت به، وأنه لن يسترجعه حتى تعود إليه.  

***

انتهيا للتو من حصتهما العشقية الست والستين، فخرجا من بحيرة العشق يدا في يد وتوغلا وسط الأشجار المتشابك فروعه في العالي. تبدو وكأنها شجرة واحدة تقف على جذوع كثيرة. تفرش المكان بأغصانها الخضراء، وتنزل بفروعها الطويلة حتى أعماق البحيرة. بخطوات بطيئة مضيا يجران جسديهما وسط هذه الأشجار وهما متعانقين والعياء بلغ بهما ذروته. تهالكا جنبا إلى جنب في أحضان هذه الخيمة الطبيعية، وهما عاريين كما ولدتهما أميهما. وأشعة لطيفة تنساب بين فجوات أغصان الأشجار، فتضيء وجهيهما المشرقين وشعريهما الطويل المبلول المنسدل على صدريهما. وشموسة تبتسم تنصت إلى فتاها صهيل وهي في حالة من العياء والانصهار لا تقوى حتى على الرد عليه ومجاراته في حديثه. وبيدها تعيد رسم ما حفرته حوافر فرس صهيل على جذع الشجرة القريبة منها. وكأن بحبر من دم خطه. تشابك فريد في تلك الخطوط التي أذهلتها وسحبت بساط النوم من عينيها الذي تشعر به كلما انتهت من حصة العشق. انتصبت جالسة تتهجاها دون أن يتبدى لها المراد. لكن قلبها انقبض كأن رسالة وعيد جاءتها من عدو لا تدري من يكون.

التفتت إلى صهيل وسألته إن كان يستطيع أن يفك خطوط حوافر فرسه على جذع الشجرة. تأمل صهيل تلك الخطوط بعينين مبتهجتين، ودون اهتمام كبير. ابتسم لها هازا كتفيه في إشارة أنه لم يفهم منها شيئا ثم أخذ يضحك. فسألته عما يثير ضحكه وفرحه في الوقت الذي تشعر فيه بأن طعنات بعدد تلك الخطوط تتواتر على قلبها.

فاستلقى على ظهره متوسدا ذراعيه المشبوكين، وعيناه تتبعان مسار شعاع يتسرب قويا من بين فرجات أغصان شجرتيهما وقال لها:

ـ حالك وأنت تحللين هذه الخطوط العجيبة المتشابكة الشبيهة بخيوط شبكة العنكبوت ذكرني بحكاية حدثت لي في صغري. كنت لا زلت رضيعا أحبو في فناء البيت. وقد تأخرت كثيرا عن الوقوف والمشي على قدمي. فجأة، صهل فرسي فانتصبت واقفا أمشي على قدمي، وأخطو خطواتي الأولى نحو باب الفناء. ثم جلست في مكاني. ظلت أمي ترقبني وتنتظرني أن أقوم وأستأنف سيري دون أن يحدث. فدخلت المطبخ. وحينما خرجت وفي يدها طبق غدائي، لم تجدني في فناء البيت الواسع، ورأت باب الفناء مواربا. فسقط طبق الطعام من يدها، واندفعت خارجة وهي تصرخ وتستصرخ أبي:

ـ وحيدنا صهيل خرج.. الفرس الشرير سيقتله.. أسرع يا أبا صهيل أسرع..

تأبط أبي بندقيته وهرع لينقذني من الفرس الهائج منذ ولادته. إذ ما أن يشم رائحة إنسان حتى تركبه كل العفاريت ويهيج ليفتك به. وإن امتدت يد أبي للمس وبره الناعم الكثيف، يفتح فكيه على مصراعيهما ليلتهمه. فيحكم ربطه ويبتعد عنه خوفا من أن يؤذيه. وكان ينتظر أن يكبر ويشتد عوده ليقوده إلى غابة نهر الصبايا ويتركه هناك.

وحينما خرجا من البيت يبحثان عني. تسمرا في الباب مندهشين ذاهلين مما يريانه بأم أعينهما. ولم يصدقا أن يرياني في حضن الفرس المتمدد على الأرض. يضمني إليه تارة ويبعدني عنه تارة أخرى ثم يستردني إليه. وأنا أضحك وقهقهاتي ترتد في المكان. وتقول أمي أنها أول مرة سمعت ضحكاتي الرنانة تلك. وحينما بلغت ظهره، استوى واقفا يدور بي في المكان، وينظر إلى أبي تارة، وتارة أخرى،  ينزل على وثاقه الحديدي يلوكه حتى كاد يفتك به وينطلق بي بعيدا. لكن يدي أمي كانت قد سبقته إلي فخطفتني من فوق ظهره، وأبي يمسك على الزناد وفوهة بندقيته على صدغ فرسي..

ـ غريب أمر فرسك. كل مرة أكتشف ما يبث القلق في نفسي.. لم أنس تلك الدموع التي رأيتها في عينيه يوم خضت معك لعبة العري. كما أني لم أنس أيضا يوم قدته معك إلى هنا في أولى حصصنا العشقية كيف كان ضبح بشكل غريب حتى أحسست أنه سينقض علي، ويفنيني في الحال، ولم يسترد هدوءه حتى رآك تقترب منه.

ـ هو هكذا يبدو متوحشا للأغراب، لكنه لم يؤذ أحد يوما. وقد صار هذه الأيام التي أتركه في البيت نحيفا وهزيلا وقد فقد كثيرا من نشاطه. قد لا تصدقين قولي إننا ولدنا في ذات اللحظة، وأطلقنا صرخات الولادة في آن واحد. وأنه يستحيل أن يمتطي ظهره أحد غيري. وأنا أيضا، إن لم أره ونجول في البلاد معا يعتريني الهرش واضطراب في حواسي، ولا أهدأ حتى أجيب نداءه وننطلق معا.

ـ ليت أبوك تخلص منه وأنت صغير. أشعر أن فرسك اللعين يدبر لي أمرا ويحفر لي حفرة لن أخرج منها. يا إلهي، لو أقدر على تهجي هذه الخطوط. هيا قم واذهب إلى صديقك قبل أن يصيبك الهرش وتصاب بالاضطراب وربما تبكي كما حدث في ذلك اليوم الذي ناداك فيه. أما أنا فسأمضي اليوم لأرى أخي صحصوح. اشتقت إليه. وسأخبره بأننا سننهي قريبا حصص العشق عله يترك كهفه ويحضر زفتنا إلى جنان الحب..

***

على غير عادته، وجدته اليوم مشرق الوجه عذب الصوت وينتظر فقط من يمد له يده ليخرج من كهفه. كأن الأيام التي ابتعدتها عنه أثناء انشغالها بالحصص العشقية أعاد إليه صوابه. راقها حاله. حتى أنها لم تصدق أنه هو أخوها صحصوح الذي تحدق إليه باندهاش. كل شيء فيه تراه أجمل مما كان عليه سابقا.. صورته، صوته، ابتسامته الساطعة من عينيه، شفتاه الرقيقتين المزموتين تخنقان التبسم.

أخفت وجهها بين راحتيها وهي تصرخ فرحا:

ـ أحقا هذا هو أخي صحصوح الذي أقسم لي مرارا بألا يدع كهفه حتى يموت أو يحدث انقلابا في الوجود؟!..

يضحك لها بخجل دون أن ينبس بكلمة.

ـ أترى قد حدث انقلاب في الوجود وأنا لا أدري؟ أم ترى أن انقلابا مذهلا حدث في داخلك يا أخي.. وما سر هذا الانقلاب.. احك يا صحصوح.. ما لي أراك تنكمش كأنك ارتكبت جرما؟ احك لأختك ما حدث في غيابي.. هيا انطق ماذا تراك تخفي عني؟. أشعلت فضولي يا رجل. هيا احك شيئا

ظل يبتسم لها دون أن ينطق بكلمة. فمددت له يديها تسحبه إليها ليخرجا معا من هذا الكهف الذي سكنه سنوات وهي تقول بنبرة حازمة:

ـ غدا سأنهي حصص العشق مع فتاي صهيل، وسأدخل معه جنان الحب في نهاية الأسبوع. إياك أن تمتنع عن الحضور...

تلكأ قليلا وهو يبتسم لها، ثم قال والفرحة تتفجر من وجهه المشرق:

ـ سأخرج.. لكن..

ـ لكن ماذا؟

ـ حتى تصل شقشوقة.. سنبدأ غدا حصص العشق. إنها كانت تنتظر على نار انتهاء حصصكم العشقية أنت وصهيل لتبدأها معي. لا أقوى على حضور زفتك إلى جنان الحب

قالها وهو يبدي بعض الامتعاض. فحضنته إلى صدرها. تهزه بكل فرحها وهي تبارك له حياته الجديدة. ثم زغردت كما لم تفعل قط في حياتها. وعادت تحدق إلى وجهه وقد انكشف لها سر ما يخفيه عنها في بحر عينيه الصافيتين ثم قالت له:

ـ هي شقشوقة إذا من سحرتك؟!!

ابتسم لها وهو يعض على شفته السفلية يحدق في وجهها كأنه يكتشفها لأول مرة ثم قال لها:

ـ الآن، عرفت سحركن.. وعرفت سر بقاء مملكة الجدة عطوف القطوف صامدة كل هذه القرون...

ـ الآن اطمأننت عليك، وأحببت صديقتي شقشوقة التي قدرت بسحرها أن تشدك إلى مملكة جدتنا بكل هذه القوة.. بحيرة العشق، تصب فيها وديان جنان الحب. اغتسل فيها، جيدا وتطهر بمياهها العذبة من عذابات نفسك. ستخرج منها بقدرة إله الحب كأنك ولدت من جديد. لكن احذر أن ترفض لشقشوقة طلبا، أو تتعنت في أداء ما تطلبه منك.. دروسنا طويلة ومريرة نختبر بها فتياننا إن كانوا سيتحملوننا ويستحقون بالفعل شرف إدخالهم معنا جنان الحب حيث ستعيش كما تحلم. كلنا فيها سواسية. لا أمر على أحد. ولا عابد أو معبود فيها. كلنا فيها أطيار ننعم بالسعادة التي ننشدها والتي لا نحقق منها إلا فتافيت خارجها في مملكة النساء.. احرص جيدا على بلوغ هذه الغاية..

ـ لا تقلقي بشأني.. فشقشوقة في القلب وفي كل قطرة دمي يا شموسة. لو طلبت مني أن أسلخ جلدي سأسلخه من أجل بسمتها ورضاها عني

ـ لا تظهر لها كل هذا الحب ولا تطلب منها شيئا.. فهي شريرة وقاسية في عقابها.. ألا تدري ما فعلته بفتاها السابق شبلول؟

ـ أجل، لقد حكت لي ما فعلته بشبلول المغرور الذي نسي قدر نفسه.. لكن ما يؤلمني أنه دائما بيننا.. شقشوقة رغم كل ما فعلته به، لا تبطل الحديث عنه..

ـ لا تغار يا رجل من ميت.. فهو قد نال عقابه وانتهى، وما حديثها عنه غير طبطبة خفيفة لقلبها الجريح.. احرص على إنهاء حصص العشق معها بنجاح.. هيا كن امرأة أيها الرجل الوسيم..

ثم ودعته مسرورة بحال أخيها وبمراسم دخولها جنان الحب مع حبيبها صهيل التي ستبتدئ قريبا. عادت بعد خطوات لتقول له بصوت عال من بوابة النفق:

ـ استعد أيها العاشق الولهان لتبدأ حصص العشق.. إن شقشوقة قادمة...

***

أنهيا اليوم حصتهما العشقية الأخيرة مبكرا جدا. فظلا وسط البحيرة متعانقين مشرقين كأنهما شخص واحد بظهرين. وأصوات الأطيار تملأ المكان كأنها جاءت لتحتفل معهم بهذه اللحظة التي لم يصدقا بعد أنها حلت. خفق قلباهما بشدة حينما سمعا أهازيج بنات العين تقترب. تعانقا بقوة كأنه عناقهما الأخير. ثم توادعا ودموع الفراق تترقرق في أعينهما. سبحا كل واحد منهما في اتجاه معاكس نحو ضفة البحيرة. وصلت بنات العين ورجال العين بزيهم النوراني الأبيض إلى ضفتي البحيرة يهللون ويهزجون بأهازيج جنان الحب.

مدت بنات العين أياديها البيضاء، فدثرت شموسة العارية بلحاف أبيض مطرز الحوافي بخيوط ذهبية لامعة، وحملتها كحمامة ووضعتها فوق فرسها المسرج بسرج أبيض ومضى بها جهة اليمين، وخلفها بنات العين بلباسهن الأبيض تهزج بأغان دافئة تبعث على الخشوع والطمأنينة. وذات الفعل قام به رجال العين. فدثروا صهيل بإزاره الفضي اللامع ومضوا به جهة اليسار فوق فرسه البهيج أكثر من أي لحظة في عمره.

انطلق الموكبان بترانيم هادئة ليعدونهما للصبيحة العمرية التي لن تتكرر في حياتهما: صبيحة دخول جنان الحب. وأعين المتجمهرين على جنبات طريقيهما تبارك وتهلل في صمت حتى تواريا عن الأنظار تاركا خلفهما عطرا يعبق المكان، وعذوبة الشدو ينشر السكينة والصفاء في النفوس.

حلت شموسة بعين النساء. فامتدت إليها الأيادي البيضاء ثانية وأنزلتها من فوق فرسها وحملتها إلى عين النساء تحت رنات موسيقية هادئة، وأهازيج طروبة أشبه بصلوات في معبد. أزيح عنها الغطاء الذي يدثر جسدها. ووضعت بلطف ورفق شديد ـ كما لو كانت بيضة يخشى عليها أن تنكسر ـ فوق صخرة مقعرة من الوسط، تكسوها أعشاب خضراء ناعمة.

 أسبوع بأكمله وشموسة تظل جالسة على هذه الصخرة من الصباح حتى منتصف النهار، والمياه الدافئة تتدفق عليها من كل الجوانب، والأيادي الناعمة تدلكها بلين شديد. وحينما تبدأ الشمس تسحب أشعتها، ويظلل مكانها وتفقد المياه لمعانها، ترفعها الأيادي وتنقلها إلى صخرة أخرى تحت شجرة البراغيش العملاقة. فيطعمنها الخضر والفواكه ولحم الأطيار، ثم تنام في حضن الشجرة حتى تغيب الشمس ويسقط الليل، فتشعل الشموع والفنانيس في كل مكان. ولا يصل أذنها غير أهازيج دافئة وخرير المياه الآتي من الشلالات الكثيرة المتدفقة كأنهار من الحليب من الأجراف حولها وتصب في النهر في الأسفل. والأغصان التي كانت تظللها من أشعة الشمس تلتم على الشجرة، فيبزغ  القمر مشرقا منيرا. وتنام شموسة ووجهها مقابل لوجه القمر.

تستيقظ في اليوم التالي على إيقاعات موسيقية هادئة مع أهازيج دافئة تنساب من كالحرير الناعم من شفاه بنات العين. تفتح شموسة عينيها وقلبها ينشد معهن تلك المقاطع التي تذيب قلبها شوقا وحنينا للحظة التي ستعانق فيها فتاها صهيل، وتطير معه إلى جنتهما المنتظرة. وإن كان ذلك الضباح الذي استقبله به فرسه لا زال يطن في أذنها وينزل على قلبها كسوط من نار فيعكر صفوها للحظات دون أن تقوى على التصريح به.

رفعتها أذرع بنات العين ومضين بها يتأرجحن بها، كأنها في مهد تحركه أياد ملائكية حتى بلغن بها صخرة الفرات الوثيرة حيث كانت أمس، فوضعنها فوقها. والمياه الفوارة تتدفق عليها من كل جهة. وانسحبن لتدنو منها أياد أخرى تدلكها بخفة ولين من رأسها حتى أطراف أصابع رجليها، حتى شعرت بأصابعهن المرمرية ترقص على جسدها على إيقاع نغمات موسيقية هادئة وترانيم أغنية الصباح التي ينشدنها، والتي تذكرها بأغنية زفها إلى جنان الحب. فتغمض عينيها وتدخلها مع فتاها صهيل على إيقاع دندنتهن ونقرات أصابعهن..

وفي اليوم السابع والأخير، حملت بإيقاع حزين ودموع تذرفها أعين بنات العين حزنا على فراقها القريب. وضعت في حضن شجرة البعاعيش العملاقة ذات الأوراق الكبيرة الناعمة والملفوفة على بعضها والتي تتفتح في العالي على أوراق ملساء خضراء تلمع وكأنها مدهونة بمادة لامعة. سحبت ورقة ووضعت فيها شموسة لساعة تقريبا واستدارت بها بنات العين بزيهن الأبيض كالحمائم. يستحثن، بأصواتهن العذبة، الشجرة على أن تطلق رائحتها العذبة الراسخة أبدا في البدن الذي تمسه، والقارة أبدا في الأنوف التي تشتمها. بعد لحظات قليلة، بدأ الفوار العطري يتسرب قليلا قليلا من جذع الشجرة، كدخان أبيض، حتى لف كل الشجرة ولم تعد ترى شموسة. حينها، بدأت بنات العين يخففن من إيقاع موسيقاهن وبدأ الفوار العطري يخف قليلا قليلا إلى أن اختفى كأن عطر رش وأغلقت عبوته. وبدأت تظهر شموسة ببسمتها اللطيفة كأنها استفاقت من حلم جميل.

ألبست الحرير والمجوهرات، ووضع فوق رأسها إكليل الورد، فحملت ووضعت فوق فرسها الذي ناله كثير من النظافة بماء العين ومن عطر الشجرة. ومضى بها الموكب بأهازيج الفرح إلى جنان الحب حيث يمضي إليه أيضا صهيل على فرسه الذي يرقص فرحا. كأنه من سيزف إلى جنان الحب وليس صهيل الذي مهما حاول أن يهدئ فرحه ورقصه لم يقو على وقف جماح فرحه.

وصلت شموسة تتقدم الموكب على فرسها الأشهب. أميرة في كامل أبهتها في ملبوسها الحريري الأبيض المطرز بخيوط ذهبية والمرشوش بعقيق لامع يخطف الأبصار. وتاجها الوردي مثبت أعلى رأسها. وشعرها الحريري المنسدل على صدرها تتخلله وردات صغيرة. تبتسم للعيون المحدقة إليها فتبرز غمازتين على وجنتيها الورديتين فتزيدها ألقا وبهاء.

اعتلت المصطبة تحت تصفيقات الجماهير الغفيرة المحتشدة في المكان منذ شروق الشمس. ألقت سوطها أرضا، إيذانا لفتاها صهيل بأن يصعد لدخول جنان الحب معها، وعيناها مشدودتان إلى بوابة جنان الحب تنتظر انفتاحها. تحت وقع التصفيقات والزغاريد التي تهز المكان، دفع بفرس صهيل ليلتحق بها أعلى المصطبة. تعنت الفرس عن التقدم كأن قوة جبارة تشده إلى مكانه في الأسفل. فحملته الأيادي حملا حتى زحزحته من مكانه وتقدمت به خطوة إلى الأمام. توقف في وسط المنحدر، وصهيل بهالته السلطانية يحثه بكل حيله ليمضي به إلى قمة الهضبة العالية حيث فتاته شموسة تنتظره وتخشى أن تنفتح بوابة جنان الحب وهو لم يصل بعد.

بعسر مرير، استطاع صهيل أن يبلغ بفرسه إلى القمة، وخيط من نار يشق قلبه ويشطره إلى شطرين وهو يرى نظرات الوداع الحزينة في عيني فرسه الذي سيتركه وراءه. وشموسة تمد له يدها تحثه على الاقتراب والوقوف بجانبها وعيناها أبدا معلقتان على بوابة جنان الحب التي لم تنفتح بعد.

حن قلبها إلى أخيها صحصوح الذي يمضي حصته العشقية السابعة في بحيرة العشق التي تمتد أسفل الهضبة على يمينها. فودت لو تقدر على الالتفات إلى يمينها، ربما رأته وودعته. طمأنت نفسها بأن أخاها سيتبعها إلى جنان الحب في غضون أسابيع قليلة، فابتلعت عبراتها التي كادت تخذلها ووجهت جوارحها إلى بوابة جنان الحب، ويدها ممدودة إلى صهيل الذي لا يزال يتعارك مع فرسه ويدفع به لقطع الخطوات القليلة المتبقية لبلوغ المصطبة.

اهتز جذعها على فرسها، وشعرت وكأن سوطا من نار قد نزل على قلبها بسبب ضباح فرس صهيل الفظيع وهو يقدح الصخر بحوافره. حتى خشيت شموسة أن يلتهمها من الخلف. وصهيل يحاول بكل حيله في لجم حدة هيجانه. همس في أذنه بكلام مقتضب غير مسموع. فهدأ قليلا وبدأ يتقدم بخطوات ثقيلة كأنها يتقدم بها نحو حوض من نار وهو يلهث، ويكظم أنفاسه التي تخرج من جيبي أنفه المفتوحين حارة ملهبة كأنها تخرج من تنور متقد. تناهت إلى مسمع شموسة المرتعدة فوق فرسها نهنهات مريرة تخرج من فم صهيل حارقة. فخمنت أن خطبا جللا حدث أثناء إعداده لهذه الصباحية، وخلفت في نفسه أثرا بليغا لم يقو على تجاوزه حتى وهو على عتبة بوابة جنان الحب، التي لم تنفتح بعد. وتبدو لها صخرة عظيمة صماء، ولا أمارة واحدة على أنها ستنفتح قريبا.

تضرعت بعينين تخنقان الدموع إلى إله الحب أن يتعجل بفتح الباب، فتنبعث من داخله عطر جنان الحب المسكر فتنجذب إليه الأعين بدل انجذابها إلى صهيل الذي يتعارك مع فرسه ونهنهاته تخترق أذنيها كالسنان. فاضت دموعها من شدة الهلع الذي صب دفعة واحدة في قلبها وارتسم على وجهها فبدت كوجه الشمس خلف غيوم اجتاحتها فجأة.

حذت يدها المدودة يد صهيل، فتنفست الصعداء. وقبل أن يكمل قلبها خفقة الفرح بالنجاة من أهوال نفسها، حتى انهارت وغاصت في بحر الهول حينما رأت بأم عينيها كيف جذب الفرس الأهوج يد صهيل من يدها، وانقلب يتدحرج به إلى الأسفل، إلى بحيرة العشق الممتدة أسفل الهضبة. ورأت كيف ضرب بقائمته الخلفية قلب أخيها صحصوح الذي كان يدنو من نهاية البحيرة في حصته العشقية السابعة. قذفه كالكرة بعيدا في البحيرة ثم غاص بصهيل إلى العمق، والدم يسري على صفحة الماء خطوطا حمراء متشابكة متداخلة شبيهة بالتي قرأتها على جذع الشجرة ذات يوم، وهي لا تدري إن كان دم صهيل أم دم أخيها. لكنها متأكدة بأن الوعيد الذي سجله على جذع الشجرة ما نفذه اليوم، وأن نزيف قلبها لن يتوقف بفاجعتيْ يومها. فانهارت وسقطت من فوق فرسها مغمى عليها..

***

لم تجد شموسة سببا تتكئ عليه لتفك لغز ما حدث صبيحة زفتها لجنان الحب غير أن فتاها صهيل كان أشد حبا لفرسه منها. ولهذا السبب كسب الفرس الأشهب الرهان وعض قلبها عضة العمر. لا تدري كيف ستفيق منها يوما.

ظلت سائحة تحت شجرة نخيل أحمر بعيدا عن بيتها وعن أمها. هو ذات المكان الذي تحملها إليه رجلاها دائما كلما امتلأ خزان نفسها بالحزن، وفاضت روحها بالألم. فتظل تنصت إلى صوت شجرتها الخافت الحزين كأنه ناي يعزف معزوفة حزنها. لا تدري لماذا تأخذها ظنونها دائما بأن هذه الشجرة تحكي لها قصة حزينة، وتنظر إلى حركات أغصانها وهي تتمايل بهدوء جهة اليمين ثم تعود بذات الهدوء والثقل جهة اليسار كأنها ترقص على إيقاع أنينها. فيحدث مرارا، وهي في محراب هذا الحزن المتناغم مع حزنها الدفين، أن تأخذها سنة وتغيب في نوم عميق، وتحلم حلما ينعش قلبها ويعيد إليها روحها المرحة فتقوم وكأنها ما لدغتها الأيام.

أسابيع مرت، وهي تقضي نهارها في رحاب شجرتها. تنصت إلى صوتها الحزين دون أن تفوز بسنة واحدة تريحها من فاجعتها. فتقوم مع بداية هبوط الليل، وتجر ثقلها وأنينها إلى بيتها الذي تهجره كل يوم مع أولى خيوط الصباح.

بلغتها أهازيج زف أخيها إلى جنان الحب. والزغاريد تلعلع في السماء، فبثت خيوطا من الضوء في عتمة صدرها. لملمت شتاتها وسارت وراء خطواتها البطيئة. ما لبثت أن انطلقت مسرعة لتلحق الموكب قبل أن يعتلي أخوها المصطبة. وذلك حتى تراه وتودعه بعينيها وتبتسم له ثم تعود إلى أحزانها.

ابتهجت بصورة أخيها وهو ماض على فرسه إلى بوابة جنان الحب كالسلطان في قفطانه الأبيض المطرز بخيوط ذهبية. ومرشوش بعقيق لامع يبدو كنجوم صغيرة على كوميه العريضين وعلى كل أطرافه. وفوقه يلبس برنسا مطرز حوافيه بخيوط ذهبية لامعة، وتناثرت عليه عيون صغيرة بألوان مختلفة تلمع كالنجوم، وعلى رأسه إكليل من الورد وشعره الأشقر الطويل منسدل على طرفيه كالحرير.

سالت دموع الفرح على خديها بهذه الأناقة السلطانية، وهذا الجمال الذي يخطف العقل. فتقدمت في اتجاهه تزاحم الجماهير لتقترب منه أكثر، وحتى لا تفوت عينيها لحظة من لحظات اعتلائه المصطبة.

وقف إلى جانب شقشوقة التي تبدو أميرة فوق فرسها. تخطف الأبصار بجمالها الأسطوري الساحر، وبهدوئها واتزانها الغير معهودين فيها. وكأن شخصا آخر سكن جسدها وليس تلك الفتاة التي تفيض مرحا وصخبا حيثما وجدت. عيناها الواسعتان المكحلتان مغروستان في بوابة جنان الحب التي دخلتها بروحها ولم تترك خلفها غير جسدها القابع فوق الفرس كالصنم المصقول لإله الجمال.

لم تتوقف عندها شموسة كثيرا حتى شقت زفرة مريرة صدرها كاللهب الحارق حينما تذكرت صبيحتها القاتلة يوم كانت مكان صديقتها. حولت عنها عدستيها وغرستهما في أخيها الذي تغشى وجهه غشاوة من الحزن، ما تفتأ تتسع وتتعمق حتى صارت ترسم ملامح وجهه الصبوح. وفي عينيه تتكدس غيوم ملبدة تنذر بمطر وشيك. أجل، إنه يغالب الدموع، وصدره يعلو وينخفض فيحرر من فينة لأخرى نهنهة من نهنهاته التي تندفع من أعماقه كشظايا حارقة. ودت لو يسمح لها فتقفز إليه وتحضنه إلى صدرها بقوة ولا تدعه حتى تنقشع غمامة الحزن من على صفحة وجهه، وتنزع منه تلك القهقهة التي تفتح حدائق غناء في أعماقها.

أخذتها الظنون في شتى الاتجاهات وهي تبحث عن سر هذا الحزن. دمدمت دون صوت:" أنا السبب.. هو حزين مما جرى لي.. أو ربما قلق علي.." دفعت بقدميها إلى الأمام تخترق الجموع المحتشدة لتريه بسمتها، ولتبش في وجهه حتى يصفو للحظة عمره. "سأهمس له بأني قريبا سأختار فتى آخر.. وأني سألحق به في جنان الحب قريبا جدا..." فاضت عيناها ولم تقو أن تصمد أمام عينيه لتوهمه بأمر لا تقوى على التعبير عنه. فقلبها انفطر واندفن مع صهيل. لذا توارت تخفي دموعها عن الجماهير الغفيرة المحتشدة على جانبي بوابة جنان الحب. وهي تخشى أن يسخروا منها وهي التي وضعت الجدة عطوف القطوف كل الرجال في يدها حتى الذين لم يولدوا بعد شريطة ألا يكون قد حجزته أخرى قبلها، أو أنه في كنف امرأة أخرى. كما خشيت أن يرموها بالجنون حينما يرونها بسحنتها المعفرة بالتراب كأنها خرجت من القبر. جففت دموعها، ونفضت ملابسها مما علق عليه من الأتربة، ورسمت الفرحة على وجهها، فلوحت لأخيها بيديها، وهي تقفز متصنعة الفرح والسعادة رغم أن قلبها لا زال مقفل إزاءها بأقفال من حديد. لم يرها ولم يلتفت إليها. كانت عيناه معلقة على بوابة جنان الحب التي هي على شكل قلب حجري كبير، وقد بدأ ينفتح من الوسط على ورائحة الطيب تنبعث من داخلها فواحة مسكرة.

اختلجت في عينيها دموع الفرحة بدخول أخيها جنان الحب مع دموع الألم لأنها لم تدخلها مع فتاها صهيل. وراحت تنتظر مع الكل لحظة اكتمال انفتاح بوابة جنان الحب ليرف أخوها وحبيبته شقشوقة نحوها طائرين. لم تنفتح كلية بعد، حتى صخب المكان بخفقان عملاق، فالتقاء طائرين عملاقين على بوابة جنان الحب. خفقا قليلا كمن يستحث البوابة على الانفتاح أكثر ثم ولجا داخلين كالنسيم، وانغلق الباب عليهما. وصحصوح على فرسه يقبض على رأسه، وعيناه الجاحظتان تلتهمان البوابة التي صفقت أمامه دون أن يستوعب ما حدث. نزل من فوق فرسه وانطلق جاريا إلى بوابة جنان الحب الصخرية. يلطمها بقبضتيه ورأسه. سالت دماؤه حولها.

طارت إليه شموسة تخترق الجموع مفجوعة. أخذته في حضنها تهدئه وتجره معها لتبعده عن البوابة التي أظلم الجو حولها فجأة، ولجة من ضباب أبيض حار يغلف المكان حولهما، ويكاد يذيب جسديهما. والكل يهرول يتابع من بعيد وبذهول ورعب شديدين ما يحدث، وما سيتمخض عنه هذا الجو المتقلب كأنه رياح جهنم التي تحوم حول جنان الحب.

ابتعد الكل خوفا من حدوث كارثة هوجاء تشبه كارثة فيضان نهر الصبايا. يراقبون من بعيد هذه الأهوال المرعبة الجديدة عليهم. وشموسة مستمرة تجر أخاها بعيدا وتمنعه من تمزيق ملابسه ونتف شعره. يحملق فيها ولم يصدق بعد ما جرى ويجري أمامه حتى خشيت عليه أن يجن ويفقد عقله، أو يرتكب جرما في نفسه. زلزلته بين يديها لتوقفه عن المجزرة التي يحدثها في جسده وهي تبكي وتقول له:

ـ انظر يا صحصوح.. لقد أنصفتك الآلهة.. انظر كيف سيجت جنان الحب بطوابي الصبار.. انظر كيف تشجر بها المكان حيث كان شبلول مختبئا ينتظر.. وانظر إلى الشق العظيم الذي حدث في بوابة جنان الحب. إنه بسبب الشق الذي أحدثته الشريرة شقشوقة في قلبك.. سأحدث أبشع منه في قلبها.. سأنتقم لك من الجنية شقشوقة.. أنا امرأة مثلها وأعرف كيف أطعن قلبها كما طعنتك. دعها تفرح إلى حين بطائرها شبلول.. كانت الغدارة تخدعك ولم تحبك قط.. أسكنت شبلول في جسدك فتظاهرت لك بالحب.. كانت تحبه هو ولم تشف من حبها له كما أوهمتني وأوهمتك.. دعها تفضله عنك وتفرح به إلى حين.. وقوة نهر الصبايا، وجبروت الجدة عطوف القطوف، سأحرق جنان الحب وأحيلها جحيما على رأسها.. "

انتفض واقفا بحرارة النار المضطرمة في صدره. انتشل نفسه من قبضتها وقال لها والشرر يلمع في عينيه:" هي الجدة عطوف القطوف من تستحق الموت.. هي من تواطأت مع إله الحب ليدبرا لي هذه الضربة القاتلة.." شدته من يديه لتعيده إليها. انتزع نفسه من يديها بكل قوته وقفز فوق تل قريب:" دعيني أمضي لأقبض على روحها.."

ـ تعقل يا صحصوح ولا تترك الغضب يعمي بصرك وتهلك نفسك.. تعقل..

ـ سأمضي إليها ولن أعود إلا ورأس الجدة عطوف في يدي.. سأسحقها وأدمر مملكتها كما دمرتني..

قفزت إليه وجذبته من كوم قميصه الحريري الأبيض المزركش بعقيق ذهبي، وهي تتوسل إليه بعينين باكيتين ألا يغادر المكان. انتزع يده بقوة من يدها وظلت حبات العقيق اللامعة في يدها. اندفع يجري يطوي المسافات أمامها كأن ريحا صرصرا تحمله وتتوغل به وسط الجبلين..

فسقطت أرضا تتمرغ في التراب، وتحفنه بيديها وتلقيه على وجهها ورأسها كما تفعل كلما اشتد بها الضيق وطوقها العجز من أمر ما. وغالبا ما كان يحدث حينما تعجز عن رد أمها عن بطشها بأبيها. طال تمرغها في التراب ولم تهدأ ولم تقوى على القيام لتنفض عنها الغبار وتمضي كعادتها إلى بيتها. سقطت على وجهها كالميتة وفمها المفتوح يغوص في التراب..

أخذتها سحابة نوم أو غيبوبة خاطفة. استفاقت منها على صوت هادئ لطيف ليس غريبا عنها. شيء حدث في ذاكرتها بهذه النومة الخاطفة. صورة مبهمة غامضة تتفتح في ذاكرتها وهي ترى شخصه في سحنته البيضاء، ولحيته الأشد بياضا، وعكازه الفضي اللامع يدنو منها. لقد سبق وأن رأته.. لكن أين ومتى؟؟ لا تدري شيئا. قشعريرة برد غير مألوفة هزت جذعها، فخوف، فسكينة، وموجة اطمئنان غمرتها حينما اقترب منها بوجهه النوراني الباسم. كادت تسأله عمن يكون؟ ولم جاءها في هذه اللحظة؟. لكن السكينة التي حلت بنفسها وهي تتمعنه منعتها من كسرها بسؤال قد لا يجيب عنه. أو ربما قد يفصح عن هويته وهدفه من اقتحام مكانها من تلقاء نفسه.. ابتسم لها يطمئنها وهو ينقر نقرات خفيفة بعكازه الفضي على الكتاب الصغير الموشوم على ذراعها. كانت تقول أمها عنه أنها كانت تعشق الكتب يوم كانت حامل بها، وأن كل النساء يتوحمن على الأكل وهي توحمت على الكتب، ثم تنزل بدعوات الشر على أبيها لأنه لم يأتها بكتاب تشبع به لهفها للقراءة، فطبع كوشم عجيب في ذراعها وذراع أخيها صحصوح. ابتسم لها وغاب في لجة من الغمام الأبيض وهو يؤكد لها بصوته الناعم الهادئ وبنبرته اليقينية كأنه من يحرك الأقدار: " صحصوح سيعود.. صحصوح سيعود.. صحصـوح سيعووووووود..." وظل يرددها إلى أن اختفى كلية تاركا إياها تتلفت حولها وهي لا تدري إن كان ما رأته حلما أم حقيقة. لكن ثمة اطمئنان غلف قلبها وأراحها من هواجسها وقلقها المميت على أخيها..

فقامت تنفض عنها الغبار. أجالت بصرها حولها في الخلاء المحاط بالجبال والغابات الكثيفة، وتتعقب طريق أخيها وهو يهرول يطوي الروابي حافي القدمين، ولباسه الأبيض تنفخ فيه الرياح. فبدا لها كطائر عملاق يطارده الرصاص. تذكرت شبلول كيف طار وعانق شقشوقة وطار بها داخلا إلى جنان الحب. فلطمت صدرها بقبضة يدها وهي تقول:" أنا بومة جنان الحب.. سأحولها إلى دمار فوق رأس شقشوقة ورأس شبلولها الحقير.. وحينما تعود، يا صحصوح، وتنطفئ جمرات قلبك، أكون قد انتقمت لك من شقشوقة اللعينة.. أنا من أدللتها على مكانك وأنا من سيدحضها ويحيلها غبارا أنفثه في الهواء أمام عينيك.. لكن لا تتأخر.. لا تتأخر أخي صحصوووووح.."

***

ـ III ـ

اتكأ على ركبتيه يلهث مثل كلب أعياه الظمأ، وعيناه المحمرتان مشدودتان إلى قمة الجبل الذي يعرفه جيدا. فهو الجبل المطل على نهر الصبايا والذي اعتكف بالكهف داخله فترة قبل أن تخرجه منه شقشوقة. ركز بصره على تلك الشجيرات القصيرة المتناثرة أعلى قمته كجنود تحرسه، وتهتز رغم الجو الحار الخانق، وكأن يدا خفية قوية تهزها لتوقظها حتى تظل يقظة حذرة ولا يفلت منها العدو المرتقب. لم يتخيل هذا العدو المرتقب غير شخصه الضعيف، ولم تبد له تلك الشجيرات غير نساء قويات شرسات نصبتهن الجدة عطوف في طريقه ليمزقنه ويحلنه بين مخالبهن نتفا ينثرنها في الهواء. وأن هذه الهزات لجذوعهن بفعل نفس الجدة عطوف القطوف الذي تنفخه في صدورهن.

استقام في وقفته وعيناه مركزتان على تلك الشجيرات وقد فاضتا بالتحدي والإصرار على المضي قدما مرددا في قرارة نفسه:

لم يعد في شيء قابل للتمزيق..

لم أعد أخاف على شيء ولا من شيء..

حتى أنت أيتها الجدة الملعونة، لا أخاف منك ولا من وابل جمراتك، ولا من عاصفة سياطك إن أطلقتها علي..

ولا أخاف من نسائك، ولا من نهر الصبايا الذي يخاف منه الكل.

هيا أطلقي علي أسلحتك أيها الجبارة الظالمة.. هيا اجلديني بسياطك النارية.. هيا ماذا تنتظرين.. هيا؟؟

ملأ صدره بشحنات تلو أخرى من الهواء كمن لا ينوي أن يتنفس بعدها، وعيناه تجوبان الجبل أمامه تستجليان أقصر طريق لتسلقه حتى القمة. ثم طار يصعده بحرارة أشد من يوم قصده هاربا من أمه. تسلقه دفعة واحدة دون توقف. وحينما ينتابه العياء ويشعر برئتيه على وشك الانفجار، يمسك بغصن شجرة في طريقه، فيقفز قفزة جبارة إلى الأمام، وأحيانا ينحني ويمشي على أربع.

بلغ قمة الجبل. وتهالك منبطحا على ظهره كما الميت. وصدره يعلو ويهبط يعب الهواء ويزفره حارقا ملتهبا كأنه خارج من فرن متقد. وشمس الظهيرة تلهب جسده، ونار الغدر تعصف بقلبه حتى آخر خلية، وتزيده إصرارا على المضي قدما في هذه الرحلة التي قضي في طريقها رجال كثيرون من قبله.

استرجع نفسه، فقام وانتصب واقفا، والعرق يتصبب من كل جسده. قميصه الأبيض الطويل الهفهاف والمعفر بالتراب يتخلله بعض الهواء فينعش جسده النحيف. والعقيق الذهبي على أطراف كوميه، وأسفل قميصه تنعكس عليها أشعة الشمس فتلمع كنجوم صغيرة. أجال بصره في المدى البعيد فأقسم في داخله وعيناه تخترقان قرص الشمس:" وعز خالقك أيتها الشمس، ما عدلني عن مسيري، وبلوغ هدفي غير الموت.. ولن أخافه. أن أموت جوعا أو يخطفني نهر الصبايا أرحم من أن أموت خنقا بين يدي حفيدات الجدة عطوف القطوف المغضوب عليهن أمثال أمي.. سأصل إليك أيتها الجدة وسأواجهك بكتاب الحقائق الذي سأتسلمه من الجد الأعظم. وإن ساعتك لقريبة وعلى يدي ستدق أجراسها.." ثم حول بصره نحو الأسفل حيث الأشجار الشامخة المصطفة على مدى طول نهر الصبايا. أشجار ضاربة في المدى البعيد. لا يرى لها حدا يحدها من الشمال ولا من اليمين. أشجار متلاحمة متماسكة، لم تبد له فجوة بين أغصانها وجذوعها لينفذ من خلالها إلى أديم النهر. ومن شدة التصاقها ببعضها، وتشابك فروعها بدت له وكأنها شجرة واحدة عملاقة تقف على ساقين. ساق على الضفة أمامه وساق أخرى على الضفة الأخرى. ولا يرى منها غير أذرعها الفارعة الكثيفة المتشابكة في الأعلى، والتي شكلت سقفا فوق النهر العملاق لتحجب عنه السماء وتحميه من سياط الشمس.

جفف عرق وجهه بكوم قميصه، يتفحص المنحدر الذي يسلكه نازلا إلى الأسفل.  متحاشيا النظر إلى بوابة كهفه على خطوات يسيرة من شماله. تذكر حديث شقشوقة عن فتاها شبلول وكيف كتفته ودحرجته نحو نهر الصبايا من المكان الذي يقف فيه.

تساءل مستغربا:

كيف أفلت من خطفة نهر الصبايا ؟

وكيف تمكن من فك وثاقه والعودة إليها؟

أسئلة أخرى كثيرة بدأت تتواتر عليه، إلا أنه لم يسترسل في طرحها والبحث لها عن إجابة. أغمض عينيه وتدحرج كالكرة من قمة الجبل حتى أسفله.

قام مرعوبا وهو على أمتار من نهر الصبايا. يلهث والدماء تلطخ ملابسه. وخرير مياه النهر القوي يبلغه كصوت وحش على أهبة الانقضاض عليه. ويتوقع في كل لحظة أن تمتد إليه أصابعه الأخطبوطية، من بين فرج الأشجار المصطفة حوله كالجنود المغطرسة، فيخطفه ويتوارى به. عاد خطوات إلى الوراء عند قدم الجبل يجر معه رعبا قاتلا، قشعريرة برد سرت في كل جسده.

ظل حذرا يرمقه بتوجس بطرف عينه. لم يلحظ أدنى حركة على أغصان الأشجار، ولم يسمع للنهر غير هدير مياهه المتواصل. فود لو تسعفه شجاعته وينفذ بين الأشجار ليرى أديمه، وشكله. إلا أنه كلما دفع بنفسه خطوة نحوه، اقشعر جلده وتوقف شعر رأسه وكل زغب في جسده. والقصص الكثيرة التي تحكى عن شراسة هذا النهر وتقلباته تحقنه بهلع شديد، حتى تخيل أن وقوفه بين يدي الجدة عطوف القطوف أهون عليه من الاقتراب من هذا النهر.

ظلل عينيه براحة يده من سياط الشمس الوهاجة التي لا تبدو أنها ستغرب اليوم. يخمن في أي اتجاه سيسلكه إلى الجد الأعظم الذي لا يشك أنه يسكن أحد قطبي هذا النهر. وأن الجدة عطوف تسكن في القطب الآخر. خطى خطوتين في اتجاه اليمين فعاد ليخطو ذاتها في اتجاه اليسار. ثم مضى بخطوات سريعة نحو الأمام في خط متواز مع النهر. حريص كل الحرص ألا ينتهك المسافة التي ضربها بينه وبين النهر.

رأى فتاة جميلة تركض إليه فوق حصان أبيض، فراح يهرب منها ويتوغل في الغابة المنبسطة عند قدم الجبل. وحينما بدا له شاب وسيم يركض خلفها على فرسه، استأنف طريقه بخطوات بطيئة. من فينة لأخرى يرفع رأسه إليهما. كانت شعورهما مبلولة، وأطرافه لا تزال تقطر بالماء وتبلل قمصانهما. والبهجة تغمر وجهيهما.

استوقفته الفتاة الجميلة وسألته وهي تلجم إليها حصانها:

ـ أنت هو صحصوح فتى شقشوقة؟

ـ هز رأسه بالإيجاب دون أن يرفع رأسه إليها

ـ إلى أين أنت ذاهب؟

ـ أبتغي طريق الشفاء من طعنة شقشوقة. أرجو من سيدتي ألا تقطع مسيري الذي قطعت منه مسافة ثلاثة أيام سيرا على قدمي حتى وصلت إلى هنا..

ـ أتدري ما صار بجنان الحب بعد واقعة زفتك؟

ـ لا أدري شيئا ولا أريد أن ألتفت إلى الوراء

ـ حتى وإن كان دواؤك في الوراء؟

ـ دوائي سيدتي في الأمام وأنا إليه ذاهب. أرجو ألا تقطع سيدتي سبيلي..

ـ ارفع رأسك، يا صحصوح، وحدثني وجها لوجه. حكاية ما حدث لك صبيحة زفتك أثرت فينا جميعا. لا تغضب من شقشوقة التي ساندتها الجدة عطوف وإله الحب. فهي معذورة.. كان قلبها ينبض لشبلول وما أنت إلا الدواء الذي كانت تبلسم به جرح قلبها. فقد تخيلته قد مات وأنها من قتلته حينما دحرجته من أعلى الجبل. وحينما ظهر في الوقت المناسب طارت إليه وتعانقا على بوابة جنان الحب فنفذا منها بسرعة البرق.. حكايتك ألطف بكثير من حكاية أمك وحكاية أختك شموسة التي خطف منها الفرس فتاها، فانتهى تمثالا حجريا على ضفة البحيرة. الكل يقول إنكم أسرة تشقى بالحب.. فلا تحزن.. لقد أنصفتك الطبيعة حينما أنبتت حول جنان الحب، وما اعترى قلبك من شرخ ارتسم على بوابتها كشرخ. كل الفتيات بكين لحالك. صرنا نخشى من الاقتراب من جنان الحب بعدما سيجت بطوابي أشجار الصبار وتشققت بوابة جنان الحب.. نخشى أن تتلوث جنان الحب، ونحرم من أن نصير أطيارا طاهرة داخلها.

قاطعها فتاها خلفها: دعيه يتلمس طريق دوائه

لكزته بكوعها فانكمش على نفسه، ثم قفزت من فوق فرسها ووضعت لجامه في يد صحصوح قائلة له والدمع يترقرق في عينيها:

ـ خذ هذا الفرس.. إنه فرسك.. أختك شموسة من ترجتني أن أقطع طريقك لأعطيك إياه. وتترجاك أن تعود إليها قريبا لتطلعك عما فعلته بشقشوقة.. أتمنى أن تشفى من جرحك وأن تجد دواءك قريبا وتنقذ جنان الحب من الانهيار..

ثم استأنفت طريقها فوق فرس فتاها تاركة إياه يخمن فيما تخطط له أخته للانتقام من شقشوقة...

***

أيام مضت وهو يروح ويجيء في مكانه عند قدم الجبل. ينتظر بجوار نهر الصبايا أن تأتي أمه بأبيه فيخطفه من يديها ليرحلا معا. تيقن أخيرا، أنها لن تأتي به وأنها عدلت عن تنفيذ وعيدها كما تفعل كل مرة. فانطلق على فرسه راكضا جهة اليمين، متمنيا أنه في الطريق السليم الذي سيفضي به إلى قطب الجد الأعظم عند نهاية النهر فيأخذ منه كتاب الأسرار الذي سيواجه به الجدة عطوف. "سأبيدها وأدمرها في نفقها كما دمرت قلبي وأحالت حياتي جحيما بقوانينها ونسائها الشرسات." وفي ذات الوقت لم يأبه إن كان الطريق التي يسلكها تقوده إلى قطب الجدة عطوف القطوف.

انطلق بكل سرعته وحماسه. يركض على فرسه ليل نهار ولا يتوقف إلا على إثر أصوات استغاثة من الرجال الناشزين. فيخطفهم من أيدي نسائهم ويركبهم فوق فرسه ولا يرخي سراحهم حتى ينأى بهم عن مكمن الخطر. ثم يرشدهم بأن يسلكوا جهة الشرق ليعيشوا هناك بعيدا عن بطش نسائهم، ريثما يعود إليهم يوما. ويشعر بارتياح عميق حينما يتخيل عودته إليهم وفي يده روح الجدة عطوف.

رفع رأسه شامخا، وشعره الأشقر الطويل يطير وراءه، وظلال بسمة لطيفة ترتسم على شفتيه الرفيعتين وهو ينظر إلى الشمس المشعة من الأفق، ويشعر من شدة سرعة فرسه أنه سيغزوها وهو الذي طالما تخيلها في صغره بأنها وجه الجدة عطوف القطوف، فيظل وقتا يسترق النظر إليها بخجل وذعر شديد، من خلف جذع شجرة، أو من تحت ذراع أخته شموسة.

لا زال يخشى من أن يستغفله النهر وينقض عليه بذراعيه، ويطويه في جوفه كما طوى رجال المملكة الرجالية سابقا.. لذلك يظل يقظا ويحذر من اقتراب فرسه منه. تساءل في حيرة أشد من أي وقت مضى:" يا ترى الحكايات التي ترويها الألسن عن نهر الصبايا حقيقة أم أنها حكايات ابتدعتها الجدة عطوف لتمتن نفوذها وننصاع لجبروتها وجبروت أبد الآبدين؟

وهل الجدة عطوف القطوف أيضا خرافة؟؟ ولكن كيف اتحدت كل الألسن على سيرة واحدة لها؟ وأنها تسكن في نفقها في القطب الشمالي، وأن نهر الصبايا يساندها ويحميها وأنه سر قوتها..

 

وأنه أباد كل رجال مملكة الرجال حينما اندفعوا ليتهجموا عليها، وطواهم في جوفه. وأن بعد هذه الحادثة انهارت مملكة الرجال ولم يبق فيها غير النساء وبعض الشيوخ والأطفال الصغار. وأنها أعلنت عن ميلاد مملكتها بزغرودة دوت في كل أرجاء المعمورة واستقرت في حلوق النساء. ومن يومها، صارت هذه الزغرودة تنفلت منهن عند فرحهن وأقواها تلك التي يودعن بها أزواجهن بعدما يلقين بهم في نهر الصبايا. 

ـ أهذه حكاية يصدقها العقل السليم يا رب الشمس والسماء؟

ـ أيعقل أن يتضامن النهر مع الجدة عطوف لينسف مملكة الرجال وكل رجالها من أجل أن تقيم هي ونساؤها الشرسات مملكتها الظالمة ؟؟..

شعر بذاكرته كأنها قطعة أرض نثر عليها مزارع أعمى في يوم مظلم حفنة من بذور مختلفة فنمت وكبرت واستعصى عليه الفرز بينها وفك تشابكها. مهما حاول التوفيق بين هذه المعلومات التي تردد على كل لسان، يجد نفسه دائما عاجزا على بلوغ نقطة منطقية يركن إليها عقله ويقتنع بها. ولا يفوز من استثارتها غير الانزعاج والمزيد من علامات الاستفهام والشك في كل شيء حوله.

" وحده الجد الأعظم من سينير عقلي.. علي أن أصل إليك أيها الجد بأسرع ما يمكن لأوقظك من سباتك قبل فوات الأوان، عليك أن تقوم وتفرض وجودك في قطبك، أو تتنحى عنه لغيرك قبل أن ينحدر إلى الدرك الأسفل وتنفرد الجدة عطوف القطوف الجبارة بالكوكب فتحدث الكارثة العظمى."

شعر أن المسافة تتمادى تحت قوائم فرسه، وكأنه يسبح في الفضاء الذي لا يحده حد. أسابيع مضت ولم يبد له بعد قطب الجد الأعظم. فعاد عقله ينبش من جديد في حكايات قديمة، وقد لفها بلباس الشك والارتياب كأنه يسمع بها لأول مرة. فتساءل بضيق: كيف أصدق أن نهر الصبايا المساند للجدة عطوف والذي يرتعب من ظل أنثى، كان أيام مملكة الرجال العملاقة تساق إليه الصبايا المغضوب عليهن، ويطويهن في جوفه كما يطوي الآن الرجال المغضوب عليهم؟!

أي قوة تحكمك أيها النهر العظيم؟ وأي قوانين تسيرك؟ هل أنت عبيد ظل كل جبار قهار؟ كيف قويت الجدة عطوف أن تسحبك من يدي الجد الأعظم لتجندك إلى جانبها ؟ هل انتزعتك من يديه بالحيلة والخداع؟ أتراها غدرت بالجد الأعظم كما غدرت بي شقشوقة حتى صار الغدر يسري في دماء النساء ولا يمكن ائتمانهن على شيء؟

وأنت أيها النهر العجيب الغريب كم يحيرني أمرك وتقلباتك!.. كأن لا نظام ولا قانون يحكمك. في الأول كنت عاشقا ولهانا للصبايا. ويخمد هيجانك بمجرد أن تعانق أجساد الصبايا لتسكنهن في أعماق دهاليزك التي لا يقوى أحد على الوصول إليها، وتستحيل بعدها هادئا رقيقا كأنك كيان آخر، فيلاعبك الشبان ويغوصون في أعماقك، ويملأون سطحك هرجا وصخبا وأنت لا تحرك ساكنا، ولا تلتفت إليهم كأن كل ما يهمك هم الصبايا وقد نلت نصيبك منهن. وحينما امتلأ بهن جوفك وصرن يحتلن كل قطرة من مائك، تقيأتهن على ضفتيك. وبرعاية الجدة عطوف المقدسة للجنس الأنثوي، صرن أشجارا وارفة شامخة وكثيفة تحرسك كالجنود المغطرسة. وتحجبك عن الأنظار وعن وجه السماء أيضا. كأن الجدة عطوف تحميك من وابل لعنات السماء التي تستحقها. وكيف لا تخاف عليك وتحميك وتقدسك وأنت من ساعدتها على تشييد مملكتها؟!. فلولا إغراقك لذلك الجيش العرمرم من جيوش مملكة الرجال المتهجم عليها لأبيدت في نفقها الذي تحتمي فيه منذ قرون عديدة. لولاك، ما كنا عرفنا للجدة عطوف القطوف اسما أو وجودا. أنت من صنعتها وأنت من خلقت لها تاريخا ونفوذا نكتوي به نحن الرجال جيلا بعد جيل.

متى ستشبع أيها النهر الجبار من جثامين الرجال كما شبعت من جثامين النساء؟ متى ستلتفت إلى جبروت الجدة عطوف وتنقلب عليها كما انقلبت على مملكة الرجال؟ متى ستتحد مع قوى العدل وتعيد لهذا الكوكب توازنه ليسوده العدل الذي تتعطش له الأرض منذ أمد بعيد. أشد ما أخشاه أن تمضي هذه الحياة في مسلسلها اللانهائي من الحروب والانتقامات إلى ما لا نهاية لتندثر أمة وتقوم أمة على أنقاضها.. يا رب الكون، ألطف بي ويسر لي أمري في  رحلتي حتى أن أنهيها بسرعة لأعود إلى أختي وبلادي سالما غانما. وفي يدي دليل القضاء على الجدة عطوف القطوف الطاغية، وعلى قانونها الظالم.. أخشى إن ظلت زمام الأمور في يدها الجائرة أن نندثر جميعا، إنسانا وحيوانا ونباتا، تحت أنقاض مملكتها كما اندثرت سابقتها الظالمة المدعوة مملكة الرجال.

شعر برأسه يكاد ينفجر والشمس المواجهة له بكل وهجها تزيده انزعاجا وضيقا والمسافة لا تزال تتمطى تحت قوائم فرسه الطائر. وأشد ما يربكه حد بعثرة أوراقه وخططه أن تكون هذه الحكايات التي امتلأ بها رأسه من نسج الخيال. ابتدعتها الجدة عطوف القطوف لتمتن بها نفوذها.. وأن هذه الرحلة أيضا مغامرة لا طائل منها ولا نتيجة ترجى منها..

تساءل وهو ينظر إلى النهر على يمينه: لكن هذا النهر الذي يبدو هادئا كأن لا شيء خلف هذه الأشجار، لقد رأيته بأم عيني كيف هاج واندفع من بين الأشجار ليخطف الرجال الناشزين. لولا أن خطفتهم من أيدي نسائهم لكانوا الآن في جوفه.. وما جرى لي على بوابة جنان الحب حقيقة وقعت أمام عيني. ورأيت بأم عيني كيف استحال فيها شبلول وشقشوقة إلى طائرين تلاحما على بوابة الجنان ونفذا منها كنسمة ريح. وما حدث لأختي شموسة، أثبت لي بالدليل القاطع بأن الجدة عطوف تقدس الحب وتنتصر له ولو تعلق بين الحيوان والإنسان.

داهمه العياء، وأطبق النوم على جفونه. فمه ينفتح على آخره يحرر تثاؤبا وراء آخر كأنه بالون من التثاؤب. وهو ما زال يجهد نفسه ليمضي قدما ويقطع أميالا أخرى عله تبدو له نهاية لهذا النهر، إلا أن رأسه يسقط منه كل مرة، ولجام فرسه ينفلت من يديه كل حين فخشي أن يقع من فوقه. لذا هدأ فرسه بضربات خفيفة على جيده وانحرف به نحو شماله، نحو هضبة خضراء. توغل بعيدا عن صوت النهر في جنان الفواكه التي تعبق أنفه بطيب رائحتها. ربط فرسه عند جذع شجرة وارفة، وسلم جسده للراحة مستقبلا وجه القمر.

***

IV

أسابيع وشهور مرت، وهي ما تزال تطوف حول جنان الحب. تتأبط حقيبة حمراء مغبرة كأنها جلبتها من كهوف البدائيين، وتخاف عليها أكثر من خوفها على نفسها. ومع ذلك لم يبد لها منفذا واحدا لتتسرب منه إلى داخل جنان الحب لتنسف جنة شقشوقة وشبلول.

طوابي من أشجار الصبار الكثيفة السامقة منتصبة على محيط جنان الحب كالجنود، وتشهر لعينيها أشواكها البيضاء الحادة كما السيوف. وكلما اقتربت منها وراحت تتوغل لتخترقها وتتسلل إلى سور جنان الحب، تعود خطوات إلى الوراء بسبب هذه الأشواك الغليظة الطويلة الحادة، التي تكاد تفقأ عينيها، وأخرى صغيرة يطيرها الهواء الساخن ولا تأبه بها حتى تحس بحكة ووخزات طفيفة على وجهها ويديها فتنفضها وتستمر تحك جلدها حتى تدميه.

أنهكها المشي تحت شمس الظهيرة، التي تسلط عليها سهامها كأنها الوحيدة في مركز تسيلط أشعتها. وتشققت قدماها الحافيتان، وتلونتا بلون التراب. وبعض الدم تيبس على أطراف أصابعها وحول أظافرها، وتشعر بألم فظيع كلما خطت خطوة كأنها تمشي على على حوافي السيوف وأنصال السكاكين. ووجهها اسود وتشققت خداها وشفتاها. كأن خريطة بلهاء رسمتها السكاكين على وجهها. وقشرة تشبه جلد الثعبان اليابسة كست بشرتها وطمست ملامحها الناعمة الهادئة، لتبدو في ملبوسها الطويل المعفر بالتراب، والمبرقع بشتى البقع، والمغطى بالأشواك الصغيرة كفتاة متوحشة خرجت من غابة الصبار.

استقامت في مكانها وحدقت بعينيها الضيقتين المغبرتين إلى طوابي الصبار الكثيفة العالية والمستديرة بجنان الحب كحلقة لا تبدو لها نهاية. وعدتها بنظرة عدوانية بأنها ستقضي عمرها تطوف حولها حتى يبدو لها منفذا تتسرب منه إلى قلب شقشوقة وشبلولها لتنسفه بأسلحة الدمار التي تحملها في حقيبتها.

" سألبس الحجر، وأدوس على الصبار والشوك، وأصل إليك يا شقشوقة، وأطعن قلبك كما طعنت قلب أخي.. وإله الحب، لن تنعمي كثيرا في جنتك.. " قالت شموسة بعين حادتين تمطران شرارا مخيفا، ويدها تهدئ قرقرة أمعائها الفارغة بتمسيد خفيف ثم زفرت وعطفت بجسدها المنهك المتصبب عرقا نحو الهضبة على يمينها لتستريح قليلا تحت أشجار النخيل التي تتحرك بالقرب منها.

شعرت أثناء صعودها كأنها تمشي على قدمين مسلوختين من جلدهما من شدة الألم الذي تشعر به فأكملت طريقها وهي تمشي على أربع وعلى أطراف أصابع رجليها وتحمل حقيبتها بأسنانها.

أسندت ظهرها إلى جذع نخلة وارفة قريبة. ووضعت بجانبها حقيبة "أسلحة الدمار" التي مكثت شهرا وهي تستجمع محتوياتها المدمرة للنفس والروح: التقطت الأشواك من كل أنواع النباتات والحيوانات. فأحرقت بعضها ودكته حتى صار غبرة ناعمة وعبته في عبوة صغيرة، واحتفظت بالأشواك الحادة كالمسامير في عبوة أخرى. وفي أنبوب صغير أحكمت إغلاقه ملأته بسموم الثعابين البرية والمائية. وعبوة أخرى سوداء ملأتها بمسحوق ريش الغراب، وأخرى بمسحوق عظام البوم، وفي أخرى دماء الضباع والأسد...

التقطت لها بعض التمرات حولها ومضت تلوكها بعصبية لتستب ها قرقرة بطنها وعيناها معلقتان على أشجار الصبار أمامها تفكر في اللحظة التي ستقتحم فيها جنة شقشوقة لتنسفها بمواد حقيبتها:"سأرش سموم الثعابين في جدولها وأذر رماد من أجساد الغربان والبوم في سمائها وسـ.. "

قطع عليها تفكيرها في الدمار الذي ستلحقه بجنة شقشوقة، حركات أتتها من خلف هضبتها. مدت جسدها وأطلت. فرأت شيخا يتهاوش يستجلي له مكانا يختبئ فيه وهو يلهث والعرق يغرق جسده. لم ينتابها ذرة شك في أنه هارب من أمر مروع.

وهل من أمر مروع يزلزل أوصال الرجال مثل إلقائهم في نهر الصبايا؟. لا شك أنه أفلت بأعجوبة من قبضة امرأته. تعقبت تخبطه بنظرات باردة وهو يضطرب في خطواته كأن أذرع نهر الصبايا تمتد إليه لتخطفه في هذا الخلاء.

دعته بأن يصعد إليها بإشارة من أصبعها ونظرات عينيها الشرسة وهي لا زالت ممددة على بطنها عارضة قدميها المتورمتين لأشعة الشمس المتوهجة. امتثل أمامها يرتعد بين يديها وهو يلهث ونفسه يتقطع.

ـ ما خطبك أيها الشيخ؟

ـ كدت ألقي حتفي وتلقي بي امرأتي في نهر الصبايا لولا يدا شاب خطفني من يديها ودلاني على هذا المكان لأستقر فيه حتى يعود.

لم تكن تسمع إليه. ولم يصل أذنها أن شابا قد أنقذه من نهر الصبايا. كانت تنصت إلى نداء جسدها وعيناها تدققان في جسده. وتتسلقه بنظرات حادة. كان في عمر أبيها، نحيف جدا، لكنه صلب العود ولا يبدو عليه أنه سهل المنال وفي عينيه الغائرتين ثمة تمرد جميل استحبته بينه وبين نفسها على عكس نظرات أبيها الموحية دائما بالاستسلام والرضا.

راح يمضي فأعادته إلى مكانه بإشارة أصبعها فجلس يهتز بين يديها. بإشارة أخرى أشارت عليه أن يخلع ملابسه فأشرق وجهه كأنه ناولته وسام شرف جنان الحب وليس أنها مقدمة على اغتصابه وتطفئ فيه غريزتها ثم تقذفه. أفرغت فيه شهوتها المتوحشة. وكانت تنوي أن تستبقيه معه طوال ليلتها، لكن ما أن رأته يذبل تحت جسدها العاري والريق يسيل من فمه ويسترخي وبريق الظفر منها يلمع في عينيه الضيقتين حتى أشبعته ضربا بعود مشوك ثم دحرجته عاريا من فوق الهضبة ناحية طوابي الصبار لتشرخه الجدة عطوف القطوف بعيدا عن وجهها كما فعلت مع شحموم الحموم.

استرخت في مكانها وهي تفكر في الشرخ الذي اعترى بوابة جنان الحب يوم دخلتها شقشوقة وشبلول. بدا لها هو المنفذ الوحيد الذي ستنفذ منه لتطلق شرها. فضربت رأسها مع جذع الشجرة حسرة على إهدارها كل هذه المدة بحثا عن منفذ لتتسرب إليه إلى جنة شقشوقة ولم يخطر ببالها ذلك الشرخ إلا لحظتها. ولولا هذا الخدر المستشري في جسدها وكذا الألم الذي تشعر به في قدميها لعادت أدراجها لتوه من مكانها بدل من ضرب الجولة كلها للوصول إلى نقطة البداية من الجهة الأخرى.

تنهدت بعمق كأن جبل من الهم جثم على صدرها وقد تفتت وسقط رأسها على حقيبتها. نفذت كنسمة هواء إلى جنان الحب من شرخ البوابة الصخرية. رأت النهر يجري في الوسط عند أقدام المحبين، والكرمة تنزل بعناقيدها تسقي المحبين نبيذا حينا، وتطعمهم حبات عنب ذهبية حينا آخر. وأشجار الرمان والتمر والتفاح وفواكه أخرى لم يسبق لها أن رأتها تتدلى أغصانها حتى أفواههم وتفترش مكانهم بشتى أنواع الفواكه. وكل واحدة في جنتها ملكة مع ملكها. عاريين ويلفان بعضهما بجناحيهما المتشابكين حدا يستعصي تمييز جناح الأنثى عن جناح فتاها. وبعضهم يطير وينام في أحضان أغصان الشجر..

أشجار كثيرة ومن كل نوع تسحر عينيها وروائح فائحة الطيب تسكر أنفها. وهي في الوسط تحضن إلى صدرها حقيبتها ذاهلة مما ترى وعيناها تجوبان المكان تبحثان عن شقشوقة وشبلول. رأتهما أخيرا يضحكان ويتعانقان ويتناوبان على خيوط النبيذ الأحمر الذي تمطره شجرتهما في فميهما وهما يضحكان ويفتحان فميهما للمزيد. تسلقت كرمتهما وكمنت كالسر بين أوراقها الكثيرة ورشت ينابيع الشجرة بسموم الثعابين. وهما ما زالا يفتحان فمهما ويقبلان بشراهة على شرابهما وهما يضحكان بهستيرية وكأنهما في حالة سباق على الشراب. ارتويا حتى شبعا وغاصا يتداخلان في بعضهما يضحكان كالمجانين. فمدت شحرورة يدها ورشت تحت بساطهما الأخضر عبوة أشواكها فصرخا من شدة ما نالهما من الوخز الأليم وكأنهما يتمرغان على سطح غابة الصبار. ارتفع صراخهما أكثر يزلزل سكينة جنان الحب حينما انتشر السم في أوردتهما، وصارا يتضوران من الألم ويتقلبان في الشوك. وشموسة تقف أمامهما وهي تضحك وتقهقه. وتضحك وتضحك بجنون.. لا شيء يوقف حبل ضحكها الغريب والذي تغيرت نبرته وصار سمجا مقززا يشبه النقيق. كرهت صوتها وكرهت نفسها وراحت تعود أدراجها لكن هالها السكون الذي ملأ جنان الحب فجأة.

التفتت وراءها فرأت شجرة الكرمة التي سممت ينابيعها، قد تجمدت وصارت شجرة من صخر وخيوط السم الأحمر تنبثق من مسامها ويتجمد على سطحها فتبدو الشجرة الصخرة أشبه بجمجمة حية متصدعة ويلفها ثعبان ضخم كتب بجسده الملتوي:" تعقبوا الشر حيث ظهر.. ولا تتركوه حتى لا يستشري في الأوصال ويصير أخطبوطا.." وتمثالا شقشوقة وشبلول الصارخين تندلع من أطرافهما نار من حميم يصوبانها إلى شموسة ويلهبان ظهرها وهي تهرب وتعوي.. والعيون تتعقبها وتحاصرها من كل مكان متقززة من شكلها ومن صوتها ومن الرائحة العطنة المتسربة من جسدها الغريب ومن صوتها الأغرب، والذي إذا ضحك نق وإذا صرخ عوى وإذا تكلم نهق وزوبع. وهي مستمرة تهرب من مطاردة الأشواك الحادة التي تخرج من الصخرة التمثال والمنجذبة إلى جسدها الممسوخ مع لهيب أحمر يخرج من أصابع شقشوقة وشبلول التمثالين مصوب في اتجاهها ويلهب ظهرها ويلحقها حيث عطفت وهي تصرخ وتهرب في كل اتجاه...

استيقظت من نومها وهي غارقة في عرقها وتلهث كأنها انتهت من سباق طويل وتقبض على قلبها المروع وتحاول بكل قوتها لترد إلى قراره. وعيناها تحدقان في كتلة سحب بيضاء تتجه نحو قرص الشمس المشع من الأفق وقد بارحته للتو كتلة من غيوم سوداء. ولسانها يلهج بدعوات الرحمة. ثم قامت من مكانها والعياء ما زال مستبدا بأطرافها. والهلع من حلمها لازال ساكن قلبها ويذبذب كل خلايا جسدها كأنه حقيقة عاشتها بكل تفاصيلها وليس حلما عابرا رأته في منامها.

رفعت صخرة كبيرة لم تكن بعيدة عنها كثيرا. سكبت تحتها محتويات حقيبتها المدمرة ثم غطتها بالتراب وردت عليها الصخرة وقذفت بعيدا بحقيبتها فوق أشجار الصبار في الأسفل. لم تبتعد من مكانها حتى تيقنت من أن سمومها لن يصلها حيوان أو إنسان. وتشعر أنها دفنت معها كثيرا من حرقة قلبها. وانتابتها رغبة في معانقة أخيها والبكاء على صدره. تزلقت على جذع نخلتها وعيناها الدامعتان تجوبان هذا المكان الخالي الغريب عنها وهي تخمن في أي طريق ستسلكه لتتعقب خطوات أخيها. لم تعد ترجو شيئا في الوجود غير لقاء أخيها وإكمال مشوار حياتهما معا كما بدآه. نظرت إلى اليمين ثم إلى الشمال. تدري أنه سلك طريق اليمين وتدري أيضا أنها لو التحقت به سالكة ذات طريقه قد يضيع عمرها هباء دون أن تلحق به. "سأسلك طريق الشرق. أقطع هذه الغابات الكثيفة ثم أرتمي خلف الجبل الذي يفضي إلى نهر الصبايا. ربما سبقته وانتظرته هناك عند قدم الجبل حتى يصل ونعيش هناك بعيدا عن كل ما يذكرنا بماضينا الأسود وبجنان الحب.. وربما أقنعته وسقته إلى هنا لنعيش فيه وحيدين حتى آخر عمرنا.."

 ودت لو تقوى وتمضي فورا للالتحاق به. لكن لا زال العياء مستبد بها ونفسها لم تصف بعد من آثار حلمها المرعب. وقدماها لا زالتا متورمتان، والشمس قد بدأت تسحب أشعتها وقريبا سيهبط الظلام ويسربل الكون حولها بلحافه الأسود. فقررت أن تنام عند النخلة ثم تدبر أمرها في الصباح علها تحلم بحلم ينعش صدرها ويغسلها من آثار حلم نهارها المزلزل لكيانها. وفي ذات الوقت، تشعر بشيء لا تدري كنهه يشدها بقوة إلى مكانها، إلى هذه النخلة الوارفة التي تروح عليها وتكاد تمتد إليها بأوراقها لتمسح عنها أحزانها ودموعها المتحجرة في مقلتيها. وعراجينها الكبيرة الشهية تهتز كأنها تفعل لتثير انتباهها إليها وتمتد يدها لتقطفها. لم ترفع إليها رأسها حتى بعدما بدأت تسقط بعض الحبات بجانبها.

لا يد تملكها شموسة لتمدها إلى حبة التمر لتأخذها وتتذوقها وهي التي لم تطعم لها طعاما منذ أيام. وصورتها البشعة التي رأتها في منامها لا زالت قارة في شبكيتي عينيها. وتلك الرائحة السمجة المتصاعدة من جسدها لا زالت معلقة بخياشيمها فتجيش أمعاءها وتحول دون نومها وتفقد شهيتها من كل نوع، وتحقن نفسها بحسرة مريرة عما كانت تنوي فعله.

شعرت بأن شموسة القديمة الحنونة الطيبة قد بعثت في كيانها بهذا الحلم المروع. وأخذت تتفقد قدميهما وهي تنهنه من فينة لأخرى دون أن تدمع عيناها. تشققات عميقة بانت لها أسفل قدميها وانسلاخ في أصابع رجليها وجروح عميقة حول أظافرها. فراحت تنظفها من الأتربة التي تملأ هذه الشقوق وتغسلها مستعينة برطوبة فمها. بدا لها حناء وردي من صبيحة زفها لجنان الحب لا زال يخضب أطراف أظافرها. فتنهدت بعمق وسقطت دمعات ثقيلة على خديها ويداها مستمرتان تلف قدميها بالأعشاب الخضراء الرطبة وتلفها بشريط من عسيف النخيل فشعرت بارتياح قدميها في الخفين الطبيعيين اللذين صنعتهما. ثم تمددت على جنبها الأيمن وتوسدت راحة يدها وباليد الأخرى تمسد بطنها تهدئ قرقرة الجوع الشديد الذي تشعر به دون إحساس بشهية الطعام. غاصت بيدها أكثر في بطنها الضامر كأنها تبحث عن شيء في أحشائها. تذكرت شيخها شبور كيف ارتخى تحت جسدها مثل قطعة من قماش لا روح فيه. وكيف سال ريق الشهوة من طرفي فمه. وكانت عيناه تفيضان بالخوف والنشوة واللامبالاة أيضا. كمن استوت أمامه كفة الحياة والموت فلم يبال بعقاب الجدة عطوف القطوف ومن جلدتها المميتة لمن ارتكب مثل جرمه.

فقالت شموسة وشعاع من نور يكتسح عينيها الملبدتين ويدها مستمرة تمسد بطنها بحنو شديد: "ليكن قد اقترف جريمته.. ليكن بالفعل قد فعلها وأثمرت جريمته ثمرة في بطني.. وحدها بذرتك يا شبور إن أثمرت في رحمي من ستشدني إلى الحياة. وهنا في هذا الخلاء وتحت هذه النخلة سأعمر وأعيش بعيدا عن النساء الشرسات وعن كل ما يذكرني بأمي وصهيل وفرسه اللعين.."

شعرت بشهية الطعام. فامتدت يدها تلتقط حبات التمر بجانبها وتأكلها بشراهة وهي تفكر في مصير الشيخ شبور. خائفة من أن تجلده الجدة عطوف القطوف وتكون قد شرخته إلى نصفين. فشعرت بغصة لم تقو معها على ابتلاع التمر الذي كان في فمها. ليتني لم أركله بذلك العنف. ليته ظل بجانبي..

قامت لتطل عليه في الأسفل حيث أشجار الصبار، تحت شمس الغروب، تشهر أشواكها البيضاء اللامعة الحادة كما السيوف. تشوك جسدها وهي تتخيله قد انغرست في جسده العاري النحيف وأن الجدة عطوف قد جلدته وشرخته كما فعلت بشحموم الحموم الذي ما يزال تمثاله منصب على جبل الكبائر. وجزؤه الأيمن يناجي جزءه الأيسر ولم يلتقيا رغم مرور قرون على شرخهما.

نزلت الهضبة الشديدة الانحدار حذرة من أن تنزلق وهي تنادي:

ـ شبور.. شبور

أتتها تأوهات خافتة من الأسفل، فرأت إحدى ساقيه ترتعش في الهواء بينما نصفه العلوي مدفون في الحشائش وسط أشجار الصبار. فارتعبت مما رأته ولم تستوعب أن تكون الجدة عطوف القطوف قد جلدته بهذه السرعة وشرخته بهذه القسوة إلى نصفين فتقهقرت وسقطت مغمى عليها عند قدم الهضبة.... 

***

استفاقت من غيبوبتها العابرة وهي تئن وتتأوه دون أن تلمس أي ألم في عضو من جسدها غير تورم في أصابع رجليها وفي أخمص قدميها الملفوفتين في جريد النخيل. لا تدري أين هي بالضبط كأن مسحا جرى لذاكرتها المشحونة بذكريات مسننة. عيناها تجولان في الخلاء حولها وهي تبكي دون دموع. وتطلق نهنهات تشبه نهنهات أخيها صحصوح الذي تمنت لو يظهر لها في هذا الخلاء. " وحده من يقدر على تطهير قلبي من كل جراحي. وكيف سيصل إلي هنا إلى هذه المنطقة الشرقية التي لا يبلغها إلا من رأفت بهم الجدة عطوف القطوف ونجوا من خطفة نهر الصبايا."

طافت بذاكرتها صورة شبور المشروخ إلى جزأين، وساقه النحيفة التي تهتز في الهواء فارتفع خفقان قلبها. وخشيت من أن تلقي بصرها إلى الأسفل حتى لا تصعق بمنظره مرة أخرى. فعلقت بصرها في سحب بيضاء، تراها من بين فرجات جريد نخلتها التي تروح على جسدها وتقيها من سياط الشمس الملتهبة، ومن حين لآخر تلقي في حجرها تمرات حمراء ناضجة وشهية، لكن لا تقوى على مد يدها إليها لتطعم واحدة منها. استجمعت شتاتها واتكأت على يديها لتقوم وتصعد إلى مكانها فوق الهضبة وهي تبكي بدون دموع، وقد تسرب إليها الخوف على نفسها من الهلاك في هذا الخلاء الموحش. والحلم المزعج المرعب الذي حلمته لا زال أمام عينيها يتشوك له جسدها، والإحساس بالذنب عما اقترفته في الشيخ شبور يذبحها حتى آخر وريد.

سمعت أنينه الخافت المتقطع الشبيه بأنين من يفارق الحياة. فهبت إليه قبل أن ينقطع تماما. كانت إحدى ساقيه ترتعش في الهواء، ورأسه مندس في الحشائش اليابسة وسط طوابي أشجار الصبار. تلفتت حولها كالمجنونة تبحث عن شقه الثاني ولسان حالها يتضرع بصوت متهدج إلى الجدة عطوف القطوف أن ترفع يدها عن حكايته وتدعوها بالحب الذي تقدسه أن ترفع يدها عن شبور:

ـ بالحب الذي نمى في قلبي لأخي ولصهيل أقسم لك أيتها الجدة أني سأحب شبور وثمرته في بطني وسأرعاها، وأني سأعيش على ضفاف جنان الحب.. لكن ارفعي يدك ولا تشرخيه إلى شطرين كما فعلت بشحموم الحموم...

بلغت مكانه وهي تلقي أعواد الأشجار فوق حشائش الصبار وتفرشها بجريد النخيل وراحت تسير فوقها بحذر، والخوف من أن يكون الشيخ شبور قد أصيب بأذى شديد يفتك بأوتار نفسيتها. خاصة، وأن صوته واستصراخاته قد توقفت وساقه اليمنى ارتعشت بفتور في الهواء ثم هوت ولم تعد تبرز منه غير ركبته البارزة فبانت لها ركبته الأخرى. حينها، تنهدت وسرى شعاع من الفرحة في قلبها لأن الجدة عطوف القطوف لم تشرخه، وحثت خطاها لإنقاذه قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة في هذه الحفرة المملوءة بالحشائش الشوكية وأوراق الصبار اليابسة..

حارت كيف ستصل إليه، والصبار والنباتات المشوكة تفرش كل المكان وخشيت أكثر من أن تكون الزواحف السامة مندسة داخلها. "يارب الرحمة، ألطف بي وأعني على إنقاذه ورفعه من هذا القبر المشوك.. يا إلهي، لو علم أخي بفعلتي ما نظر في وجهي يوما. كره أمي لأنها تسيء إلى أبي ولأنها تهدده على الدوام برميه في نهر الصبايا. ولكن لم تنفذ يوما وعيدها ولم تقتله شر قتلة كما كدت أفعلت اليوم."

حملت صخرتين مسطحتين، متوسطتي الحجم وألقتهما على ضفتي حفرته، ثم وقفت فوقهما بالقرب من ركبتيه البارزتين. أمسكت قدميه الحافيتين فراحت تجره إليها وهي تبذل قصارى جهدها لتخرجه من حفرته. خذلتها قوتها فسقطت أرضا تلهث وتبكي من عجزها وقلة حيلتها.

يبدو أنه قد تسرب إليه بعض الهواء بالهزات العنيفة التي أحدثتها في جسده فاستطاع أن يتكئ على راحتي يديه ورأته يدفع جسده إلى الأعلى. فنزلت على قدميه تسحبه مرة أخرى وهي تشجعه أن يبذل جهدا أكبر. مددته فوق أغصان النخلة التي افترشتها بجانب حفرته. تهالك فوقها، وجسده كالقنفذ من كثرة الأشواك المنغرسة فيه وهو يئن ويلهث حتى خشيت عليه أن يتوقف نفسه ويلقي حتفه في الحال.

خلصت صدره من كثير من الأشواك وراحت تمسده لتعينه على التنفس حتى استعاد نفسه ونام أو أغمى عليه من شدة الألم الذي يتقلب فيه. وظلت جالسة بجانبه تحضن إليها رأسه وتنزع الأشواك المنغرسة في جسده وعيناها دامعتان حزنا وندما عن الجرم الذي كادت تقترفه اليوم.

تذكرت قول أخيها الذي كان يدلي به باستمرار خاصة حينما يتوسد حجرها وتمضي هي تفل رأسه:" أنت من جنس الملائكة، يا شموسة، ولست من حفيدات الجدة عطوف القطوف، وأقسم لك برب السماء أن الجدة لم تلوثك بذرة من نفسها..." فكانت تضحك له وتفرح حينما يقوله، لكن اللحظة فجر ينبوع حنانها وشعرت بأن الراقد في حجرها هو أخوها وليس الشيخ شبور ومع ذلك تمنت لو تقوى على أن تنفخ فيه بعض روحها ليعيش. أنزلت لسانها الرطب وراحت تمرره على أهدابه تمسح ما تعلق بعينيه من أشواك صغيرة وتراب أغرق مجرى عينيه، وتبصقه على يسارها..

فتح عينيه مرعوبا من لسانها الرطب الذي يتخلل جفني عينيه المغلقتين. فراح يستجمع قواه ليفر بعيدا كأنه فتح عينيه على لسان أفعى. أعادته بلين إلى مكانه وهي تمسح جبهته وتقبله تستسمحه فانهمرت عيناه ويده تتحسس أطرافه السفلية التي يشعر أن منشارا قد مر وسط فخذيه، وكأن جلدة الجدة عطوف القطوف قد أصابته بالفعل. كانت أشواك الصبار تلهب كل جسده، وورقة من شجرة الصبار ما زالت عالقة بين فخذيه ولا يقوى على إزالتها فبدأ يبكي كطفل صغير. هدأته شموسة ووضعت رأسه على جريد النخل الذي لفته على شكل مخدة. وقامت وتوركت عند قدميه تفك برفق شديد ورقة الصبار المنغرسة أسفله، وعيناها تسبلان بغزارة ولا تدري كيف ستخلص جسده من كل هذه الأشواك المنغرسة في جسده وكأنها من جسمه نبتت، ولا كيف ستقوى حمله إلى أعلى الهضبة‘ إلى شجرتها ليستظل بها من سياط الشمس المحرقة ولتطعمه بعض ثمراتها. وهو شبه نائم، سده خامد وعيناه مغمضتان وصدره يعلو ويهبط ويلفظ أنينا متقطعا وهي مستمرة تنقي جسده من الشوك ودموعها تتساقط على جسده فترطب مساحة من جسده وتنتزع منها الأشواك بيسر دون أن يحس بها حتى تمنت لو تفيض أنهارا من دموعها وتغسله بها. وكلما خفت دموعها تتخيل أن أخاها صحصوح هو الممدد بين يديها فتفيض عينيها أكثر حتى كادت تخلصه من كل الشوك المنغرس في جسده. انتهت من جانبه الأيسر فمددت ساقه للشمس لتغلق أماكن الشوك النازفة ثم أعادت الكرة مع جانبه الآخر..

انقطع أنين الشيخ شبور ووجهه قد أشرق ويداها ما زالتا تمسحان وجهه وتنظفان شعره مما تعلق به من حشائش وتمسد جسده كما كانت تفعل مع أخيها فتمسح همومه وما كان يضيق به صدره. ثم انحنت وقبلت جبهته. وحينما رأته يبذل جهدا ليشكرها بادرته بالاعتذار عن الركلة التي سددته إلى بطنه والتي ألقته في حوض الشوك. ثم قامت تسنده على كتفها حتى بلغت شجرتها التي شهدت عند جذعها أغرب حلم في حياتها والذي لا زال لم يغب عن عينيها ويتشوك جسدها لذكره كأنها عاشته بالفعل. بل من يومها، لم تقو على إغماض جفنيها خشية أن يتكرر معها.

أطعمته الثمر وحضنت رأسه إلى صدرها ونامت كأنها في جنان الحب..

***

ظلت وحدها في مكانها في فناء بيتها تسند ظهرها إلى جذع نخلتها. شاردة العقل وبسمة لطيفة تتسع على شفتيها وهي تنظر إلى أغصان أشجار النخلة تتحرك وترتسم على قدميها ظلالها الشبيهة بأصابع صغيرة. ذكرتها بأصابع أخيها صحصوح أيام كان صغيرا وهو يمسح قدميها ويلحس أصابع قدميها يقلد أباه، فتجابهه شموسة بقسوة وهي تضخم صوتها تقلد أمها. فيتمرغ في الأرض متصنعا البكاء والرعب ويترجاها ألا تجره من شعره وتربطه إلى فرسها وتقوده إلى نهر الصبايا. فتضحك له وترتمي فوقه تعانقه بكل حبها. ثم يندفعان جاريان إلى البساتين حول البيت. يقطفان ما يشاءان من الفواكه ويجلسان يتناولانها بطريقة لعبة "الهمهم" التي اخترعاها.

فيفتح فمه على آخره وتلقي شموسة فيه حبة التين بأكملها فيغلق عليها فمه مصدرا صوتا مرعبا:"هممممم" ثم يبتلعها ويداه تعد ثمرة أخرى ليلقيها في فم أخته المفتوح وتبتلعها بكل شراهتها أيضا. يشبعان ويشرعان في لعبة أخرى التي يغوصان فيها بكل جوارحهما ويغتسلان بها من ويلات أمهما وصراخها الذي لا ينتهي.

لم تكن لعبة تخطر على بالهما إلا وجرباها بنشوة عارمة وفرحة غامرة. اللعبة الوحيدة التي لم يخوضانها هي لعبة العري رغم ما يعرفانه عنها، خاصة شموسة، من متعة ولذة وانصهار في بعضهما البعض. لا تنكر أنها كانت تنجذب إلى جسده الرشيق وأنها قد نازعتها نفسيتها مرارا إلى خوض لعبة العري معه لكن سرعان ما كانت تلجم إليها خيول غرائزها ويتشوك جسدها حينما تتخيل عاقبة فعلها وتتبدى لها صورة جسديهما ممزقين ومنثورين على طوابي الصبار كريش الديك كما فعلت الجدة عطوف القطوف بالأخوين ابنا جبيل الهرشي حينما تعريا وطفقا يدخلان في بعضهما البعض وينصهران في روح بعضهما. وتذكرت أن يوما كتفت يديها حتى لا ترفع عن أخيها ملابسه.

استفاقت من هذه الذكريات بدمعات تنحدر على وجنتيها وإحساس بالذنب والندم يقطع أوتار نفسها على أنها السبب في رحيله. أنا من ابتعدت عنه. لو ظللت بجانبه كما ألف ما فكر في الرحيل عني. أجل، ابتعدت عنه وانغمست في حياة جديدة مع صهيل الذي انجذبت إليه أحاسيسي من أول يوم عرفته. صُهيل الأشهب الوسيم الرقيق كالرمح كان يشبه كثيرا أخي. من أول يوم رأيته قلت عنه أنه فتاي الذي سأدخل معه جنان الحب. ومن يوم دخلت معه لعبة العري صار هوائي وحياتي وصار أخي صحصوح ورقة بيضاء أحرقه كل لقاء بأسراري الجديدة مع صهيل.

أتذكر جيدا كم كان يبدو على وجهه ضيقه من حديثي عن صهيل وغيرته منه كلما بالغت في ذكر محاسنه وسعادتي معه. فيغير حديثنا بحديث آخر لكن لساني وأحاسيسي كانت لا تنجذب إلى شيء ولا تستعذب شيئا غيره.. صهيل فقط. كان نفسي الذي أحيا به ويستحيل أن أقطع التفكير أو ألجم مشاعري واحولها عنه ولو لحظة واحدة. وأشد ما كان يرهبني حد الإحساس بتوقف نبض قلبي، ذلك الشعور المدمر بأن شيئا ما ينتزعه مني في أحلامي وفي يقظتي. ولهذا كنت أخفف عنه في حصص العشق التي كان يتكاسل في أدائها وكنت بدوري أتغافل عنه وابدي إعجابي بكل ما يفعله. في حين لم يكن يبدو عليه الفرح. كان فرسه بمجرد أن يطلق صهيله الحاد النافذ، الذي ما زال يدوي في أذني، يبدأ صهيل يبكي وينحدر الدمع على وجنتيه فيرفع عينيه إلي دون أن يتفوه بكلمة كأن الجدة عطوف القطوف عقدت لسانه.

حكيت كل هذا الكلام لأخي صحصوح فكان يجيبني بصوت هادئ حزين وهو يحضنني إلى صدره ويمرر يده على شعري:" طوبى لصهيل بفتاة مثلك.. ألم أقل لك أنك من جنس الملائكة؟!.." كان يضحك ضحكا غريبا أشبه بالنحيب ويخفي عني نظراته الحزينة التي تفضح مدى كرهه لصهيل وغيرته منه لأنه أخذني منه. ولم يعد يراني إلا أحيانا في كهفه وفي آخر النهار. أمضي معه بعض الوقت، أحرقه فيه بحكاياتي مع صهيل ثم أنصرف عنه وهو يبتسم لي والدمع يخذله وأراه يغزو عينيه الملبدتين.

جريمتان ارتكبتهما في حقه ولا زالتا تكويان قلبي وتعتصر نبضه للحظات طوال. ولا أراني سأشفى من كيتهما يوما. ولو جاءني اليوم سأظل أبكي عند قدميه ولن أرفع رأسي حتى يصفح عني ويصفو قلبه لي. جريمتي الأولى يوم انصعت لجسدي وتركته وحده في ذلك الكهف. وهذه الجريمة قد جازاني إله الحب عنها فأحرق قلبي في صبيحة زفي إلى جنان الحب التي تحلم به كل فتاة فانتزع مني صٌهيل وأهداه لفرسه. وحتى لا أطمع فيه أغرقه وفرسه في بحيرة العشق وانتهيا تمثالين صخريين على ضفافها وذكرى أليمة ينزف لها قلبي أبدا. ولولا شبور الذي حاولت أن أكفر به عن ذنوبي لكنت الآن أفعى تسعى.

وجرمي الأكبر في حق أخي صحصوح كان يوم أدللت شقشوقة على مكانه في الكهف.

سقت إليه بيدي عدوته شقشوقة التي دمرته.

أنا من ذبحه بيد شقشوقة. إذ لولاي ما عرفت طريقه...

يومها كان صهيل قد سكن روحي وسكن جزءا كبيرا من قلبي وكل أحاسيسي وتفكيري منجذبة إليه. وهو لا يدري لحظتها، أنه وفتاي صهيل يتنازعان عرش قلبي. نصبتهما معا فيه. لكن في منامي وفي يقظتي أجد صهيل قد تسلل إلى عرشه وتربع عليه فأنصرف إليه بكل هواجسي وجوارحي. وحينما أتذكر أخي يكون الليل قد حل، والنهار على وشك الانبلاج لأجدني مرة أخرى في حضن صهيل وأنا التي أقسمت أن أمضي نهاري كله مع أخي صحصوح.

وآخر مرة زرته في كهفه قبل أن أدل شقشوقة على مكانه، كان نحيفا وباهتا ولم يسرني البتة حاله المتدهور. احترت فيما سأفعله وقلبي أضناه العشق والوله بصهيل النحيف الوديع كأنه نسمة هواء زفتها إلي جنان الحب. لا أدري بمن سأضحي وقررت في الأخير أن أؤجل حصص العشق حتى أطمئن على أخي. يومها صادفت في طريقي شقشوقة اللعينة. كان قلبها لا زال ينزف ألما عما فعلته بحبيبها شبلول. انحرفت بها عن أحزانها باستغراقي في الحديث عن أخي صحصوح. وكانت تنصت إلي بشغف شديد وقررت أن تزوره معي. لكن صُهيلا بدا لي على فرسه في الأسفل عند قدم الجبل وكنت على أمتار قليلة من بوابة كهف أخي. خطف قلبي، وسلب كل حواسي، فوضعت قفة الطعام الذي جلبته لأخي في يد شقشوقة، وترجيتها أن تحملها لأخي في الكهف، وأن ترفق به وأنا أؤكد لها على أن هشاشة قلبه ورهافة حسه ما ألقيا به في حضن هذا الكهف.

دخل شبور يحمل ولده صحصوح الصغير على كتفيه، وعرجون موز في يده وهو يرقص به ويغني، ولم تشعر شموسة بدخولهما حتى كسا ظليهما مكانها. فاستجمعت شتاتها وانتفضت قائمة تخفي عنه عينيها الدامعتين، وحملت إليها ابنها صحصوح. وظلت تعانقه وتقبله وتحضنه إليها بكل حبها، ولم ترخه حتى طقطقت عظامه وأطلق تأوهاته التي أعقبها بقهقات دوت في بيتها وتفتحت جنانا مخضرة في قلبها..

***

V

سنوات مرت وهو لا زال كمن يركض في الحلم.

ذات الخرير يسمعه كلما اقترب من النهر،

ذات الأشجار السامقة تحف به وتبدو من شدة علوها كأن السماء ترسو فوقها،

وذات الصخب والضجة تتكرر كل بضعة أيام، حتى ألفها، وصار يدرك بيقين لا تشوبه ذرة شك بأن امرأة تقود وراءها رجلها لتلقيه في نهر الصبايا. فتنداح أمامه صورة أبيه، وصوته المتهدج وهو يتوسل إلى أمه أن تكفر عن ذنبه، وأن تتوقف على جره لتلقيه في النهر. وتشخص صورته لعينيه كأن مشهده ما يتكرر كل يوم تقريبا. فيقدح سرعة فرسه بضربات خفيفة أسفل بطنه الضامر، فينطلق به طائرا، ويستحيل هو إلى باز عظيم. ينزل نزلة واحدة على الرجل المولول، ويخطفه من بين مخالب امرأته ويلقيه فوق فرسه، ويطير به تاركا إياها ترغى وتزبد وهي ترجمهما بوابل لعناتها.

وحينما يقطع به مسافة بعيدة، يجالسه بعض الوقت يحاكيه ويهدئه محاولا أن يرد بعض الطمأنينة والأمان إلى نفسه. ولا يدعه حتى يراه قد تماسك قليلا وتغلب عن الارتعاش المزلزل لأركانه، ولم يعد يتلفت حوله خوفا من طيف امرأته أن يحط عليه. يسمع منه حكايته، التي قادته إلى هذا المصير المرعب الذي يبذل الرجال قصارى جهدهم حتى لا يتعرضوا له، ثم يوجهه حيث وجه الرجال السابقين.

أنقذ الكثير من بطش النساء، ومن هول هذا النهر، الذي يهيج وينتفض وتندفع أمواجه الصاخبة من بين الأشجار كأصابع أخطبوط عملاق ليخطف الرجال من بين أيدي النساء على بعد أمتار من ضفته. حتى أنه يوما، أسقط فرسه أرضا بسبب انزلاقه على إثر أمواجه الهادرة، وكاد يبتلعه وفرسه والرجل الذي أنقذه معا. ومن يومه، صار أشد حذرا من انتهاك مسافة الأمان والسلامة التي ينبغي أن يتركها بينه وبين أشجاره. ومهما ضرب بشراسة أمواجه عبر جذوع الأشجار ليخطف الرجال من أيدي نسائهم يظل هو وفرسه في مأمن من بطشه.

وعدا هذا الهيجان الذي يخرجه عن طوره كلما قادت إليه امرأة رجلها الناشز، يظل هادئا ممتعا ومؤنسا له في طريق رحلته، ويستمتع بخريره الشجي، حتى ألفه كأنه صديق له يعزف له معزوفة الماء التي لا تنقطع إلا لتستأنف، ويصله وكأن شلالات تتوالد وتصب في شلالات لا تنقطع، فتذكي حماسه وتقدح سرعة فرسه لبلوغ نهاية هذا النهر الذي لا يبدو له بعد أن له نهاية.

أحبه مع السنين التي أمضاها رفقته، وأنساه جرحه الذي سببته له شقشوقة. وصار صحصوح أكثر رصانة وهدوءا في اتخاذ قراراته وتحديد أهدافه من ذي قبل. بل يلتفت إليه أحيانا ويسأله كأنه يسأل رفيقا له من لحم ودم.

أتراك أيها النهر العظيم الهادئ الطيب في الأصل أنك مع الحق أم مع الباطل؟ أي قوى تناصر أيها العملاق الجبار؟ قوى الشر أم قوى الخير؟..

بالأمس البعيد، كنت تخطف النساء من أيدي مشيعيهن وتلتهمهن كما أراك اليوم تفعل مع الرجال الناشزين. ولا تلتفت إلى النساء حتى وإن قطعن ستار الأشجار الذي تداري خلفها وجهك الرقراق البهيج. ولو ارتمين في حضنك ما مسست شعرة منهن، في حين لو شممت رائحة الرجال على بعد مسافة منك، هجت واستحلت أخطبوطا مائيا، ولا تهدأ وتعاودك سكينتك وهدوءك حتى تنقض عليهم كالوحش الغدار وتطويهم في جوفك.

أخذه تفكير عميق في أمره ثم عاد يقول: لا أدري شيئا على وجه اليقين غير أنك نهر عظيم، وبئر للأسرار العظيمة، ولا أدري متى سأصل إلى نهايتك أو بدايتك وأعرف حقيقتك من الجد الأعظم الذي سبقك إلى الوجود ويعرف خباياك وأسرارك.

رمى بصره إلى البعيد، وهو يظلل عينيه براحة يده من سياط الشمس الملهبة وفرسه يركض بسرعة مهولة حتى لم يعد يسمع حوافره تلمس الأرض، إلا أنه مع ذلك لم يبد له منبعا لهذا النهر العظيم و لا مصبه. وكلما مرت به الأيام وهو يركض على ضفافه، ازداد تأكدا من تعملقه وجبروته حد التخمين بينه وبين نفسه، أنه بعد مقابلة الجد الأعظم وإطلاعه على أسراره، سيجنده معه لينشرا معا بعض أمطار السعادة على هذا الكون الذي كدرته الأنانية والظلم والقهر، وسيستعين به ليحد من جبروت الجدة عطوف القطوف والتخلص منها نهائيا إن قدر.

"بمساعدتك أيها النهر العظيم، سأمحو كل أثر للجد الأعظم وللجدة عطوف من سطح الأرض، ومن الأذهان أيضا. كلاهما طغيا وبلغا قمة الطغيان والأنانية والتمجيد لجنسه.... أحيانا أشعر أني النقطة الخاطئة والشاذة في هذا الكون والكل على صواب. ماذا كنت سأخسر إن رضيت بالعيش وسط القطيع؟ وهل أقوى على الفعل؟؟. سأموت بدل مرة واحدة، عشرات المرات على أيدي الشرسات من نساء الجدة عطوف.. لا أدري شيئا على وجه التدقيق سوى أني ساخط أبدا على كل شيء حولي. وأتمنى دائما أن يجرف فيضان عملاق هذا الكون إلى النهاية ليولد من جديد على يد قوية وعادلة.."

انجرف مع أحلامه، وأشرق وجهه، ورفت ابتسامة رفيعة على شفتيه الرقيتين فتخيل أنه وأخته شموسة على قمة هذا الكون، الذي يراه دائما يمشي على رأسه إلى الهاوية، وأنهما وهذا النهر العظيم معهما، تلك اليد القوية التي سترد هذا الكون إلى مساره القويم وتنقذه من هذا الاعوجاج والانحدار الخطير الذي يسير به نحو الهاوية. توغل في حلمه بصدر يطفح سعادة، وقال وهو ينظر إلى النهر:" أنت أيها العظيم من سيرقب هفواتنا وانحرافاتنا فتغدق علينا بخيراتك وعطائك اللامحدود إن أصلحنا، وتصفعنا صفعة العمر وتنصب غيرنا مكاننا إن أخطأنا، أو رأيتنا قد جرفتنا رياح الأنانية والتجبر إلى سبخة الأولين العفنة مثل جدينا اللذين تشهد، أيها العملاق وأيتها الشمس المشرقة، أنهما طغيا وابتعدا عن خط الصواب والعدل بعد السماء عن الأرض. أم تراك أيها النهر العظيم تنحاز دائما إلى اليد القوية حتى وإن كانت ظالمة متجبرة وطاغية كما أراك تتضامن مع الجدة عطوف القطوف ومع النساء كأنك تمشي وتأتمر بقانون الجدة عطوف، ولست كائنا قويا لك استقلاليتك وقوتك وجبروتك التي لا يحدها حد. ليتك صرفت هذه القوة وهذا الجبروت لمساندة قوى الخير والعدل، لكان للحياة وجه آخر، وجه نقدسه ونجله جميعا، ولعاش الإنسان في حب وهناء ووئام، ولوقيتنا من سلسلة هذه الويلات التاريخية التي قد لا تنتهي أبدا. تفنى أمة لتقوم أمة على أنقاض الأولى كما حدث مع مملكة الرجال المندثرة تماما إلا من هذا الجد الذي لا زال يقطن القطب الجنوبي، والذي يبدو قد سلبته الجدة عطوف القطوف كل قوته، ولم تبق له غير ما يكفل بعض التوازن لمملكتها، أو ربما قطعت لسانه وأطرافه حتى لا يخرج إلينا ويفشي لنا أسرارها، فتظل سيدة الزمن أبد الآبدين.

سأصل إليك أيها الجد الأعظم وأعرف منك كل الحقيقة. أنت المخضرم الذي عاش فترة من حقبة مملكة الرجال، وفترة طويلة من عمرك عشتها من حقبة الجدة عطوف القطوف.

لكن لماذا أخفق كل الرجال قبلي في الوصول إليك واستلام كتابك؟ هل نهر الصبايا غدر بهم كما كاد يفعل بي؟ أم أن الجدة عطوف القطوف استولت على كتابه وأحرقته؟؟

تبا لهذه الجدة الجبارة التي جندت كل شيء لصالحها وجعلته يتحرك بمشيئتها.

شعر بصداع طفيف كما يحدث معه دائما كلما غاص بالتفكير في هذا الكون الذي أنهكه التفكير فيه أكثر من أي واحد من بني جيله. فألجم إليه فرسه بقوة.

نحنح الفرس وتوقف في الحال على قائمتيه الخلفيتين بينما ظلت الأماميتان تتعاركان في الهواء للحظات تشدان توازنه حتى سيطر على سرعته الفائقة. دلف به إلى يمينه ليستريح قليلا ويتزود باحتياجاته من الماء وبعض الفواكه التي يعج بها المكان ثم ينطلق من جديد.

ترك فرسه تحت نخلة وارفة يقتات الأعشاب، ومضى يتوغل إلى الداخل إلى جنان الفواكه المترامية على امتداد بصره، وصوت الشلالات وزقزقة العصافير ورائحة الفواكه تستقبله، وتهيج جوعه وتذكي شهوته، حتى أنه تمنى لو تقف أمامه شقشوقة، صاحبة ذلك الجسد الحارق ليخترقه في هذا الخلاء، ولا يدعه حتى يفرغ فيها شهوته، التي طالما خنقها خوفا من أن تشرخه الجدة عطوف كما شرخت من قبل شحموم الحموم. "الآن، حياتي ومماتي عندي سيان، لم يعد يخيفني شيء على الإطلاق إلا العيش عبدا ذليلا في يد إحدى نساء الجدة عطوف القطوف.."

قطف بعض حبات التين. التهمها واحدة تلو الأخرى وهو تحت شلال مائي وعيناه تتخيران بين عراجين التمر والموز التي ينوي أن يتزود بها بعد استراحته. وذلك حتى يستأنف رحلته دون توقف وهو الذي لا يدري متى سيصل ولا كم من المسافة التي ينبغي أن يقطعها ليصل. ولا يخبر شيئا عن الطقس القادم ولا عن نوعية الأرض التي سيدخلها.

سمع وقع حوافر فرس تأتيه عن يساره. ذكرته بشقشوقة أيام كانت تقتحم عليه كهفه. "لأفتكن بها إن كانت أنثى ـ قال وهو يرهف السمع وعيناه تجولان في المكان من تحت الستار المائي الشفاف الذي يتدفق عليه من أعلى الجبل ـ عدا أختي، كل أنثى في عيني شقشوقة التي تلهب كل خلية في جسدي. سأنتقم منهن جميعا.. ولن ترهبني جلدات الجدة عطوف القطوف أو أصل إلى الجد الأعظم أم لا أصل.. نيران جسدي أقوى من ألجمها الآن."

خرج من تحت الشلال المائي ومضى إلى فرسه حيث يأتيه صوت حدوات فرس تقترب منه. فتاة شهية في مقتبل عمرها، جميلة رشيقة وإجاصتي صدرها واقفتين بارزتين من تحت ستارها الشفاف كأنهما موجهتان إليه ليلتهمهما. تقفز من فوق فرسها الذي أوقفته بجانب فرسه وراحت تنتظره بكل شموخها الأنثوي وغريزتها الطافحة. تذبذب قليلا أمام نظراتها الشهوانية التي تتسلق جسده العاري وتذكي نيران شهوته، التي تجتاحه  كسيول بركانية ولا يقوى على خنقها وردها إلى خزانها.

امتصت شفتيه في قبلة مميتة رجرجت كيانه المتعطش، وأججت نيران شهوته المشتعلة..

بحر من الشهوة صار وهو يتمعن تعرجات جسدها بكل وقاحة وهي تسلخ ملابسها. شقشوقة أمامه صارت هي. كل فيضان شهوته أعدها ليفرغها فيها، وفي كل أنثى تعترض طريقه. تلك الشهوة التي طالما خنقها في ثناياه أثناء حصص العشق مع شقشوقة إرضاء للجدة عطوف القطوف، يفور بركانها الآن في جسده ولا أحد يقوى على أن يرده أو يمنعه في هذا الخلاء من إفراغها حتى الارتواء.. حتى الانطفاء وحتى آخر قطرة..

سلخت لباسه وارتمت عليه بشراسة شقشوقة. أحب شراستها وأطلق عنان شهوته حتى آخرها. انصهر في وديان مغتصبته ضاربا قوانين الجدة عطوف القطوف ولعانتها في نهر الصبايا الذي يسمع خريره كأنه يحثه على المزيد من الإبحار والارتواء. ومحا من ذاكرته نهائيا صورة تمثال شحموم الحموم الذي نصبته الجدة عطوف القطوف على جبال الكبائر لتسحقه وأمثاله من الرجال تحت نسائها التي نشرتها كالجراد في كل الطرقات. حتى هذا الخلاء لم يفرغ منهن.

أفرغ في جسدها أنهار شهوته. مرة تلو أخرى. أشبع غرائزه المخنوقة بشراسة لا عهد له بها. ثم قام من فوقها وأنثاه بين الحياة والموت. راح يفيقها. فهزته رعشة جلدة الجدة عطوف القطوف من أن تشرخه في الحال إلى جزأين كما فعلت بشحموم الحموم. فانقض على ملابسه. امتطى فرسه عاريا وطار به  بعيدا عن مكان جريمته، تاركا مغتصبته ليدي الجدة عطوف القطوف تشحذ مخالبها، وتنفخ فيها أنفاسها الوحشية...

***

شغل رأسه بكل حكاية. واجتر عمره الماضي عشرات المرات، وبنا عمره القادم مئات المرات ورأس هذا النهر لم يبد له بعد، وكأنه الزمن الذي لا يحده حد..

وجرائمه تطيب جرحه وتذكي حماسه كأنه يتزود من إناثه بالوقود الذي يعينه على إنهاء هذه الرحلة التي لا يدري كم يبقى له لإنهائها والوقوف على قطب الجد الأعظم. كل مرة ينجو من جرائمه بأعجوبة. وما يكاد يفرح بنجاته حتى تبدأ نار الشهوة تضطرم في جسده، فيكرر جريمته بوحشية أكبر مع أنثى أخرى من حفيدات الجدة عطوف القطوف. وقد ارتكب ثلاثا منها، وما زال يتحين أثرا لأنثى لينقض عليها ليفرغ فيها شهوته، ثم ينطلق طائرا وقد تخفف من آلامه ومن عمق جرح الغدر الذي لا زال ينخر ذاته.

وبعدما اكتشف بلسما لجرحه، صار يقسم بينه وبين نفسه بأنه لن يعدل عن ارتكاب جرائمه حتى وإن وقفت الجدة عطوف القطوف على رأسه بسوطها الحديدي، وأنه لن يقوم من فوق أنثاه حتى يفرغ فيها شهوته حتى آخر قطرة.

كل فتاة تظهر أمامه يراها شقشوقة، فيشقها بخنجره ولا يدعها حتى يفرغ فيها كل شهوته ثم يهرب تاركا إياها للجدة عطوف زهي بين الحياة والموت. وينطلق مثل السهم وهو يمني نفسه بأنه حينما تستيقظ إناثه يكون قد قطع مسافة لا تصله إليها دعواتهن ولا لعناتهن. وربما لن يفقن إلا وصحاصيح صغيرة تتحرك في أحشائهن، وصورهن تماثيل حجرية على جبل المناكر إن رضين بنطفه أولادا لهن. وربما يكون حينها في بوابة نفق الجد الأعظم. يطلع على كتابه وعلى كل أسرار ما يفني القوة التي بين يدي الجدة عطوف. وحينما يعود غانما مظفرا بكتاب جده، سيزور هذا المكان الذي اقترف فيه جرائمه، وربما كفر عنها بما يقدر عليه، وبما يحمله معه من دواء استقاه من كتاب الجد الأعظم.

ورغم شعوره بخفة الطيور بعد كل جريمة يرتكبها، ورغم الشجاعة التي يظهرها إلا أن الهلع والرعب يرعشان بدنه من أن تلحق به الجدة عطوف القطوف، أو تنزل به لعناتها، أو يتحرك نهر الصبايا فيعترض طريقه ويرده إليها لتشرخه إلى شطرين كما فعلت بشحموم الحموم. لذا صار يلتزم أقصى حدود الحذر وهو يهم بإنقاذ الرجال الصارخين بين أيدي نسائهم اللاتي يأتين بهم ليلقينهم في نهر الصبايا.

وقد لاحظ في الآونة الأخيرة مدى تكاثر عدد الناشزين الذين تقودهم نساءهم إلى نهر الصبايا حتى خمن بينه وبين نفسه أن كل الرجال قد أعلنوا التمرد على نسائهم، أو ربما شراستهن بلغت الذروة لم يقدروا على تحملها. إذ لا يمر يوم إلا ويرى ضحايا جدد تساق إلى نهر الصبايا. لكن ما أثار انتباهه أن نهر الصبايا لم يعد بتلك القوة التي كان ينقض بها عليهم كما كان في السابق. صار كالأسد الهرم الذي يتلهف إلى فريسته، وتعوزه الاستطاعة للانقضاض عليها. فيستجلبها إلى مخالبه بالحيل. فيختبئ في مكان قصي، ويقطع نفَسه حتى يمر غزال بالقرب منه فينقض على عنقها ويفتك بها. كذلك يرى هذا النهر يفعل.

أتراه حيلة ابتدعها ليجذبني إليه، أم تراه قد شبع من جثامين الرجال الذين ابتلعهم؟. أم تراه قد هرم ولن يفيد الجدة عطوف القطوف ونساءها في شيء؟

صار يضحكني أمره.

يطلق موجه الميت من بين الأشجار فيلحس ضحاياه لحس الموت، ثم يتركهم يهربون ويشقون طريقهم في الحياة بعيدا عن غطرسة نساء الجدة عطوف القطوف. وأكتفي فقط بإرشادهم بتوجيههم إلى المنطقة الشرقية حيث أرشدت السابقين قبلهم.

لكن أليست هذه علامة على أن جوفه قد امتلأ بالرجال كما امتلأ بالنساء من قبل؟ أليست هذه علامة لبداية ثورته الكبرى التي سيغير بها وجه التاريخ؟ ويكتب لنا تاريخا جديدا نحن أحفاد الجدة عطوف؟.. وهل أنا مخطئ حينما أخطف الرجال من بين أصابعه؟.. ماذا سيخسر هذا الكون الأبله إن ضحى بعشرات أو مئات رجاله في سبيل ضمان عيش كريم آمن للعشرات الباقية، وللمئات الآتية لا محالة؟؟.. لم أعد أدري الصح من الخطأ.. صرت كمن يمشي في الظلام؟؟

رآهم يتسلقون التلال وهم يمشون على أربع، ويرتعدون من لحسة الموت، التي مررها نهر الصبايا على أجسادهم النحيفة الهزيلة. فتمنى لو كان فرسه مركبة كبيرة تتسع لركوبهم، لاحتواهم جميعهم وألقى بهم في المنطقة الشرقية الخالية ليؤنسوا بعضهم بعضا. ثم يسوق إليهم بعض الإناث ليكونوا مملكتهم بعيدا عن منطقة نفوذ الجدة عطوف القطوف. وهو يتابع مسيرهم بتأثر دمعت له عيناه، حثهم بصوته الجهوري النافذ بأن يسلكوا الطريق الوهاج بين الجبلين، والذي يبدو وكأنه طريق للشمس. واندفع هو بدوره يواصل طريقه المستقيم الذي لا ينحرف يمينا ولا يسارا، ولا يرى عارضة أو تلا أو جبلا أو شجرة تقف في طريقه الممتد على ضفة هذا النهر العظيم. وصورة الشيخ شبور وحكايته تستحوذان على ذاكرته كأنه الشخص الوحيد، الذي أنقذه من بطش امرأته التي كادت تمزقه وتلقيه إربا إلى النهر. لا يدري سر انشغال باله به دون غيره. ربما لأنه الأكبر سنا من كل الرجال الذين خطفهم من فم نهر الصبايا، وربما لأن ثمة شيئا مشتركا بينهما يجذبه إليه أكثر من غيره، وربما تلك الروح الانتقامية التي كان يفصح عنها والتي لم يألفها في رجل قبله. وربما أمور أخرى...

ابتسم وهو يتذكر إصراره وقسمه الغليظ بأنه سيفني حياته يبحث عن امرأة يفرغ في جسدها عذاب عمره الذي أفناه مسحوقا تحت جسد امرأته يتحرق بنيران شهوته. تساءل وهو يقبض على رأسه إن انساق وراء روحه الانتقامية، وقضى وطره من أنثى في ذلك الخلاء.. لا شك ستخنق نفسه، وتلقيه فتاتا للطيور، أو تدحرجه من فوق تلك الروابي المخضرة إلى النهر البارد في الأسفل، أو ربما تقذفه في طوابي الصبار المسيجة لجنان الحب. هذا، إن لم تكن الجدة عطوف قد شرخته شرخ شحموم المحموم قبل أن ينهض على جسد غريمته.

تشوك جسده وهو يرسم مصير الشيخ شبور في ذهنه، والذي لا يراه مختلفا عن مصيره أيضا إن سخرت إناثه جنودهن المرئية وغير المرئية وبلغن مكانه..

بدا له في الأمام على مسافة قصيرة منه، براكين مائية صغيرة تتدفق من بين أشجار نهر الصبايا تعكس لون أشعة الشمس الذهبية وخضرة الأشجار حولها. ما تكاد تنطفئ حتى تعقبه تدفقات مائية أخرى تتفجر من أعماق النهر في شكل استعراضي مائي بهيج. كاد يلجم فرسه ويتوقف حتى يرى نهاية هذا الاستعراض المفاجئ، وهذه القوة التي يبديها النهر بعدما اعتقد أنه قد شاخ ونام نومته الأبدية، وأنه لم يعد يقوى على جذب فأرة إلى أعماقه. لكن ما أن تبدى له في الأمام جبلا شامخا من خلف ستار الماء الملون بالأخضر والعاكس لأشعة الشمس الذهبية، حتى أخذته فرحة اللقاء بالجد الأعظم، فاندفع غير آبه بشيء غير اقتحام عليه قطبه واكتشاف أسراره...

***

VI

خطر ببالي هنا أن أكشف عن جزء مهم من حياة الجدة عطوف القطوف التي يهاب منها الكل، وأذكر لكم كيف استطاعت أن تحتفظ على هذه القوة وهذه السلطة طوال هذه القرون التي توالت على اعتلائها عرش مملكة النساء. لكني ارتأيت تأجيل الحديث عنها.. ربما ستحكي لنا قصتها بنفسها أو على لسان البطل صحصوح بعدما يواجهها بكتاب الحقائق الذي سيتسلمه من الجد الأعظم.. لذا سأتفرغ هنا لفصل طريف جدا خاص بصحصوح الشاب ابن شموسة.. فلقد استيقظ اليوم من النوم على غير عادته، خمولا، ونفسيته ضائقة، ومزاجه متعكر كأنه ليس ذلك الشاب السعيد المتقد حركة وحيوية، والذي يضخ دائما جو المرح حول والديه وحيثما حل. حتى أن أباه، الشيخ شبور، أحيانا ينسى عمره فينطلق معه يرقص ويقلد له الحيوانات، وأحيانا يتلفع بستائر زوجته ويقلد له نساء الجدة عطوف وشراستهن في قالب هزلي يجعل ابنه صحصوح يتلوى من الضحك. ثم يتكئ على ركبتيه، يلهث من شدة العياء وجسده ينز بالعرق ويقول له بنبرة لا يتمكن من تخليصها من نبرات الضحك:

ـ ورب الكون، يا ابني صحصوح، لأنت وشموستي، أمك، لتمدانني كل يوم بعمر جديد. وأشعر أني سأصير أكبر معمر في الأرض.. وبكما سأناهز عمر الجد الأعظم..

لكن صحصوح اليوم، رشق أبويه بابتسامة فاترة أجهد نفسه في رسمها على وجهه المكدر العبوس كأنه يحمل على كتفيه ثقل الكون كله، وراح يمضي خارجا دون أن يشاركهما جلستهما الصباحية المعتادة تحت النخلة في الزاوية القصية في فناء البيت، والتي يضفي عليها يوميا من الصخب والمرح ما يجعلهما يبكيان من شدة الضحك، ثم ينصرف خارجا وهو يعدهما بصيد ثمين يكفي لغذاء كل الأهالي حولهم.

اندفعت أمه وراءه وحضنته إلى صدرها وهي تحاول أن تمسح عنه هذا العبوس وترد إليه مزاجه الطيب المرح. أمسكت وجهه بين راحتيها وسألته عن سر ضيقه وهي تحدق إلى عينيه المنطفئتين. أرضاها بابتسامة فاترة وانصرف خارجا وهو يقول لها بنبرة حزينة لم تألفها منه:

ـ قد أتأخر اليوم قليلا

ـ إن كنت تشعر بالتعب، يا ولدي، فلا تذهب إلى البحر ولا تشق نفسك بالصيد

طمأنها بهز رأسه، وامتطى فرسه، وانطلق بعيدا عن بلدته التي شعر في رحابها بالاختناق. هو شعور بدأ يتسرب إليه منذ مدة، لكنه تنامى في نفسه بوتيرة سريعة في الآونة الأخيرة، حتى ضاق به صدره اليوم حد تعسر تنفسه. فيلفظ زفرات متتالية حتى يتخفف قليلا من هذا الثقل الجاثم على صدره دون أن يجد له سببا مقنعا، غير شعوره بسحابة سوداء تغلف كل شيء حوله، وإحساس مرير بالملل والقرف من كل شيء حوله. حتى حكايات أمه عن أخيها صحصحوح وعن مأساتيهما أمام بوابة جنان الحب، وعن اللبؤات الشرسات اللاتي يصطدن فرائسهن من الرجال أمثال أبيها، والتي كان يستحث أمه للتوغل في الحكي عن هذه البيئة الغريبة عنه قد خشي اليوم أن تتطرق أمه لهذه الحكايات التي شعر إزاءها بقرف وملل شديدين. ولهذا تجنب مجالسة أبويه وهو يود لو يتجنب كل شيء يذكره بمحيطه ويبتعد عن بلدته عله يكتشف جوا جديدا ويبعث فيه روحه المنطلقة المرحة.

وكان في الليل، قد قرر في قرارة نفسه أن يذهب بعيدا عن بلدته التي لا يرى شيئا عدا أبويه يشدها إليها: خلاء واسع موحش على الضفة الشرقية لمملكة النساء العملاقة، وخلفهم طوابي الصبار المتوحشة على امتداد سور جنان الحب والتي لا يحدها حد. ولا يستدير ناحيتها أحد كأن هذه الأشواك اللامعة المشهرة كالسيوف البتارة ستفقأ عيون الساكنة إن ركزوا أبصارهم فيها أو اقتربوا منها ليجتثوها أو يحرقوها. وأين هي هذه الساكنة لتعمر هذا الخلاء الموحش؟! هم رجال أغلبهم شيوخ موزعون على امتداد ضفاف جنان الحب مشكلين، ببيوتهم الصغيرة الملتصقة، جدارا يفصل بينهم وبين طوابي الصبار. لا يفلحون إلا في الهرب. أما المواجهة فقد اجتثتها من نفوسهم الجدة عطوف ونسائها الشرسات وكأنهم خلقوا بدون أظافر أو أسنان، كما يقول لهم، أبدا فيهزون رؤوسهم مهولين ما يسخر منه. وما يجري على لسان أبيه من حكايا مريرة ترد على ألسنتهم كأن لا تاريخ ولا حديث يعرفونه غير شراسة النساء اللاتي نجوا منهن بأعجوبة.. بينما في الأسفل حيث يمر النهر، الذي يفيض شتاء ويجرف كل الأشجار على ضفافه، فالمكان خال إلا من الأشجار الباسقة والبساتين الشاسعة وبعض الحيوانات البرية يراها تتقافز من هنا وهناك. ولم تثر فيه اليوم رغبة مطاردتها ولا الذهاب إلى البحر لصيد السمك كما توقعت أمه.

ضيق شديد قبض اليوم على صدره وغلف الوجود حوله بستار أسود سميك. وملل اجتاحه حد الاشمئزاز من نمط حياته، ومن أيامه المستنسخة من بعض. ساقته خطواته جهة المنطقة الغربية، التي ضربت أمه وبلدته جمعاء ستارا من طوابي الصبار وسور جنان الحب العسير الاختراق أو بلوغه ولمسه بيد مذ نازلة زفة خاله صحصوح. مضى يتوغل في المنطقة ويدخلها من جهة نهر الصبايا العملاق. تذكر حكايات أمه ورجال بلدته عن شراسة النساء، وعن هول نهر الصبايا وكيف يصطاد الرجال الناشزين.. يتشوك جسده ويقشعر جلده ويعلو خفقان قلبه من شدة الخوف. ومع ذلك، توغل في المكان مدفوعا بفضول جارف للوقوف على هذه الحقائق بنفسه، وبحذر وتوجس يفعل كأنه مقبل على غابة الوحوش أو ساكنة من عصور غابرة. ألجم إليه فرسه وحدً من سرعته، وانحرف به جهة الغابة متجنبا الأماكن الصخرية الوعرة التي تحدث صوتا يرتد في المكان، وذلك حتى لا يلفت انتباه النساء المتوحشات. فيباغتنه من حيث لا يدري ويغتصبنه أو يمزقنه ويرمينه فتاتا لنهر الصبايا.

ظل حذرا وعيناه ترصدان المكان بتوجس. ويقبض بقوة على لجام فرسه. ويستعد للفرار متى تحسس الخطر. وخوف عارم يغزو قلبه كلما توغل أكثر. تبدت له في البعيد قمة الجبل الذي أوى إليه خاله صحصوح هربا من أمه، ومن النساء تماما كما وصفته له أمه. وأدرك أن خلف هذا الجبل، الذي لا ينوي اليوم تسلقه، تنبسط منطقة أمه وخاله صحصوح. وأصر في داخله أن يكتفي اليوم باكتشاف المكان على ضفاف نهر الصبايا العملاق ثم يعود إلى بيته. ورغم الشجاعة التي يبديها، إلا أن الخوف يذبذب أوصاله من نساء الجدة عطوف أن يهاجمنه من يمينه، وكذلك من هذا النهر أن ينقض عليه من يساره. شعر وكأنه وسط نارين، بل وسط أرض ملغمة ومفخخة، وأن أدنى عثرة منه أو غفلة منه سيوقع نفسه في مصيدة قد لا يفيق منها أبدا. بحذر شديد، وعيناه تجوبان بتوجس المكان وأذناه منتصبتان تلتقطان كل حركة أو صوت. لا يسمع غير أصوات الشلالات تتدفق أعلى يمينه ولا يراها ورائحة الفواكه تلف أنفه شهية طيبة تذكي فيه الإحساس بالجوع. كان عليه أن يصعد الربوة على يمينه ويتوغل داخلا البساتين والجنان ليكتشف ما تنقله إليه حواسه. وقد شعر ببعض السكينة تستشري في نفسه، فأرخى لجام فرسه وانساق وراءه يسوقه بثبات وهدوء.

بلغ قمة الربوة، وراح فرسه ينزل به إلى الأسفل، فجذبه إليه بعنف يحدق بذهول إلى فتاة مربوطة بشريط نباتي أخضر إلى شقي شجرة غريبة، فتبدو وكأنها من صلب هذه الشجرة المشروخة إلى شطرين. أثار منظرها هلعا شديدا في نفسه. فكاد يفر مرعوبا منها. لكن التوسلات التي قرأها في عيني تلك الفتاة الشقراء الوديعة سمرته في مكانه. فظل يطوف بها مرعوبا كأنه أمام فتاة من جنس الجن. استدار بها من كل جانب عله يفك له هذا اللغز الشاخص لعينيه. وهي تنظر إليه بنظرات وديعة. تتوسل إليه بعينين تقطران أسى وحزنا أليما أن يفك أسرها دون أن تنطق بكلمة ودون أن يدري كيف سيقوى على انتزاعها من صلب الشجرتين...

***

كانت شموسة في باب بيتها، والدموع تنهمر على وجنتيها، والقلق على ابنها يفتك بداخلها ويعيث في نفسيتها خرابا تعجز على احتوائه رغم كل مواساة زوجها. منذ ليلة الأمس وهي على هذه الحالة، ولا نسمة هدوء تريحها من هذا القلق القاتل. وكل مواساة شيخها شبور لم تفلح في تليين هلعها. فصار يبكي أكثر منها. أشد ما يزلزل قلبها روعا أن يكون ابنها قد حمله ضيقه وساقه في طريق أخيها صحصوح، أو أنه اعترضت طريقه إحدى المتوحشات من حفيدات الجدة عطوف وقيدته بجانبه.

. كفكف دمعه وقال لها وهو يمد يده ليجفف دموعها العزيزة عليه:

ـ اهدئي، يا شموستي.. فابننا قد صار شابا. ومن حقه أن يعيش حياته كما باقي بني سنه. اصبري قليلا وسيفرجها رب السماء والأرض قريبا.. ومن يدري، فقد تصطاده أنثاه وتورطه في حياة جميلة مثل حياتنا. لن يظل إلى الأبد منغلقا في بلدتنا هذه التي لا يجاورنا فيها غير المنفلتين من قبضة نهر الصبايا ومن نسائهم الشرسات أمثالي.

 لطمت صدرها براحة يدها وهي تذرع المصطبة بجوار البيت ذهابا وجيئة وتولول بصوت متهدج:

ـ آآآآآه يا خوفي على قلبي المثخن بالجراح. سكين غياب أخي صحصوح ما زال يغور في أعماق قلبي وأشد ما يضنيني أن تكون الجدة عطوف قد بددته ونثرته غبارا على جبال الوجود.

ـ صحصوح هو في قلوبنا جميعا وندعو له الرب الكبير أن يرده إلينا سالما غانما. أنا أكثر واحد أحبه. ولو قدر أن أفديه بروحي في سبيل حياته ما ترددت يا شموستي. صورته، وهو ينزل على جسدي كطير الباز ويخطفني من بين يدي اللبؤة امرأتي وينقذني من شراستها ومن ويلات النهر الصبايا، لا زالت نصب عيني وتلازمني في منامي ويقظتي. سمعت يا شموسة هيجان نهر الصبايا فأغمى علي حينما تخيلت أن أصابعه التي امتدت إلي لتنتشلني من يد اللبؤة، فإذا هي يدا أخيك صحصوح من انتزعني من بين يديها الشرستين ورماني فوق فرسه الأشهب الجميل..

أصاخت السمع إلى صوت يأتيها من بعيد ثم قالت بصوت هادئ خافت وعيناها تتسعان فرحا:

ـ أنصت، يا شبور، إنه ضباح فرسه.. إني أسمع وقع حوافره تقترب منا. أشم رائحة صحصوح يا شبور.. أشم رائحة صحصوح يا شبور..

راحت تتقدم خطوات إلى الأمام فالتوت ساقيها وسقطت أرضا، وهي تدفعه وتشير له بيدها بأن يمضي ويستقبله بعدما انعقد لسانها..

ـ تعقلي يا شموسة.. فكيف سيعرف أخوك طريقه إلينا.. تعقلي ولا تتركي أوهامك تأخذك مأخذا غير طيب. إنه فرس ابننا شبور

ـ رائحة صحصوح ما أشمها.. إنها رائحته.. أجل رائحـــ

جرت جسدها لتستقبله وهي تتعقب خطوات زوجها شبور..

أغمى عليها من جراء رائحة أخيها التي امتلأت بها خياشيمها وأوردتها..

***

لا زالت عيناه بذات التوجس والاندهاش، تتفرسان في "فتاة الشجرة".

فتاة جميلة في مقتبل العمر جالسة وسط شقي شجرة سامقة شرخت إلى نصفين من قمة جذعها حتى أسفل جذورها. شعرها الأشقر الحريري مثل لون شعره منسدل على جانبي صدرها، وساقاها البيضاوان الناعمتان ممدودتان أمامها، وعيناها الواسعتان الصافيتان تحدقان تارة إليه وتارة إلى قرص الشمس، وشفتاها الرقيقتان تفغران على ابتسامة تتأرجح بين الرضا بقدرها والرجاء. وهي مربوطة من الوسط بشريط عريض من جذع الشجرة المشروخة. وتبدو الفتاة وكأنها تبرعمت من صلب هذه الشجرة الغريبة.

ظل صحصوح الشاب لحظات يطوف حول هذه الشجرة الغريبة وعيناه على هذه الفتاة العجيبة وكأنها من صلب هذه الشجرة وليس من صلب بني الإنسان.

آمن شرها حينما بدت له لا تقوى على الحركة، وأنها لا تقوى على فك نفسها من أمها الشجرة بسبب هذا الحبل السري الذي يربطها بها من وسطها. فتقدم ناحيتها وهو ما زال فوق فرسه ومتأهب للفرار.

سألها عن أمرها وما حل بها. ابتسمت له وهي تنظر إليه بوداعة دون أن يبدو عليها ضيقا من حالها. أعاد عليها السؤال. فردت عليه وقد اتسعت بسمتها وارتسمت غمازتان على وجنتيها الورديتين، ففاضت لعينيه جمالا حتى أنه شعر بداخله أنه سيفديها بروحه من أجل أن يرى هذه الابتسامة على وجهها:

ـ أنا ثمرة نبتت غصبا وعدوانا في أحشاء أمي. فنجا أبي من العقاب وتحملته عنه أمي إلى أن ولدتني. فاختارت أمي حريتها لتطارد أبي وتقتص منه. لكنها لم تعثر عليه كأن أرضا انشقت وابتلعته، أو أنه رمى نفسه في نهر الصبايا مباشرة بعد فعلته الدنيئة.  وهكذا تحملت أنا وشجرتي العقوبة بدلهما.

ـ هل تعرفين أباك وأمك؟

ـ أنا أعرف أمي. وكانت تزورني مرارا إلى أن دخلت جنان الحب. وأبي لم أره قط. اسمه صحصوح وقد نجا بأعجوبة من جلدة الجدة عطوف القطوف. فنزلت على هذه الشجرة التي ربطتني إليها الجدة عطوف. ولن أتحرر حتى أتمكن من رجل. لكن أين هذا الرجل الذي سيصلني، ويمكنني من نفسه في هذا الخلاء الذي لا أسمع فيه إلا صوت الريح وهذه الثمرات التي تمن بها علي شجرتي؟!.

فكر في أمرها قليلا وقال لها:

ـ إن منحتني عهدا غليظا سلمت لك نفسي كما تريد الجدة عطوف القطوف وحررتك من وثاقك الشجري. فأنا أيضا ثمرة جريمة اقترفها أبي، لكن أمي أنقذت أبي قبل أن تحل به اللعنة وتجلده الجدة عطوف. فعشنا بعيدا على ضفاف مملكة النساء وجنان الحب. هناك، صنعنا جنة صغيرة للحب وأمضي حياة عادية وجميلة تحت ظل أبوي. وإن منحتني عهدا ورضيت بالعيش معنا في جنتنا الصغيرة حررتك

ـ أعدت إلي الروح أيها الشاب الوسيم. كنت فقدت الأمل في أن أجد من ينظر إلي بنظرة الرحمة، لذا امتنعت عن أكل ثمرات شجرتي التي تراها بجانبي. لكن ماذا عن الميثاق الذي تريده مني حتى تحررني من هذه الورطة.

تردد قليلا قبل أن يفصح عن شرطه، فأعادت عليه بنوع من الإلحاح المرن:

ـ هيا أفصح أيها الطيب. إن قدرت فعلت وأذعنت وإن لم أقدر سأضرب عن الطعام حتى موتي

ـ أن تعيشي معي في جنة صغيرة بجانب والدي وألا ندخل أبدا مملكة النساء.

ـ موافقة

قفز من فوق فرسه وكاد يسلم لها نفسه ثم تراجع قليلا وقال لها:

ـ لكن أين الضمان؟

ـ الضمان هو هذه الشجرة الممسوخة، إن التأمت وارتفع عنها المسخ وعادت إلى سابق عهدها ركبت فوق فرسك ولن أعود أبدا في كلامي وإلا لحق بي ما لحق بها. لكن احذر وأنت تسلمني نفسك أن ترتكب جريمة أبي صحصوح وتصير مكاني بدل أن نكون محررين.

دنى منها فشرعت ترفع عنه ملابسه قطعة قطعة وهو خائف متذبذب بين يديها كدجاجة تريشها حية حتى صار بين يديها عاريا كما ولدته أمه وطفقت ترفع عن جسدها ملابسها أيضا حتى صارت عارية مثله إلا من رباط الشجرتين الذي مازال يحزم وسطها ويبدو وكأنه من جسدها انبثق وليس من أصل الشجرة.

كانت لحظة اغتصاب مرعبة كأن كائنا من غير جنسه يفعل يتوغل في جسده. لكن مع ذلك، تماسك وصمد من أجل أمه ومن أجل خاله صحصوح. ولو قدر أن يفديه بروحه ليحضره إلى أمه ما تردد. أمه التي سبغت عليه ذات اسم أخيها لتوهم نفسها أنه لم يغب عنها وأنه يجول ويصول حولها. فتتعمد مرارا الصدح باسمه في البيت مرات عدة وعيناها تعانقان الشمس والسحب وحينما يهب نحوها ابنها صحصوح ترتمي عليه بكل لهفها وشوقها وحبها فتطوي عليه ذراعيه والدمع يسبل من عينيها كأنه لم يكن قبل لحظات يتمرغ في حجرها. فعلم صحصوح الصغير فيما بعد أن ذلك العناق وذلك الحب المرضي الذي تغدق به عليه أن الجزء الأكبر منه تكنه لأخيها صحصوح الذي لا تبطل الحديث عنه. وكل مرة تحكي عنه جديدا كأنها عاشرته قرونا وليس عقدا وبضع سنوات. حتى صار بدوره يفتش عنه في أي مكان ينزل فيه ليس حبا في خاله فحسب وإنما حبا لأمه، التي ما أحبت شخصا في حياتها مثلما أحبت أخاها صحصوح، والذي لم يشك في أن فعلته من أثمرت هذه الفتاة الجميلة والتي يراها تشبه كثيرا أمه وربما أيضا تشبه خاله صحصوح الذي يعرف عنه الكثير من خلال المواصفات التي تذكرها له والرسم البهيج الذي طبعت به صورته في ذهنه حتى قال لها يوما أنه لو صادفه سيعرفه حتى وإن لم يصرح باسمه وتاريخه.

دخلت به الفتاة وذاقت عسيلته حتى سال اللعاب من فمها وشهقت بصوت عال من شدة نشوتها. فأخذت الأربطة، على إثر شهيقها، ترتخي عن خصرها وتنسل بهدوء ولين تعود إلى الشجرة المشروخة كأن قوة من داخل شقي الشجرة تسحبها إليها لتملأ بها فجوتها الرهيبة. فقفزت الفتاة سعيدة وارتمت في حضن شابها تقفز وتزغرد فرحة بلحظة انبعاثها. ظل الشابان للحظات متعانقين متلاحمين ومنصهرين في ذات الآخر. ثم أخذا يلبسان ملابسهما. وفي عجلة من أمره يفعل صحصوح حتى يوصل هذا الخبر إلى أمه التي لا شك أنه ستعيش به عمرا جديدا وهي ترقص وتغني. مد لها يده وراح يسحبها بكل فرحه ليمتطيا فرسه. فذهل وتسمر في مكانه وهو يرى الشجرة وقد التأمت من أعلى وصارت جميلة وعادية وشقي جذعها يوشكان على الالتحام أيضا. ظلا في مكانيهما متعانقين كما لو كانا يخشيان أن يفر أحدهما من الثاني حتى التأمت الشجرة كلية وصارت تزهو جمالا وتهتز فرحا وتنثر عليهما ثمارها. عب منها ما قدرا عليه وانطلقا طائرين فوق فرسهما..

***

ظلت شموسة شبه فاقدة للوعي. تجهد نفسها لتتخلص من عقال غيبوبتها. إلا أنها كلما راحت تقوم، تعبق من رائحة أخيها فتغيب ثانية. وكاد يغمى على شيخها شبور حينما انكشفت لعينيه الحقيقة من الوهم. فرأى ابنه وخلفه فتاة مثل الشمس ينزلها من فوق فرسه ويقدمها له على أنها فتاته. فرح كثيرا ولم يصدق قوله. لكن الذي أذهله ليست هذه الحكاية التي كان ينتظرها ويردد مرارا على مسمع زوجته بأن الرب سيرفق بهما ويعيد إليهما ابنهما غانما سالما. وإنما الذي أذهله حد الجنون، أنها صورة طبق الأصل من صحصوح أخي شموسة. وحينما انحنت وقبلت يده كما رأت فتاها صحصوح يفعل لم يتمالك أن صرخ أنها من صلب صحصوح:

ـ أنت ابنة صحصوح.. ورب السماء والأرض لأنت ابنة صحصوح

ـ أجل أنا ابنة المجرم السفاح المدعو صحصوح.. نجا من جريمته ووقعت فيها أنا إلى أن....

ـ إياك، يا بنيتي، أن تذكريه بشر. أبوك فارس مغوار، لذا أعانته الآلهة على أن ينجو من فعلته. أنت نبية أنت ابنة الآلهة يا بنية.. ما اسمك؟

ـ اسمها فانوسة

ـ هيا اقتربي بٌنيتي من حماتك. لقد أغمى عليها من شدة رائحتك التي اشتمتها على بعد مسافة طويلة. اهمسي في أذنها بأنك بنت أخيها صحصوح.. ستقوم وستلفك بجناحي قلبها..

فتحت شموسة عينيها على هذا الخبر الجميل الذي تهمس به فانوسة في أذنها وهي تمسح على وجنتها. أعاد إليها الروح حينما اكتشفت أن أخاها على قيد الحياة وأن هذه الشمس التي غمرت بيتها بسبب ثمرته الطيبة الجاثية بجانبها. حضنتها إلى صدرها والدموع تنهمر على وجنتيها تشتمها كفاكهة ناضجة وقعت بين يديها بعد جوع أليم:

ـ أنت صحصوحتي الصغيرة. أنت صورة من أبيك بنيتي. ما أجل رحمتك يا إله الرحمة.. رحمتني حينما أغلقت آلهة الحب باب جنانها في وجهي برمي هذا الشيخ في طريقي وغرس بذرته في رحمي. ورحمتني حينما أتيت لي بهذه الثمرة الجميلة من أخي صحصوح لتعمر بيتي. وسترحمني برحمتك العظمى يوم ترد لي أخي، شق روحي الثاني، الذي أخذه معه واختفى. سأظل أنتظر رحمتك حتى تلاقيني به وتصرف لها من الأسباب ما يحققها.. تكفيني اللحظة هذه الهبًة من رحمتك التي سقتها إلي اليوم لأعيش بها عمرا آخر يكفيني حتى أرى أخي بعيني، وتلتئم روحي ثم خذ روحي وتوارى بها وراء الغيوم أو الظلال أو البحار.. افعل بها ما تشاء يا إله الرحمة لكن بعد أن أرى أخي...

***

VII

تجيل بصرها حول قصرها الصغير الذي بنته لبنة لبنة حتى صار بهذه الفخامة والاتساع. يستقبل الشمس، ويداري ظهره لسور جنان الحب العظيم، ولطوابي الصبار الوحشية التي تحيط به. وحوله بساتين خضراء يانعة، وفي أقصى زاوية فنائه الرحب، نخلتها السامقة الوارفة التي يحاذي رأسها السحاب. هذه الجنة، كما يحلو لها أن تسمي بيتها الممتلئ بحركة أحفادها الصغار، تغنيها عن جنان الحب.

لكن أحيانا كثيرة، يحدث أن ترى الظلام يتكدس في بعض زواياه، أو سحابة سوداء تحجب عنها الشمس، فتزفر دون صوت حتى لا يسمعه أحد من أفراد أسرتها ويتأذى بسبب زفرة حارقة طفرت من أعماقها لحظة ضيق، ويأس من انتظار أخيها صحصوح، وهو الساكن فؤادها وذاكرتها أبدا. وتتمنى لو يأتي ويشاركها جنتها، ويبث فيها روح جنان الحب التي طالما حلما بها.

يستدير بها أحفادها فيأخذ كل واحد مكانه أمامها متلهفا إلى أن تتمم لهم حكايات أمس عن الأمير الذي غاب عن شقيقته التوءم، ولم يعد بعد والتي قطعها عليهم النوم، فينطلق لسانها في قص حكاية النهار المضحكة حتى يطربوا أذنيها بقهقهاتهم المدوية التي تفتح زهرا أخضر في قلبها، وتضحك معهم ملء فمها. يبتعدون عنها يتراكضون وراء بعضهم في فناء البيت، وهي تتعقبهم ببسمتها التي لا تفارق شفتيها في حضرة عائلتها. يخرجون واحدا تلو الآخر فيستشري الهدوء في الفناء الممتد أمامها. ترفع عينيها الحزينتين إلى السماء الصافية والتي تجول في محيطها سحب بيضاء. تطيل النظر إليها حتى تطفر الدموع من عينيها فتجففها بسرعة بطرف لباسها حتى لا يراها أحد من ذويها فتنغص عليهم لحظتهم. وإن حدث أن لمحها ابنها أو كنتها قهقهت بأعلى صوتها وادعت إنها دموع الفرح بهما وبأولادهما، فتحضنهما إلى صدرها كأنها لم ترهما منذ أمد بعيد.

 لم تنس شموسة يوما، أو تغب عن ناظريها صورة أخيها صحصوح يوم غادر البيت ولم يعد إليه رغم كل إلحاحها عليه بأن يعود. كانت عيناه الدامعتان تمطران شررا وتنظران إلى أمه بعدوانية لم ترمقها في عينيه بتلك الحدة من قبل. حتى خشيت عليه من أن يقترب من أمه لينقذ أباه من بين يديها، فيهيج شراستها أكثر وتشتبك به وتكون عاقبته أشد من عاقبة أبيه. فهي حينما تقرأ تعاويذها التي تستحضر بها أنفاس الجدة عطوف في جسدها، تستحيل بركانا أمامهما، وتزلزل نفسيهما روعا بنظرات عينيها المتوهجتين كجمرتين مشتعلتين. إن هوت بقبضتها على الصخر ستفتته. أو هكذا كان يتهيأ لهما. فكرهت أمها بسبب هذه الوحشية البغيضة، وبسبب ما قساه أخوها صحصوح على يدها، التي لم تكن تمتد إليه إلا لتقرصه، أو تدفعه بعيدا عنها، أو تنزل ضربا على جسده النحيف، فنفته من البيت وسببت في هذا الفراق الذي تكتوي به بصمت وبألم يدمي قلبها وينخر ذاتها ولا تقوى على الإفصاح عنه لأحد خوفا من تأذي به أفراد أسرتها أو تنقل إليهم شيئا من لوعة قلبها. وهي التي تغرق أفراد أسرتها بفيض رقتها وحنانها وتجزل الفيض، وتتفادى قدر ما تستطيع ألا تصيب أحدهم مرارة ما عاشته هي وأخوها في صغرهما على يدي أمهما، فيفرون منها واحدا تلو الآخر كما حدث مع أمها التي لا تدري عنها شيئا الآن، ولا ترغب أن تعرف عنها شيئا أيضا.

ولم يقتصر فيض حنانها على أفراد أسرتها فقط، بل مدت يدها الحنون إلى كل من يحل بمنطقتها الجديدة، فتستجلبه إلى بيتها وترعاه كما ترعى واحدا من أهلها. وتظل أياما تواسيه حتى يتغلب على محنته التي ألقت به في هذا القفر الخالي على ضفاف مملكة الجدة عطوف القطوف. 

أغلبهم نجوا من قبضة نهر الصبايا، وبعضهم فر من مملكة الجدة عطوف. فكانت تفرح بكل واحد يحل بمنطقتها. وتهرع لاستقباله، خاصة بعدما علمت منهم بأن أخاها صحصوح من أنقذهم وأرشدهم إلى مملكتها الجديدة التي بدأت تظهر عليها بوادر الإعمار بعدما كانت قفرا موحشا.

فتستقبلهم في بيتها ضيوفا أعزاء وتفيض عليهم بفيض حنانها ورقتها التي لم يألفوها من قبل. ولا تدعهم ينصرفون عنها حتى يسترجعوا عافيتهم، ويتغلبوا على مآسيهم، وتلتئم جراحهم. ثم تعين لهم بقعة بجوار بيتها، يتعاون الجميع، بما فيهم هي وأفراد أسرتها، على بنائها. وحينما يكتمل بناؤها، تسمح لضيوفها بمغادرة بيتها ليسكنوا بيوتهم الجديدة التي يزفون إليها في جو من الفرح والمرح، كأنهم يزفون إلى جنان الحب.

ومؤخرا، وصل أحد اللاجئين الجدد، وقص عليها بتأثر حكاية رجل شهم، رفيع الخلق، وبهي الخلقة، وعن طيبة قلبه، وشجاعته، وكيف خطفه من بين أذرع نهر الصبايا وألقاه فوق ظهر فرسه وانطلق به يحاكيه ويواسيه حتى أبعده عن خطر النهر، وزوجته التي التي قادته إلى هذه المهلكة، فأدله على هذه المنطقة ليحتمي بها حتى يعود ويجمع شملهم. ففرحت شموسة بهذا الخبر، وكلما راح ينهي الحديث عن الرجل الشهم الذي لا يتأسف لأنه لم يعرف اسمه والذي تدري عن يقين أنه أخوها صحصوح، تمطره بأسئلة أخرى لتمد حبل الكلام عنه حتى صار يكرر ما قاله من قبل.

ونفسيتها تنتعش كل مرة بهذه الأخبار التي تصلها عن أخيها الذي لم تعد تشك، من كثرة ذات المواصفات التي ينقلونها عن بطلهم، في أنه من يبعث إليها هؤلاء الذين أنقذهم من الموت، ومن بطش نسائهم ليحلوا في أمن، وسلام في مملكتها. بل صارت تنتظره كل يوم أن يهب إليها بفرسه من فوق إحدى قمم الجبال المحيطة ببلدتها. الأمر الذي يضخ في روحها مزيدا من القوة والحماس لتوطئة الأرضية التي سيعود إليها أخوها صحصوح ليعيش فيها عزيزا وسط أحبته الذين أنقذهم من الموت، والذين يفدونه بأرواحهم وينتظرون مقدمه أكثر منها.

الكل حولها صار يناديها " ماما شموسة" وينزلونها جميعهم منزلة أمهم وكبيرتهم. وكل أبنائهم الصغار رأوا الحياة على يديها، وأسمتهم واحدا واحدا. وتسعد حينما يلتفون حولها، أو يندفعون وراءها وهم ينادون عليها "ماما شموسة"، فتنتظرهم حتى يبلغونها، فتحضنهم جميعا إلى صدرها، وتسألهم عن أحوالهم ثم تجالسهم وتوزع عليهم ما تفيض به سلتها من الفواكه والخضر كانت قد قطفتها لبيتها، وهي لا تشعر إزاءهم غير أنها أمهم جميعا كأنهم من صلبها انحدروا جميعا. ويوم مرضت مرض الموت، غابت عن وعيها لأيام وحينما فتحت عينيها على أطفال صغار حولها والدموع في عيونهم وألسنتهم تلهج بصوت متهدج:"ماما شموسة" لا تدري إلى اللحظة كيف استجمعت قواها لتضحك لهم وتطمئنهم بأنها لن تموت، وأنها ستعيش من أجل أن تراهم رجالا، فقامت من فراشها بعدما سكن الموت جسدها أياما. وإلى حد الآن تقول أنها قادرة على مصارعة الموت ونفيه من بلدتها من أجل عيون أهلها وحبهم لها.

وحينما كانت ترى الحزن في عيني إحدى الأمهات، لأنها أنجبت مولودا ذكرا تنزل على الولد وتخطفه من حضنها، وتقسم لها إن ظلت على حالها ستأخذ الولد منها ليترعرع في بيتها ولن تريه وجهه أبدا. وهي تخشى على مولودها أن يقاسي على يدها ما قاسه أخوها صحصوح من أمها. وعندما تنزل الأم تقبل يديها تستسمحها ترد إليها ولدها. ولا تفارقها حتى ترها تلقم ثديها لوليدها. فتضحك لها ثم تقوم وتمضي إلى أسرتها.

وكم تخشى أن تنتقل إلى مملكتها الهادئة بعض أمراض مملكة الجدة عطوف القطوف. فلم تكن تتورع من تهديد الرجال والنساء، رغم حبها لهم، بنفيهم إلى مملكة الجدة عطوف القطوف إن ظلوا على "دينهم" الأول ولم تصفُ أنفسهم من أدرانها وطقوسها التي لا تزال تسود قلبها وتنزفه.

كلما كبرت مملكتها كبر خوفها أكثر، وأضحت تخشى أن تغفل عنها فتنقل إليها بعض أمراض مملكة الجدة عطوف وطقوسها التي تمقتها.

صعدت ذات أصيل دافئ، أعلى المصطبة الكبيرة الممتدة على واجهة بيتها، أعلى الهضبة، تملت وجه بلدتها الهادئة العامرة والمخضرة فبدت لها جنة حقيقية شيدتها بجوار جنان الحب التي حرمت من دخولها. فأشرق وجهها وخطبت في جموع الناس حولها، والفرحة من قدوم أخيها ليعمر أرضه التي راعته في غيابه، تبرق من عينيها وتفيض من وجهها المشرق، وقالت لهم وقلبها يخفق حبا لهم: نحن كما تعلمون جميعا، حرمنا من جنان الحب. وفي قلب كل واحد منا، حرقة من هذا العقاب الذي منينا به دون ذنب اقترفناه، ولا سبيل لنا لتجاوز مرارة هذا العقاب إلا بحب بعضنا البعض، وحب هذه الأرض التي تجمعنا، وأن نستمر كيد واحدة في البناء والعناية بها لتبادلنا حبا وعطاء يغنينا عن نعيم جنان الحب. بلدتنا الشرقية هذه التي تأوينا جميعا هي جنان الحب الخاصة بنا. نحن فيها نفس واحدة، وجسد واحد. ما يقلق أحدنا يقلقنا جميعا، وأي أذى يصيب أحدنا يصيبنا جميعا. سنتضامن ونتعاضد حتى نطرده من ذواتنا ونلقيه في نهر الصبايا. نهر الصبايا الذي طالما أرهبنا جميعا سيكون النهر الذي نلقي فيه ما يؤلمنا وما يعكر صفونا. وهذا النهر العظيم، الذي يمر وسط بلدتنا والذي يزعزع أمننا حينما يفيض شتاء، ويرهبنا ومواشينا ويسبب لنا بعض الخسائر في مؤننا، سنشمر على سواعدنا لنحول مصبه نحو نهر الصبايا. وكل ما يقلقنا سنلقيه فيه.

ارتفعت الأصوات تؤيدها، وكلها حماس واستعداد لتبدأ العمل في حفر قناة للنهر نحو نهر الصبايا. ثم قاموا يودعونها واحدا وراء الآخر وهم يعدونها ببدء العمل مع فجر يوم الغد. فأضافت بوجه بشوش، وصوت عذب مقنع مفعم بالرقة والفرحة:

ـ لا أريد أن يصل أخوكم صحصوح ويجد مملكتنا خربة كما رآها أو سمع عنها. أريد أن يراها جنة. أتفهمون؟ جنة ونحن أطيار فيها، وأنا وولدي وكل أحفادي في مقدمة من يرعاها ويفديها بدمه.

انصرف الجميع وأوى كل واحد بيته. والشمس أوشكت على الغروب وألبس الشفق بلدتها بزي الوقار الهادئ، وكسا قمم جبالها بهيبة سلطانية، وهي لا زالت واقفة أعلى المصطبة تتملى بوجه مملكتها الكبيرة الهادئة المخضبة في الأفق بحمرة الشفق الداكنة التي فتحت لعينيها بوابة على حلم قديم كان أخوها صحصوح يردده باستمرار وهو لا زال طفلا: سنكبر، يا شموسة، ونعتلي عرش المملكة بدل الجدة عطوف القطوف، ونكون جميعا سواسية لا فرق بين الصغير والكبير والمرأة والرجل. ابتسمت وعيناها تجوبان حول مملكتها التي تستعد للنوم، وبعض النجوم قد بدأت ترصع السماء، فشعرت بهذا الحلم الذي دغدغ جوانح أخيها منذ صغره، أنها تعيشه بالفعل لكن بمفردها فسالت على وجنتيها دمعات ثقيلة وعيناها ترسوان على قمم الجبال الصماء تتساءل: متى ستأتي يا صحصوح لتعيش معي هذا الحلم الجميل؟ من أية قمة ستأتيني يا صحصوح؟.. لم تأخرت هكذا على قومك؟

تدفقت دموعها بغزارة تغسل وجنتيها الضامرتين، حينما سربل الليل كل شيء أمامها بستاره الرمادي الباهت. فأدركت أن أخاها لن يصل اليوم، وأن عليها أن تنتظره غدا. فهو لا يحب السفر ليلا.

"أتراه لا زال يخاف التحرك في الليل، أم أن طول هذه المدة التي غابها عني وما قد تعرض له من مفاجآت وفواجع، قد غيرت طباعه وشكله؟. والحلم الذي كان يهمس به منذ أن كان صغيرا ولم يفارقه حتى وهو في كهفه، ألا زال سائرا في سبيل تحقيقه؟ وما الذي أخره كل هذه المدة؟ ألم يصل بعد إلى الجد الأعظم؟

هاجمتها وساوس من مغارات سوداء رغم حرصها الدائم على التصدي لها بالأمل المشع لعينيها مع كل إشراقة شمس بأنه سيعود، فجرت رجليها إلى داخل بيتها وهي تجفف عينيها وتخلصهما من أثر دموعها حتى لا يرها أحد من ذويها، وقلبها ينبض متحديا يلقي بكل هواجسها السوداء في عرض نهر الصبايا ويهتف مع كل نبضة: "سأظل أنتظرك.. سأنتظرك يا صحصوح.. سأنتظرك.. وستجيب نداء قلبي ونداء كل من سكنت قلوبهم لتخطب فيهم خطبة الملك لرعاياه الأوفياء. آه، يا صحصوح لو تدري كم يحبونك، وكم هم مستعدون لأن يفدوك بأرواحهم. وكم من رجل سار في طريق البحث عنك... لو كنت تعلم أنك محاط بكل هذا الحب والتبجيل ما كنت تأخرت لحظة عنهم، ولوفرت كل نفس يشق صدرك لتزفره وسط أهلك الجدد...."

***

تبدى له وجه النهر الجميل الأخضر الباسم، كأنه فم العدل وينبوع البراءة الصافية ما يراه. فسار بخطوات سريعة حذرة ليرى نهايته من خلف الجبل. لم تبد له النهاية وإنما ذراعاه الطويلتان الرقراقتان تلفان هذا الجبل الشامخ. كأنه حبل من ماء رقراق يحيط هذا القطب في شكل قوس، ويشده إليه ليمنعه من الهروب. وعلى مدى البصر يرى ذات الأشجار السامقة التي رافقته طوال رحلته بكل عنفوانها وتماسكها تنتصب على ضفته لتخفي وجهه الساحر من الجهة الأخرى. ولم يتعر منها إلا عند مقدمة هذا الجبل. فعاد إلى مكانه حيث بوابة صغيرة في مقدمته. تمعنها جيدا عله يبدو له ما يحفزه على إلقاء نفسه في داخله.

الخوف يسمره في مكانه، وفرسه يهتز ويتزلزل يحثه على التحرك وفعل شيء. وهو لا زال يقاوم تيارات تجذبه إلى الوراء من حيث أقدم، وأخرى تجذبه إلى المخاطرة بحياته، التي أنفق منها الكثير في هذه الرحلة حتى وصل إلى هنا، وإلقاء نفسه في نفق الجد الأعظم.

حدق بصره في النهر العملاق الذي تعرى تماما من الأشجار الذي سترته طوال رحلته. لا أشجار تخفيه عنه ولا شيء منه يبث الخوف في أعماقه. هادئ أخضر وأسفله بارز تكسوه أحجار لامعة ونباتات ملونة يغلب عليها اللون البرتقالي الفاتح الممزوج بلون أخضر غامق. ووجهه صاف تمتزج فيه كل ألوان الخضرة كأن الأشجار التي رافقته طوال رحلته قطفها بثمارها وألوانها وافترشها لجسده الرقراق الصافي. فمنح لوجهه هذا الجمال الربيعي الساحر والمتلألئ بفعل أشعة الشمس التي تبدو وكأنها من عمقه تشرق وليس من السماء فوقه. 

إلا أنه رغم كل هذا الجمال الفاتن الذي لم يره يوما، ورغم حفاوة الاستقبال التي خصه به هذا النهر العملاق وهو على بعد أمتار من وصوله إليه، مازال الخوف منه متمكن من قلبه ويذبذب أوصاله. وخوفه من اختراق البوابة يجفف ريقه كلما اندفع ليفعل وتصلبت شرايينه كأنه سيدخل بوابة عرين يسكنه قطيع من الأسود. وكلما أغمض عينيه لينزل من فوق فرسه، ويخترق هذا النهر ليدخل نفق جده، ارتفع نبض قلبه وتجمد فوق فرسه الذي لا يعرف الهدوء ويكاد يسقطه من فوق ظهره ويقذفه إلى الداخل رغما عنه. انحنى وشرب من ماء النهر الرقراق الهادئ، وفاض بما بقي في فمه ورشه في الهواء، فسقط كثيرا منه على رأس صحصوح المتجمد فوق ظهره وهو يشد على اللجام بكلتي قبضتيه كأنه يقبض على روحه التي ستهجره بعد حين. وعيناه تجولان بتوجس حوله. وكلما التفت وراءه شعر بلفيح من نار يلهب ظهره فيعود يركز بصره في الأمام، في بوابة النفق. 

عرج على بوابة النفق بنظرات ميتة إلى هذا الجبل الأخضر، الذي تنفتح في مقدمته بوابة النفق الصغيرة وتبدو كفم مفتوح لمياه النهر. تدخله وتغسله فتعود خارجة محملة ببعض الأتربة، والأعشاب اليابسة، وبعض ندف بنية وخضراء لا يدري مصدرها ولا ماهيتها، وبخار شديد أو ضباب كثيف أبيض يحجب عنه ما بداخل النفق وإن كان قلبه يدق بشدة خوفا من اقتحامه. عرج بخوفه من تلك البوابة حتى بلغ قمة الجبل التي يراها تغزو السحب البيضاء ويبدو وكأن عمامة بيضاء تغطي قمة رأسه.

استعان للتغلب على هذا الخوف المدمر بنيرانه القديمة، التي ألقته بين مخالب هذه الرحلة التي لا يدري إن فعل صالحا أم طالحا، وأنه وضع نهاية لعمره بيده بهذه المخاطرة الكبيرة. استحضر أمام عينيه شقشوقة بكل جمالها وأبهتها وهي تطير من بين ذراعيه وتسكن ذراعي حبيبها شبلول، وتدخل معه جنان الحب دونه. لم تهز فيه شعرة واحدة وهو الذي كان يستحضر هذه الذكرى كلما خانته شجاعته فتفجر في ثناياه بركان الشجاعة لا يهاب شيئا ولا أحدا. ولو وقف أمامه نهر الجحيم لأغمض عينيه وعبره. لأن النيران التي أشعلها غدر شقشوقة في قلبه ستهابها نيران جهنم إن عبر نهرها كما يقول دائما.

وهي الذكرى ذاتها التي فجرت فيه كل هذه القوة والحماسة لمواجهة الجدة عطوف القطوف والقبض على روحها، لكن الآن استحضرها في ذهنه بكل مرارتها وقسوتها فلم تخلف في نفسه أثرا يذكر. ذكرى قديمة وانطوت. لا شيء الآن يقوي عزيمته ويدفعه بأن يغامر ويدخل هذا النفق المخيف. خوفه ينحره ولا يدري ما يفعل ليتغلب على إعصار الرعب الذي لم ينتابه إلا يوم كان صغيرا تتقدم إليه أمه المشتعلة وهو لا يدري ما يفعله لينجو من اعتصاره بين يديه القويتين كأنها ذراعي هذا النهر أمامه.

ظل حذرا من كل شيء. يتوقع كل شيء ولا يتحقق من شيء. نزل من فوق فرسه ومضى يسير جنبه يفصل بجسده بينه وبين النهر. والخوف يبني صروحه المدمرة بداخله. لا ينفع الهرب ولن يجدي في هذه المرحلة.

ومم الهرب؟

وإلى أين الهرب؟

يلزمني نصف عمري حتى أقوى على العودة.

وإلى أين سأعود؟

نار الطرد من جنان الحب ولعنات الجدة عطوف ستظل تطارداني عن جرائمي التي ارتكبتها أثناء طريقي حتى تشرخني أمام الملأ. ثلاث إناث اعترضن طريقي فأفرغت فيهن شهوة عمري. كل لعنة إن أصابتني ستدمرني وستحيلني دخانا.

راح فرسه يمضي بعدما كاد ينحني ويشرب من نهر الصبايا فألجمه في آخر لحظة. خشي أن تكون الجدة عطوف القطوف قد دبرت خطة مع هذا النهر، الذي يمدها بالحياة والقوة، لتفجره وفرسه في آن واحد. استغفله فرسه رغم ذلك وانحنى وشرب حتى ارتوى ثم مضى تحت شجرة غير بعيدة، وتربع بجانبها يرقب حركات صحصوح المتذبذبة بسخرية ناطقة.

تغاضى عن نظرات فرسه، واستدار إلى النهر الذي سحب كل مياهه من أمام البوابة، وكثير من الضياء رآها تخترق جوف النفق مما بعث في نفسيته بعض الهدوء والسكينة.  خاصة، حينما تبدت له قليلا جدرانه الداخلية وعليها رسومات كثيرة لم يستبن معناها ولم يقدر على فك رموزها بسبب البخار أو الدخان أو الضباب الذي يضبب رؤيته.

ودع فرسه الهادئ بعينين دامعتين، ومضى حذرا ليدخل وقد جيش كل أحاسيسه ليفض على الجد الأعظم لواعج نفسه من لحظة ولادته ذكرا. وأن يبكي بين ذراعيه ولن يدعه حتى يقوم ويرد عن الرجال هذا الظلم من نساء الجدة عطوف. لكن لا شيء من هذا قدر على نسجه ليلقيه بصيغة أنيقة مؤثرة بين يديه، كأن مساحة عجيبة مسحت ذاكرته أو دواء عجيبا دوى نفسه من كل أورام سنين عمره.

لا شيء في هذا المكان يذكره بحياته الماقبل ولا يسمع غير صوت النهر الذي سكن أذنيه طوال هذه الرحلة. صوت ناي عذب رقيق ما يعزفه في أذنيه وليس خرير مياهه ما يسمعه الآن. "أيفعل ليخدرني ثم يغرقني ويبتلعني في جوفه ولن يستعيدني إلا وأنا تلك الفضلات التي يكنسها من جوف النفق، وربما من جوف الجدة عطوف القطوف التي تنتظرني بداخله؟." التفت إليه بتوجس رهيب رآه قد سحب ماءه كلية على مرمى ناظريه ولكن خريره المنغم الجميل المضفر من شلالات شتى تذيب قليلا خوفه وتنشر بعض الطمأنينة في داخله وتدفعه كالنسيم العذب نحو الداخل.

لذا لم يدر إلا ورجلاه تدخلان النفق، ويداه تتحسسان جداريه، وعيناه تسافران في تعرجاته الملتوية تتهجيان ما دون عليها بذهول مستبد. تاريخ جده وجدته مفتوح لعينيه كدفتي كتاب. تاريخ الجدة عطوف على يساره، وتاريخ الجد الأعظم على يمينه، وفي الأعلى مسماران حادان معلقان أعلا كل جدار.

" لا شك هما القلمان اللذان دون بهما هذين التاريخين العريقين المكتوب على امتداد كل جدار."

توقف مليا عند الصورة التي تخرج دون ملامح من قرص الشمس وتشغل كل الجدار على يساره. الأشعة حولها وضاءة متوهجة تخفي كثيرا من ملامح امرأة جميلة لا شك.. هي لا ريب صورة للجدة عطوف القطوف.

وعلى يمينه، صورة الجد الأعظم تخرج من قمر مغيم يغشاه السواد ويبدو وكأنه متعرض لحالة اختناق، وملامحه مطموسة مضببة لا يظهر منها إلا ما يكشف عنها شعاع خافت تسربه إليه الشمس من بعيد. حدق مليا في نهر الصبايا أمامه. لم يطمئن لحاله. فرغم كل البهجة التي يرسمها على وجهه، يبدو كالأسد الهرم يحتاج لمن ينقذه من الهلاك. وقد أزعجه صوته الحزين المتغير فجأة، كأن جوعا يعتصر أحشاءه. عاد يحدق إلى الصورتين التي شغلتا بدايتي الجدارين. يتلفت تارة يمينا وتارة شمالا كأنه يجري مقارنة بينهما. تساءل مستغربا:

ـ لماذا صورة الجدة عطوف تبدو وكأن الرياح تحركها لتخرجها من النفق؟ هل خرجت من النفق بحق بعدما دونت تاريخها؟ ولماذا صورة الجد الأعظم تبدو وكأنها تنجذب إلى العمق ويكاد يبتلعها الظلام المستشري حولها. ولم يبدو الجد وكأنه يختنق أو يحتضر وأن رقبته تعتصر في يد لا أراها. هل لأنها قديمة جدا أم أنه بالفعل يختنق ويحتاج بدوره لمن ينقذه كما خمنت سابقا؟ وهل سكنا معا هذا النفق؟.

راح يندفع وهو يتلاطم مع الجدارين ليكشف نهاية النفق ـ إن كانت له نهاية أصلا ـ لينقذ الجد الأعظم... لكن حكاية نهر الصبايا المشتتة بين الجدارين كانت تجذب عينيه وتستبد بحواسه فانهمك على قراءتها مدفوعا برغبة جامحة في الوقوف على حقيقته. وتوقف مليا عند مساندته للجدة عطوف القطوف بعدما غدر بالجد الأعظم المحتفي بذكورته بعدما كان له السند الأكبر، فانهارت مملكته وأقيمت على أنقاضها مملكة الجدة عطوف. وقرأ عن الظروف التي أفرزت شخصية الجدة عطوف القطوف التي لم يكن يعرفها ولم يسبق أن سمع عنها شيئا، فتعاطف معها إلى حد سيلان دموعه على خديه من شدة التأثر.

ودون أن يشعر وجد نفسه مستغرقا يقرأ التاريخ الممتد لهؤلاء الجبابرة الثلاثة. الجدة عطوف على يساره والجد الأعظم على يمينه ونهر الصبايا مشتت بينهما ويسمع صفيره الخافت الحزين من الأمام. وخلفه حيث يتوقع عرش جده، مكانه إن شاء أن يخلف أحد هؤلاء الجبابرة.. وفي كل مرة يقبض على رأسه من هول ما يكتشفه. يقفز دائما لعينيه أن نهر الصبايا حاضر وبقوة في كل الثورات التاريخية الضخمة التي قلبت وجه التاريخ لقوة دون أخرى.

فانجذب إلى قراءة تاريخه أكثر من تاريخ الجدة عطوف والجد الأعظم. ورغبة جامحة تحثه على الوقوف عليه من أول دخوله التاريخ حتى يومه، الذي يبدو فيه مريضا لا يقوى حتى عزف معزوفته الحزينة المشبعة بالتأوهات والأنات.

لكن تاريخه مشتت بشكل رهيب بين التاريخين وعلى الجدارين معا. كل المعلومات عنه تبدو وكأنها بذور مختلطة في يد مزارع مجنون نثرها يمينا ويسارا على أرض واسعة.

واستطاع مع ذلك أن يكون معلومات طيبة عنه، ويقف على الكثير من الحقائق على هذا النهر الذي لا يمكن أن يصفه إلا بالجبار والعظيم الذي لا يقهر في كل فترة تاريخه الممتد. وأشد ما زلزل كيانه أن هدوءه وسكونه الشبيه بلحظات الاحتضار الأخيرة، علامة من علاماته التي تسبق ثوراته الكبرى التي يقلب بها وجه التاريخ ويجدد بها حيويته. توقف مشدوها عند قسمه الغليظ الأخير بأنه سيضرب القطب الجنوبي بالقطب الشمالي ويفني كل شيء ولا يبقى غير وجهه يملأ الأرض.

همهم بعدما أطلق زفرة مريرة:" علي أن أفعل شيئا لأقي الكون من عواقب ثورة نهر الصبايا العظيمة والتي قد لا ينجو منها أحد هذه المرة. وقد ينفذ قسمه الغليظ ويرطم القطب الجنوبي بالقطب الشمالي فيحدث الاصطدام الأعظم، فاندثار كل شيء ولا يبقى إلا وجهه الرقراق يملأ الكون كما كان في بداية تاريخه الأول."

تساءل محتارا عن المحرك الذي يدفعه لإطلاق ثوراته التاريخية. هل هو مع قوى الخير والعدل كما يبدو أم أنه مع قوى الشر. "أهي القوى الحاكمة التي تتحكم فيه وتسيره وفق مبتغاها وأهدافها أم هو من ينفخ فيهم ليتجبروا ويطغوا كما حدث مع الجدين."

شعر صحصوح باقتراب نهاية الوجود وأنها ستكون على يد هذا النهر العظيم وأن عليه أن يبذل مزيدا من الجهد ليقي الوجود هذه الكارثة العظمى.

لكن سنوات تمضي من عمره وهو كمن يحرث في الصحراء. ورجلاه تورمتا من كثرة الوقوف والسعي وراء جمع المعلومات الكافية للحيلولة دون وقوع الكارثة العظمى التي يهدد بها نهر الصبايا مع كل زفرة يطلقها. وحينما يسقط رأسه من شدة التعب وتختلط عليه الأمور ولم يعد يميز بين التاريخين، يمد يده ويغترف قليل من ماء النهر فيشربه ويمسح به وجهه وشعره، فيعاوده النشاط ويستأنف التنقيب وجمع المعلومات والغوص أكثر في تاريخ الجدين لعله يثبت له ما يشفع لهما في البقاء والإمساك بزمام الأمور.

ليتوصل في الأخير إلى قناعة أن لا أحد منهما يستحق أن يظل في الحكم. كلاهما طغيا وكلاهما ارتكبا في حق البشرية من الويلات ما يستحق أن يسحب منهما نهر الصبايا ويضعه في يد عادلة أخرى. خمن بينه وبين نفسه في أنه تلك اليد العادلة. فأسند ظهره إلى جدار النفق العظيم يرسم مملكته القادمة والنوم يثقل رموشه الطويلة وبسمة رفيعة لم تزر فمه منذ أمد بعيد تعلو شفتيه الرقيقتين: سأحتفظ على جنان الحب وستكون لها بوابة للدخول وأخرى للخروج. سيدخلها الجميع. الشرير والمريض والصغير والكبير. لكن الخروج منها لا يكون إلا لمن ختم جبهته بختم تطهره من كل الآثام ويثبت أنه لن يفسد في الأرض. ليدخل جنتي الأبدية غير المسورة، والمفتوحة على آخرها كدرجة ثانية من درجات الجنان الأبدية، وفيها يعيش الكل بروح واحدة. وسأشيدها على ضفاف جنان الحب للجدة عطوف القطوف. وأفتحها لكل النازحين من المضطهدين في مملكتها الهاربين منها نساء ورجالا. وسأفرش لنسائها الحرير وأدثرهن بالحرير، وأعبق هواءهن بنسيم جنان الحب حتى يتطهرن من أخر ذرة من أنفاس الجدة عطوف القطوف. ستكون جنان الحب الفاصل بين مملكتي ومملكة الجدة عطوف. الدار الأولى والدار الثانية حتى ينفذ الكل إلى الدار الثانية...

ثم نام طويلا كم لم يفعل قط منذ أن حل بهذا النفق واستيقظ بكل نشاطه وحيويته وهو يحدق في الجدارين. على يمينه جده الأعظم وعلى يساره الجدة عطوف القطوف وأمامه نهر الصبايا وخلفه حيث يتوقع عرش جده مكانه إن شاء أن يخلف أحد هؤلاء الجبابرة. فسار قليلا وهو يردد بقناعة:"لا أريد أن أخلف أحدا وأسكن هذا النفق أدير شؤون العباد عن بعد. لو وفق نهر الصبايا بين الجدين ووضع أحد طرفيه في يد أحدهما لكان أفضل من أن ينحاز كلية لأحدهما. كان سيحدث في الأول الشد والجذب ولكن لحدث بعض التوازن بين القطبين ولنزلت على نفوسنا بعض رذاذ من أمطار السعادة.

كانا لا شك سيتخليان عن أنانيتهما وسيتنافسان على الخير وتوفير النعيم لرعاياهما من الجنسين وإلا لاستفاقا يوما يحكم كل واحد منهما بني جنسه فقط دون الآخر. مملكة خالصة للنساء وأخرى خالصة للرجال كنتيجة حتمية لهجرة النساء من مملكة الرجال وفرار الرجال من مملكة النساء سعيا وراء النعيم. هنا سيحدث التنافس والعراك بينهما لاستقطاب النساء إلى مملكة الرجال وذاته ستفعله الجدة عطوف لاستقطاب الرجال إلى مملكتها فيهون العيش في المملكتين وربما تعبا من الشد والتطاحن والتقى القطبان في عناق حار والجد والجدة في قبلة حارة وأمطرا سماء العباد الحارقة ندى من البسمات والحب الأبدي.. بدل هذا الاصطدام الذي يهدد به نهر الصبايا..

خلص في النهاية إلى القول بغيظ غير معهود بأن هؤلاء الجبابرة الثلاثة ظالمون، شرسون، متهورون.. وأنهم من ساقوا بأنانيتهم المفرطة البشرية إلى الهاوية.

فقام غاضبا ليمضي إلى الجد الأعظم، وهو يجري بين منعرجات القطب الجنوبي التي شعر معها وكأنه يغور في طبقات الأرض.

مضى كريح قوية في هذا النفق العجيب وهو يتخبط يمينا ويسارا في تعرجاته الغريبة المرعبة. يسند تارة يمناه على جدار الجدة وتارة على جدار الجد وتاريخهما الممتد تقرأه عيناه بخطوطه وصوره كما لو كان شريطا تديره عجلة مفرطة السرعة، فتمازجت أمامه الصور والخطوط ولم يعد ير غير خطوط ونقوش متداخلة لا معنى لها. لفت انتباهه على جدار الجدة عطوف نقط ضوئية مرشوشة على سطحه كنجوم قليلة في سماء مظلمة. بينما تاريخ الجد الأعظم متواصل بنقوشه ورسوماته على العطفة اليمينية. فتوقف هنا عند نهاية تاريخ الجدة عطوف القطوف يلهث وقد بلغ به العياء ذروته وإن كانت رغبة جامحة تدفعه للوصول إلى نهاية النفق لإيقاظ الجد الأعظم من سباته.

جدار فارغ من أي نقش أو خط ينتهي به تاريخ الجدة عطوف. سطح أملس لم يمسه طرف مسمار. وأعلاه توأمان لم يتبين ملامحهما جيدا يقبضان على مسمارين حادين من قبيل مسمار جده وجدته، وهذان المسماران لا زالا غائران في الجدار وأن قوة خارقة تدفع بهما إلى الخارج. اتسعت حدقتاه وأشرق وجهه وهو يتمعن ملامح التوءم إن كانت تشبه ملامحه أو ملامح أخته شموسة.. حدق مليا في ملامحهما المطموسة إلا من ابتسامة مشرقة على شفتيهما تبدو وكأنها خيط من الشمس مرر على شفاههما. لم يستبن شيئا. فانحنى ليغترف الماء ليغسل وجهيهما وعيناه على التوءم وزمهرير خافت يأتيه من الخلف ما يفتأ يعلو ويملأ عليه النفق كناقوس إنذار. لاحظ أن الماء بارد جدا وأنه يأتي من الجهة الخلفية، من مكان جده فولى هاربا يعيد أدراجه بأقصى ما تسمح به طاقته..

مياه قليلة رآها تتسرب بهدوء إلى الداخل من نهاية النفق. لكنها كانت كافية لأن تفجر فيه بحرا من الهلع والرعب من غرق قطب جده وبداية ثورة نهر الصبايا الكبرى. فمضى يجري كالريح داخل النفق. وهو يقبض في ذهنه على خارطة الطريق التي توصله إلى الجدة عطوف القطوف في أقصر مدة ليقبض على روحها ويهديها لنهر الصبايا فيسكن به ثورته الكبرى.

***

VIII

بدا لعينيها على الشاطئ، تل صغير مغطى بالثلوج وتتخلله خيوط ملونة لامعة، وكأنها من وليفة قوس قزح. أذهلها المنظر وتملكها الاستغراب في الآن ذاته من تلك الثلوج، التي تلمع لعينيها ولا زالت صامدة أمام أشعة الشمس الحارقة. حثت خطاها إليها وعيناها لا تحيدان عنها. وإحساس رهيب يستبد بها بأن كنزا ثمينا ينتظرها هناك. بل حدثتها نفسها بشيء من اليقين أنها ستجد عندها رسالة من أخيها صحصوح ينبئها بخبر عودته الوشيكة. فهي لم تقطع كل هذه المسافة إلا من أجل خبر عنه. بل انساقت مع حنينها إلى حد التفكير في أنها ستجده مختبئا خلف هذه الصخرة الثلجية. فطارت إليه خلف عكازها.

وصلت إليها، وهي تلهث ونفسها يتقطع، وعيناها تفتشان حولها عن أثر رسالة لأخيها صحصوح. لم يبد لها شيء. مررت يدها على الصخرة العجيبة. ابتسمت حينما تأكدت أنها ليست طبقات الثلوج التي تغطيها كما اعتقدت، وإنما طبقات سميكة من ملح البحر الصافي التي تغطي ظهرها. وتلك الألوان التي تراءت لها من بعيد كأنها خيوط من قوس قزح هي نباتات بحرية نبتت من عمق الصخرة، وطالت لتنتشر على سطحها كخصلات شعر نثرتها الرياح على وجه صبوح.

ألقت عكازها قريبا منها، وأسندت ظهرها إلى الصخرة، ومدت ساقيها العظميين فوق الرمال الرطبة المنعشة، وقلبها يخفق بشدة، وعيناها اليقظتان تحدقان إلى الأمواج اللطيفة المتدافعة نحوها حتى بلغتها وبللت قدميها، فاتسعت حدقتاها فرحا برسالة أولى من أخيها. هو وحده من كان يلحس قدميها ويثير في نفسها هذه البهجة، فترتمي عليه وتحضنه إلى صدرها، وتغلق عليه ذراعيها كما تحضن الآن طيفه. بل هو بلحمه ودمه ورائحة عرقه، من تغلق عليه أجنحة قلبها.

هاجت الأمواج وصخبت في عرض البحر، تعلو تحاذي السماء، ويرتفع زبدها فبدت لعينيها الحادتين كأنها فرسانا في ساحة الوغى، وغازية مكانها بشراسة. ومع ذلك لم تتحرك من مكانها، ولم تتزعزع عنه شبرا واحدا. وإنما ابتسمت ترحب بالشيخ النوراني الأبيض القادم إليها بعكازه الفضي اللامع يقطع الأمواج على فرسه، يتعجل خطاه نحوها بابتسامته اللطيفة المطمئنة التي تعرفها. فخفق قلبها فرحا به وبالأخبار التي سيحملها إليها عن أخيها الغائب أبدا، وعن سر تأخر عودته المرتقبة، وهو الذي أكد لها يوم رحيله ببسمته اللطيفة بأنه سيعود.. سيعود..

لا زال أمامها يصارع الأمواج فوق جواده الأبيض، وبسمته اللطيفة تعلو وجهه، وتتسع. خمنت أنه يحمل أخاها وراءه. فراحت تقوم، لكنها لم تقو على رفع جسدها من مكانها، كأن شللا غزا جسدها وشل ساقيها فجأة، ولم تهتم بما أصاب جسدها. فتحت ذراعيها لاحتضانهما وعيناها لا تحيدان عنهما.

واصل الشيخ الهلامي عراكه مع الأمواج التي تكاد كل مرة تصرعه وفرسه. ها هو يسقط على وجهه فوق عكازه الفضي. وتغمره موجة عنيفة وتنداح غثاء حول قدميها كاتبة برغوتها البيضاء على الرمال: صحصوح سيعود.. صحصوح سيعود

قرأتها بعينين مبتهجتين، وقلب يخفق سعادة وهي تتابع عراك الشيخ الهلامي مع الأمواج، والذي تراه قد استجمع قواه وينتزع جناحيه العريضين القويين من الماء قبل أن تداهمه موجة أخرى عنيفة صاخبة. خلص جناحيه من البلل، وامتطى الرياح على مقربة أمتار قليلة منها، ثم غاب في كتلة من السحب وهو يبتسم لها وينثر عليها كلمات عذبة رقيقة أشبه بنغمة الناي: صحصوح سيعووووود.. صحصوح سيعوووود..

استيقظت من نومها خفيفة مرحة، وبسمة الأمل بلقاء أخيها تطبع شفتيها، ونشاط عارم تستشعره يغزو جسدها المكوم وسط فراشها، والذي يضيئه ضوء القمر المتسلل من نافذتها. بفرحة غامرة، استعادت أجزاء من حلمها وعيناها تحدقان إلى القمر الذي ناصف عمره، وتنتظر بفارغ الصبر انبلاج النهار..

هذا الحلم يتكرر وكأنه شريط مسجل يعاد عليها كل مرة. كان في الأول، لا يظهر في منامها إلا حينما يتملك اليأس قلبها، فيبعث في نفسها من جديد الأمل بلقاء أخيها، ويبث نشاطا وحيوية في جسدها تكون قد فقدتهما طيلة يومين أو ثلاثة، بل فقدت الأمل في استرجاع حيويتها مع تقدم عمرها.

لكن في الآونة الأخيرة، صار هذا الحلم يتكرر كل ليلة، وبمجرد أن تغلق جفنيها، فتحضن إليها طيف أخيها وتنام على أمل بلقائه قريبا. حتى صارت تحب الليل لتتعطر بعبق أخيها في المنام. ولكن اليوم ذهبت بها الظنون حد التصديق بتحقق هذا الحلم الذي يتكرر دائما بذات التفاصيل تقريبا وفي ذات المكان، عند تلك الصخرة "الثلجية" على الشاطئ والتي لا تغيب عن عينيها ليلا ولا نهارا. فأحبت الصخرة وكأنها رأتها بالفعل على أرض الواقع، وأنها لامستها بيديها ودلتها عن أخيها أيضا. بل قررت الليلة، أن تمضي في البحث عنها وانتظار أخيها عندها. وظلت عيناها مفتوحتين معلقتين على السماء تنتظر أولى بشائر النهار لتنطلق. ليس فقط للبحث عن الصخرة " الثلجية" وإنما للقاء أخيها هناك. وثمة يقين رهيب ينتابها بأنها ستلقاه هناك عند الصخرة "الثلجية"..

***

رحل عنها رجلها شبور وهو يبتسم لها ويداها تدلكان وترطبان صدره الجاف. لم يخلف فراقه في نفسها ألما كبيرا، خاصة وأنه في الفترة الأخيرة من حياته تعبت كثيرا في رعايته. وقد بلغ به المرض والوهن حد تعسر واختناق السعال في حنجرته. فكانت تدخل أصبعها المدهون بزيوت الأعشاب والعسل إلى حلقه، وتمضي ليلتها تحرر سعاله دون أن يغلق لها جفن. تخشى إن غفت سيموت مختنقا، وتموت هي حسرة عما سببت فيه.

مات في عمر الخمسين بعد المائة. وهو أول رجل من مملكة النساء يعمر كل هذه الفترة، في الوقت الذي كان لا يعمر فيها الرجل أكثر من سبعين سنة. بينما يصل معدل سن المرأة إلى مائة وثلاثين سنة.  دفنته في فناء بيتها تحت نخلتها التي شهدت أول لقائهما، وحيث كان يحلو له الجلوس أبدا. وهي بدورها لا تفوت يوما إلا وجالسته ونقت قبره من الحشائش اليابسة، والنباتات الطفيلية، حتى صار قبره روضة صغيرة متوهجة حياة في أقصى فناء بيتها.

رشت اليوم كعادتها، قبره بمنقوع الورد والأعشاب المعطرة الذي كان يعشقه، ويمضي ساعات يقطف لها هذه الأعشاب من الغابات البعيدة لتعد به هذا المنقوع الذي كانت تستحم به، ويثمل به حينما يشتمه ممزوجا برائحة عرقها. وقد صار حفيداها، شمس وصحصوح، بعد وفاة جدهما، يجلبان لها هذه الأعشاب المعطرة كلما عادا من رحلاتهما الاستكشافية. فتجففها وتعد بها منقوعا عطرا ترش به جسدها عقب كل استحمام، وترش به أيضا على قبر زوجها كل صباح. وتظل بجانبه فترة تحاكيه كأنه ممدد بجانبها.

ومؤخرا، صارت تمضي خلف بيتها لتجمع بعض هذه الأعشاب بنفسها، بعدما انشغل حفيداها بجمع "الأفراخ" من على ضفاف نهر الصبايا والاعتناء بها حتى يتقوى عودها.

جلست بجانبه حيث كانت تجلس دائما تضفر له شعره. ويدها تسوي التراب كأنها تمسد صدره كما كانت تفعل قبل وفاته. وعقلها شارد أبدا ومسافر إلى أخيها صحصوح الذي حنت إليه أكثر من أي وقت مضى. وحلم ليلتها المتكرر أبدا بجانب الصخرة "الثلجية" يعاد شريطه أمامها بكل تفاصيله وقد أضيفت إليه فصلا جديدا ليلتها الأخيرة. وسمعت صوت أخيها الوهن يأتيها من بعيد، ولا زال يطن في أذنها كأنها بالفعل يأتيها من بعيد وليس ما سمعته في منامها:" ليت حبل العمر يمدد.. ليت حبل العمر يمدد.."

انحنى حفيدها صحصوح وقبل رأسها وهي لا زالت مأسورة بتفاصيل حلمها. ودعها وخرج وهو يحمل عتاد البحر الذي يهواه أكثر من أي شيء آخر في الحياة. فرفعت يدها تلوح له، وعيناها قارتان على تلك الصخرة "الثلجية" على شاطئ البحر، وعن المكان الذي يعاد فيه حلمها أبدا. وحينما اندفعت وراءه لتسأله إن كان هذا المكان المصور لها في الحلم قد رآه يوما على ضفاف البحر، كان قد انطلق على فرسه وقطع مسافة في البلدة. فتعقبت مساره بخطوات سريعة وقد أشرق وجهها كأنها بالفعل ستلتقي بأخيها على شاطئ البحر. وأنها ستجد الصخرة الثلجية على شاطئ البحر، وتنتظره هناك حتى يأتي وهو يدندن بصوته الوهن:" ليت حبل العمر يمدد.. ليت حبل العمر يمدد.."

تصل إلى البحر. تتنهد فرحة بوجهه الصافي الرقراق الهادئ الذي تتراقص عليه موجات تصخب حينا وتهدأ حينا آخر تماما كما رأت في منامها. تلتفت إلى يمينها ثم إلى شمالها وعيناها المبتهجتان تبحثان عن الصخرة "الثلجية". لكنها لا ترى غير الرمال تفرش المدى على امتداد البحر الذي لا يحده بصرها من الجهتين. لم تفقد الأمل وشككت في بصرها وضعفه الذي لا ينقل إليها إلا الرمال الذهبية المحتفية بأشعة شمس الصباح، ومضت على يمينها وعيناها على البعيد، تأمل أن تبدو لها صخرتها فتطير إليها.

قطعت مسافة طويلة على ضفاف البحر، ونال منها العياء حد استعصاء رفع عكازها من الرمال ولم تبد لها الصخرة. فتهالكت في مكانها تلهث وهي تقسم في ثناياها أنها ما أن تسترجع نفسها حتى تقوم لتستأنف طريقها ولن تتوقف عن البحث عنها حتى إن قضت عمرها في جولة حول البحر.

"هو ذا البحر الذي رأيته في منامي. أجل، هو هذا وليس بحرا غيره. فهذا الجرف العملاق الذي يحده من الأمام هو هذا تماما كما رأيته في الحلم."

تتساءل وعيناها الغائرتان تحدقان إلى البعيد: لكن أين الصخرة الضخمة المكسوة بالملح الأبيض والتي تبدو من بعيد وكأنها مغطاة بالثلوج. أينها؟ أتذكر جيدا أنها تتخللها حفر صغيرة تتسلل منها نباتات بلون الشمس عند الغروب. وقد لامستها واشتمت رائحتها البحرية.

يدركها الأصيل، فتلقي بصرها على البحر الهادئ أمامها. وتودعه ببسمة لطيفة وتعود إلى بيتها تجر هيكلها خلف عكازها، وأمل بحجم البحر يحذوها أنها ستجد صخرتها غدا وأنها ستسلك إليها طريق الشمال.

بدت لها أخيرا، تلك الصخرة على الشاطئ كجبل صغير مكسو بالثلوج ويلمع لعينيها تماما كما رأت في الحلم. فحثت خطواتها خلف عكازها وهي تشعر كأنها ستعانق حلمها الذي انتظرته سنين طويلة وسيتحقق يومها قبل غدها. وأنه سيحدث كما رأته في منامها وفي مكانها هذا سيتم لقاءها بأخيها وستقوده إلى بيتها ويعيشان حياة طالما حلما بها ولم يعرفا الطريق إليها. فالصخرة ذاتها كما رأتها في منامها. وهذه الأمواج المندفعة إليها هي ذاتها.

قبلت الصخرة حينما داعب أنفها تلك الرائحة البحرية الشهية التي اشتمتها في منامها أعادت تقبيلها مرات. فأسندت إليها ظهرها مادة ساقيها العظميين وغابت تسرح في الملكوت تنتظر أخاها أن يأتيها لتقتسم معه رغيفها وبعض حبات التمر الذي جلبته معها ليفطرا به معا. تشعر بالغثيان والدوار وتسمع قرقرة بطنها دون أن تشعر بالجوع، والشمس قد اعتلت كبد السماء وتغرس سياطها في أعماق الرمال ولا تكسر حدتها غير هذه الرياح المنعشة التي تحملها إليها الأمواج اللطيفة المتدافعة نحوها. فتفتح بقجتها وتستل رغيفها، تقضم منه قضمات صغيرة، تظل تلوكها في فمها مع حبات من التمر. ثم تغلق على المتبقي من زادها الوفير، وتغطيه جيدا حتى لا تفسده أشعة الشمس والهواء الحار، وتدسه في ثنايا ملابسها أعلى صدرها، لتلقمه لأخيها بيدها. وكلما تخيلت صورته وهي تمد لقمة إلى فمه وهو ينزل عليها ليخطفه من يدها بفمه المفتوح مصدرا صوته المضخم " همممم" الذي كان يفجر ضحكهما أيام كانا طفلان صغيران، تبتسم وتشعر ذات الفرح الطفولي ينبثق من أعماقها.

ترى الشمس قد بدأت تلم عتادها وتستعد للرحيل، فتقوم بدورها وتعود إلى بيتها وهي تتوكأ على عكازها. فتصل إلى بيتها مهدودة. تنام مبكرا على أمل أن تستيقظ مبكرا لتتجه إلى صخرتها وتصل إليها مع شروق الشمس.

لا تتحرك من مكانها ولا تنوي أن تبرحه يوما، حتى تمضي إلى بيتها وهي تقبض على يد أخيها صحصوح. أمل كبير يحذوها بأن حلمها المنامي، الذي صار يتكرر بشكل رهيب كل ليلة كأن آلة صورته وتعيده عليها، سيتحقق قريبا جدا وأنها ستعانق قريبا جدا أيضا وعند هذه الصخرة الملتصقة إليها.

تغسل الأمواج قدميها وعيناها تسرحان في البعيد، وهي ترهف سمعها راجية أن تلتقط أذنيها صوت أخيها كما سمعته في المنام والذي يطن في أذنها:" ليت حبل العمر يمدد.. ليت حبل العمر يمدد".. وكلما حذت الأمواج قدميها شعرت بيد أخيها صحصوح التي تمسحهما فتغيب في ذكرياته الأولى معه وبسمة حالمة على شفتيها. بينما كانت مملكتها في هذه الأثناء تغلي وتعيش تخبطا لا نظير له. والهلع والرعب يعتصران القلوب من زحف نساء الجدة عطوف القطوف وهجومهن المحتمل عليها. والكل يحكي أنهن قد اتحدن، ويصلين صلاة استجداء أنفاس الجدة عطوف القطوف لإيقاظها من سباتها لتتهجم على مملكة شموسة، واستعادة رجالهن النازحين إليها، والذين بدورهم راحوا يدبرون أمر إنقاذ مملكتهم.

فبينما اقترح فريق منهم أن يبادروا في تسييج مملكتهم الصغيرة، رأى فريق آخر بأن عليهم الخروج للبحث عن سيدهم صحصوح الأكبر، الذي حكت لهم شموسة بأنه هو من دحر جبروت نهر الصبايا، وأنه صار في يده يوجهه كما يشاء، وإذا تهجمت عليهم نساء الجدة عطوف سيهيجه على مملكة النساء ويمحو أثرها من الوجود كما محي مملكة الرجال قبلها.

وفي الأخير، قرروا أن يرفعوا الخبر إلى سيدتهم، ماما شموسة، لتفتي عليهم في هول خطبهم، وبما سيقدمون عليه لرد هجوم نساء الجدة عطوف القطوف...

***

راح يندفع خارجا من نفق جده كهبة ريح قوية. لكن أشعة الشمس الوهاجة هاجمته على أمتار من بوابة النفق، فأعمت بصره، وأربكت خطواته. توقف في البوابة يقاوم أشعة الشمس براحتي يديه اللتين يظلل بهما عينيه الشبه منغلقتين. تبدى له النهر أمامه بكل صفائه وهدوئه. وارتسمت على أديمه صورته. ففغر فمه مندهشا كأنه يرى وجه شخص آخر مركب على جسده. انحنى يحدق إليها، وهو يحجب عنه أشعة الشمس الوهاجة براحة يده. شخص آخر ما يراه على صفحة النهر، وليس صحصوح الشاب الواقف كالرمح: شعره الأشقر صار رماديا باهتا، وقد فقد كثيرا من كثافته. فكه، وأطلقه، ومضى يمشطه بأصابعه. فسقط كثير منه في يده. رماه فوق ظهره وعيناه تتكشفان أثر الزمن في صورته المنعكسة على مرآة الماء. كتفاه انحنيا، ولحيته الذهبية خالطها الشيب الذي لم ينج منه حتى حاجبيه الرفيعين. مرر يده على لحيته وحسرة عميقة تجلد ذاته، وتشق قلبه كحد السيف عما مضاه من عمره في هذا النفق، وهو تتقاذفه الأحداث الجسام بين الجد الأعظم، والجدة عطوف القطوف، ونهر الصبايا، ليخرج منه في النهاية كمن أنفق دهرا في الصحراء القاحلة وهو يتنقل بين كثبان الرمل.

شعر بعمره قد تسرب من بين أصابعه كحفنة من الرمل. صابعهأصابعهوالخوف من القادم يسوطه في الصميم. فخشى أن يهدر ما تبقى من عمره دون أن يفعل شيئا يريح صدره ويدفع به هذا الخوف الذي يضني نبض قلبه.

وبعدما خبر جبروت هذا النهر أمامه، لم يطمئن لهدوئه وصفائه وبسمته التي ارتسمت لعينيه كتكشيرة حيوان شرس، ووقع في نفسه هذا الهدوء الذي يظهره بمثابة الهدوء الذي يسبق ثوراته المزلزلة للكون والتي يتوعد بها. ومع ذلك، ابتلع ريقه، ودفع بخوفه من انتفاضته البركانية، وقطعه بخطوات سريعة إلى ضفته على يمينه. وظل ينظر بإعجاب واستغراب إلى الأشجار السامقة الخضراء المنتصبة على امتداد النهر، كأنه يراها لأول مرة، ولم تصاحبه طيلة رحلته الطويلة إلى هذا النفق. بدت له غريبة وطويلة وأشد كثافة مما تركها، وأن الشمس الملتهبة والسماء الصافية تتوسدها، وأنها تمنعها من السقوط أرضا.. ردد في داخله وعيناه تجوبان عرض السماء والحسرة تعتصر قلبه:" يا إلهي كم أنا حزين. نصف عمري التهمته مني هذه الرحلة المضنية، وفي الأخير خرجت منها كما دخلتها دون أن أغير شيئا في هذا الوجود الأبله الطاغي الذي أشم رائحته العطنة عن بعد.. قد تكون النساء قد استوحشن واستأسدن أكثر من قبل. وربما قد عدلن عن إلقاء رجالهن في نهر الصبايا بتمزيقهم بأسنانهن، كأنهم نزلوا من رحم غير أرحامهن. أشد ما أخشاه أن ينقضي حبل عمري قبل بلوغي قطب الجدة عطوف القطوف والقبض على روحها... كلا، سأصل إليها لا محالة. سأسلك إليها طريق البحر، فأصل إليها في وقت وجيز. علي أن أرسم الطريق إليها كما حفظته من سجل الجد الأعظم، قبل أن يطويه النسيان فيضيع مني كل شيء.."

 انتشلته من تخطيطه، نحنحات فرحة، فتلفت حوله كالصاحي من النوم ثم انطلق جاريا إلى فرسه. عانقه بكل حبه وشوقه، ثم امتطاه وانطلق به يعيد مساره الأول بسرعة رهيبة. لا ينظر إلا إلى الأمام، ولا يفكر في شيء غير في اللحظة التي سيصل فيها إلى نفق الجدة عطوف القطوف، ويقبض على روحها ليهديها إلى نهر الصبايا، فينقذ الكون من كارثة الاصطدام العنيف بين القطبين. علي الوصول إلى الجدة عطوف القطوف قبل أن ينالها الطوفان الأكبر ويندثر الخلق في كوكبنا ونعود إلى نقطة الصفر. أخشى رباه ألا يكون في عمري سعة لبلوغها. وأخشى أكثر أن أقع فريسة لبؤة تمزقني في الطريق..

لا يخفف من حدة خوفه من اندثار كل شيء وإعمار الماء سطح الأرض غير خريطة الطريق إلى الجدة عطوف التي اطلع عليها على جدار الجد الأعظم، وما تزال مشرعة لعينيه كأنها يراه للتو. هي سبعة طرق ملتوية متشابهة لكن واحدتها تؤدي إلى قطبها ومخبئها، بينما الطرق الست الأخرى لن تقوده إلا إلى التيه وحتفه.

وبينما قوائم فرسه تلتهم الطريق، والرياح تصفع وجهه، وشعره يطير خلفه، كان عقله يعيد رسم هذه الخريطة في السحب البيضاء أمامه، وفي عين الشمس، وفي الهواء وعلى شريط الأشجار الدائر على يساره، وعلى رأس فرسه أيضا حتى لا ينساها. اطمأن قلبه بعدما ارتسمت لعينيه، حيثما التفت، الطريق المؤدية إلى نفقها كما لو أنه قد سبق وسلكها. فتنهد وهو يهيج سرعة فرسه بضربات رجليه على أسفل بطنه، وعيناه مشدودتان إلى الأمام. وعلى يساره الأشجار المصطفة على طول نهر الصبايا تبدو له شريطا أخضر يدار بسرعة ويسحب بقوة إلى الخلف. بدت له في الأمام، على يساره، قمة ربوة عالية ولفت أنفه رائحة فواكه طازجة قديمة. كأنها سكنت خياشيمه وتحركت برؤيته هذه الربوة. وتحركت في الآن ذاته رائحة عفنة انبثقت من جسده. "هي رائحة خطيئتي ما أشتمها.." ردد في قرارة نفسه وهو يرفع رأسه عاليا يملأ صدره برائحة فواكه شهية طرية تعبق الفضاء. استنشقها بقوة، وهو يلجم إليه حصانه ويهدئ سرعته بضربات خفيفة ينقرها أسفل بطنه. ركن حصانه عند قدم الربوة، وصعد جاريا حيث ارتكب جريمته الأخيرة التي يتذكرها بكل فصولها، لكن دون أن تثير في نفسه شيئا من رغبة تكرارها، كأن جوعا فاجرا انتابه لحظتها، وقد أطفأه بطبق تلك الخطيئة الشهية، وانتهى. بل أنه يشعر برائحة تلك الخطيئة تتصاعد من جسده كريهة عفنة تخرس فيه كل شهوة ومن أي نوع، وتسقط عنه وسام بلوغه قطب الجد الأعظم، وشرف القبض على روح الجدة عطوف.

فكبائره ثلاثة. كل واحدة منها ترتسم لعينيه بحجم الجبل، خاصة حينما يتخيلها قد أثمرت ولدا حكم عليه ظلما بتحمل وزر خطيئته عنه. توغل في الجنان الممتدة خلف الربوة، بخطوات بطيئة، حذرة، كأن الأرض مزروعة بالفخاخ، وعيناه تجوبان المكان بفضول. بدت له الشجرة الشاهقة التي شهدت خطيئته العظمى. فتوقف عندها، وقلبه مخطوف مما يراه.

الشجرة شرخت إلى شطرين، ويسيل من أعلاها سائل ترابي اللون. ومن أسفل جذعها يخرج ثعبان ضخم، يفتح فمه يهيج ليبتلع شابا وسيما على بعد خطوتين منه. والشاب مربوط من وسطه إلى الشطر الآخر من هذه الشجرة المشروخة، ويبدو وكأنه من صلب الشجرة وإن كان أطرافه أطراف إنسان. يقضي أيامه يحفن التراب، ويلقيه في فم الأفعى أمامه حتى يقي نفسه خطر انقضاضه على رأسه المعفر بالتراب. ورغم كل الجهد الذي يبذله الشاب المطموسة ملامحه بسبب الأتربة التي تكسو محياه، لم يقو على ملأ فم الثعبان الشره بالتراب، ووقف اندفاعه نحو.

علم صحصوح الذي تشوك جسده من هذا المنظر بأن جلدة الجدة عطوف القطوف التي نجا منها وقعت على الشجرة، وأن هذا الشاب المربوط إلى شقها الأيسر هو ابنه. جثا بجانبه، ويداه الكبيرتان تحفنان التراب، وتلقيه على الثعبان الشره الذي بدأ يختنق ورأسه يسقط أرضا. سأل ابنه عن اسمه وأصله ويداه مستمرتان في دفن الثعبان.

ـ اسمي شمور ابن جهيبة بنت مرواح. أبي هو المجرم صحصوح. نجا من جريمته وتحملت هذه العقوبة عنه. نجا من جريمته بأعجوبة حتى صار حديث كل النساء. ولا زلن يبحثن عنه لينال عقابه على أيديهن بدل الجدة عطوف القطوف الهرمة التي  أفلتَ من قبضتها. والمرأة التي ستقبض عليه ستخلف عرش الجدة عطوف القطوف الذي تحلم به كل امرأة. وقد ارتفعت حدة شراسة النساء، وبلغت حدا لا يطاق بسبب تنافسهن على خلافة عرش الجدة عطوف القطوف. وبحيرة العشق التي كانت تهدئ شراستهن، قد تراجعت مياهها، ونبتت على جنباتها أشجار متوحشة غريبة، ونباتات شوكية لا عهد للعباد بها، واشتد الحر وأن بوابة جنان الحب والتي صار لا يدخلها إلا القليل المعدودين على أطراف الأصابع.

اختنق الثعبان وسقط رأسه الذي ابتلعته الشجرة قليلا قليلا حتى اختفى نهائيا، وفي الوقت ذاته، ارتخى الحبل الذي ضربته الشجرة على محيط خصر الشاب حتى حررته تماما، وانتفض قائما يحتويه أبوه في حضنه. فقال له الشاب وهو يستر جسده بملاءة أبيه:

ـ أنصحك أيها الرجل الطيب بأن تمضي جهة الشرق على الطريق الساحلي. فقد عمر بالهاربين من حميم الغرب.  

ـ هناك، يا ولدي، أنا ماض فهل تذهب معي.

ـ سنلتقي هناك، لكن بعدما أخبر أمي بأمر انعتاقي وعفو الجدة عطوف عني. هل أنت رسول من الجدة عطوف القطوف؟.

هز صحصوح رأسه نافيا، فشكره الشاب وانطلق جاريا. وظل أبوه في مكانه يتعقب بارتياح عميق، خطوات ابنه الشاب، وهو يجري وسط البساتين بفرح جنوني، وسرعة رهيبة كما عصفور أطلقت جناحاه بعد طول أسر. وحينما غاب عن ناظريه، جلس مسندا ظهره إلى جذع الشجرة التي التأمت كأنها لم تكن مشروخة منذ سنوات خلت. وحدق في الشمس رافعا يديه متمتما بصوت متهدج تذبذبه نبرات الفرحة والطمأنينة: "يا إله الشمس والأرض، ألطف بي وبابني، وبكل عبادك الطيبين، وانثر في طريقنا بذور الخير، واملأ قلبونا بالرحمة وبالحب لأنفسنا ولغيرنا حتى آخر لحظة من أعمارنا." ثم تناول الشريط الكبير الذي كان يربط ابنه بالشجرة، والمكوم في مكان ابنه كالمشيمة، وقطعه صحائف متوسطة الحجم، وشرع يرسم على إحداها خريطة الطريق إلى الجدة عطوف كما رسخت في ذهنه.

سمع ضباح فرسه، المتقطع وهو يحفر بقوائمه، فطوي أوراقه، ودسها في أعلى صدره، ثم حزم فوقه حزامه، ومضى إليه ليستأنف رحلته، ويطهر ذمته من كبائره الأخرى التي لا تزال ثقل كاهله.

مرر يده على رأس فرسه وهو يتفحصه بعينيه الصغيرتين الحادتين ويقول له:

ـ ما بك أيها النديم العزيز؟.. أراك منزعجا كما لم تفعل قط معي من قبل. أتراك لا تريدني أن أدون بعض التاريخ المهم في سجلي؟. سأفعل ما يرضيك. وأؤجل كتابة خريطة الطريق إلى الجدة عطوف حتى تأذن لي. حينها سأدون بدقة، الطريق إليها ونبذة عن حياتها، ففيها من العبر الكثير، وأكتب عن نهر الصبايا، وقسمه الأغلظ الذي لا زال يزلزل قلبي رعبا من أن ينفذه قبل أن أصل إلى روح الجدة عطوف القطوف. لا تستهين بهذا السجل أيها النديم العزيز. سيكون دليل قوتنا، وشجاعتنا على بلوغ نفق الجد الأعظم.

وحينما طأطأ حصانه رأسه، وقد فارقه الانزعاج والضيق، مسح على وجهه وقبل وسط جبهته ثم قفز فوق ظهره وانطلق به بسرعة رهيبة كأنه في سباق مع ظله.

***

"هو ذا مكان جريمتي الثانية، أذكره جيدا. هيا يا عزيزي أسرع، أسرع.." قال صحصوح وهو يوجه رأس حصانه نحو الربوة العالية على يمينه، والتي بمجرد أن وقع عليها بصره حتى تذكر برعب قاتل علامات اندلاع ثورة نهر الصبايا وانقبض قلبه من شدة الرعب الذي تملكه. وطفر دمعه وهو ينظر إلى البساتين التي كانت مخضرة يانعة كيف صارت مصفرة، ورؤوسها منتكسة، وأغصانها التي كانت تلامس الأرض من ثقل ثمارها، لم يعد ير فيها غير ثمرات قليلة ذابلة، كأنها شعرت ببلوغ أجلها بفعل الطوفان الوشيك، واجتثاثها من جذورها، واحتلال المياه في كل أرجاء المعمورة كما أقسم نهر الصبايا، سيد الأرض، فذابت حزنا وخوفا مما سيأتي. أو ربما قد سرب ملوحته التي يتوعد بها إلى جذورها ليفنيها ببطء، تمهيدا لثورته العارمة.

مضى بخطوات ميتة إلى الشجرة التي شهدت جريمته الثانية فوجدها كباقي الأشجار، لكن لا ثمرة واحدة بين أوراقها. فأدرك أن جريمته لم تثمر ولدا، ولا بنتا فدمعت عيناه فرحا وحزنا. فرح لأن ابنه لم يتعذب ولم يؤخذ بجريمة أبيه. وحزن لأنه لم يلد غير ولد أو ولدين. فاندفع مسرعا ليشد الرحيل إلى مكان جريمته الأولى التي لا تبتعد كثيرا عن هذه الربوة، لكن فرسه المتعب تعنت قليلا، فتركه يرتاح حتى يضبح ويقدح الأرض بقائمته اليمنى كإشارة لرغبته في الانطلاق.

وجلس إلى شجرته، مسندا ظهره إلى جذعها، وأخذ يدون حكاية سيد الأرض المعروف بنهر الصبايا. لم يرفع يده عن "صحيفته" حتى سجل قسمه الأعظم الذي تزلزل عوده بتدوينه. رفع رأسه ونظر إلى حصانه، آملا أن يبدي له إشارة للانطلاق. وينطلق نحو القطب الشمالي، ليقبض على روح الجدة عطوف القطوف، ويهديها إلى هذا النهر العظيم، فينقذ الكون من ثورته المبيدة للحيوان، والبشر، والشجر، والحجر،.. 

ولما رآه على حاله الأول، ألقى رأسه إلى الخلف على جذع الشجرة، يرسم في ذهنه طريق رحلته بأنه سيمر على بلدته القديمة، محطة انطلاقته، فيكفر عن ذنبه الأول، ثم يعطف جهة الشرق، ويسلك طريق البحر، وبذلك يختصر الرحلة إلى قطب الجدة عطوف القطوف. رغم هذا التعب الذي هده وبلغ به ذروته إلا أنه عازم على إنهاء رحلته الطويلة قبل أن يدركه الهلاك ويتمكن الوهن من جسده. رائحة عذبة أنعشت فؤاده فجأة. فالتف حوله بعينين ناضحتين بالفرحة تستجليان ظل أخته شموسة. هي رأئحتها ما يشتمها ويعيد استنشاقها يملأ بها صدره الجاف دون أن يدري من أي اتجاه تأتيه. فحن إلى صدرها، ودمعت عيناه من شدة حنينه إليها. ثم أغمض عينيه على صورتها وهي تفل رأسه، وتضفر شعره الذي لم يبق منه غير خصل تغطي أسفل جمجمته. قفزت إلى ذهنه صورة الشابين التوأمين التي رآها في الكهف، وعلى رأسيهما تاجان من زهر يانع وهما يبتسمان للشمس. رغم أن ملامحهما لم تكن بادية له جيدا لكن جمال وجهيهما لم يغيبا عن بصره. مسح وجهه فلحيته، وابتسم وأشرق وجهه فرحا بهما. فتضخم الأمل في صدره حد الحلم بأنه وهو أخته شموسة من سيخلفان الجدة عطوف القطوف. استدرك قائلا: "لكن أختي شموسة وأنا قد أنفقنا من عمرينا ما يبعدنا عن الشباب أميالا؟ هل ستحدث المعجزة ويعود لنا شبابنا لنحكم البلاد كما نحلم وكما ينتظر سيد الأرض؟

انتشله من أحلام يقظته، ضباح فرسه وهو يقدح الصخر بقائمته، فتوكأ على راحتيه وهو يقول ساخرا من نفسه:" يااااه كم صرت تحلم أيها الشيخ وتذهب بعيدا بأحلامك، وأنت لا تقوى حتى على القفز واقفا دفعة واحدة كما كنت تفعل أبدا.. صرت تتكئ على راحتيك حتى تقتلع جسدك من الأرض.. هيا أيها الشيخ ارفع جسدك الثقيل واقفز فوق فرسك.. حتى هذه القفزة التي كنت تقيس بها درجة شبابك، صرت لا تقوى على فعلها.."

ساق وراءه فرسه، وهو يقول له بنبرة لطيفة وحزينة: اتبعني أيها النديم الوفي.. اتبعني إلى تلك الصخرة حتى أقوى على امتطائك.. فلم يعد في جبتي نفس ولا قوة إلا ما يساعدني على محو كبائري، واقتحام نفق الجدة عطوف القطوف، وإنقاذ البلاد والعباد من ثورة سيد الأرض.

بلغ الصخرة العالية، فصعد فوقها ثم دحرج جسده ببطء فوق ظهر حصانه، وانطلق وهو يزلزل اللجام بيديه، وينقر أسفل بطنه بضربات خفيفة ليحث فرسه على الإسراع أكثر وأكثر كما ألف منه. كرر العملية مرات عدة، ثم توقف حينما أطلق حصانه ضباحا غير معتاد بلغه كما لو كانت آلة حادة تشق صدره.

فلم يجبره على بذل جهد أكبر. واستغرق في التفكير في أمر فرسه أكثر من بلوغ مكان جريمته الأولى، ونفق الجدة عطوف القطوف. صار مجهدا ويقطع مسافة نهار في ظرف أسبوع. بلغ مكان جريمته الأولى فتلهف ليرى ما سيجده هناك. وأن يرى بذرته قد أثمرت ولدا أو بنتا. وصل إلى الشجرة التي شهدت جريمته فوجدها قد التأمت والشرخ الذي سببته جلدة الجدة عطوف القطوف لا زال بارزا على جذعها. كأن شطرين وتم إلصاقهما بمادة لاصقة. واشتم رائحة أخته شموسة تهب عليه من كل مكان، ولا يدري الطريق إليها وإن كانت دموع الفرحة والشوق تغرق وجهه الأجعد وتقطر من لحيته البيضاء، وسقطت على رأس فرسه فدمعت عيناه وانطلق به بأسرع ما يقدر عليه. وهو بدوره، ووجهه شاحب، وحزن عميق يسبح في أديم عينيه المصفرتين، ويبذل قصارى جهده ليطوي المسافات وهو يتوغل بين الجبال نحو جهة الشرق. وضباحه يرتفع متقطعا.

تراءى له البحر بوجهه الأزرق الساحر، فأدرك أنه في الطريق الصحيح. ففرح الشيخ صحصوح وبدأ يطرق أسفل بطن فرسه بساقيه يحثه على الإسراع أكثر، لكن الفرس ضبح ضبحة أخيرة، والتوت قوائمه فاستوى منبطحا على رمال البحر. وسقط الشيخ صحصوح من فوق ظهره دون أن يصاب بأذى. فقفز إليه يحضن إليه رأسه ويهزه يسأله عما ألمً به.

كان الدمع يسبل من عينيه الصفراوين اللتين يجهد نفسه حتى تظلا مفتوحتان، ويدله بنظرات حزينة منطفئة بأن يواصل مسيره، كأن رياحا صرصرا قادمة وستنسفه إن ظل بجانبه.

بيد مرتعشة، مسح دموع فرسه وهو يقول له بصوت متهدج حزين تبتره نبرات البكاء:

ـ أنت أعز ما لدي في هذا الوجود بعد أختي شموسة.. إني أشتم رائحتها تأتيني من بعيد.. هيا قم ولا تتركني.. لن أركبك بعد اليوم.. سنقطع المسافة سائرين.. صديقان يمشيان مع بعضهما على ضفاف هذا البحر. انظر ما أجمله!! سنستأنف معا رحلة عمرنا حتى آخرها.

والفرس يتحلل أمامه كقربة تنفث آخر ذرة هواء فيها، فشعر بثقل رأسه الذي يحضنه إلى صدره، ويهزه بكل قوته ليظل يقظا، ولسانه يلهج بالدعاء:

ـ يا رب الرحمة، خذ من روحي وعمري، وانفخه في هذا النديم العزيز..

ثم نزل على فمه، وخياشيمه ينفخ فيها نفسه عله يبعث فيه الحياة من جديد. رشقه الفرس بنظرة حزينة، ورفع رأسه حتى اعتقد صحصوح أنه سينهض نهضته المألوفة، وينتصب واقفا. فراح يساعده وهو يحلف له أنه لن يمتطيه حتى وإن قدر له أن يموت في نصف الطريق.. أسقط رأسه على كتف صحصوح، وخمد. وصحصوح يمسح رأسه. يفتح له عينيه الشبه منغلقتين، ويحول دون إغلاقهما. وإحساس مدمر ينتابه بأنه إن أغلق حصانه عينيه لن يفتحهما مرة أخرى.

ثقل شديد، زحف على أطرافه، فجسده، ورأسه الذي انزلق من فوق كتفه وسقط في حجره هامدا كأنه لم يكن قبل أيام يغزو المسافات بخفة الرمح. ارتمى عليه صحصوح يجهش بالبكاء. ثم قام يدفعه بعيدا عن الأمواج التي صخبت في عرض البحر فجأة.

مضى يسحبه إلى أعلى شيئا فشيئا، حتى بلغ به صخرة كبيرة، ومدده في حفرة حفرها بجانبها. حضن إليه رأسه الحضنة الأخيرة، ثم واراه بالرمال. ظل بجانبه، يبكي حتى شعر أن روحه ستهجره إن ظل في هذا المكان الذي شهد فرحة لقاء البحر الذي لم يسبق له أن رأى وجهه من قبل، وألم فراق أعز صديق له.

فتح كتابه واطلع بعينين مغبشتين على خريطة الطريق، ثم لفه على خصره وأسدل عليه ملابسه. فاستأنف رحلته وهو لا يخاف شيئا أشد من أن تقتنصه المرأة في هذا العمر وتمزقه وكتابه شر تمزيق..

***

IX

غريب أمرها صارت شموسة مع تقدم عمرها. هيكل عظمي يمشي أضحت، لكن ما يجري على لسانها من حكم القول وطريفه، يجعل سكان مملكتها الطيبين لا يعزمون على الخوض في أمر يخصهم حتى يستشيروها فيه، وتفتي عليهم بحكمتها ويقين ما تدلي به، كأن صفحة المستقبل مشرعة لعينيها، وتقتبس منها ما تطمئن به قلوبهم.

مضوا ذات مساء مغيم، واجتمعوا أمام بيتها ينتظرونها والهلع يسطر ملامح وجوههم. لم تكن بعد قد عادت من جولتها البحرية.

سخرت من أمرهم حينما رمقت الهلع على وجوههم كأنهم تعرضوا لهجمة نهر الصبايا. بل وكأن النهر العظيم على مسافة أمتار قليلة منهم ويفتح فمه ليبتلعهم جميعا. أشارت عليهم بهدوء، وبوجه مشرق وبشوش، بأن يأخذوا أماكنهم أعلى المصطبة. تماما كما تستقبلهم دائما وكأن لا شيء يدور خارج مملكتها ويثير مثل هذا الخوف المخيم على وجوههم. اطمأنت على " أفراخها" الجدد التي استجمعها حفيداها الشابان شمس وصحصوح من على ضفاف نهر الصبايا. سقتهم بيدها المرق الدافئ ومنقوع الأعشاب الذي أعدته لهم حفيدتها شمس، ثم دثرتهم بدثار من صوف، وطمأنتهم بأن غدا ستخص لهم بقعة أرضية لتشيد لهم جنة ينعمون فيها كباقي الساكنة في مملكتها. ثم خرجت إلى زوارها وهي تحضن إليها حفيديها شمس وصحصوح.

أخذت مكانها المعتاد أمام جموع زوارها المقرفصين أمامها، وشمس على يمينها وصحصوح على يسارها. وقبل أن يلقوا عليها مصيبتهم وقلقهم من تهجم نساء الجدة عطوف القطوف عليهم، قالت وهي تبتسم لهم وتنصحهم أن يظلوا جسدا واحدا وروحا واحدة كما كانوا أبدا، وطمأنتهم بقولها الهادئ الذي يبعث السكينة في القلوب بأن لا شيء مما يتخوفون منه سيحدث، وأن لا شيء سيزعزع أمنهم في جنتهم التي شيدوها بأرواحهم المتلاحمة المتحدة. ومع ذلك ظل الهلع مستبد بقلوبهم وباد على وجوههم المكفهرة. وقبل أن يفتح أحدهم ليكشف سر ما يثير قلقهم، قالت لهم بذات النبرة المطمئنة: إني أعلم سبب مجيئكم وسر هذا القلق المسود لصفحات وجوهكم. لن يصير شيء مما تتخوفون منه. لن تتهجم عليكم نساء الجدة عطوف ولن تجر واحدا منكم إلى أحضانهن المشوكة بالقوة ولا بالحيلة.

ثم أقسمت بصوت جهور وبنبرة لا تشوبها ذرة شك وهي تنقر الأرض بطرف عكازها بقوة: ورب صحصوح الذي أنقذكم جميعا من الموت، وأنبتكم رجالا ونساء في هذه الأرض الطيبة أنه سيرعاها ويحميها. وإن امتدت إليها يدا الجدة عطوف الميتتين أو يد نسائها الشرسات ما قدرت أن تأذي زهرة نبتت على أرض جنتنا.

بسخريتها المحترفة والتي تتقنها جيدا كلما تحدثت عن الجدة عطوف القطوف قالت وهي تخنق ضحكتها:

على الجدة عطوف القطوف أن تمد يديها الميتتين تحت جنتنا وترفعها لتغرسها في مملكتها. افرحوا وافتخروا بنسبكم لهذه الأرض الطيبة. فجنتنا هي المركز المضيء في هذا الكوكب الكبير، ستتسع وستكبر وستنجذب إليها النفوس المتعبة كما تنجذب الفراشات إلى هذا الفانوس. ستحترق من تنوي إيذاءكم وستنتعش وسطنا من رغبت في حياتنا وانصهرت روحها في روحنا الموحدة. لا تخافوا شيئا. فجنتنا بجبالها وهضابها وسهولها ووديانها وبحرها صارت منا ونحن منها. لن تقوى الجدة عطوف ونسائها إن اجتمعت أن تنال من شعرة واحدة من رؤوسنا. الجدة عطوف قويت بأنفاس الشر التي نفختها في نسائها، وبنهر الصبايا الذي جندته بجانبها. وبدون النساء ونهر الصبايا هي ذئب هرم منزوع الأنياب لا يخيف ذبابة.

والآن لم يبق لها غير النساء تنفخ فيهن سمومها. أما نهر الصبايا فقد صار ملك أخي. هو في يدي أخي صحصوح وقد جنده إلى جانبه. لكزت حفيدها صحصوح وحفيدتها شمس وقالت لهما بكبرياء واعتزاز: احكيا لأهاليكم عن نهر الصبايا الذي توغلتما بين أشجاره. احكيا لهم كم من أفراخ سرقتهم من فوق لسانه المهدود الذي لم يعد يفرز غير الزبد الميت.

ابتسما وانكمشا على نفسيهما يضحكان من جدتهما التي تسمي الرجال، الذين ينقذانهم من فم نهر الصبايا، بالأفراخ.

واصلت حديثها تنصحهم: دعوا جنتنا مفتوحة. لا تسيجوها بحجر ولا بفولاذ، أو شجر. دعوها مفتوحة ليدخل إليها كل من شاء. وإن دخلتها نساء الجدة عطوف القطوف استقبلوهن بحفاوة، ورحبوا بهن وأحسنوا ضيافتهن. فإن تعب نهر الصبايا من شرور نساء الجدة عطوف فهن أشد تعبا من أنفاس الجدة عطوف المسمومة. لمسة حنية لرؤوسهن، وكلمة طيبة خارجة من قلوبكم النقية، سيذبن بين أيديكم، ويقبلن أصابع أقدامكم لترضوا عنهن وسطكم. لا تخافوا منهن. أفيضوا عليهن بطيب قلوبكم، وأسكنوهن أعز غرفكم وزوجوهن ألطف أولادكم إن كن صغيرات. وارعوهن كما ترعون أمهاتكم إن كن كبيرات في السن، ستكسبون أرواحا جديدة تذوب في روح مملكتنا التي تكبر بكم وتتقوى كلما كثر عددكم..

مملكتنا هذه ظلت روحها مثلنا معلقة بين السماء والأرض، تكتوي بالهجر كما اكتوينا بالحرمان من الحب والمحبة بيننا في مملكة الجدة عطوف القطوف. أعدنا إليها الروح فمنحتنا من خير روحها ما أعاد إلينا السكينة والهدوء الذي ننعم فيه الآن. نحن من عمرها بالخير والكفاح وحب الآخر والتفاني في إسعاد الآخر وإعادة السكينة إليه حتى صرنا جسدا واحدا وروحا واحدة من روح هذه الأرض الطيبة. لن تصلها يد غدر ولن ينال منها الشر ما ظللنا على عهدنا الأول بأن نكون روحا واحدة. وأما إذا خلنا بالميثاق الأعظم بيننا بأن نظل روحا واحدة وجسد واحد في السراء والضراء، حينئذ سنفتح الجحيم على أنفسنا وعلى أرضنا. وسنهدها بأيدينا وبأسرع مما تفكرون. ولكن ما ظللتم حريصون على بقائها بهذا القلق الذي أراه في عيونكم وعلى وجوهكم، فلن تبادلكم أرضكم غير فناء من أجل بقائكم وسعادتكم الجماعية. في سعادة الجماعة سعادة كل فرد هنا. وفي سعيكم وراء سعادتكم الفردية بداية تعاستكم جميعا وانهيار مملكتكم لا قدر الرب الأعظم.

ـ تيالبىاؤرشسعلايلابينرتلاينيبمنتسنتاسنتتئءىلاءئالاءشيتٍ،ـنسنءلاؤءلاءؤلا

تقطع هرجهم ومرجهم وتعود تخطب فيهم وتقول لهم بنبرة يقينية لا تحمل ذرة شك:

ـ سيدكم صحصوح قادم، ومملكته ومملكتكم جميعا ستظل جنة الأرض، لن تزعزعها الأعاصير، ولن تهز غصنا من أشجارها ولو اجتمعت نساء الجدة عطوف القطوف جميعهن، ونفخن فيها أنفاسهن نفخة جماعية. الجدة عطوف انتهت وروحها في يد سيدكم صحصوح.

يهمس أحد الرجال في أذن جاره القريب منه: لكن كيف نعتمد على غائب وهو قد صار شيخا كبيرا مثل أمنا شموسة لا ندري إن كان سيعود أم لا.

سمعت كلامه الخافت كأنه في أذنها همسه، فضربت بطرف عكازها على الأرض وأقسمت لهم بأن صحصوح سيعود وقريبا جدا. ثم التفتت إلى يسارها إلى حفيدها صحصوح ثم إلى حفيدتها شمس على يمينها ورفعت الجلسة وضربت لهم موعدا غدا لاستئنافها ثم ودعتهم بعينيها الضاحكتين وهم ينصرفون من أمامها واحدا تلو الآخر وقلبها يقول لهم إن غابت شموسة وصحصوح الأكبر، فصحصوح الصغير وأخته شمس أمامكم. ألم يفعلا ما لم تقدروا عليه أنتم المرتعدون من أنفاس الجدة عطوف ومن خطفة نهر الصبايا. ما لي أراكم وكأن غشاوة سوداء تغشى أبصاركم؟. أليس هما من أنقذا أكثركم، ودلاكم على طريق الحياة في مملكتنا الممتدة المكتظة بأنفاس المضطهدين؟....

***

ساد الهدوء بعدما جابهت رغبتهم في الانطلاق للبحث عن أخيها صحصوح بصرامة غير معهودة منها ثم قالت لهم بصيغة آمرة وهي ترسم ضحكة مشرقة على وجهها وتحوط بذراعيها حفيديها صحصوح وشمس الجالسين على جانبيها كما عادتهما كلما جمعت رجال ونساء بلدتها لمناقشتهم في أمر:

ـ عودوا إلى أماكنكم.

فانسحبوا وجلس كل واحد منهم مقرفصا أمامها على المصطبة. فابتسمت لهم وهي تحدق إلى وجوههم قائلة لهم: وجوهكم مشرقة ونضرة مثل جنتنا. هذا أمر مفرح يثير البهجة في نفسي والرغبة في أن أحدثكم في أمر قد يبدو غريبا لكم، لكنه حدث. أيعرف أحدكم كيف جاء إلى الوجود صحصوح الأكبر الذي ترغبون في البحث عنه وجلبه إلى جنتنا!؟..

تلفتوا إلى بعضهم يتبادلون نظرات اندهاش، ثم عادوا ينصتون إليها وهي تقول لهم وبسمة مضيئة على شفتيها: مضيت عمري وأنا أتحرق بذنب اقترفته في أخي صحصوح. لكن اليوم بعدما كبرت، وكبرت مملكتنا واتسعت وصارت جنة ننعم فيها جميعا، أدركت أن وجود أخي معي كان ضروريا لنصل إلى ما نحن عليه، وأني لم أجن عليه حينما جررته إلى هذه الحياة رغما عنه.

ارتسمت على الوجوه تعابير الاستغراب والاندهاش مما يجري على لسانها، فساد هرج ووشوشات قطعت عليها حديثها. فأعادت الهدوء إلى مجلسها بحركات يديها تشير عليهم بالهدوء. وقالت بنبرتها اليقينية التي لا تشوبها ذرة شك: ستستغربون أكثر مما سألقيه على مسامعكم، وربما سيهمس بعضكم بأني عجوز أخرف.. لا، كل شيء إلا الخرف.. فلم أكن أعقل وأحكم في حياتي مثل هذه الأيام.. ما سأقصه عليكم عن حكاية ميلاد صحصوح، دونوها في عقولكم واحكوها لأولادكم وأحفادكم، كأنكم رأيتموها مرأى العين.

كشفت عن ساعدها الأيسر، وأرتهم كتابا صغيرا أخضر يبدو بارزا كالوشم على ساعدها الأيسر. فقام الذين في الصفوف الأخيرة يحملقون إليها. أشارت عليهم واحدا واحدا أن يقترب ليرى الكتاب الأخضر على ساعدها قبل أن تبدأ في قص عليهم حكايتها. فرأوا جميعهم الكتاب الأخضر المنقوش عليه بخطوط صغيرة غير بارزة، وتبدو وكأنها عبارة عن تشابك عروق رقيقة فقط.

فاضت الدهشة من عيونهم واستعر فضولهم لما ستقصه عليهم.

رشقتهم ببسمتها الرفيعة وهي تقول لهم: إن مثل ذات الكتاب سترونه على ساعد أخي صحصوح. لكن ما دون فيه غير ما دون في كتابي.

ـ وماذا دون في كتابيكما العجيبين؟ سألها حفيدها الذي لم يسمع منها هذه الحكاية من قبل.

هما كتابا أقدارنا من لحظة ميلادنا إلى لحظة وفاتنا، استلمناهما ونحن في رحم أمنا. ورسولنا الذي سلم لنا الكتابين أمرنا أن يقرأ كل منا كتاب أقداره ثم نقرر أن نمضي في الحياة أو نتحلل في بركتنا الصغيرة ونعود إلى العدم كأننا ما كنا يوما جنينين في الطريق إلى الوجود. فاخترت أن أمضي إلى الحياة، وبصمت بإبهامي الصغير في خانة الحياة، بينما تجهم أخي صحصوح بعدما اطلع على أقداره، فقرر أن ينهي حياته وراح يبصم في خانة العدم في آخر صفحة كتابه. فخطفت منه كتابه وحلت بينه وبين التوقيع عليه.

تضحك لعيونهم المندهشة الفائضة فضولا وعطشا إلى المزيد، وتضيف: كانت حياتنا عادية ككل توأم جمعهما رحم واحد. لا نعرف شيئا ولا ندرك شيئا مما يدور في خارج رحم أمنا. لا ندري من أين جئنا ولا إلى أين نحن نمضي. لا نعرف غير اللعب والنوم والإنصات إلى دقات قلب أمنا التي كانت تصلني كدقات طبل تحثني على الحركة والانطلاق في سراديب رحمها. وكنا سعداء جدا حتى صار المكان يضيق بنا، ولا يتسع لتجريب كل حركاتنا، التي صارت أقوى من الأول. نسمع أصوات كثيرة تأتينا من الخارج دون أن ندرك مصدرها ولا معناها. كنت أسمع صوت أمي. نبض قلبها الهادئ المنتظم الذي يشعرني بالأمان، كما يشعرني بالخوف والقلق من حينما يرتفع نبضها أو يعلو صوتها أو تقفز قفزات مرعبة.. كان كل شيء في بركتنا الدافئة جميلا وهادئا وأقلد أخي في كل شيء يفعله. أو ربما هو من كان يقلدني. كان هو صورتي المنعكسة على صفحة مرآة حية تتحرك أمامي وحولي. نغرق في اللعب. لا نترك بقعة في بركتنا إلا ورججناها رجا. وحينما نتعب نستلقي على بعض وننام، لنقوم نستأنف اللعب والشغب من جديد إلى أن استيقظنا يوما على فرق بسيط وسط جسدينا.

انشغلنا أياما بهذا الاكتشاف. لم نكن نكف على فتح أطرافنا السفلية ليوري كل واحد منا للآخر عضوه الذي يميزه ويختص به. خامرني فيما بعد شعور غريب وهو أننا نكمل بعضنا البعض. كما الإبرة والخيط. وأننا بالتعاضد والتعاون سنطرز شيئا جميلا. لم أكن أعرف كيف لكن شعور التكامل استحوذ علي حد شعوري بأني لاشيء دونه. ظننته يشعر بذات شعوري وأنه لا شيء بدوني. إلى أن فاجأني يوما وهو يلامس عضوه ويدعي بحركاته المثيرة أنه المائز والأفضل.

فنغرق في حركات استعراضية مضنية، يحاول كل منا على قدر جهده إبراز مدى تفوقه على الآخر، ثم ننام من شدة التعب متوسدين أطراف بعضنا. لنستيقظ على ذات العراك، إلى أن اقتحم يوما بركتنا الهادئة جسم غريب أبيض يتجاذب ليخترق السحابة البيضاء التي تغطي سماءنا.. تساءلت إن كان أخا ثالثا سيزاحمنا في بحيرتنا الضيقة؟ أم تراه كائنا آخر سيستحوذ عليها ويقذفنا خارجها؟

هفيف بارد عمنا وهو يبرح السحابة ويستقر أمامنا على جناحين سحابيين، فجسد أكبر بكثير من جسدينا لكنه لم يضق بنا المكان كما كنا نخشى. كأنه رفع سماء بحيرتنا واستقر أعلاها. جسده مكسو ببياض ناصع، ولحية بيضاء، وله طلعة مهيبة وهو يفرد حولنا جناحيه. ملأ علينا فضاء البركة بأكملها فلم نعد نرى سواه. ولا نسمع صوتا غير هفيف جناحيه المحملة بنسيم عذب وعبق جميل. لم أشتمه لحظة من عمري الماقبل ولا المابعد. تطلعنا مرعوبين إليه أنا وأخي وقد انكمشنا إلى بعضنا حد التداخل في بعضنا البعض. ننظر إليه وإلى الكتابين الصغيرين المعلقين على كتفيه بتوجس وفضول أيضا.

حيانا بصوت رخيم. شعرنا في نبرته اللطيفة بكثير من الرحمة والألفة واللين، وكدنا نأنس به ونفرح بوجوده معنا ونحتكم إليه من هو الأفضل أنا أم أخي، لولا هذا الرعب المستشري في كيانينا حينما مد إلينا الكتابين وألح علينا أن نقبضهما بنبرته الصارمة التي زلزلت أعماقنا رغم بسمته وصورته التي توحي بالسلام والألفة، وتعنون الطيبة والجد في الآن ذاته..

ارتججنا في بحيرتنا الدافئة، وتقلص كل واحد منا يدخل في جسد الآخر هاربين من الكتابين. فانحنى وعلق على كتف كل واحد منا كتابه. وأمرنا بقراءته بنبرة صارمة وجادة وعلى شفتيه السحابيتين بسمة لطيفة قائلا:

ـ هذان كتابا أقداركما.. اقرآهما جيدا.. فمن شاء المضي ويعيش أقداره خارج بحيرته هذه، يبصم في خانة الحياة فيخرج إلى الوجود في يومه وكتابه موشوم على كتفه، وعناوينه مخططة على جبهته وبعضها على كفيه. ومن شاء وقف مسار حياته هنا فليبصم في خانة العدم، وسيتحلل جسده إلى خيوط ويصير كأنه لم يكن..

ثم غاب من أمامنا في سحابته التي اختفت كما ظهرت، ونحن نتعقبها حتى صارت خيوطا رقيقة تذوب في الأثير. جلسنا أمام بعضنا مقرفصين وقد عادت السكينة إلى نفسينا. وانهمكنا على قراءة كتابينا ونحن نسند ظهر بعضنا، آملين أن نجد فيه ما يثبت أن أحدنا أفضل من الآخر ويحسم عراكنا الذي أنهكتنا في الآونة الأخيرة.

اطلعنا على أول صفحة منه. فالتفتنا إلى بعضنا صارخين بفرح جنوني:

ـ أنت اسمك شموسة

ـ أنت اسمك صحصوح.

تراشقنا للحظات بأسمائنا ونحن في غاية النشوة والمرح.. صحصوح.. شموسة.. صحصوح.. شموسة

ثم غصنا في بحيرتنا وملأناها ضحكات ورقصا والتواءات نحتفي بكنزينا. أتذكر جيدا أنها آخر لعبة لعبناها في بحيرتنا الأولى، ثم بعدها سحبتنا عوالم كتابينا في رحلة مملوءة بالمفاجآت السارة والمريرة أيضا. استفاق منها أخي صحصوح يبكي ويقفل كتابه معلنا عن قراره بحزن أليم:

ـ أنا لن أستمر..

نظرت إليه والدمع في عيني وأنا شبه غائبة عن الوعي مما احتواه هذا الكتاب العجيب، لكن ما أن رأيت زغبا أزرق في قمة رأس أخي صحصوح حتى ارتميت عليه أحضنه إلى صدري. أهدهد ظهره، وأنصحه أن يهدأ وينام حتى يفيق ثم يسجل قراراه النهائي في كتابه الذي وضعته فوق كتابي ودسستهما تحت إبطي.

غابة مخيفة ارتسمت لعيني وسواد قاتم ثم ضياء، سحبت النوم من عيني ولم أعرف كيف أنام ولا ما أقرره بعدما تعرفت على العالم الخارجي، وجلت من خلال كتابي تلك الغابة الهوجاء التي نحن على عتبة بوابتها...

استيقظ أخي وهو يبحث عن كتابه ليبصم في خانة العدم قبل فوات الأوان. ولم أكن قد حسمت قراري بعد. أشياء كثيرة تجذبني إلى خوض تجربة الحياة وعدم إنهائها في محطتنا الأولى الصغيرة هذه. فهدهدت ظهره وأنا أمسح على شعيراته الزرقاء أعلى رأسه حتى هدأ ونام ثانية. ارتياح عميق يعمه كلما لامست شعيراته الزرقاء. فأخذت قراري بأن أبصم في خانة الحياة وذات البصمة بصمتها بأصبع أخي وهو نائم على كتابه. فأنا لا أتوقع أن أمضي لحظة وهو بعيد عني، وما بالكم اجتياز محطات الحياة الكثيرة. المغرية حينا والقاتلة أحيانا كثيرة. وكلما استفاق أخي، داعبت شعيراته الزرقاء فيعود إلى النوم وأنا أؤكد له بأن موعد التوقيع لم يحن بعد، وأن رسولنا لن يأتي اليوم، فيطلق زفراته ونهناته المتقطعة التي تحبس أنفاسه وينام.

وقعت الكتابين ثم استقبلت بوابة الخروج إلى الحياة والتي رأيتها قد بدأت تنفتح لاستقبالنا. لكن ما أقلقني أن عملية الخروج ستتم واحدا بعد الآخر، وأنها ستبدأ بالرأس ثم بقية الجسد كما قرأت في أول صفحة من صفحات كتاب أقداري. أهلت رأسي للخروج وأهلت أيضا رأس أخي لنخرج واحدا تلو الآخر..

كان علي أن أنجح في إخراجه معي دون إرادته وأنا مصرة ألا أخرج من بركتنا الصغيرة إلا وأخي صحصوح معي. وضعت رأسي في بوابة الخروج، وفي الآن ذاته قبضت على رأس أخي برجلي، وربطته إلي بالحبل السري الذي يربطنا بأمنا. والنور بدأ يتسرب إلى داخل بحيرتنا والهلع لا زال يعتصرني من أن يستيقظ أخي بفعل ارتجاجات عنيفة تدفعني إلى الخارج، فيكشف حيلتي، وأخشى أيضا أن أخنقه حينما أخترق البوابة الضيقة فأنهي حياته بيدي. كنت أدري أنه سيلومني فيما بعد على فعلتي هذه، وكنت أيضا متيقنة بأني لا أقوى على مواجهة جبروت الحياة دونه. فعاهدت نفسي إن نجحت في إخراجه معي أن أرعاه حتى آخر لحظة في حياتي.

احتدت الرجات الكبيرة في بركتنا، وارتفع هلعي من أن توقظ أخي فيحرر نفسه من الشرك الذي ضربته حول عنقه بإحكام. أفرغت بركتنا من المياه. ارتعاش شديد زلزل كياني وقشعريرة برد تذيب أوصالي. وهلع كبير يمتص نبض قلبي من هذا الانتقال الشبيه بلحظة انفصال الروح عن الجسد، كما قرأت عنه في آخر فصل في كتابي. 

سكتت هنيهة وهي تهز رأسها الذي أسندته إلى راحتها وتضحك من حيلتها ثم أضافت وقد كسا وجهها مسحة من الإشراق الجميل: صحصوح الأكبر سيعود غانما من غزوته لنفق الجدة عطوف القطوف. وسيسعد بهذه الجنة التي أعددناها له. إنه في الطريق.. سيصل قريبا..

"سنمضي معك للقائه": قال حفيداها صحصوح وشمس وهما يساعدانها على القيام. وارتفعت أصوات الجموع حولها:" سنمضي كلنا لاستقباله." ضحكت ساخرة من أمرهم وعادت إلى مكانها تنظر إليهم باستغراب وتقول: صحصوح سيأتي إلي أنا. أنا من سيحضنه إلى الأبد. أما أنتم فالتفوا حول حفيديه صحصوح وشمس، وارعوهما برموش أعينكما إن كنتم تحبون صحصوح الأكبر بالفعل. إن دماء سيدكم صحصوح التي تسري في عروقهما. ألم تنتبهوا إلى أن أغلب السكان الجدد هما من استقدماهم من نهر الصبايا، ورعياهم حتى تقوى عودهم وشيدوا جنانهم وسطكم؟!. كم منكم وصل هنا إلى جنتنا على ظهر فرس صحصوح وشمس؟

ضمت إليها بحنو وافتخار حفيديها قائلة بفخر: إنهما بذرة أخي صحصوح العزيز علينا جميعا. ارعوهما وافدوهما بأرواحكم إنهما شمسكما القادمة.

وقفت وانسحبت ببطء من مكانها. وضمت حفيديها صحصوح وشمس وقربتهما من بعض حتى شغلا مكانها تماما ثم وقفت وراءهما. ألقت نظرة على الجموع المقرفصة أمامها، فجنتها الخضراء الممتدة على مدى بصرها تحت شمس الضحى البهيجة، وودعتهم بإشارة يدها، وبدمعتي فرح تلألأتا على وجنتيها الضامرتين، ومضت جهة البحر نحو صخرتها الثلجية حيث يصلها صوت أخيها أكثر قربا:" ليت حبل العمر يمتد.. ليت حبل العمر يمتد.."

***

X

بنت اللهب

أطلقت علي أسماء كثيرة كثرة القرون التي عشتها. وتكاد تستقر عند النساء القديمات على أني شمس الوجود، وعند حفيداتي، على الجدة عطوف القطوف، لأني أعطف عليهن وأقطف أرواح الرجال وأفرشها حريرا تحت أقدامهن. وعند الرجال على أني غلس الوجود، فقاموا بمحاولات شتى لإزاحة "غلسي" من أفقهم، ولم يستطيعوا أن يمسوا شعرة من رأسي، أو يغيروا بندا واحدا من قوانيني التي ختمتها بدمي الشمسي الذي لا يقوى أحد على تحريفه، أو محوه لكتابة غيره.

كنت فتاة عادية، جميلة، ومدللة من قبل أمي وأخواتي الست الأخريات. أنا أوسطهن، وأذكاهن، وأقلهن ميلا للمرح، والإقبال على الحياة. لعل لهذا السبب ما جعل أمي تختارني من ضمن أخواتي، وكل فتيات مملكتنا لأعتلي عرشها بعد وفاتها. لم تغظ أخواتي، وفتيات مملكتنا من اختياري بدلهن. بل لم يثر هذا الأمر غيرة أو حسد إحداهن.

في الحقيقة، كل النساء في مملكة أمي أميرات، وملكات. لم تكن أمي، الملكة، تتميز عنهن في شيء. ولا تتفرد إلا بحق اختيار الأزواج لهن، وعرضهم عليهن لانتقاء أحدهم. عدا هذا، "فالملكة" هو مجرد لقب يتوارث. والقصر مفتوح لكل النساء. يمضين فيه أيامهن يرقصن، ويغنين، ويمرحن، وفي أفخر أثوابهن وحليهن دائما. لا يتكلفن بشيء غير الحمل والإنجاب. ولا يهتمن بشيء غير جمالهن، ومضي أوقاتهن في شتى أنواع المرح واللعب. الرجال هم من يقومون بكل أنشطة الحياة، ويسهرون على سعادتهن، ويتفانون في إرضائهن ونيل رضاهن. وفي الليل يتناوبون على حراسة المملكة. وهم فخورون بزوجاتهم الأميرات. وإذا رفعت إحداهن شكوى إلى الملكة اتهمت فيها زوجها بالتقصير، أو ادعت الملل منه لسبب ما تطلقها منه لتزوجها رجلا آخر.

لم يكن يخيف أمي شيئا مثل الغزو الخارجي، أو تشن غارات هوجاء على مملكتها. لذا كانت يقظة أبدا. وكل من لاحظت عليه تقصير في الحراسة الليلية، تحرمه من الزواج بأميرات المملكة. وأحيانا، تنفيه خارج مملكتها. وقد نقلت إلي خوفها بهذه الخلافة التي أعلنت عنها ذات عرس بهيج. ومن يومها، دق الخوف قلبي من أن يضيع منا هذا النعيم، وهذه الأفراح الجماعية، وحلقات الرقص والغناء التي تستمر طيلة أيام الأسبوع في مملكتنا السعيدة.

دخلت يوما، مجمع النساء الصاخب بالغناء، والرقص، والموسيقى، وكانت أمي تعاني من حرقة في صدرها أذبلتها في ظرف قصير. فحذرتهن من مغبة الزمن، وأنذرتهن بمجيء يوم لن يرين فيه النور، ثم خرجت وتركتهن يضحكن، ويبتهجن غير مكترثات بقولي وقلقي. ذاك خبر قرأته في عين الشمس ذات نهار مغيم. ثم توارت خلف الغيوم، كأنها أرتني وجهها فقط لتلسعني بهذا النبأ المرعب.

ومن يومها، انغلقت على نفسي، وعزلت النساء وأفراحهن، وعزلت الحياة أيضا. أجلس طوال النهار على صخرة في الخلاء من شروق الشمس حتى غروبها. أستقبل الشرق، وأحضن قرص الشمس من شروقه حتى غروبه، ثم أحجب نفسي عن الأنظار كما تحجب الشمس وجهها مع كل غروب. كنت أنتظر أن تبلغني الشمس بالمزيد من التفاصيل عن سر الظلام الذي سيغرق مملكة النساء التي سأعتلي عرشها بعد وفاة أمي، لأدبر أمر إنقاذها قبل أن يغشاها هذا الخطر الداهم الذي لم تفصح لي عن نوعه ولا عن مصدره.

ومع الأيام، استغنيت عن الأكل والشراب بأشعة الشمس. كانت أمي على فراش العجز وكل النساء حولها يترقبن وفاتها، وأوقفن حلقات الغناء والرقص، وفي الآن ذاته شرعن في ترتيب مراسيم إعدادي لاعتلاء عرش أمي، حينها شنت غارة هوجاء على مملكة أمي بجيش عرمرم من الرجال، يتقدمهم الحراس الذين نفتهم أمي من مملكتنا ذات غضب شديد. وانضم إليهم كثيرون من حراس مملكتنا. فجروا كل النساء الأميرات معهم، وجروا أمي من سريرها، فلفظت أنفاسها الأخيرة على باب قصرها. وأنا أرقب الأحداث بعين واحدة من بوابة الكهف في قمة الجبل الذي آوي إليه كلما غربت الشمس.

ساقوا كل النساء وأولادهن الصغار كقطيع من البهائم أمامهم. وأخواتي المنتحبات اللاتي ارتمين على جثمان أمي يبكين وأبين أن يتزحزحن عنها، ربطوهن إلى أفراسهم وجروهن وراءهم وهن يولولن. ثم أشعلوا النيران في القصر الكبير وحوله. اندلعت الحرائق في كل المملكة، وأنا أرقبها ثلاث ليال وثلاثة أنهر دون أن يطبق لي جفن حتى انطفأت وصارت كل مملكتنا رمادا أسود.

ثلاثة أيام وأنا أحدق إلى النيران الهوجاء.. النيران فقط.. عينان جاحظتان مركزتان على ألسنة اللهب. فقط اللهب ولا شيء غير اللهب.. سكنت تلك النيران كلها في قلبي وسرى ذلك اللهب في أوردتي. وعيناي، من يومها، صارتا جمرتين لا تنغلقان، ولا تريان غير اللهب الأحمر. وحينما آويت إلى كهفي المظلم الذي كنت آوي إليه بعد كل غروب شمس لأنام، وجدتني كالفنار أضيء كل منعرجاته.

كنت أخرج كل ليلة أضيئ طريقي بجسدي الشمسي اللهبي الوضاء. أطوف في قصرنا الكبير وحواليه. أنحني وأقلب الرماد بيدي أبحث عن رميم أمي، أو نبتة تلطف حرائقي. فلا أجد أثرا لشيء يحضن نبضة الحياة لأرعاه، ويسكن معي هذا الخراب. يتفجر الدمع من أعماقي حارقا، ويقطر من لساني قطرة حمراء مضيئة، تشربها الأرض فتنبت نخلة صغيرة. نخلة حمراء. أظل أرعاها حتى تثمر تمرا أحمر.

كثير من النخلات نبتت من أصل هذه القطرة الحارقة التي تذرفها أعماقي، فتقطر من طرف لساني.

شاع في مملكة الرجال التي غارت على مملكة أمي، أن امرأة تعمر خراب مملكة النساء. فدججوا عتادهم ليتهجموا علي، وعلى نخلاتي الصغيرات. وحينما رأوني امرأة من لهب، تخرج من الكهف، تجوب المملكة وتعود إلى الكهف في آخر النهار، خافوا وهربوا من شبحي اللهبي الذي اعتقدوا أنه نبت من الحرائق المهولة. فنقل عني أني شبح من نار يجول في خراب مملكة أمي. وأني شبح أمي ما رأوه، وأن النار لم تقتل أمي وإنما هي من ابتلعت النار، وامتلأت بها أوردتها فصارت امرأة من نار تحرس مملكتها.

 فجاء فريق آخر من فرسان جدد. واقتربوا مني بخطوات. فلم أهابهم ولم ألتفت إليهم. تركت نيراني تتسرب إلى خارج جسدي لتصعقهم عن بعد، فولوا هاربين مذعورين.

لم أتوقف لحظة، عن الزرع وإعمار قصرنا الكبير بأشجار النخيل الأحمر. كل نخلة تكبر أمامي، وتهزها الرياح أرى فيها أمي ونساء قصرنا الكبير. كأنهن بلحمهن وشمحهن من يغنجن ويرقصن أمامي.

وصلت إلي امرأة كانت تنتظر أن تضع حملها من سيدها لتشيع لنهر الصبايا. ففرت وبلغتني وهي حامل وفي شهرها الأخير. وكادت تموت منشدة التعب والجوع والضمأ. رعيتها حتى أنجبت ولدها، ثم قطرت قطرة من لهبي على لسانها، ورافقتها وأنزلتها في رحاب قصر أمي. وضربت لها خيمتها عند أول نخلة غرستها من تلك النخلات الحزينات التي يجري في نسغها قطرة من لهبي. توالت بعدها نساء أخريات هربن من مملكة الرجال. فأقطر في أفواههن قطراتي اللهبية الممزوجة بضوء الشمس الذي ادخرته في جسدي.

أغلب النساء اللاتي وصلن إلي، كن حوامل من أسيادهن في مملكة الرجال. وسيدات القصر في مملكة الرجال من دبرن أمر هروبهن، وساعدنهن على الفرار حينما اكتشفن حملهن من أزواجهن. وبعضهن فررن من القهر والتعذيب، والعمل الشاق في خدمة الأرض، وخدمة سيد القصر ونسائه. فقطعن الفيافي في الليالي الباردة المظلمة، قاصدات مملكتهن القديمة. وقد هلك بعضهن قبل الوصول إلي.

صار عند كل نخلة امرأة مع ابنها. وأنا أرعاهن من بعيد وأحرسهن ليل نهار. وأحلم باليوم الذي سأعمر فيه مملكة أمي من جديد، وأرى الحدائق الغناء تنبسط على مداها كما كانت. كنت أعلم أني سأنتظر طويلا حتى يتحقق مرادي، ولكني لم أيأس طالما الزمن في قبضتي. أجل، فالزمن توقف عند بوابة كهفي، ولم يتحرك. ولم يشم جسدي بوشمه، أو يصيب طرف من أطرافي بضعف أو وهن. فظللت شابة يافعة كالشمس عند شروقها. وأسعد كثيرا حينما أرى البسمة على وجوه نسائي، فتعودني هيأتي الأنثوية، وأستعيد جمال عيني البنيتين الواسعتين، وأجلس وسطهن، وألتقم معهن بعض التمرات الحمراء مع أني لا زلت أقتات من أشعة الشمس، وأرعاهن برموش عيني، وبدمي الشمسي اللهبي..

حينما يخلد الكل للنوم، أقف على قمة الجبل، حيث كهفي، فأسلط شعاعا من ضوئي على كل الأمكنة. وإذا بدت لي امرأة تشد الرحيل إلي، أنرت طريقها حتى تصل إلي في أمن وسلام.

وحينما بوأتني نسائي ملكة عليهن، كتبن ميثاق مملكتهن الجديدة بدمائهن، وختمته بدمي الشمسي الذي لا ينمحي، ولا يتأثر بالزمن.

وقد صار الآن عدد نسائي يتجاوز المائة، يجتمعن، كلما حنت أنفسهن إلى رخائهن القديم، في باحة القصر، ويبدأن يغنين ويرقصن، ويضحكن. وفي كثير من الأحيان أرى الدموع تترقرق في أعينهن حسرة على أيام عزهن القديم، وألحظ على وجوهن خوفا وحزنا من أن يكتشف أمرهن فيتعرضن لغزو آخر من مملكة الرجال الطغاة. فكنت أسمعهن، وأقرأ دواخلهن فأبكي لبكائهن. وأقضي ليالي أجوب حدود مملكتي الصغيرة، أحرسهن من أي غدر. فإن بدت لي امرأة تقطع الفيافي في الظلام، وجهت إليها شعاع ضوئي ودفئي حتى تحل بسلام في كهفي. ويوما، أثناء جولاتي الليلية، سمعت صرخات عجوز تستنجد بنهر الصبايا، تأتيني من بعيد، وكأن جسدها تمزقه الذئاب، فطرت في اتجاه الصوت لأنقذها بشعاعي اللهبي. كان نهر الصبايا قد ثار وغمر بمياهه الحارقة موكب مشيعي العجوز التي سقطت أرضا فاقدة الحركة والوعي وماتت. احتويتها بشعاعي الشمسي المبلول بدموعي اللهبية، وانكمش نهر الصبايا على ننفسه يرتعد من صعقتي.

ومن يومها، دخل نهر الصبايا لأول مرة كهفي معزيا مواسيا، مد لي يده. واستشرى في عروق أرضي، فانتعشت وأينعت. وعمرت أرض أجدادي واستعادت وجهها الأول. كما استعادت نسائي مجدهن وسلطانهن. هن من يشرعن قوانين تنظم أمور حياتهن، وتضمن رخائهن وعزهن. وأنا أوقع عليها بدمي الشمسي اللهبي. والرجال الذين ولدنهم من أرحامهن جنود يرعوهن، ويحرصون على خدمتهن ونيل رضاهن وودهن.

وإذا أنجبت الأم مولودا ذكرا، ظلت أياما حزينة حتى ترزق بأنثى ترث مجدها وعزها. رجال كثيرون اشتكوا إلي من بطش نسائي فأردهم دائما خائبين. ليس لأني امرأة تنحاز إلى الأنثى، وإنما لأن اللهب القار في قلبي يشتعل كلما سمعت صوت رجل، أو رأيت صورته، أو اشتمت رائحته. فأنكمش على نفسي في آخر كهفي أدير له ظهري ولشكاويه، ولا أتنفس حتى ينقلب ويبتعد. فحدث أن خرج عن طوعي رجال أشداء، واشتكوا من استبدادي لمملكة الرجال فجيشت جيشها الرجالي العرمرم ليهجم علي وعلى نسائي للمرة الثانية. لكن نهر الصبايا تحرك حركته التاريخية..

***

XI

نهر الصبايا

أنا هو سيد الأرض المعروف بنهر الصبايا. من أعماقي انبثقت المعجزات التي قلبت وجه التاريخ وشكلت الحقبة المعيشة.

عشت دهورا أرعى الصبايا الملقاة إلي. في الأول كن يلقين إلي لإسكات غضبي، ثم صارت تلقى في جوفي فيما بعد لإسكات غضب المولى الأعظم الذي شيد مملكته على ضفافي. كل فتاة لا يستسيغ فعلها أو قولها، ينزل عليها عقوبة إلقائها في النهر. فيظل يرهب بحكايتها باقي النساء ليستمتن أكثر في طاعته وخدمته، ويتفنن في إسعاده ونيل رضاه. توارث أولاده الذكور والأجيال فيما بعد، نفَس العظمة المعززة بعقوبة إلقاء الناشزات من النساء في النهر، حتى صار في كل بيت مولى عظيم تتقي المرأة شر غضبه وبشاعة عقوبته بالخضوع والانصياع التام لأوامره.

لم أكن أعرف ما يجري بعيدا عن مياهي الرقراقة الصافية. الصبايا اللاتي سقن إلي من حكى لي حكاياتهن مع السيد الكبير، وعن سر نقمته عليهن التي جاءت بهن إلى أحضاني. حكين لي جميعهن قصصهن وهن يذرفن دموعهن التي أعادت بعض الملوحة إلى جسدي. فأحببتهن، وطويتهن في جوفي سنوات وقرونا. في الأول كن يرعبهن جسدي. إذ بمجرد ما تصطدم أجسادهن بصدري حتى يذعرن ويتزلزلن من الخوف والرعب، فأظل أياما وليال أهدهدهن، وأمسح دموعهن، وأداعب شعورهن حتى يستأنسن بي وبعالمهن الجديد. وأحيانا، كنت أخفق في بعث السكينة في أفئدتهن. فصرت بمجرد سماعي دبيب مشيعيهن يقترب من ضفتي، وأصوات الصبايا وهن يولولن مرعوبات مني حتى أتحول إلى أياد من حرير، أمدها إليهن وأخطفهن من أيدي مشيعيهن وهن على بعد مسافة مني. فأحضنهن إلى صدري، وأظل أعزف لهن معزوفة الحياة، وأمسح أحزانهن ولا أدعهن حتى أراهن قد استعدن هفهفتهن المنعشة لقلبي، وينطلقن مرحات ينعمن بحياتهن الجديدة.

صارت تسكن كل قطرة مني أنثى جميلة رائعة، تغنج على صدري، وتغني لي وترقص لعيني. وأنا بهن فرح فخور. لكن الشمس نزلت ذات ظهيرة بكل طاقتها على جسدي. كأن يدا قوية حرضت الشمس ضدي. سطحي صار يغلي وفوراني بلغ أوجه. ومهما حاولت أن أحاصر اللهب في طبقاتي السطحية، حتى لا يمس لهب الشمس إناثي، كنت أراهن ينكمشن على أنفسهن، ويتكدسن فوق بعضهن البعض في أعماقي، وهن خائفات مرعوبات خائفات من الحر القادم. ويتوسلن إلي أن أحميهن من هذه الهجمة الشمسية القاسية. فاستجمعت كل قواي وخاطبت الشمس في ضعف مكين متوسلا إليها أن تخفف من حدة هجومها على جسدي:

ـ أيتها الشمس المباركة التي أغرقتني بدفئها وحنيتها.. أيتها النور التي أرى بها جمالي الذي أباهي به السماء.. إني أراك اليوم قد جندت جيوشك لتحرقيني وتجففي أوردتي، وأنا الذي أسبح باسمك، وأعبد وجهك الصبوح المنير. أتوسل إليك أيتها الملكة العظيمة أن تلمي أشعتك المحرقة، وتخففي من حدتها. ففي بطني تسرح كائناتي الأنثوية، وأخشى أن تموت، وأنا الذي نذرت نفسي لحمايتها ورعايتها حتى آخر قطرة مني..

ـ لا يا سيد الأرض، لست قاسية عليك ولا على كائناتك، إنما بنت اللهب التي كانت تعيش على أشعتي من امتلأ خزانها، فردت إلي أشعتي التي أجهدت طاقتي حتى أفي باحتياجاتها الشمسية. والآن قد خرجت هذه الطاقة الشمسية عن طوعي. وإذا امتصصتها وحبستها في خزاني الملتهب سأنفجر، وستحدث كارثة في هذا الكوكب الذي نسبح فيه جميعا، لذا سربت كثيرا منها إليك. فمن ذا يحملها معي غير وجهك الصافي الرقراق. ابحث لك، سيدي الصافي الرقراق المهيب، عن طريقة تلطف بها أنت أيضا حرائقك لتظل سيد الأرض والمتربع على عرشها أبدا..

ـ شكرا أيتها الشمس الصديقة على صراحتك ونصيحتك.. سأحاول دراسة نواميسي لأبحث لي عن طريقة ألطف بها لهيب أشعتك التي أنهكت جسدي.. سأبحث لي عن مخرج يعيد إلي قوتي وحيويتي، وأحمي به كائناتي الأنثوية.

فكرت بعد هذه المناشدة للشمس، أن ألقي ببعض كائناتي على ضفاف مملكة بنت اللهب لتقتات مثلها على أشعة الشمس. لكنني عدلت في آخر لحظة عن هذه الفكرة خوفا من اندلاع حرب بركانية بين بنت اللهب وكائناتي الأنثوية هذه. فبنت اللهب ستنسف الكوكب الذي نسبح فيه جميعا بطاقتها الشمسية، التي استجمعتها في روحها كل هذه القرون، إذا ما استشعرت بخطر يمس مملكتها، أو بأنثى أخرى تنافسها في مصدر قوتها. لذا ألغيت هذا الحل تماما من قائمة خططي تفاديا للدمار المحتمل. لكن سطح جسدي يغلي ويتبخر ونفسي يكاد يتوقف بهذه الهجمة الشمسية التي لا عهد لي بها. فصرت أتعارك وأتلوى على نفسي حتى أحاصر الحر في طبقاتي العلوية، وألا يصل إلى كائناتي الأنثوية المتكدسة في دهاليز أعماقي. سمعت دبيب المشيعين يقترب مني وصوت مبحوح لعجوز يستنجد بي من بعيد:

ـ... يا نهر الصبايا الأعظم.. يا سيد الأرض الحكيم.. حكِم قانونك وأنصفني من هذا الظالم المتجبر الذي رعيته خمسا وخمسين سنة.. يا نهر الصبايا حكم عدلك، وانتقم لي من هذا الجبار، وهؤلاء الجنود القساة الذين يجرونني ليهبوني طعاما لك، وأنت المطعم للإنسان والحيوان والنبات.. يا نهر الصبايا الذي...

ارتج جسدي لسماع صراخ هذا العجوز المتقطع، وامتلأت، لأول مرة، سخطا ونقمة على بني الإنسان الذي يحكم الأرض. وصراخ استنجادها بي يقطع أوصالي. أخشى عليها أن تحترق بمائي الفائر في ضحى النهار بأشعة الشمس التي شبعت منها بنت اللهب. انتابني شعور بالعجز عن إنقاذ العجوز ومنحها عطفي وحناني حينها، وخوف عارم استبد بي من أن يتسرب هذا الحر الجهنمي إلى كائناتي الأنثوية، فاستجمعت كل قواي، وقذفت بمياهي الفائرة إلى الخارج. أغرقت بها موكب مشيعي العجوز، فولوا هاربين من فيض غضبي.

واستيقظ الناس على أشجار كثيفة مخضرة بأرواح إناثي الكامنة في نسوغ هذه الأشجار التي التفت حولي على امتداد جسدي، وتشابكت أغصانها في أعلى تحجب عني سياط الشمس. والعجوز حاولت بنت اللهب إنقاذها من فيضاني لكنها هلكت في الطريق إلى مملكتها، فوارت جثمانها بالتراب بعدما غسلته بكثير من دموعها اللهبية.

من يومها، انتزعت سلطاني من مملكة الرجال، ووضعته في يد بنت اللهب، وتحالفت معها ومع كل روح أنثى الوديعة الحنونة، وعاديت كل من عاداها. فغضب سيد مملكة الرجال وجيش جيشا عرمرما من كل رجاله ليعبر جسدي، ويتهجم على مملكة بنت اللهب فانقضضت عليه وطويته في جوفي وكل رجاله.

كنت أحلم أن أرى ملائكة تعيش على ضفافي وترعاها بنت اللهب. لكنها خيبت أملي حينما نفثت نفسها اللهبي في كل امرأة في مملكتها..

لقد ضقت ذرعا من بني الإنسان، ومن طغيانه، وأنانيته حتى أني ندمت، مع أن الندم ليس من شيمي، أني ساندت ممالك الإنسان، وهجرت الأسماك من أعماقي، وابتلعت ملوحتي لأقف بجانبه أؤمن له عيشه وراحته. لكنك يا بني الإنسان أحلت بأنانيتك ضفافي أرضا للقروش البرية. لقد ضقت ذرعا من تجبرك وطغيانك وغثت نفسيتي من مسلسل من مسلسل الانتقامات والاقتتال اللامنتهي.. وارتفعت درجة حرارة جسدي حنقا من دوامة بطشك. بلغت حدا فاق سيطرتي وطاقتي على التحمل ولجم جماح بركاني القريب. لقد استقللت بكياني. وضربت بجسدي حلقة حول القطبين واستعدت بعض ملوحتي القديمة، وسربتها إلى جوف الأراضي حولي، وسترون أثرها على الأشجار، والنبات كأولى علامات اندلاع غضبي. سأسحقكم بالقحط، والجوع.. سأطلق ثورتي المبيدة للنبات والحيوان والإنسان. سأرطم القطب الشمالي بالقطب الجنوبي، وأحدث بينهما الاصطدام الأكبر فيحل الدمار الشامل. وبعدها، أطلق مياهي تغطي وجه الأرض. لا إنسان ولا حيوان. لا عشب ولا شجر.. فقط مياه صافية رقراقة تغطي وجه الأرض، وطيور تهيج في السماء تبكي النعيم القديم إلى أن تموت وتسقط في جحيمي أيضا.

***

أعلم أني سأتعب حينما لا أرى شجرا، ولا عشبا، ولا حيوانا، ولا إنسا حولي أطعمه، وأرعاه، لكن لن يكون تعبي أشد مما أنا عليه الآن.. لقد غثت نفسيتي من أنانية بني الإنسان ومن مسلسل الانتقامات والاقتتال اللامنتهي.. ما نفع الرجل ولا المرأة لقيادة سفينة الحياة. سأتولى قيادتها نحو الصفاء، وأبسط نفوذي على البسيطة بمائي العذب الصافي العاكس لوجه السماء: سماء فوق، وسماء تحت تعكس صورتها مياهي.. حتى تنبعث كائنات أخرى طاهرة عادلة تهب لتسكن ضفافي. وحينها، لن أفسح المكان للعيش إلا لمن أعطى لي ولاء بأنه لن يفسد، ولن يظلم، ولن يطغى. والكل روح واحدة تتفانى في سبيل حياة وسعادة الآخر. حينئذ، أهيئ له بقعة من اليابسة، وأسحب قليلا من مياهي إلى الجوف، وسأحمي هذه الفئة بروح مياهي، وبما احتوته من أرواح على مدار الأزمان.....والآن قد امتلأ جوفي، وغثت نفسي، وامتلأ فمي بالقيء بأرواح الرجال التي تسكن كل قطرة مني. وذات الجرم الذي ارتكبته مملكة الرجال، ترتكبه بنت اللهب.. مسرح للعنف والانتقامات والاقتتال اللامنتهي أحلتم كوكبنا، يا بني الإنسان، بأنانيتكم وتجبركم البغيض. وطغى وادعى أنه وكل من يملك نفحة من السلطة والقوة يقول إني رب الأرض والعباد، ومن يقف في وجهه يسحقه حتى لقد تعبت من خنق جماح ثورتي وغضبي الذي لا يعرف بعد بني الإنسان مداه،إن لم يأت منكم الفرج، وتطهروا ذواتكم من الغل والحقد والأنانية. وإن لم يأت منكم الفرج الذي أنتظره،

النهاية

تعقبت بعينين مبتهجتين موجة صاخبة في عرض البحر. بلغتها هادئة ولحست قدميها بلين من يطلب الصفح عن ذنب كبير اقترفه. وفي زبدها المرسوم حول قدميها على شكل أصابع متفاوتة الحجم قرأت العجوز:" صحصوح في طريقه إليك.. إنه يقترب.. استعدي للقائه إنه على خطوات منك.. ألا تسمعين صوته؟ ".. بلى إني أسمعه.. انتصبت واقفة تفرد ذراعيها لاحتضانه.. تستيقظ من نومها وذراعاها مشرعتان في الظلام. تغلقهما على طيف أخيه وهي سعيدة كأنها رأته بالفعل. ولازمته بصوته المبحوح" ليت حبل العمر يمدد.. ليت حبل العمر يمدد.." تملأ غرفتها، تردد صداها في أذنيها مع أنفاسه المتقطعة كأنه يهمسها في أذنها. حيوية غير عادية استشرت في هيكلها مع فرحة غامرة تفيض هادرة من ثناياها. أجالت بصرها في غرفتها التي لا زال الظلام يستحوذ عليها. قامت وفتحت نافذتها الصغيرة. تتطلع إلى السماء الصافية التي تستعد لاحتضان النهار، وقد بدأت بعض خيوطه تغزو ستار الليل الذي لا زالت بعض النجمات القليلة ترصعه وتبدو كعيون صغيرة على وشك أن تغمض.

وهي تشعر بأن الفجر بكل جماله وإشراقته وبهجته ونوره، قد أشرق في أعماقها بحلمها الأخير. وأنها ستعانق أخاها اليوم. "سأحضنه إلى صدري ولن أدعه يبتعد عني.. سألتصق به حتى الموت.."

استحمت وتعطرت ولبست حليها القديم الذي احتفظت به من يوم زفتها إلى جنان الحب. ولبست قفطانها المطرز بخيوط ذهبية. تبدت لها أمام المرآة التي تضيئها بمصباح معلق بجانبها، شموسة يوم زفها إلى جنان الحب، وذات فرحة صبيحتها تلك تستشعرها في أعماقها.. " فرحتي تلك لم تكتمل، لكن اليوم كل شيء يحدثني على أنها فرحتي العارمة والأخيرة. هي فرحة لقائي بأخي، شق روحي الثاني ما يعزفها قلبي، ويسوقني إليها قدري صباح هذا اليوم.. اليوم ستلتئم روحي بك يا أخي صحوصوح"..ألقت إزارها الأبيض المعتاد على كتفيها، واندفعت خارجة مع أولى بشائر النهار. الكل، في بيتها وفي بلدتها الهادئة الآمنة، لا زال نائما

بلغت البحر، ألقت عكازها بجانبها وجلست إلى صخرتها " الثلجية" كما عادتها. وحمرة أول النهار الداكنة تخضب أطراف البحر الهادئ، وتكشف عن إشراقة بهيجة تفيض من وجهها المجعد النحيف وتلبسها رونق وبهاء أيام شبابها. تبدو في ملبوسها الأميري وكأنها قطعة من أول هذا النهار الذي يتحفز ليفرض نفسه على الكون. وهي لا زالت منتشية بحلمها الصباحي وبصوت أخيها المبحوح المتردد في أذنها، بنبرة حزينة:" ليت حبل العمر يمدد.. ليت حبل العمر يمدد...".

وهي لا تدري إن كان مصدر هذا الصوت الهواء حولها، أو الأمواج اللطيفة المندفعة إليها، أو أنه منبعث من داخل نفسها. أو أنه الصوت المتبقي من حلمها الليلي الذي لازال معلقا بأذنيها، ويحجب عنها كل الأصوات. يقترب صوته ويعلو أكثر، ويبث في أوصالها نشوة الحياة التي كانت قد نسيت طعمها. وتخشى إن تحركت، أو حولت بصرها على وجه البحر ستهجرها هذه اللازمة الصوتية العذبة التي رافقتها عمرا لكن لم تشعر بقربها مثل هذه اللحظة. بل وتسمع دبيب قريب، وجر نعلين وذات الصوت يردد مع كل آهة ولهاث:" ليت حبل العمر يمدد.. ليت حبل العمر يمدد..."

الصوت المنهك يدنو منها أكثر.. أكثر من أي وقت مضى.. تشعر أنه يهمس في أذنها.. وأنها تسمع لهاثه وحرارة أنفاسه المدغدغة لوجدانها.. جيشت كل قواها وإدراكها لتتأكد إن كان من محض هواجسها، وأنه مجرد مخلفات حلمها المتكرر بشكل رهيب وقوي في الآونة الأخيرة. إذ بمجرد أن تغمض عينيها في الليل أو في النهار يزورها كضيف عزيز حد ذهاب تفكيرها إلى أنها من تستدعيه وتختلقه. كساها ظله فطفرت الدموع من عينيها، وارتعش قلبها وهي تحول بصرها إلى يمينها. شيخ منهك يردد لازمة حزينة مع كل آهة يلفظها:" ليت حبل العمر يمدد.. ليت حبل...." ويجر خطواته الثقيلة يقترب منها. يحمل بقجة صغيرة على كتفه، وقد لف جسده الهزيل بألحفة كثيرة. وأطراف قفطانه السفلية تمسح الأرض، وتعلق بها كثير من الرمال والأتربة وتعسر تقدمه. وعيون صغيرة لعقيق ذهبي طرز به حوافي ملبوسه لمع لعينيها وحلقت بها إلى يوم زفاف أخيها لجنان الحب. فرفعت رأسها تحدق في قسمات وجهه المجعد الذي تكسوه لحية بيضاء خفيفة ومنتشرة على كل ذقنه. انهمرت وديان عينيها غزيرة لم تفلح في إيقافها وهي تردد معه بصوت متهدج:" ليت حبل العمر يمدد....ليت حبل العمر يمدد.."  أزاحت إزارها من فوق كتفيها، وفرشته بجانبها تدعوه بيدها للجلوس عليه دون أن تقوى على الكلام، أو قول شيء غير لازمته التي يرددها لسانها وأعماقها كأنها الوحيدة الباقية المتبقية من معين الكلام. ولكن في داخلها مصرة إن لم يستجب لطلبها ويجلس حيث تشير له بيدها، ستنشب فيه بأظافرها، ولن تدعه ينصرف حتى وإن جرها وراءه تماما كما تمنت لو فعلت يوم هجرها.

جلس بجانبها، وهو يرتعش كأن آلة هزازة قوية ركبت في جسده، أو أن جبلا من الجليد قر في أعماقه ولم تقو هذه الشمس المشرقة الحارقة على أن تخترقه وتذيبه، ولا هذه الألحفة التي ضربها على هيكله أن تدفئه. مسحت على وجهه بحنو طافح، وهي تحدق إلى ملامحه التي لم يطمسها عنها الزمن ولا العمى إن أصاب عينيها. وجنتاه البارزتان لا زالت تراهما كجوزتين صغيرتين تثيران فيها رغبة تقبيلهما وقرصهما بحب كما كانت تفعل في صغرها. اكتفت بتمرير يدها حولهما وعلى لحيته وشفتيه وهي تبتسم له. تلاقى وجهاهما كما كان يفعلان وهما صغيران فينفجران ضاحكان حينما يريان صورتيهما المنعكسة في أديم عيني الآخر. ضحكا من قلبيهما كما لم يضحكا يوما مذ افترقا. حضنته إلى صدرها بكل حبها وقوتها. قلبت في صلعته عن شيبته الزرقاء التي ولد بها لم تبد لها في قمة رأسه. عرت بلطف ذراعه الأيمن وهو مستسلم يرتعش بين يديها، ويطوق بذراعيه كنزه المخبأ أسفل صدره. انكشف لها الكتاب الأزرق الموشوم أعلى ذراعه. فعانقته بكل حبها تعاتبه:" لم ركبت جنونك يا صحصوحي حتى تقضي على نفسك وعلي؟.. لمَ لم تبق بجانبي لأرعاك، وأحميك بأهداب عيني.. ألم أعدك بهذا؟ أنسيت؟؟ "

ابتسم لها وهو يضرب بفخر على كنزه أسفل صدره، يشير لها إلى غنيمة عمره ثم استكان جسده في حضنها، وهجرته تلك الرعشة التي سكنت جسده من يوم موت فرسه. دفء عميق غمره بهذه الحضنة، فتفصد جبينه عرقا. تجفف شموسة رطوبة جبينه وصلعته فتعود كأنها ما مررت عليها يدها. رفعت عنه برنسه، ولحافات كثيرة لف به هيكله، ولم تترك له غير قفطان زفافه المطرز بخيوط ذهبية مع عقيق لامع تبدو كنجوم صغيرة مرشوشة حول رقبته وأعلى صدره، وعلى أطراف كميه. حكت له عن ذريته، وعن أحفاده، وعن جنته الهادئة الآمنة التي عمرت بمبعوثيه الذين كان يرسلهم إليها والذين أنقذهم جميعا من نهر الصبايا ومن أيدي نسائهم الشرسات. فأطلق تنهيدة عميقة، واستل كتابه الذي ضربه على جلده. يريه لعينيها باعتزاز كبير ورأسه مسند على كتفها، وهو يقول لها بإصرار وحماس نادرين كأن عمرا جديدا سيكتب له: سأقوم وأستأنف رحلتي. ستذهبين معي، يا شموسة، وسنبلغ الجدة عطوف القطوف، ونقبض على روحها ونهديها إلى سيد الأرض، فنسكن طوفانه إلى الأبد. لن تتعبي.. في هذا الكتاب طريق مختصر للوصول إلى نفق الجدة عطوف. سنطهر الوجود من بذرتها الشريرة، ونكتب ميثاق جنتنا بالحليب الأبيض. سيعيش الكل مثل لحظتنا هذه.. أشعر بسعادة غامرة، يا شموسة. هل تحسين بذات شعوري؟. رفع رأسه نحوها، ونظر إليها بعينين تغالبان النعاس ليرى أثر هذه السعادة على وجهها. فابتسمت له ترد عليه بهزة رأسها، وهي تمسح على رأسه وتهدهده كما كانت تفعل وهو صغير، فسقط الكلام من على لسانه، وعلا شخيره الهادئ المتقطع، وارتخت ذراعه على كتابه الذي يحضنه إلى صدره كطفل عزيز. فأخذته شموسة بهدوء ووضعته فوق الصخرة " الثلجية" خلفها حتى لا تصله الموجات المتتالية التي تغسل أقدامهما وتنعشهما.

سقط رأسها على رأسه، وغاصا في نوم عميق. ونسيم البحر المنعش يداعب هيكليهما ويسري في نفسيهما كأنه ريح من جنان الحب التي حرما منها. والموجات الهادئة تتعاقب على مكانهما، لطيفة حينا وصاخبة حينا آخر، وهما منكمشان إلى بعضهما كأنهما شخص واحد.. يسبحان في عوالم بعيدة. والكتاب تقلب صفحاته الرياح الهادئة، كأنها تقرؤها..

حضر حفيداها التوأم، صحصوح وشمس، إلى الصخرة حيث تجلس جدتهما دائما، وضعا قفة مملوءة بما تشتهيه نفس جدتمها في مكانها. وحطا على الكتاب الذي تقلب الرياح صفحاته بخفة. أخذ كل منهما جزءا وانهمك يقرأه باندهاش. بينما شمس تقرأ بذهول عجائب وغرائب ما دون في الجزء الذي بين يديها، كان صحصوح مستغرقا في قراءة رحلة جده على ضفاف البحر. وجدتهما شموسة وأخوها صحصوح، جسد واحد، حمامة بيضاء تتناوب عليها الأمواج وتسحبهما قليلا قليلا، وبرفق شديد، إلى عرض البحر...

***