لم يعد الحديث عن شهر رمضان، وما فيه من تجليات روحية مطلبا جماهيريا، فقد تراجعت كل تلك المعاني الصافية الشفافة التي كانت تظلل مجيء الشهر الفضيل، وما كانت تمنحه للنفس الإنسانية من غذاء روحي متميز، وحلت محلها تجليات نزعة استهلاكية شرسة وطاغية، تربط الإنسان بكل قيد متاح بقيود شهواته ومتطلبات معدته وإفرازاتها، وأمعائه وتقلبات عصارتها، لتفوز بما لذ وطاب، ولتمتلئ الحاويات بما زاد، ولتعيش القطط والكلاب موسما تسمينيا لم تكن تحلم به، ولا حتى أن يمر بخاطرها.
إنها صورة مرعبة جدا لرمضان حقاً، ولم يرد الإسلام لهذا الشهر أن يكون بمثل هذا التردي والانحطاط نحو الشهوات، لولا غياب البوصلة والفكرة والمفهوم، لقد أضحى رمضان موسما للتحرش بالأسواق وبضاعاتها، وعاملا محفزا للتجار على إغراق محلاتهم بتنوعاتها، فترتفع أسعار، ويغلى الثمن، ويزداد الطلب والإقبال على أصنافها التي يعجز الذهن البشري عن حصر أسمائها، وتشقى البطون باجتماع غازاتها وأليافها، فيفجؤك الشهر الكريم أنك قد أنفقت فيه ما يعادل نفقة ثلاثة أشهر على أقل تقدير، إنه موسم الضائقة المالية، لتغيب الفلسفة الحقيقية للصيام، ولم يعد هذا الشهر بثلاثين يومه مدرسة للصبر والإخلاص، كما ادّعى يوما الكاتب الكبير مصطفى صادق الرافعي.
فهل من سر يا ترى وراء ذلك؟ أم أننا شعوب عرفت طريقا غير الطريق، وسلكت سبيلا غير السبيل؟؟
سؤال يجعلني أرجع في ذاكرة الثقافة الإنسانية قليلا لأفتش في طيات التاريخ عن جواب!! فأرى أن ما سطرته أقلام المؤرخين قديما، ومن ثقافات عدة، حضور الصيام في فلسفتها العقائدية والحياتية، حتى ارتقت هذه الفلسفة إلى أسلوب مقاومة، وحضور إنساني وجودي عال عندما يعلن السجناء السياسيون الإضراب عن الطعام، إنه شكل من أشكال الصيام، يبعث برسالة ذات مغزى كبير جدا إلى الطرف الآخر، أقل مضامينها تأكيد القدرة على الصمود والتحدي وغلبة شهوة النفس في سبيل ما هو أسمى من لقمة عيش تذهب إلى حيث سيذهب هؤلاء الجبابرة الطغاة!! فإياكم أن تتحدوا أو تتجبروا أو تظلموا.
ولذا تجد أن هذا الأسلوب من المقاومة الإنسانية كثيرا ما أحدث ضجة كبرى لدى هؤلاء القساة، فمورس على من تشبث به أصناف متعددة من الضغوط لفك ذلك الصيام/ الإضراب.
وقد أشارت المأثورات الثقافية والمدونات التاريخية القديمة أن الصيام مكتوب على عدة شعوب من ديانات مختلفة، ألم يقل القرآن الكريم "كما كتب على الذين من قبلكم"/ البقرة (183)، إنه نهج إنساني بامتياز لتحقيق هدف إنساني عام، إنه التربية الخلقية والتهذيب والسيطرة على الذات؛ فقد وجد الصوم عند النصارى واليهود وعند كل أتباع الديانات السابقة، ومارسه الأنبياء جميعا، ألم يرد عن رسولنا الكريم قوله: "خير الصيام صيام داود"، ولعل آدم عليه الصلاة والسلام عندما حُرِّم عليه الأكل من الشجرة كان شكلا من أشكال الصوم!! ولذا فقد جاءت وسوسات إبليس لتزحزحه عن تلك الفلسفة العقائدية المقصودة، فيجره نحو مهاوي الشهوة الذاتية، فيأكل من الشجرة فيشقى.
وبناء على كل ما سبق، فإنه لم تكد ثقافة من الثقافات قديما وحديثا تخلو من فلسفة ما للصيام، فتلكم الشعوب بتنوعات ثقافاتها تمارس الصيام بشكل ما، وبتجليات روحية خاصة نابعة من عقائدها وأفكارها، وقد أبدو مقتنعا أن الصوم سنة إنسانية متأصلة في النفس ، تحتاجها البشرية ؛ لتصل إلى الصفاء والتقاء والروحانية الدافعة إلى الأمام ومواصلة المسير نحو الحياة بكل ثقة واقتدار.
والآن أعزائي القراء، لماذا ترسخ في أذهاننا صورة لرمضان غير صورته الإنسانية والروحية؟
لقد أسلفت القول: إن كل الثقافات والديانات على اختلاف تنوعاتها العقائدية والفلسفية تجعل للصوم مكانا مميزا في معمارها الحضاري، ولكننا لا نرى بهرجة إعلامية لصوم الآخرين، فمثلا، وكما هو معروف، أن النصارى، وهم أكثر من المسلمين عددا في العالم، وصيامهم أكثر عدد أيام، ولكنه يمرّ في الإعلام وفي الحياة وكأن شيئا لم يكن، ولا تكاد تحس به، فهل يرجع ذلك إلى أن المسلمين أكثرا خطرا على العالم أم أنهم أكبر وزنا؟؟
ومع كل طرح لهذه الأسئلة وغيرها، لا أدعي بأي حال من الأحوال أننا وقعنا تحت طائلة نظرية المؤامرة، أن المشكلة في المسلمين أولا، الذين أفقدوا الصيام وفلسفته معانيها الحقيقية؛ ليقدموا صورة مشوهة عن رمضان، تتمثل في مأكولات ومشروبات لا حصر لها وبكل فن ومن كل مطبخ محلي وعالمي، حتى غدت برامج الطبخ في كل فضائية وإذاعة وجريدة ومجلة أهم من نشرات الأخبار وأولى في المتابعة من الأحوال الاجتماعية والسياسية التي غدت تغلي مبشرة بخير، أو البرامج الثقافية التي غدت شبه معدومة في هذا الشهر، وفي أحسن حال لا يلتفت إليها إن وجدت، ناهيك عن المسلسلات التي يمسك بعضها برقاب بعض، فتتوالى أحداث وتتشابك شخصيات، وتتصارع في أذهاننا، فنلهو ونضيع، ونسهر حتى آذان غير مسموع، فننام ملء الجفون، وقد امتلأت البطون، وإذا ما صحونا فلا نسأل إلا عن فطور اليوم وعن سحور الغد، وعن موعد الحلقات والمسلسلات، وهكذا يمضي الشهر الكريم، الذي يندب حظه بكرة وأصيلا، فصار لرمضان غمتان؛ غمة ما بعد الإفطار، وغمة في النهار.
فمتى يصحو الناس من غفلتهم؟ ويحققون للصوم معناه وفلسفته، ليتخلص المسلمون مما ران على صفحات الفلسفة الروحانية المهذبة للنفس البشرية من أوحال الأفعال المشينة، وبتر كل العوامل التي تزيد من الخواء والعدمية، ليعود لرمضان روحه الذي فقدها، ويغدو أهم عامل يقوي العزيمة ويشحذ الهمة، فتدب الحركة في أوصالنا، ونقول: إننا في شهر البركة والعطاء والخير، عندها يُطلب التغيير، أما قبل ذلك فالمطلب عسير ومستحيل.