كتبَ جوزيف حرب، ولحّنَ فليمون وهبي، وغنّت السيدة فيروز:
"في باب غرقان بريحة الياسمين، في باب مشتاق، في باب حزين، في باب مهجور أهلو منسيين.. هالأرض كلها بيوت يارب خليها مزيني ببواب".
إلاّ أنّ للأبواب حضوراً آخر في حياتنا نحن السوريين، وطعماً مرّاً في الذاكرة المعاصرة، فبعد أن كان العتبة التي تجتمع العائلة أمامها في سهول الريف وقُراهُ وهم يحيّون كل العابرين، بعد أن كان عتبة منزل الجدّة، والباب المزّين بورد العروسان وأجراس الميلاد، وقف السوريون على حقيقة هذا الباب الذي الذي نختبئ خلفه في منازلنا، في وهمنا أننا في المنزل حيث نحن في أمانٍ افتراضي، ولكن هذا الباب الذي يفصلنا عن قسوة العالم الخارجي حيث ينتشر الشبيحة وعناصر المخابرات يُمكنه أن يُخترق بسهولة الأقدام الضاربة على العشب، يغدو رقيقاً مكسرّاً تحت بساطيرهم وهم يدوسونه في حملة مداهمة عشوائية، ليغدو الحاضر الساكن إلى كسل ساعات الفجر الأولى صخباً وحشياً وعنفاً متتالياً بينما هم يعتقلون من يشاؤون، يكسرون ما يريدون، يدمرون الأشياء ويعيدون تشكيل تفاصيل الأمكنة- المنازل.
هنا لا يعود للباب أهميّة ولا فاعلية، فهل هو حقاً يفصل بين عالمين؟ هل نستطيع في سوريا أن نلجأ حقاً إلى منازلنا نلوذ بها، لننثر خربشات صغيرة عن تفاصيل يومنا الثقيل على ورقة بيضاء ولا تقوم الأجهزة الأمنية بمصادرتها بهدف ضمان الأمن العام؟ هل يحق لنا أن نشتري الكتب لأننا نحب أن يكون في بيتنا مكتبة ورقية وليست إلكترونية؟ إذ ما الفائدة حين يصادرون كتبنا وقد يرمونها في القمامة؟ كيف نحتفظ بأشياءنا؟ بالنسخة الوحيدة المتبقية من مشروع التخرّج وهو سيصادر في أي مداهمة، سيصادر إن كان ورقياً أو إلكترونياً، كما جرّة الغاز التي أشتراها الأب بعد أن استدان المال من أخيه، هل يستطيع باب المنزل أن يقف حاجزاً بينهم وبين ساكنيه؟ هل يستطيع الصمود طويلاً بوجههم حتى ترتدي الزوجة ما لا يكشف سرّها؟ حتى تضم صغيرها؟ وحتى ينجح الرجل في العثور على فردة حذائه المرمية بكسلٍ تحت السرير؟
هو الباب الذي يُغلق على المُعتقل ليرتاح في ثانية اعتقاله الأولى، ويصمت إلى فكرة أنّه حقيقةً مُعتقل، وعليه الآن ترقب مشوار التحقيق، الباب الذي خطّ المعتقلون من قبله ذكرياتهم على لونه الاسود، هو باب غرفة التحقيق الحديدي وباب غرفة التعذيب وباب الحمام الذي يتمنى المُعتقل أن يُغلق ليسرق نفساً من خصوصيّة الإنسان.
وهو باب المحكمة الذي تصطف أمامه عشرات الأمهات يومياً في انتظار تحويل الابن أو الزوج أو حتى الأخ من فرع التحقيق إلى المحكمة، هي كل الأبواب التي ترنوا إليها قلوب زوجات المعتقلين وأمهاتهم، فقد يسمعون ذلك الرنين لعودة المُغيّبين قسراً، وهي الأبواب التي تهدم فوق رؤوس ساكنيها تحت وابل القصف فتموت معهم، وتختلط تفاصيلها بأشلائهم، وهي الأبواب التي لا نستطيع الاحتماء خلفها ولا يُسمح لنا باجتيازها، في غرفة الاحتجاز تفصلني عن زوجي عشر خطوات، أربع درجات... وباب وحارس وبارودة...
الباب الذي فصلني عن زوجي، هو ذاته الباب الذي يُلبس السجّان وهمه عن حقيقة كونه ليس سجيناً مثلنا جميعاً، فهو لا يزال لديه ذلك الحق باجتياز الباب، بعبوره من الداخل حيث زنزانات المعتقلين ورائحة العفن للأجساد المتراصّة فوق بعضها تفرز عرقها المُعتق بغضب الاحتجاز القسري منذ شهور، من الداخل إلى الخارج حيث يحق له رؤية الشمس وتنفّس الهواء المُغبر وحرية الحركة في المكان. في الداخل كلاهما مُعتقل، لكن عند عبور الباب يبقى المعتقل معتقلاً وهو يتوهم نشوّة الحرية المُجتزأة إلى أكثر أشكالها تقزّماً.
هذا الباب هو جزء من ذاكرتي، الباب الذي يرتفع عن الأرض بأربع درجات وعلى ناصيته الاسمنتية كوّة حراسة وبارودة، كما الحائط في ذلك المنزل القديم في مخيم فلسطين للعائلة التي نزّح الجد فيها مع نازحي عام 1948، حيث عُلّق على صدر جدارهم مفتاح حديدي أصفر اللون، ليس مهترئاً لكنه غريب، يومها أخبرتنا السيدة أنّ جدها أحضره معه حين نزح لأنه سيعود وسوف يحتاج إلى مفتاح بيته. أتساءل اليوم وبعد عشرات القصص التي سمعناها وآلاف الصور التي شاهدناها تبرق أمامنا في شاشات الفضائيات، هل امتلك النازحون السوريون وقتاً كافياً لإغلاق باب بيتهم والاحتفاظ بالمفتاح؟ هل احتفظت منازل حمص المهدّمة من باب السباع إلى جورة الشياح والقرابيص وحتى بابا عمرو بأبوابها؟ هل هي الأبواب وحدها من بقيت صامدة تحت وابل الرصاص، وحين يعود النازحون من إدلب وجسر الشغور ودرعا وحماة وسواها سيجدون ساحة تملؤها الأبواب المثقلة بجراحها دون الجدران والنوافذ؟ دون الأشياء التي كتب الأهالي ذكرياتهم عليها؟ وهل ستحتفظ الابواب بذاكرتها أم أنّها لم تعد أبواباً بل محامل تُحمّل عليها جثث الشهداء ليدور بهم أهل القرية في الساحة لحظة وداعهم الأخير؟
من حلم بيت على شاطئ البحر أو قرب شجرة السنديان إلى محفّة تهبط بحملها حتى عمق القبر.. هذه هي أبوابنا...
كاتبة من سورية عن القدس العربي