بموازاة الإصدارات الأخيرة للكاتب المغربي المرموق إدريس الخوري، يقدم الناقد الأدبي هنا شهادة عميقة حول أعماله وكتاباته. محاولا رسم بورتريه خاص لهذا الكاتب الاستثنائي الذي أثرى الأدب المغربي بالكثير من الأعمال الأدبية.

في حضرة الكاتب إدريس الخوري

محمد معتصم

1 ـ من السهل الحديث عن الأستاذ إدريس الخوري كاتبا وصحفيا، لكن يبدو لي الأمر صعبا للغاية، عندما يتعلق الحديث عنه إنسانا. والأستاذ إدريس الخوري الإنسان أشمل وأعمق من الكاتب والصحافي المتمرس. ربما لأننا لسنا من جيل واحد، بل حينما كنت أتهجي أبجديات الكتابة كان إدريس الخوري علما من أعلام القصة القصيرة المغربية، يؤسس لدعاماتها ويرص أرضيتها ليسلس قيادها للأجيال القادمة. لم يكن هذا وحسب بل إدريس الخوري من الرواد الأوائل الذين منحوا القصة القصيرة المغربية ملامحها المحلية، عندما نقل الموضوعات الاجتماعية إلى صلب التفكير والإنجاز الإبداعيين، وجعل من الوجوه المغربية مادة قابلة للتداول جماليا، بلغته العربية الفصيحة، وباجتهاده في لحظات الإبداع القاسية والصعبة، أقصد فترة الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم، وانكبابه على تطوير وتطويع الذائقة المغربية والعربية على تقبل اللهجة المغربية العامية، وذلك بحسن الاستعمال والاستثمار الدلالي الموحي، ودائما بالاعتماد على الأبعاد التالية: الرؤية الواقعية، والمحلية التي تعتد بالذات وتؤمن بالكينونة...

2 ـ أخلص إدريس الخوري للقصة القصيرة وأغناها بمجامع قصصية عديدة جمعت في مجلدين أصدرتهما وزارة الثقافة المغربية، وهي ليست أعمالا كاملة، لأن الكاتب ما يزال يرفد المدونة السردية القصصية بالمزيد من القصص وبالمزيد من المقالات الصحافية ذات البعد الاجتماعي والسياسي والثقافي. وقد أصدر مؤخرا مجموعة قصصية بعنوان "بيتْ النّْعاس" عن مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب، وكتاب "الصوت والصدى: مقالات في الأدب والحياة" الصادر عن منشورات فكر.

3 ـ لإدريس الخوري طريقته الخالصة في كتابة القصة القصيرة والمقالة. ولأنه كاتب أصيل فهو لا يُسْتَنْسَخُ رغم المحاولات الكثيرة التي تقتفي أثره، وتتشبه به، وتنهل من معينه الخصب الثر الذي لا ينضب، والسبب أن للكاتب عينا يقظة لا تفلت صغيرة أو كبيرة في حياتنا اليومية، كما أن له بصيرة، وقد خبرتها فيه، تغوص نحو الأعماق لتفرز الغث من السمين. ولأن الكاتب لا يهادن ولا يجامل فقد اكتسب احتراما وتقديرا خاصين من قبل الكتاب المغاربة مبدعين ونقادا وباحثين. لإدريس الخوري طريقته الخاصة في الكتابة وله طريقته الخاصة في الحياة. يكره المجاملين والمتملقين، ثقيلي الظل، لا يستحي أن يقول كما قال نجيب سرور: "أقول للأعور أنت أعور، غير أني وأنا الأعمى أراك". أرى ببصيرتي حقيقتك تحت القناع. يحب أن يختلي إلى نفسه، إلى أفكاره وتأملاته، ولا يسمح إلا للمقربين والحقيقيين بالجلوس إلى طاولته، يتقاسم معهم الزاد. مهيب بهالته، ودود المعشر، محدث بارع، ذاكرته مليئة بالصور والمواقف، يعرف عن جليسه أكثر مما يعرف الجليس عن نفسه، يضحك من قلبه، يده على ركبته ووجهه إلى الأعلى شامخا، يؤمن بالقول: "ولك الساعة التي أنت فيها".مكتف بذاته، فخور بتعدد الواحد فيه. الجلوس إليه نزهة، وحضوره مدرسة في الأدب والحياة. قليلا ما رأيت مبدعا مقبلا على الحياة كما رأيتها في إدريس الخوري، ينتقي شرابه وطعامه، متأن غير متلفه، حريص مناكف يذود على مكانته، لا يهادن ولا يسامح، الأناقة والمقام والشهامة والكرامة، صفات ترتدي جسدا واحدا.

4 ـ في مجموعته الصادرة حديثا "بيتْ النّْعاس" درس حول كتابة القصة القصيرة، نستشف منه التعريف التالي لها:" إنها حكي قصيرة، تتركز حبكته في لحظة زمنية دقيقة ومحدودة بلا امتدادات، ينتهي نهاية سريعة قد لا تحتاج إلى تبرير علمي، بل تكتفي بما تمنحه للقارئ من شعور بالامتلاء والاكتفاء".

5 ـ لإدريس الخوري عوالمه القصصية الخاصة: الحياة اليومية في جزئياتها البسيطة والدقيقة والعادية، سلوك الإنسان الأعزل وسط مجتمع ضخم ومتعدد ومعقد، حيث الفرد يدافع عن وجوده بالقوة أو يستسلم فيتوارى خلف القناع تلو القناع تلو القناع، يسحقه الزمن ويسحق هو ذاته بلا هوادة، أو يدفن جسده في الفراش، ويدس همومه الشخصية والعاطفية في قنينة خمر. "كانت القنينة هي بيت النعاس بالنسبة للسي عباس" (34).

6 ـ يكتب إدريس الخوري قصة محكمة بحرفية عالية، يمكن اتخاذها مؤشرا للتمييز بين القصة القصيرة المعيار (النموذج) والقصة القصيرة التجريبية (الجديدة):

7 ـ ما يلحم هذه العناصر والمكونات رؤية الكاتب إدريس الخوري، وهي كما قلت ويعرف الجميع رؤية نبيهة ومتفحصة لا ترش الحقيقة مهما كانت جارحة محرجة بالمساحيق. فهي رؤية صادقة. الصدق الذي أصبح عملة نادرة في زمن لا أدري بماذا أصفه، لأنه بلا لون، حتى الرمادي لا يناسبه.

8 ـ عزيزي الأستاذ إدريس الخوري: لا قدرة لي على وصف ولا سرد اعتزازي بالجلوس إليك وأنت بين دفتي كتاب تروي فيه آلامنا وتشرِّح فيه حقيقتنا وتقشرها وتشذِّبُ نفوسنا وتجلدها حينا حتى تشف وترقى، أو وأنت في جِلْسَتِكَ شامخا تضع رجلا على رجل، وتداعب يداك العصا، وترسل على السجية قهقهاتك تسخر فيها من العالم وجحافله يمشون مختالين، طواويس، يمشون خِفَافًا لا يكاد يشدهم إلى الأرض سببٌ، أنت وحدك تراه ذاك السبب وتكتبه هازئا على الورق: ليس في الجبة غير الهباء". أنت وحدك اليوم تقولنا، حقيقتنا... ماذا أقول؟ وكيف أقولك؟ دامت لك المسرات.  

(ناقد أدبي من المغرب)