لا يسع المرءَ أمام قيام بعض الأفراد الاسرائليين في هذه الايام بإضرام النار في أنفسهم إلا أن يتساءل: ما هو الخطاب (أو الموقف) الذي ستردّ به إسرائيل، من خلال ساسَتها ووسائل إعلامها ومثقفيها ومُتديّنيها، على إقدام بعض أبناءها في الداخل بحرق أنفسهم؟ فالجلاد ليس ذاك المجرم النازي الذي أعطى لنفسه الحق باسم تفوّق العرق الآري الأبيض في قيادة أبرياء يهود من الأسرة السامية إلى المحرقة، الجلاد شيء آخر أو لنقل إنّه كامن في عوامل خطيرة، ما فتئت تضع المسؤولين السياسيين، داخل إسرائيل وخارجها، في حرج ثقيل عظيم. الأمر يتعلّق بمسألة تتجاوز بكثير المجال الاجتماعي والاقتصادي لتأخذ أبعاداً أخرى تمسّ مفاهيم حسّاسة مثل الوطن والشعب، والأسس الإيديولوجية والدينية والديمقراطية التي قامت عليها.
كنّا نتمنّى لو أنّ "الاختصاصين" الغربيّين في السياسة والاثنولوجيا وتاريخ الأفكار، وأيضاً في علم النفس والاجتماع واللغة..، اهتمّوا بظاهرةَ "حرق النفس" التي بدأت تنتشر بطريقة ملحوظة في صفوف المحتجين على انعدام المساواة والعدالة الاجتماعية في إسرائيل، وسلّطوا عليها أضواء "تخصّصاتهم" كما فعلوا وما زالوا يفعلون مع نفس الظاهرة وظواهر أخرى في تونس وبعض الدول العربية والإسلامية. أكانوا سيضطرّون تحت وطأة مختلف الضغوطات بكذبة "الخلل العقلي" لِوَصْف مآسي لها بُعْدٌ سياسي يوجه أصابع الاتهام إلى ثقافة العقلية الحاكمة والنظام الإيديولوجي الذي تعمل به؟ أم كانوا سيُعْلِنون في ردّة فعل انعكاسية آلية، تستنبط ضرورة حماية الذات الجماعية، أنّ فيما يحدث تآمر على إسرائيل أو أنّ الذين يضرمون النارَ في أنفسهم ليسوا إسرائيليّين حقيقيّين؟
إذا كان ممثل رئيس بلدية تل أبيب قد تجرّأ على غسل يديه من كلّ مسؤولية للمدينة في حدث الحرق الرهيب ووصف موشي سلمان بأنّه "غريب" عنها، فإنّ فريقَ التواصل الرسمي للحكومة الإسرائيلية نَصَحَ رئيسَ الوزراء وأعضاء إدارته باللجوء إلى كلمة تُبرّىء السياسةَ الإسرائيلية كلّها من مسؤولية واقعة موشي المأساوية. هكذا، وكما فعلت العديدُ من المواقع الإسرائيلية الإخبارية، استعمل نتنياهو كلمة عامة هي "الانتحار" لنعت فعل إحراق النفس، مع إضافة مرادف "التراجيديا الشخصية" للإشارة إلى أنّ الواقعة لها علاقة بالحياة الخاصة لهذا الفرد، ولا دخل للسياسة بهذا. والكلّ يعلم، للأسف الشديد، أنّ جلّ الفِرَق المسؤولة عن التواصل الرسمي في حكومات العالم تتعامل مع الأحداث المأساوية الكبرى بطريقة عامّة وسطحية، وتتهرّب من الدخول في التفاصيل والاعتراف بالحقيقة لمّا تكون الحكومةُ مسؤولةً عنها مباشرة.
كيفما كان الحال، فإنّ الذين شاركوا في مظاهرة العاصمة تل أبيب مساء يوم السبت 14 يوليوز 2012 للتنديد بالظلم الاجتماعي أطلقوا على موشي سِلمان لمّا رأوه يضرم النارَ في نفسه اسمَ "المَشعَل الحي"، كما نعتت الصحافةُ بعد أيام قليلة الإسرائيليَ المعوّق وهو يحترق بأنه "لهيب إنساني"... وصاح المتظاهرون الغاضبون أمام منزل نتنياهو في حركة تضامن مع موشي سلمان: "كلنا سلمان، لقد أحرقتنا كلنا... يابيبي". وبينما رفع الآخرون في مظاهرات آخرى شعارات تطلب من الوزير الأول أن "يرحل" ويعود إلى بيته، لم يجد بعض المحتجين حرجا من رفع لافتات كُتِبَ عليها "الثورة الآن"!
وبعد وفاة موشي في المستشفى، ردّد المتضامنون معه في مظاهرات تتقدّمها "مشاعلٌ" تندّد بالسياسة الاجتماعية لحكومة نتنياهو أنّ الضحية قدّمت نفسَها كقربان من أجل لفت نظر الناس إلى الظلم الذي يمارسه النظامُ بحق المواطنين. وفي خضمّ هذه الأزمة الشرسة التي يمرّ بها المجتمعُ الإسرائيلي، بدأ عدد من الإسرائليين يتسائلون: "هل تكون إسرائيلُ انعدامِ المساواة الكبيرة هي إسرائيل التي أرادها مؤسّسو الصهيونية؟" (انظر موقع http://jssnews.com، 22 يوليوز 2012).
لنقف لحظة أمام شهادة موشي سلمان حتى نفهم ما يحدث. في رسالة قرأها الرجل أمام الملأ قبل الإقبال على سكب البنزين عليه وإشعال النار في جسده قال: "أتهم إسرائيل وبنيامين نتنياهو ويوفال سطنيطز (وزير الشؤون المالية) بالممارسة الدائمة لاهانة مواطني إسرائيل الذين يَتحتّم عليهم تحمّل الكثير من المشاق اليومية، أتّهمهم بأخذ ما عند الفقراء وإعطاءه للأغنياء" (موقع لوبوان الفرنسي 15-7-2012). ويحكي صهرُ موشي أنّ عمّه كانت له مشاكل مع قسم الضرائب وصندوق الأمن الاجتماعي اللذيْن تركاه بلا شيء فقد أخذا منزلَه وكل ما كان يملك ورميا به في الشارع.
ماذا تقول شهادة "المشعل الحي" في العمق؟ هنا، ينبغي الوقوف على نقطة مركزية قادرة لوحدها على تفسير عمق أزمة النموذج الاجتماعي الإسرائيلي وفشله: أخذ ما عند الفقراء وإعطاؤه الأغنياء. وتحيل هذه النقطة إلى شيئيْن من الأهمية بمكان.
فمن جهة، تدلّ هذه النقطة على فكرة " السرقة " (تركته الدولة بلا شيء بعد أن أخذت منزلَه وكل ما كان يملك ورمت به في الشارع دون أن تقدّم له يد المساعدة) التي تثير في الذهن بالضرورة حيثيات وملابسات نشأة إسرائيل، فقد بيّنت العديدُ من الدراسات والوثائق أنّ هذه الدولة توصّلت إلى إضفاء الصفة القانونية لكيانها داخل مؤسسة هيئة الأمم المتحدة بعد أن شرّعت لنفسها سرقة الأراضي الفلسطينية بشتّى الطرق والحيل (النهب والسلب والطرد والتشريد والتهديد والقتل...)، ولجأت إلى الضغط الديبلوماسي والفساد المالي من أجل شراء أصوات بعض الدول التي كانت تتردّد في التصويت لصالح الاعتراف بقانونية وجودها. وما زالت عملية السرقة تُمارَس في وضح النهار أمام الملأ الأممي عن طريق المستوطنات التي ترفضها كلّ شعوب الأرض دون استثناء، وتعتبرها مصدر قلق واضطراب دائميْن للوعي الدولي والأمن العالمي، وبرهانا قاطعا على أنّ الدولة العبرية لا تريد السلام.
ومن جهة أخرى، يُمكن اعتبار تهمة "أخذ ما عند الفقراء وإعطاءه للأغنياء" ترجمة واقعية لِلمبدأ الرئيسي والعنصر البديهي في فلسفة الرأسمالية الليبرالية التي تقدّس الفردَ القوّي الغنيّ الثرّي على حساب القيم الاجتماعية القائمة على المساعدة والتضامن والتكافل بين أفراد المجتمع، الشيء الذي من شأنه رفع نِسَب الفوارق الاجتماعية بين الناس، وخلق الإحساس بالظلم والشعور بالقهر لدى أغلبية المواطنين، وبالتالي تصعيد أجواء انعدام الثقة والاتهامات والمواجهات بين الأكثرية التي تملك كلّ شيء والأقلية التي يجب عليها أن تشقى يوميا لتضمن بقاءها في الحياة.
وإسرائيل، منذ نشأتها كقوة احتلال، كانت تمجّد القوة، وما زالت تعتبرها الشرطَ الجوهري لوجودها وضمان استمرارها، لهذا لا تعطي في سياستها العامة قيمة تُذْكَر للضعفاء والفقراء والمحتاجين. وهذا الاعتبار الذي يحظى به الاغنياءُ نابع من تصوّر إسرائيل لنفسها وذاتها بالمقارنة مع ذوات باقي البشر والأمم، إذ تعتقد أنّ " الفقر والضعف والحاجة إلى معونة الآخر " هي حالات تتنافى مع خصائص "الشعب المختار" الذي فضله الله على الشعوب الأخرى بخصائصه المتميّزة المتفرّدة مثل الذكاء والقوّة.. إنّ المؤسّسين لإسرائيل - الذين كانوا وراء الآلة الإيديولوجية لبنائها وهيكلتها، وتطوّرها وقدرتها على مواجهة تحدّيات المستقبل - تصوّروها قبل كلّ شيء كيانا قويا لا مكان فيه للضعفاء لأنّ في الضعف يوجد سببُ احتمال اندثارها وهو ما سيسعى أعداؤها لتحقيقه على الدوام حسب زعمهم.
ويعرف الجميع أنّ إسرائيل تروّج لصورة قويّة تقوم بوظيفة مزدوجة هي الترغيب والترهيب. الترغيب عن طريق إنتاج خطاب مُنمّق يدّعي تمثيلَ قيم العالم الحرّ الديمقراطي، وحمايتها في محيط لا يريدها ويكنّ لها العداء، وهو خطاب مُوَجّه إلى أصدقائها وكلّ المتفهّمين لمشروعها الاستعماري والمتواطئين معها والمساعدين لها ماليا وماديا ومعنويا. الترهيب من خلال استعمال الصورة القوية المختزَلة في مؤسسة الجيش الفتاكة وأجهزة الاستخبارات والتجسس كوسيلة لردع وتخويف "المسروقِ" الفلسطيني وكلّ المتضامنين مع القضية الفلسطينية.
كيف إذن يمكن لإسرائيل أن تقوم بهذه المهمة الثنائية الصعبة على أحسن وجه إذا كان من يُمثّلها في الداخل والخارج ينتمون لطبقة موشي سِلمان أي كلّ من كان فقيرا ضعيفا محتاجا إلى مساعدة الدولة والآخرين لكي يصمد في وجه الحياة الغالية وأزمة السكن وقلة العمل وصعوبة أو استحالة التمكن من العلاج الطبي... إلخ؟
لكنّ ما قام به موشي سلمان حدثٌ لم يكن ينتظره أحد، حدثٌ زلزلَ أنظومة اليقينيات الكبرى لإسرائيل، حدثٌ هزّ بقوة عنيفة نفسيةَ المجتمع الإسرائيلي على وجه العموم. وحتى الساسة لم ينجوا من هذه الصدمة الشديدة، لكنهم حرصوا على إخفاءها تفاديا لظهور علامات الضعف الممقوت عليهم، ماعدا الرئيس شيمون بيريز الذي اعترف بوجه من الوجوه بهذه الحقيقة. فإذا كان الوزير الاول قد اكتفى برد فعل سياسي كلاسيكي حيث رأى في هذه الواقعة " تراجيديا شخصية مرعبة "وطلب من وزير الشؤون الاجتماعية والسكنى أن يهتم شخصيا بملف موشي سلمان، وتبعته في نفس المنحى شيللي يشيرّوفيتش إذ التزمت بدورها كزعيمة للمعارضة فندّدت ب" شراسة معايير القبول بخصوص حق السكن العمومي لأنها تحكم على كثير من الأفراد مثل سلمان أن يجدوا أنفسهم في وضعية دون حلّ"، فإنّ شيمون بيريز لم يتردّد في الإقرار بالحقيقة وعلّق على الحادثة المأساوية بقوله: "لقد أقدمت إسرائيل (لأول مرة) على تجاوز خطّاً...". (أنظر موقع http://www.guysen.com بتاريخ 15/7/2012).
ماذا يعني هذا الكلام الذي صدر من أحد الرموز التاريخية الحية لدولة إسرائيل؟ شيمون بيريز يعرف أكثر من نتنياهو وأمثاله أنّه لا يوجد شيء يمكنه أن يوجّه ضربة موجعة وقاسية لإسرائيل في الأوساط الدولية أكثر من الصورة السلبية المدمّرة لمواطن إسرائيلي وهو يحرق نفسَه احتجاجا على انعدام العدالة الاجتماعية في بلده. بعبارة أخرى، يعرف شيمون بيريز أنّه إذا كان العداء للسامية يخدم إسرائيل إلى درجة أن اعتبره جان بول سارتر في كتابه "المسألة اليهودية" أكبر صديق لها، فإنّ أخطر ظاهرة يمكنها أن تضرّ بسياستها ومصالحها وتمثل قمّة العداء لها تأخذ شكلها التعبيري الأقوى في شهادة سلبية تصدر من أهلها.
لا يمكن أن تغيب عن الحريصين على سموّ ونقاء شعب إسرائيل الاسطوري الدلالاتُ العميقة التي تنطوي عليها مأساةُ موشي سلمان ومن حذا حذوه. فإذا كان الرجل قد استعمل إشعالَ النار في جسمه كأداة للتنديد بسياسة حكومة بلده والاحتجاج على الظلم والقساوة وانعدام المساواة، فإنّ فعله هذا يقولُ أيضا شيئا آخر له علاقة بالصورة التي تعمل إسرائيل على إنتاجها وتسويقها في العالم. ويكمن هذا الشيء في نقد الذات الأسطورية (القوية الملتحمة المنسجمة)، ورفض الصور المفبركة التي تحاول فرض نفسها بالتنميق والتجميل على الناس في الخارج، بل يمكن القول أن الأمر يتعلق على مستوى إضافي من الدلالة الرمزية بمحاولة للتعبير عن رغبة التخلص من انتماءٍ خيالي ومزيّف إلى ذات جماعية متوحّدة ومنسجمة، لا وجود لها على أرض الواقع.
في الحقيقة، لا يدري الناقمون على النظام الفاسد في إسرائيل كيف يتصرّفون! صحيح أنّ الساخطين على أوضاعهم الاجتماعية البائسة لهم الحق في التظاهر، لكنّ لا شيء يتغيّر بعد الاحتجاجات في الشوارع، بل إنّ الأوضاع تسير من سيّء إلى أسوأ، فماذا يفعلون؟ لا ريب أنّ الديمقراطية المزعومة في هذا البلد لا يمكنها أن تصمد طويلا أمام تحدّي الواقع الاجتماعي المتردّي، وكثير من الناس يشعرون بأن لا أحد يسمع شكاواهم، والضعفاء لا صوت لهم يُسمَع، وهم مقهورون ومُلجَمون، لهذا لم يبق لهم – على ما يبدو - من وسيلة للتعبير عن رفضهم قساوة الحياة اليومية وظلم الطبقة الحاكمة إلا إحراق النفس.
وقد يستعجل البعضُ هنا فيرى في ظاهرة إضرام بعض الإسرائيليين النار في أنفسهم وجودَ خطر حقيقي على إسرائيل يُنذر بفشل ديمقراطيتها المزعومة ونهاية نظامها العنصري، لكنّ مشوار حياة موشي سلمان يُتبِث في مفارقة صارخة أنّ الآلة القاسية التي أودت به إلى الهلاك كان هو نفسُه مِمّن شاركوا في تغذيتها وساهموا في استفحال خطرها الفتّاك. لنسمع ما شهد به أخوه أمرون إلول لوسائل الإعلام: "لقد وُلِدَ أخي في إسرائيل، وخدم في الجيش لمدة سبع سنوات، وبعد هذا أصبح لمدة سنوات احتياطيا في الجيش. لم يسبق له أن قام بإيذاء أحد، ومع ذلك أخذت منه الدولة كلّ شيء، شركته ومنزله، ولم يجد في الأخير مَن يريد مساعدَته". (انظر موقع http://www.wsws.org 20 يوليوز 2012).
لقد اعتقد الرجلُ طيلة حياته – منجرِفاً بالحلم الوطني الجماعي - في صِحّة النسخة السياسية والإيديولوجية لشعب إسرائيل الأسطوري، ودافع بالسلاح عمّا كان يحسَبه الحقيقةَ التاريخية للوطن الإنجيلي، وقام بواجبه إذا صحّ التعبيرُ كمواطن إسرائيلي يدافع عن قيم بلده التي كان يؤمن بها.. لكنّ الدولة، في المقابل، لم تقم بواجبها اتجاه هذا المواطن. فهل خاتنه دون علم لها بهذه الخيانة أي ناسية، في لاوعيها المضطرب، وعودَ الوطن الحامي لليهود حسب ما أقرّ به مشروع إسرائيل كدولة؟ إذا كان هذا ممكنا، فهل بَدأتْ إذن تقوّض بنفسها، وبالرغم منها، في حالة لاشعورية حبلى بالدلالات أركانَ مشروع تصوّرها الأسطوري للوطن والشعب والأرض؟
كاتب عربي يقطن بفرنسا