يعد محمد عبد الملك، من أبرز القصاصين البحرينيين الذين أثروا القصة البحرينية منذ السبعينات، وقد حظي بدراسات عدة أهمها دراسة أنيسة السعدون، التي وجهت عنايتها لبيان صلة الرواي في الخطاب والحكاية، من خلال مجموعة من قصص عبد الملك، فتبين لها أن للراوي في قصصه حضورًا بارزًا، فهو حدد خطية الزمن وانحرافه، وضبط إيقاعه، وكشف أفكار شخصياته وأخفاها، ومكنها من النظر والقول أو أعفاها، وتحكم بشكل لافت فيما يقدمه من منظومات سردية، فقبض على طرق تقديم شخصياته، وكيفية تأويل مصيرها، فملك زمام إصدار الأحكام برؤيته التي اصطبغت برؤى إيديولوجية ساءلت المعتقدات، والمتصورات، والأحوال التي تعيشها شخصياته القصصية، مما جعل قصصه نابضة بتمثلات عديدة لهذا الراوي، حضر معها كاتب واقعي
اتسم الرواي في قصص عبد الملك بسمات خاصة، فعلى صعيد الترتيب الزمني كان للراوي حضور تحكم في انتظام الحكاية وأحداثها، إذ رتبها حسب تقويمه، مما جعل قصصه باثة لعدد من الاسترجاعات والاستباقات، التي أسهمت بتأدية وظائف متباينة منها معاضدة الحكاية الأولية، وإتمام ما نقص منها، وتجلية العالم الحكائي للمروي له، وتوضيح ما يربط بين مقوماته من علاقات وصلات، وخلق الإثارة والتشويق، ومنها وظائف غير سردية تظهر في اتجاه الرواي إلى توجيه المروي من الأحداث نحو غايات مخصوصة، إذ عدل الراوي عن تعاقب الحكاية وخطها الزماني، في سبيل إبداء الآراء والأحكام في صورة مفارقة للمتوقع.
ففي الاسترجاعات الخارجية: يحكي الرواي أحداثًا ماضية خارجة عن زمن الحكاية الأولية. من ذلك استرجاع (عيد) تجربته المريرة التي امتدت إلى مدى بعيد عن الحكاية الأولية: " ثلاثون عامًا امتصت كل رحيق حياتك...قضيتها في الحر...في الشمس...في العرق...وجهًا لوجه أمام أفران ملتهبة في عز الصيف...ومع أشد الأعمال قسوة في قسم الصيانة...ثلاثون عامًا ستنتهي بهدوء لا يعكس ظلالها".
وفي الاسترجاعات الداخلية: يستحضر الرواي الأحداث الماضية التي يتصل زمانها بزمن الحكاية الأولية.مما يعني أن هذه الاسترجاعات تتم داخل زمن الحكاية الأولية وتقع في محيطها.
مثل ما ظهر في قصة (منتصف الليل)، إذ لجأ الراوي إلى البدء بذكر النتيجة، وقد نهضت من خلال الحكاية الأولية عندما أمر الضابط البريطاني المأمور والحراس بتعذيب ناصر: "أصدر الضابط أمره الغريب...أشار إلى المأمور والحرس وقال: _أدّبوه! كانوا يحفظون الكلمة عن ظهر قلب، وهي مرتبطة لديهم ارتباطًا شرطيًّا مع العصي فارتفعت آهات ناصر محبوب في الحال تحت وابل العصي الغليظة".
وفي الاستباقات: يمكن معاينة المفارقة الزمنية "عندما يعلن مسبقًا عمّا سيحدث"، وقد كان حضور الاستباقات في قصص عبد الملك مقارنة بتقنية الاسترجاع قليلًا، ولعل مرد هذا إلى أن قصصه واقعية.لذلك كان احتفاء الرواي بالمستقبل غير جلي. ويمكن الحديث عن نوعين من الاستباقات في قصص عبد الملك، أولها "الاستباق كتمهيد" يندرج تحته الأحداث التي تأتي كتمهيد أو توطئة لأحداث يحتمل وقوعها مستقبلًا، من ذلك المصير الذي انتهى إليه الباش (رضوان)، والذي جاء به الراوي في نهاية قصة (الشيخ الذي يضحك) وفيه: "ضحك الحاج كالعادة في المزرعة وقال بهزء...الله بالخير...!...غضب الباش...حاول صفعه فبادره الحاج بضربة قاتلة بالمنجل...وسقط الباش".
والآخر "الاستباق كإعلان" وهو "يخبر صراحة عن سلسلة الأحداث التي سيشهدها السرد في وقت لاحق" وهو على عكس الاستباق التمهيدي موسوم باليقينية؛ "إذ يعلن الراوي الحدث النهائي بعد إتمامه وانتهائه،ويضع القارىء وجهًا لوجه معه؛ ليبدأ التساؤل" لماذا حدث وكيف حدث؟. من مثل ما نقف عليه في قصة (الظلام)، حيث تتردد طَرقات على الباب معلنة عن ولوج شخصية جديدة سوف تلتحق بالحكاية دون الإعلان عن هويتها؛ لأنها ما تزال خلف الباب: "وكان الطرق يزداد حدّة...والباب يهتز بقوة وعنف! مَنْ؟...دخل صوت الطرق إلى جوفه...تخلله من فمه وأذنه ومسامه الصغيرة...خاف!...ارتعش...اهتزت ركبتاه...وَهَنَ ماذا يفعل؟...من بالباب؟ والطرق أيضًا مستمر! ليكن ما يكون...لا! لينتظر الظلام! صديقُهُ الظلام!...فتح الباب فرأى الطارق في دهشة...مَنْ؟دهشته هو...ودهشة الطارق...صديق؟! ذهبت الأوهام الطارئة! لا خطر مداهم!".
أما في مجال سرعة السرد فإيقاع الزمن في القصص كان يتراوح بين البطء والسرعة؛ ومرد ذلك إلى ما أدرجه الرواي في النص من أشكال سردية أدت إلى تغيير وتيرة سرعته، فقد يتجه أحيانًا إلى تسريع الزمن من خلال تلخيص بعض الوقائع والأحداث تلخيصًا محددًا من مثل ما جاء في قصة (في القرن العشرين) حين يلقي الراوي الضوء، على خبرة (عثمان) في العمل عندما سأله الموظف عنها: "عملت في الجبل ثلاثين عامًا. ومن بعدها تنقلت في مهن يدوية مختلفة سنتين في النجارة، سنتين في البناء". أو تلخيصًا غير محدد يورده الراوي ملخصًا وضعه دون أن يحدد المدى الزمني للخلاصة بشكل واضح:" أكثر من سنتين أنت مهمل، عملًا لم يعطوك، واهتمامًا لم يعطوك، وتأتي وتروح، تشرب شايًا، تدخن، صدقة من وجه قديم يعبر المقهى، وإلا فالتحديق وصلاة التحديق، صاحبك الأزلي حتى يوم الدين".
أو حذفها حذفًا محددًا يعمد فيه الراوي إلى تعيين المدة المحذوفة من زمن الحكاية بصورة واضحة كما قال:" انقطع محمد عن المدينة سبع سنين وحين عاد إليها لم يعرفها".أو حذفًا غير محدد لايعلن الرواي فيه عن المدة الزمنية المحذوفة من الحكاية بشكل دقيق، بل يسعى إلى الاستعاضة عن الإشارة الزمنية الصريحة بعبارات تقريبية تنزع إلى التلميح، مثل ما جاء في قصة (ذلك الشتاء)، وفيها يروي الراوي علاقته بخالته التي وافتها المنية بالمستشفى:" بعد أيام أحضروا جنازتها، ألقوها في الحوش الذي كانت تلهو فيه عند صباها، هناك امتدّ جسدها هامدًا كالعمود، ورقدت هانئة كما لم أرها في المستشفى".
وأحيانًا يميل إلى إبطائه بالحوار، وهو ما يبينه المشهد الحواري الآتي:
-" هل كنت تقرأ...؟
- وما شأنك.
- زمن...!
- والنتيجة...؟
- كان بينهم طفل في العاشرة.
- زمن...!
- سيهدأ القدر بعد الغليان.
- أنت أناني".
وقد تمكن الراوي من خلق أوضاع ملائمة، على مستويي الخطاب والحكاية، يتأدى فيها الحوار بصورة يتسنى من خلالها استثمار ما يوفره من طاقة درامية تجسد تلقائيته، ودوره في بناء الأحداث.
أما المكون الثاني الذي أسهم في إبطاء سرعة النص فهو "الوصف"، ذلك ان الوضعية التي يكون عليها القائم بفعل الوصف تؤثر في تحديد درجة مقروئية الموصوف. من مثل ما جاء في (موت صاحب العربة) من وصف: "كانت ظهيرة صيف حارة بينما كانت العربة تستقبل زوارًا كثيرين، جاءوا حبًا في استطلاع أمر صاحبها، ولما دخلوا حوش بيته توقفت عيونهم مكان الجثة. بعضهم حاول تفادي الرائحة بوضع يده فوق أنفه، والبعض الآخر أخذ يطرد الذباب بحركات من يده. كانت بعض الديدان الكبيرة تزحف فوق صدره، وبعض القيء يخفي ملامح وجهه، وقد ظهرت عظام فخذه. كان الذباب يحوم حول الجثة يشارك الدود عبثه".
ولا ينفك الوصف عن السرد، إذ استطاع الراوي خلق علاقة سليمة بينهما، نجم عنها توافق بين زمني الحكاية والخطاب لارتباط هذا النوع من الوصف بالنشاط الإدراكي للشخصية الواصفة.
واستعمال الراوي لهذه الأشكال لا يُعزى إلى رغبة في التماس آلية تعمل على تغيير زمن السرد بين السرعة والبطء فحسب، بل إلى عامل الذاتية الذي يعود إلى الرواي وشخصيته، وهو ما يوجب استدعاء القارىء؛ لتقليب النظر بالمقارنة والأحكام في الأحداث الملخصة، أو المحذوفة، أو التي جرت من خلال الحوار، أو مما جاء عليه الوصف من صور، هذا علاوة على تزويده بمقروئية مخصوصة، توجه القارىء إلى التماس وظائف إيديولوجية لتلك الصور، فضلًا عن وظائفها السردية؛ فالراوي كان حريصًا على لفت انتباه القارىء إلى هذه الوظيفة الإيديولوجية، فإيقاع السرد عند يرتكز، بشكل واضح، على إيقاعات إيديولوجية، حتمت عليه تسيير الأشكال السردية، بما فيها من إيقاع يؤثر على سرعة النص؛ لخدمة آراء وقضايا لها طابعها التقييمي. ولعل مرد ذلك إلى ما بين الرواي والكاتب من علاقات ووشائج وثيقة.
ومن تجليات هذه العلاقات "أنماط التبئير"، فقد كان التبئير في قصص عبد الملك يصور علاقتين، تتمثل الأولى في علاقة الرواي بالشخصية، وهي علاقة انطوت على الكثير من الأبعاد الذاتية التي دفعت الراوي تارة إلى الغوص في أعماق الشخصية، واختراق عالمها الحكائي لكشف ما به من تناقضات واضطرابات، وأحداث، ووقائع غدت غالبًا رهن تأولاته، وتقويماته، وتارة إلى التظاهر بالحياد إزاء تلك الشخصيات؛ إذ يوهم بنقل ما هو ظاهر ومكشوف، وتارة إلى الالتباس برؤية الشخصية؛ ليصوغ إدراكاتها الذاتية، وما يفيض في ذاتها من مشاعر وأحاسيس بلسانه من مثل المقطع الذي جاء في قصة (قوس قزح): "فوق الجدران علقت صور زيتية وزعت بإتقان، وقد تقدمتها تحف فرعونية وإغريقية قديمة. في الصدارة تألقت تلك الصورة التي أحضرها من بيته القديم. الصورة بدت كشيء معتم...كأفكاره، كجذوة نفسه الجرداء فقدت ألوانها القديمة. وفي الصورة غلمان حفاة يلعبون. طفولتي!! الصوت كان يأتي من أعماقه ويتوزع في جوّ الغرفة الدافئة بهدوء". وهو في التباسه بها إمّا أن يكشف عن تآلفه وتجاوره مع نظرتها، أو تغايره عنها، وتنازعه معها؛ وبذلك تجلت علاقة أخرى، وهي علاقة الراوي بالكاتب؛ إذ كان الراوي، مهما تظاهر بالحياد والموضوعية، يخفي نزعة تقييمية لها أبعاد إيديولوجية، وغالبًا ما تُعنى بالكشف عن شخصيات مأزومة، وقلقة، وعاجزة، كثيرًا ما تنكفىء على ذاتها؛ فيتضخم خطابها الداخلي؛ ليكون إما سبيلًا إلى تغيير واقع مرير، أو سبيلًا إلى الانعزال وفقدان الهوية. مثل ما نقف عليه في المقطع الآتي: "كل الذين التفوا حول الراقصين الثلاثة، وصنعوا الدائرة البشرية المأساوية الآسنة كالماء الأخضر، كل الوجوه المتربة، المعذبة، الذاوية، كعقول الرجال العصريين الذين يربطون في رقابهم أقمشة من الحرير، ويعلّقون في رقاب الآخرين القيد. كل الرجال الذين يلفون رؤوسهم بخرق قديمة بيضاء، وكل الوجوه صعدها شاربان. ومعظمهم لم يحلقوا ذقونهم بمهارة. وجميعهم يعملون، بلا استثناء، في مهن بسيطة، شغليّة، عاميون لم يتلقوا من العلم إلا النزر اليسير، وربما حفظوا آيات قرآنية ليصلوا معها بعد الوضوء خمس مرات في اليوم، وسيصومون رمضان حتمًا وهم يعملون. إنهم قوم بسطاء ينتمون إلى فصيلة الرعاع في العالم. ودومًا تنتهك أجسادهم ثمان ساعات أو عشر لدى مقاول عصري، أو رجل أعمال نظيف...ورغم ذلك فإنهم يرقصون ولكن! بعنف حتى لكأنهم يعبرون عن رغبة كاسحة لتحطيم كل ما حولهم وما في العالم كله!".
وقد انسحب ذلك، أيضًا، على طرائق الراوي في تقديم أقوال الشخصيات؛ إذ تبين أن العلاقة الذاتية، وقد تمحضت في علاقة أقوال الرواي بأقوال الشخصيات، تنطوي على بعدٍ مزدوج؛ فالراوي، أحيانًا، قد قيّد أقوال الشخصيات، وأخضعها لصياغته، وتأولاته ومقاصده، وأحيانًا أخرى أفسح لها المجال كي تنطق، وتعبر عن أفكارها بذاتها. من مثل ما نقف عليه في المقطع الآتي، الذي يصطخب بذكريات "شيرخان"، وقد ابتعد عن بلدته، في سبيل البحث عن اللقمة: "هذه الموسيقى التي افتقدها عندما قرر عبور تلك المسافات الطويلة قادمًا إلى نقطة مجهولة في العالم، مليئة بالصخب والأضواء.لِمَ هو زحف زحفه البطيء ليالٍ طويلة من الوطن؟ لم ترك بحزن جنته الغير موهومة؟ لِمَ يصفعه هذا الشارع، وهذا المقهى بهزء فوق وجهه صفعات باردة يعقبها ركل في الأحشاء والبطن. الجوع! لِمَ فعل كل هذا؟ بحثًا عن الرزق، وزاوية منسيّة، ولقمة، وحلم آخر راود عقله ذات ليلة".
وقد ترتبت على تلك العلاقة علاقة أخرى جسد طرفيها كلٌّ من الراوي والكاتب، إذ إن من أهم ما توصلت إليه أنيسة السعدون أن تحرر صوت الشخصية من صوت الرواي، ليس أكثر من خداع يوهمنا به الرواي؛ فهو، وإن فصل بين كلامه وكلامها بواسطة قرائن نصية، وأخرى ذاتية، له سلطان وسطوة برزت في كيفيات التقديم والتأويل؛ مما يشي بتورط مؤلف واقعي، يضبط لمفوّضه الخيالي سياقات مخصوصة للأقوال، تقتضيها غايته الإيديولوجية، وخططه في الكتابة.
لقد كان حضور الكاتب في نصوص محمد عبد الملك القصصية كثيفًا؛ لا سيّما أنها وظفت للكشف عمّا في الواقع من ألوان القهر والتسلط إزاء شخصيات قصصية، جلُّها يعيش على هامش المجتمع.
للاستزادة يمكن مراجعة: الراوي بين الحكاية والخطاب في قصص محمد عبد الملك، أنيسة السعدون، المؤسسة العربية للدراسات، بيروت، ط1، 2010