يتوقف محرر الكلمة هنا عند تجربة شعرية سورية استطاعت أن تحفر عميقا في تمثلها لقيم الشعر الرحبة، وأفق القصيدة في استعاراتها المفتوحة على الحياة. وهي تتجسد في ديوانه الشعري التقاط للتفاصيل الصغرى وقدرة على جعل انجراحات الذات كتابا مفتوحا نتلمس من خلاله ونقرأ في قصائده شعرية الانكسار والغياب.

من شعرية التشظي إلى شعرية الذات

عبدالحق ميفراني

عن دار سنابل للنشر والتوزيع في مصر، صدر للشاعر السوري الكردي حسين حبش المقيم في ألمانيا ديوان شعر  يحمل عنوان "هاربون عبر نهر إفروس" وهو مجموعته الشعرية الثانية، بعد ديوانه الأول "غرق في الورد" الصادر السنة الماضية عن دار أزمنة ودار ألواح /2003.

الديوان الذي يقع في 88 صفحة، ضم 30 قصيدة، وعلى غير عادته هذه المرة، تأبط الشاعر حسين حبش همومه الصغيرة، كي يقدم بورتريهات عائلية مسكونة بالغياب، ثمة عنصر انكسار ينضاف لهذا الوجع، إذ تسهب النصوص الشعرية في رسم خرائط الوطن المغذور بمرارة الخيانة.

ولا يعيد الشاعر معركته مع اللغة، إذ يهادن الى الحد الذي تتحول معه النصوص الى لعبة مرآوية للتشظي الذي يتجلى وينكشف في دلالات لا تغور عميقا في المعنى، يذهلنا ديوان "هاربون عبر نهر إفروس" حين نعيد استقراء ديوان الشاعر الأول "غرق في الورد" ،..

 فهل تخلصت نصوص حسين حبش من دائرة الترف اللغوي الذي يجعل عالم الديوان الأول أشبع بانغماس صوفي في المعنى؟ كيف يمثل ديوان "هاربون عبر نهر إفروس "خريطة انكسار لتفاصيل الذات وتيمة التشظي عنصري توليد لهذه العودة؟ أي رهان شعري تتمثله تجربة حسين حبش اليوم داخل جسد القصيدة العربية الحديثة؟

قصائد العائلة والوطن

"في مديح أبي"، "محمود الصغير ينصب الفخاخ للقبرات"، "داناني داناني"، "تراتيل أمي"، "دموع هيفا"، خمس قصائد للعائلة، بعضها أو جلها هي تفاصيل بورتريهات شعرية للعائلة، وفيها يرسم حسين حبش هذه الشخوص بلغة شعرية أقرب لتقنية الوصف السردي، إن لم نقل أن هذه القصائد-المجسمات هي لوحات تحكي عبر لغة ترسم بدقة متناهية، لكن أقسى مرارة وقسوة لهذا الغياب هو حين تتحدث هذه النصوص خصوصا قصائد "في مديح أبي " ،"محمود الصغير.."،"تراتيل أمي" بضمير لحظتها وفعلها الآني /المستقبلي، لا تبدو القصائد صور استرجاعية لتفاصيل غابت، بل لازالت هذه القصائد تتحين تمثلاتها بانذغام مع الذات :

في مديح أبي : <ص31>

مازال أبي بسرواله الفضفاض

وقميصه المطرز من رائحة التراب

وجبهته الواسعة كحقل قمح

مازال يهدر كنهر "عفرين"..

محمود الصغير : <ص51>

يدحرج القبرات بشغف الى فخاخه...

يتلذد من وقوعها في مصيدته..

ينزل كملاك ممتلئ بهالة النور

تراتيل أمي : <ص76>

في هذا الصباح، كانت أمي تجلس في البيت وحيدة

ترتق بنطال أخي محمود الممزق من شقاوة البارحة ،

انغرزت الإبرة في أصبعها، سال الدم حارا على الخيط، تلطخ البنطال ،

وتشوشت أفكار أمي .

أقسمت لأبي ولكل الجيران ،

إنها رأتني أو رأت ظلي، أو رأتني دون ظلي

أمر أمامها هذا الصباح.

إن عنصر الغياب الحاضر بوجه مزدوج العائلة/الوطن، لا يتحلل في الصورة الشعرية ولا في البناء المعجمي، ولا حتى مستويات التركيب، إنما يندغم في إيقاع داخلي يسكن متخيل هذه النصوص، إن لم نقل يتمثل كرؤية كلية جامعة لمتخيل نصوص "هاربون عبر نهر إفروس"، لدى فالهروب الموسوم لهذه القصائد هو هروب ذاكرة في تجلي غيابها، حضورها كمتن شعري في هذه البناءات السلسة، وحتى قصدية التوظيف لهذه النثرية "الجافة" أحيانا تعمق هذه الرؤية وتزيدها اتساعا في شعرية الغياب المتولدة عبر عناصر هذه الرؤية .

وفعل الحكي والقص الذي يستعين به الشاعر لإعادة ترسيم هذه الصور، ما هو في العمق، إلا إعادة ترسيم لحدود الشعري والنثري في الديوان، فالقصائد تتحلل من تشابك المعنى في "غرق في الورد" والذي أودى بالقصيدة الى "جدار اللغة" لتعيد بناء علائق جديدة لمستويات التركيب الشعري، ولعله إعادة لصدمة الحداثة التي شغلت القصيدة العربية الحديثة على مدى القرن الماضي ولا زالت.

إن تجربة الشاعر حسين حبش لا تجيب عن سؤالها الضمني، بقدر ما تعيد صياغة عنصر التجاوز من خلال ثنائية استبيانية :

الغرق في الورد                  غرق في اللغة

الهروب                           هاربون عبر نهر إفروس

تثيرنا لغة الحكي في قصيدة "تراتيل أمي" بالقدر التي تكشف عن تقاطع الشعري والنثري في الديوان، بالقدر الذي تعيد قراءة اختيار قصيدة النثر كاختيار شعري واعي كممارسة نصية .

وإن كان هذا التوظيف يرتقي بالنثري في لعبة اندماج، جعلت بعض نصوص الديوان أقرب الى فعل تحلل من ثقل الشعري في حدود قوة الخرق، وتلوين هذا الفعل بتقنية وصف تتخذ العين فيه، عين عدسة الكاميرا المتلصصة على تفاصيل الذاكرة، لكنها ذاكرة تعيد كتابة "الآن وهنا" ..إن رغبة التخلص من ثقل هذه الخسارات، دفع بالشاعر في الكثير من الأحيان الى قتل الزمن في القصيدة، بالشكل الذي يجعل هذا التحرر، انعكاسا إبداعيا أكثر منه وجدانيا تقليدي التوظيف، وإلا افتقدت الكثير من القصائد شعريتها، ولعل قصيدة "حسرة" حين تعيد كتابة الفقدان المتمثل في "ليس لي وطن" توصيف حي لهذه المعادلة، حتى لا نقول المفارقة..

إن هروب الشاعر هذه المرة استعاري للحلول في القصيدة، القصيدة التي تحولت لمشتل أنطولوجي، تستعير وجودها البهي في مطلق المنتهى، وإضافة للعائلة يعيد الشاعر حسين حبش حسه التراجيدي لفعل الانتماء فتتبع بسيط للحقل المعجمي، يقدم لنا مرجعيات استدلالية لأمكنة وشخوص من خلال :

نهر إفروس – يلماز كوناي – جبل أغري – الشيخ سعيد – حاجي آختي – سيد رضا – مظلوم دوغان – شريف باشا – مواثيق الكرد – عفرين – أحمد خاني – شركو بيكس – فقي ثيران – ملاي جزيري – كاساي – خالدي – ميدي وكوني – نوروز – كاوا ........

هذا الحقل المعجمي الذي يتوزعه ديوان "هاربون عبر نهر إفروس > هو ذات تتحلل للعلامات الممكنة للبوس هذه الذاكرة، فالوطن لا يحضر كجغرافية، ولا كوسط بنائي مجتمعي، بل يستعير أسماء الشعراء والأمكنة والأسطورة ليقدم إشارات الفقدان والانكسار، ولعلنا نستوعب إشارة وقصدية الشاعر كبداية قصائد الديوان، القصيدة "قطيع  الوعول يموت من الظمأ " هذه القصيدة الجنائزية التي تشعرن فقدانها ومستويات الغياب بالشكل الذي يتحول الانتماء من فعله الوجودي الى تحلل صوفي، وأحيانا الى عد الفجيعة والخيانة :

·                                                        أصابنا الصدأ

ولم ندرك بعد بأننا تعطلنا في منتصف العمر <ص9>.

·                                                        أدرنا وجوهنا الى المنافي البعيدة خلف البحار

شممنا الغربة فالفتنا <ص9>.

ويعيد الشاعر ترسيم شعرية المنفى داخل جسد القصائد المشكلة لديوان "عابرون عبر نهر افروس"، مجسدا وعيه بالزمن والشعر، حتى أن الشاعر يمثل هذا المطلق من خلال مغامرة متعددة الأبعاد، إذ أن غياب الوطن كجغرافية يماثله الاعتراف بالفجيعة والخيانة ..

وإذا كنا نلمس هذا الميسم الإنتمائي الذي يحضره الشاعر عنوة عبر إشاراته المتعددة للعائلة والوطن والأمكنة والشخوص، فإن هذا الانتماء يظل معلقا بفعل المرارة، وما الإشارة للصدأ إلا ترميزا لهذا الغياب، ولعله غياب يمتثله الشاعر كوجود شعري، عبر تخصيص جل قصائد الديوان "لنكسة نوستالجية"، إن إشارتنا هذه تماثلها فجيعة العودة أو هي بالضبط اللاعودة :

أقولها :

ملء اليأس

ملء الحزن

فاتنا الوقت

فاتنا الوقت

فاتنا الوقت <ص18>

...........................

جاء الزمن الأصم

ما فات فات

وما يجئ عقر

بامتياز<ص24>

بهذه النمذجات نكتشف تحرر الشاعر من رقة قيد ظل على الدوام أساس وجودي، انتقل بفعل تحويري الى حلم، حوله سماسرة السياسة الى كابوس فظيع. إن هذا الوطن "الهلامي" ينكشف كفعل توليدي شعري داخل نصوص أترث المشهد الشعري العربي بعمق انضاف بقوة الخصوصية وفرادة التجربة، لكننا، نعترف أننا جعلناه هامشا غائبا ومحرما، بل هلاميا بالقوة ..:

لكنهم نزلوا بقرار ضرير أعمى

سلموا المتاريس والقبعات والآهات

وفوهات البنادق

سلموا الأناشيد والتراتيل والأحلام <ص26>

.........................................

لم يتركوا سوى بقايا يوم دموي

في سروال النهر العميق جدا

نهر المشنقة والقيامة والجحيم

نهر إفروس ..<ص40>.

بهذا الحس التراجيدي يتعمق جرح الغياب، وتتعمق حالات الفقدان، لهذا يتحول المنفى "لهروب ثاني" من حالة الفقدان الى شعرية الغياب، وهكذا، تتخلص اللغة الشعرية في نصوص "هاربون.." من سلطة "الالتزام" الصارم بكهنوت البحث المضني عن تعاقب "للمعنى" و "المرجع" لتتحلل عبر قسوة الذات "الهاربة" لا عبر نهر "إفروس" بل عبر غوايات القصيدة والتي هي الملاذ الأخير للشاعر .

·                    من شعرية التشظي الى شعرية الذات :

هل كان اختيارا واعيا من الشاعر حسين حبش أن يعيد كتابة جراحات الغياب على جسد النص الشعري المتأفف من التشظي ؟ لما حضور شعرية التشظي قوض هامش "لعبة المعنى" الى الحد الذي انكشفت فيه الذات كتجلي دلالي قوي في قصائد الديوان ؟ أليست شعرية الذات أفقا لممارسة النصوص في "هاربون عبر نهر إفروس" في رهاناتها المفتوحة على المطلق/القصيدة؟

لا نبتغي الوصول الى إجابات، تكفي الأسئلة ترياقا أصيلا لنبض القصيدة، ووجها كاشفا لرهان الاستقراء، لكن قصائد الديوان تنفتح على هذا التجلي والذي يؤكد مقولات ظلت تصرخ هنا وهناك ثمة تجارب شعرية تحبو نحو أفق المغايرة، بل ثمة تجارب تتشكل داخل رحم القصيدة العربية الحديثة، عبرها تؤسس ملامحها المفتوحة على رحابة المقاربة، ولأنها نصوص قلقة، ف‘ن عملية فاعلية إنتاجها التوليدي والتداولي ينفتح على أكثر من سؤال ..

ومن هنا يكمن رهاننا على هذا المتن الشعري، والذي يعتبر الشاعر حسين حبش إحدى أوجهه، وإحدى أكثر مناطقه خصوبة. وحين تعبر شعرية التشظي والانكسار الى عوالم الذات وانكساراتها بل حين تنكتب هذه الذات على البياض، وتخلق قوانيم شعريتها فإن القصيدة لا تقدم تجليات استقرائية بقدر ما تمارس أفقا زئبقيا لا يرسو على أنموذج معين، بقدر ما يروم تجاوز بنياته بقوة إنتاجه التوليدي .

وما التفاعل الداخلي المسكون بهذه الرؤية إلا تأكيد فعلي على قوة الاختيارات الشعرية التي يسعى النص الشعري دائما لدى الشاعر حسين حبش الى بلورتها، إذ أن التراجع الشعري في هذا الديوان الثاني كان فعلا استقرائيا، وعن وعي، الرغبة عبره الوصول لشعرنة تفاصيل هذه الذات، ومن هنا لا نميز هذه التجربة عن أخرى بفعل شيوع هذا الاختيار عند العديد من الاختبارات الشعرية هنا وهناك .

لكن فاعلية ممارسته النصية تقد خلاصات أخرى غير التي تبدو في الظاهر، إذ أن فعل "العودة" في "هاربون عبر نهر إفروس" يمثل اختيارا شعريا أكثر منه اختيار تيماتي عابر. وعندما تحدثنا عن خصوصية هذه التجربة، فلأنها تمثلت كرؤية كلية ولعل أية مقاربة حين تنطلق من ديوان الشاعر الأول "غرق في الورد" وتنتهي لديوانه الثاني موضوع مقاربتنا تسترشد لمعالم هذه الرؤية والتي هي إعادة ابستيمولوجية للحظة الصدام مع اللغة .

ألا يرتقي الشاعر كما يؤكد الكاتب عبدالعزيز بومسهولي بإبداعه لمعرفة إبداعية تفكك الأشياء تم تعيد تشكيلها وإعادة التشكيل هنا هي إشارة لممارسة إبداعية نصية، أعادت خلالها نصوص ديوان "هاربون عبر نهر إفروس" تشكيل جراحات الذات وتشظيها من خلال شعرية تنفتح كليا على أفق المقاربة والتأويل.