تشكل هذه الدراسة الفصل الأول من كتاب كمال الرياحي المرتقب (خصائص الكتابة الروائية عند واسيني الأعرج) وتكشف عن تناول الباحث لإبداع واسيني بمنهجية نقدية جديدة ورؤية تتسم بالتفرد والخصوصية.

عتبات النص الروائي

حارسة الظلال نموذجا

كمال الرياحي

يتنزّل مشروع البحث في عتبات النص الروائي ضمن ما سمّاه جرار جينيت بالمصاحبات النصيّة (Les paratextes) في مؤلفه "طروس" (Palimpsestes)(1) والتي خصّها بكتاب مفرد، بعد ذلك، وسمه بعتبات (Seuils)(2). وتتمثّل العتبات عنده في "العناوين (Les titres) والإهداءات (Les dédicaces) والتصديرات (Les épigraphes) والمقدّمات (Les préfaces) وعناوين الفصول (Les intertitres) والحوارات (Les interviews)…والحق أنّ جرار جينيت كان رائدا في الالتفات إلى هذه النصوص والنظر فيها بوصفها أحد المشكّلات الأساسيّة للعمل الأدبي، ورأى أنّ الوقوف عندها بالمساءلة والتحليل من شأنه أن ينبّه القارئ إلى مسالك ممكنة لدخول النص ويعطي المتلقّي إمكانات مختلفة للقراءة وقد يضيء ما تعتّم منها. غير أنّ النظر في عتبات النصّ لا يُغني الباحث أو القارئ عن النظر في النصّ ذاته، بل إنّ النظر في العتبات لا يكتسب مشروعيّته إلاّ من الوقوف عند النصّ نفسه باعتباره غاية البحث الأساسيّة. ومن ثمّ فإنّ " دور هذه العتبات لا يمكن أن يكون بديلا تاما عن دور اللقاء الفعلي بين القراءة والنصوص نفسها "(3).

يشي مصطلح عتبات بطبيعة هذه المصاحبات النصيّة وطرق التعامل معها، فهي على أهميتها لا تمثّل سوى مداخل، على القارئ أو الباحث أن يعبر من خلالها إلى فضاءات الإقامة التي تمثّلها النصوص. ومن ثمّ فإنّنا سنجعل من النظر في العتبات مداخل نحاول من خلالها تحسّس هذا النصّ الرّوائي والكشف عن طرق اشتغاله وعن علاقات التفاعل التي تربطه بهذه المصاحبات النصيّة إيمانا منّا بانّ عتبات النص يمكنها أن تبرز " جانبا أساسيا من العناصر المؤطرة لبناء الحكاية ولبعض طرائق تنظيمها وتحققها التخييلي (4). غير أنّنا لن نأتي على كل مصنّفة جرار جينيت، بل انتقينا منها ما رأيناه أكثر إفادة لبحثنا في هذا المستوى وهو: العنوان والإهداء والشاهد (التصدير) وفواتح الفصول.

I- العنوان الرّوائي:
لم تحظ عناوين النصوص الأدبيّة بعناية جلّ النقّاد العرب رغم أنّها شدّت انتباه الدّارسين الغربيّين وولّدت "علم العنونة" (Titrologie) (5) الذي كشف عن قيمة ذلك النصّ المصاحب. فقد يكون العنوان عاملا من عوامل نجاح العمل الأدبي وانتشاره جماهيريّا وقد يكون سببا في فشله. فمن الكتب ما كانت عناوينها سببا في انتباه القرّاء إليها، نظرا إلى ما تميّزت به تلك العناوين من جودة في الصّياغة وطرافة في التركيب ومن الكتب من غبنتها عناوينها الغامضة أحيانا والسّاذجة أحيانا أخرى. إنّ العنوان الذي لا تولّد قراءته حالة من الحيرة والتساؤل عند المتلقّي هو عنوان فاشل في ترويج الكتاب، فعنوان الرّواية مثلا وعليه مدار بحثنا " رسالة سننيّة في حالة تسويق، تنتج عن اللقاء بين ملفوظ روائي وملفوظ إشهاري. وفيه أساسا تتقاطع الأدبيّة والاجتماعية "(6). يُحدث العنوان أوّل تواصل بين المؤلّف والقارئ، فقد يتوقّف القارئ عرضا أمام واجهة مكتبة ليقرأ العنوان وهذه الحادثة العرضيّة هي التي تحفّزه على شراء الكتاب وقراءته رغبة منه في العثور على إجابات عن الأسئلة التي أثارها العنوان. وقد يعزف هذا القارئ المفترض عن كتاب من الكتب بسبب العنوان فلا يميل إلى قراءته حتّى لو أُهدي إليه أو وجده في متناول يده. وهذا اللقاء الأوّل هو أخطر اللقاءات بين الكاتب والقارئ لأنّ عليه ستبنى بقيّة العلاقات، فهو لقاء اللقاءات وسيّدها.

ومن الكتّاب من يكابد لصياغة عنوان مناسب دون جدوى فيترك نصّه مخطوطا إلى أن يجد له عنوانا مرضيا. ومنهم من يسارع إلى وضع عنوان، أيّ عنوان، حالما ينتهي من عمله فيلتقط كلمة من النصّ أو من سياق آخر ويرفعها عنوانا لكتابه، وتنتشر الحالة الثانية خاصّة عند كتّاب القصّة القصيرة فالقاصّ في كثير من الأحيان ينتقـي عنوانا من بيـن عناوين القصص الداخلية ليكون عنوانا عامّا ويلحقها بالعبارة الشهيرة " … وقصص أخرى " والأمثلة على ذلك كثيرة. ويمكن الإشارة إلى حالة أخرى في وضع العناوين يتخلّص فيها الكاتب من حيرة التسمية فيسمّي كتابه "بلا عنوان" رغم أنّ تكرّر هذه العبارة يفقد العناوين وظيفتها الأساسيّة المتمثّلة في الوظيفة المرجعية أو التعيينيّة (7)، ذلك أنّ العنوان يحيل على نصّه مثلما يُحيل الاسم على صاحبه.

أمّا الكاتب الذي يتملّص من مسؤوليّة وضع العنوان فيلقيها على عاتق الناشر فإنّ ذلك لا يعفيه من المسؤوليّة الأدبيّة إذ بمجرّد ظهور الكتاب في السّوق يصبح الكاتب، الذي لم يتردّد في وضع اسمه على غلافه، مسؤولا عنه مسؤوليّة كاملة (8)، فالعنوان جزء فنيّ من النص الرّوائي وليس علامة زائدة. ولم يقدم كاتب إلى اليوم ـ حسب علمنا ـ على نشر كتاب بدون عنوان، ولعلّ ما يفسّر هذا هو ذاك التشبيه الشهير للعمل الفنّي في علاقته بمنتجه بعلاقة الابن بوالده. ومن ذلك جاءَ إحجام المؤلّفين عن تفضيل كتاب ما على بقيّة كتبهم، فكلّها من "صُلبهم". غير أنّ حميد لحميداني يقف متحفظا من بعض آراء جيرار جينيت حول الشبه بين تسمية الأشخاص وتسمية الكتب إذ يرى أنّه لم ينتبه في كتابه عتبات (Seuils) إلى الفرق بينهما فتسمية الأشخاص حسب رأيه تكون: " دلالتها اعتباطيّة لأنّ محتواها ذو طبيعة توقعيّة واستباقيّة " (9)، وهي في غالب الوقت من قبل التمنّي بينما تسمية الكتب تكون فيها الدّلالة تعيينيّة. ولكن حميد لحميداني، على ما يبدو، قد فاته أن بعض العناوين قد توضع قبل تأليف الكتب التي عنونتها مثلما فعل الألوسي البغدادي حين وضع اسم كتابه "روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني" قبل تأليفه ثمّ عمل على أن يكون التأليف مناسبا للعنوان الذي حدّده سلفا (10)، ومن ثمّ فالعنوان قد يسبق تشكّل الكتاب واكتماله مثلما يسبق الاسم ولادة الطفل أو اكتمال شخصيّته.

وتختلف طبيعة تلقّي هذه العناوين بحسب اختلاف القرّاء من حيث المستوى المعرفي والتذوّق الجمالي والميول النوعيّة. وهنا تنشط الوظيفة الطلبيّة للعنوان / وظيفة الإغراء. فيجذب العنوان الرّومانسي القرّاء الرّومانسيّين ويستدعي العنوان العجائبي محبّي العجيب والخوارق والسّحر مثلما يشدّ العنوان الشعري جمهور الشعراء ومتذوّقي الشعر وكذلك الأمر مع العنوان السياسي الذي ينادي، بالدّرجة الأولى، القارئ المولع بالقضايا السياسيّة. فكيف وضع واسيني الأعرج عنوان روايته التي نحن بصددها؟ وما هي خصوصيّته ودلالته؟ وما علاقته بالمتن الحكائي؟

1- تحولات العنوان:
لم يكن العنوان : "حارسة الظلال" بادئ الأمر سوى عنوان فرعي حين كتب واسيني الأعرج نصّه السّردي، أمّا العنوان الرئيسي للرّواية فقد كان "منحدر السيدة المتوحّشة". وعندما همّ الرّوائي بنشرها في فرنسا لأوّل مرّة قدّمها بعنوان : (Le ravin de la femme sauvage)(11) ولكنّه استعاض بالعنوان الفرعي عن الرئيسيّ. ذلك العنوان الذي ظهر على غلاف الرّواية في طبعتها الفرنسيّة والعربيّة بالجزائر. ويُعلّل واسيني الأعرج ذلك التغيير بأنّ القارئ الجزائري يعلم جيّدا أنّ "منحدر السيدة المتوحّشة" مكان معلومٌ في الجزائر يحتلّ موقعا خاصّا في الذاكرة الشعبيّة. أمّا القارئ الفرنسي فلا يعلم عن ذلك المكان شيئا. لذلك رأى أنّه لن يتفاعل مع ذلك العنوان ففضّل باتّفاق مع الناشر، العنوان الرّمزي/الفرعي: "حارسة الظلال" على العنوان المرجعيّ/الرئيسي: "منحدر السيدة المتوحّشة" (12). ويتتالى طبع الرّواية بذلك العنوان الذي تربّع أيضا على كلّ أغلفة الترجمات التي عرفها النصّ. ونتيجة لنجاح ذلك العنوان في أوروبا ولحفاوة الاستقبال التي لقيها خيّر واسيني الأعرج الاحتفاظ به في الطبعة العربيّة الصادرة بدار الجمل بألمانيا سنة 1999 وبذات العنوان أعاد نشر الرواية في الفضاء الحرّ بالجزائر سنة 2001.

والحقّ أنّ إصدار كتاب واحد بعنوانين مختلفين من شأنه أن يربك عمليّة التلقّي، ويوهم القارئ بأنّه إزاء نصّين مختلفين، لأنّ العنوان فقدَ وظيفته التعيينيّة. ورغم تبريرات واسيني الأعرج وإشارته في مقدّمة الترجمة الفرنسية بالجزائر إلى ذلك التغيير في العنوان، فإنّنا نذهب إلى أنّ تغيير العنوان بعد صدور الرّواية يؤثّر في عمليّة التلقّي، لأنّ تلك التوضيحات التي وضعها واسيني الأعرج لن يدركها إلاّ القارئ الذي تورّط فعلا في عمليّة القراءة. أمّا الذي يرى الرّواية في واجهة المكتبة ويهمّ بشرائها فهو جاهل لتلك المفاجأة التي تنتظره. ولعلّ ما عمّق هذه المسألة هو أنّ الترجمة التي صدرت بالجزائر لم تثبت على غلافها العنوان الفرعي القديم "حارسة الظلال" (La gardienne des ombres) بل اكتفت بالعنوان الرئيسي (Le ravin de la femme sauvage). وتذكّرنا هذه الحادثة بما أحدثه الجزء الثاني من السيرة الذاتيّة للكاتب المغربي محمد شكري والذي أصدره بعنوانين اثنين واحد عن دار الساقي بلندن بعنوان "الشطار"، وآخر في المغرب الأقصى بعنوان "زمن الأخطاء". وتبيّن أنّ محمد برادة اقترح العنوان الثاني على محمد شكري حين همّ بنشر الكتاب في المغرب، غير أنّ الطبعة اللندنيّة التي حملت عنوان "الشطار" كانت في مرحلة السّحب (13). ونتيجة لهذا التغيير ظلّ النقّاد والباحثون المهتمّون بكتابات شكري، إلى اليوم، يتوهّمون في لحظة من لحظات عملهم أنّهم إزاء نصّين مختلفين.

وقد لاحظنا أنّ بعض الدراسات الجامعيّة التي تضمّنت قائمة بيبليوغرافية لآثار شكري قد أوردت العملين معا دون إشارة إلى تلك المسألة لأنّ أصحابها لم يطلعوا على الطبعة المغربيّة التي حملت علامة أجناسيّة مخالفة (14).

2- حارسة الظلال : دون كيشوت في الجزائر
أ- العنوان المزدوج

لا يكتفي واسيني الأعرج في أغلب نصوصه الرّوائية بعنوان مفرد، وإنّما يضع العنوان الرئيسي ويردفه بآخر فرعي على غلاف الرّواية أو على صفحة من صفحاتها الأولى. ويمكن أن نسلّط بعض الضوء على هذه الظّاهرة عنده استنادا إلى الجدول التالي :

العنوان الرئيسي

العنوان الفرعي

موقع العنوان الفرعي

مكان الصّدور

وقائع من أوجاع رجل غامر صوب البحر. البوّابة الزرقاء خارجي دمشق / الجزائر 1980
وقع الأحذية الخشنة. طوق الياسمين داخلي الفضاء الحر، الجزائر 2002.
ما تبقى من سيرة لخضر حمروش     دمشق 1982.
نوّار اللوز. تغريبة صالح بن عامر الزوفري خارجي دار الحداثة، بيروت 1983.
أحلام مريم الوديعة.     الفضاء الحرّ، الجزائر 2001.
ضمير الغائب الشاهد الأخير على اغتيال مدن البحر داخلي الفضاء الحرّ، الجزائر 2001.
الليلة السابعة بعد الألف رمل الماية خارجي دمشق / الجزائر 1993
المخطوطة الشرقيّة     دار المدى، دمشق 2002
سيّدة المقام مرثيات اليوم الحزين داخلي الفضاء الحرّ، الجزائر 2001
ذاكرة الماء محنة الجنون العاري داخلي الفضاء الحرّ، الجزائر 2001
شرفات بحر الشمال     الفضاء الحرّ، الجزائر 2001
حارسة الظلال دون كيشوت في الجزائر خارجي دار الجمل، ألمانيا 1999

يرجع واسيني الأعرج ظاهرة العناوين الفرعيّة التي تصاحبُ عناوين رواياته إلى إحساسه الدائم بقصور العنوان الرّئيسي نظرا إلى أنّه يعتصرُ مادة سرديّة قد تتجاوز مئات الصّفحات في كلمة أو كلمتين. ومن هنا يذهب إلى أنّ العناوين الفرعيّـة تمثّـل "سندا ومتّكأ للعنوان الأصلي"، " فما خفي في العنوان الرّئيسي وعجز عن التعبير عنه يعطيه العنوان الفرعي مدى أوسع في مجال الإيضاح ومجال الفهم " (15). ولم تخرج رواية "حارسة الظلال"، كما بيّن الجدول السّابق، عن هذه "السنّة" التي اختارها الأعرج في وضع عناوين نصوصه. فقد ميّز العنوان الرئيسي للرّواية "حارسة الظلال" بالخط السميك وأثبته في أعلى الغلاف ثمّ ألحق به عنوانا فرعيّا مصاحبا : "دون كيشوت في الجزائر" ثبّته أسفل الغلاف بخط رقيق.

وبما أنّ العناوين المزدوجة ظاهرة شائعة ولافتة للانتباه، فإنّ جيـرار جينـات قد اهتمّ بها وذهب إلى أنّ العنوان الذي تربط بيـن قسميـه الرّئيسي والفرعي عبارة (أو) مثل (Ariel ou la vie de Shelley) أكـثـر ترابطـا مـن عنـوان : (Madame Bovary -mœurs de province)(16). وعلى ذلك الأساس يبدو لنا أنّ العنوان الفرعي لا يعوّض العنوان الرئيسي ما دامت عبارة "أو" التي تفيد إمكانيّة التعويض غائبة. فلا يمكن التعامل مع هذا العنوان إلاّ في كليّته أي باعتباره نصّا واحدا. وقد اكتشف واسيني الأعرج خطر هذه العناوين الفرعيّة فبدأ يقلّل منها في أعماله الأخيرة (17) إذ أصدر روايته "المخطوطة الشرقيّة" بعنوان مفرد رغم أنّها الجزء الثاني من "فاجعة الليلة السابعة بعد الألف" وكذلك الأمر مع "شرفات بحر الشمال" كما قلّص عناوين بعض رواياته عندما أعاد طبعها فتخلّى مثلا عن كلمة "مصرع" في رواية "مصرع أحلام مريم الوديعة".

ب- حارسة الظلال
جاء العنوان الرئيسي "حارسة الظلال" تركيبا إضافيّا جمع بين مضاف مفرد مؤنّث ـ حارسة ـ ومضاف إليه في صيغة الجمع ـ ظلال ـ ونهض المضاف إليه بدور تعريف المضاف النكرة. ولكن أنّى لحارسة ـ أيّا كانت ـ أن تحرس الظلال وهي مجرّدة ومنفلتة من كلّ ضبط وحدّ ؟ لقد عمّق هذا التركيب الإضافي حالة التنكير التي جاءت عليها لفظة "حارسة". إنّ السؤال الذي قد يواجه القارئ سيكون، حتما، حول دلالة العنوان الحرفيّة : كيف يمكن حراسة الظلال؟ والظلّ، كما تحدّده المعاجم والقواميس " ضوء الشمس إذا استترت عنك بحاجز"، وهذا التعريف يخرج الظلّ من المحسوسات وعوالم الأشياء فلا يمكن إدراكه إلاّ بالبصر والبصر أكثر الحواس خداعا.

وبما أنّ الظلّ متحرّك لا يستقرّ على حال، وقد يختفي فجأة بمجرّد مرور سحابة أمام الشمس، فإنّ حراسته تصبح مسألة معقّدة ولعبة عبثيّة لأنّ الحراسة لا تكون إلاّ للملموسات وللأشياء العينيّة، أما الظلال فتدخلُ في سجلّ الخدع والأوهام لأنّه ليس هناك شيء محسوس بعينه اسمه الظلّ بل هو مجرّد نتيجة لانعكاس نور الشمس على الشيء. إنّ قراءة العنوان في ضوء المتن الرّوائي تكشف للقارئ أنّ "حارسة الظلال" ليست سوى خرافة جزائريّة قديمة ترسّخت في الذاكرة الشعبيّة، وتقودنا هذه القراءة إلى إعادة النظر في هذه الخرافة والبحث عن أشكال توظيفها في الرّواية، وهنا تنشط الوظيفة التوجيهيّة للعنوان حسب رأي كلود دوشي (Claude Duchet). فالعنوان يوجّه عمليّة التلقّي (18) ويرشد القارئ إلى المسالك الآمنة لولوج النصّ الرّوائي. والمتأمّل في العنوان الفرعي يلاحظ أنّه أقلّ غموضا من العنوان الرئيسي، فاسم "دون كيشوت" يحيلنا على أحد أعمال الروائي الإسباني ميقال دي سرفانتيس التي حملت ذات الاسم، بينما تحدّد لنا كلمة الجزائر موطن الأحداث. وقراءة العنوان الفرعي كاملا "دون كيشوت في الجزائر" تشي بجنس أدبي خاصّ قد يتحرّك فيه النص هو جنس "الرحلة". فحرف الجرّ "في" المحدّد للظرف المكاني يلمح إلى رحلة قادت دون كيشوت إلى الجزائر، ومن هنا يعلن العنوان عن تعلّق الأحداث بذلك المكان بالذّات.

والحقّ أنّ إعادة قراءة العنوان الفرعي في ضوء ما يشي به من تعالق نصّي مع دون كيشوت سرفانتيس تجعل القارئ يكتشف جملة من الدّلالات الأخرى، فدون كيشوت دي لامنشيا بطل رواية سرفانتيس: شخصيّة حالمة مسكونة بقيم الفروسيّة والنبل خرجت يوما عازمة على تغيير قيم العالم الجديد، ومحاولة استعادة قيم الفروسيّة الضائعة، فكابدت جملة من المتاعب ثمّ رجعت مهزومة بعد أن اكتشفت استحالة تغيير عالم قد انحطّ واستعادة قيم ضاعت بلا رجعة. وذكر شخصيّة "دون كيشوت" في العنوان الفرعي يجعل القارئ يتساءل هل أنّ رواية واسيني الأعرج تذييل ومواصلة لرواية سرفانتيس أم هي معارضة لها؟ وبمزيد التثبّت في العنوان يمكننا التقاط أحد معانيه الأخرى المتمثّلة في دلالة المكان. فدون كيشوت سرفانتيس خاض معاركه المؤلمة في أنحاء كثيرة من العالم بعد خروجه من قريته غير أنّ وجوده في الجزائر في ذلك الوقت العصيب الذي يمكن التقاطه من مصاحب نصّي آخر متمثّل في تاريخ إنهاء كتابة الرّواية 1996 والذي يؤكّده المتن الرّوائي، يُنبئ بأحداث "دامية" ومعارك خاسرة سيخوضها هذا "النبيل" الجديد.

II- الإهـداء
يعتبر الإهداء واحد من أهمّ المصاحبات النصيّة التي يمكن التعامل معها بصفتها عتبات للنصّ الإبداعي. فالإهداء " تقليد ثقافيّ عريق لأهميّة وظائفـه وتعالقاتـه النصيّة " (19). وقد أفرد له جيرار جينيت فصلا كاملا في مؤلفه عتبات (Seuils) وميّز بين نمطين من الإهداء :
* إهداء الأثر La dédicace d'œuvre.
* إهداء النسخة(20) La dédicace d'exemplaire.

1- إهداء الأثر
عرف الأثر الأدبي على امتداد تاريخه ضروبا مختلفة من الإهداء تنوّعت بتنوّع المُهدَى إليه، ويمكننا رصد هذا التنوّع بشكل أوضح في الرّسم التالي :






الكاتب الأثر المهدى إليه

مهدى إليه خاصّ (قريب، صديق…).

Dédicataire privé مهدي إليه عام (سياسي، مثقف، فنان…) Dédicataire public ذاتي (الكاتب) Auto-dédicace القارئ مكان إهداء رمزي

حولنا في مدوّنتنا الرّوائية العربيّة والتونسيّة خاصة أمثلة دالّة على وجود هذه الأنواع من الإهداء، ففي خانة الإهداء الإيحائي الرّامز يمكن أن ندرج إهداء الرّوائي فرج لحوار روايته "الموت والبحر والجرذ" الذي قال فيه " إلى العفن الذي زرعني قلما بذيء الحرف كافر الإيقاع… " (21) ومن قائمة إهداءات الكتّاب للمكان نذكر إهداء الرّوائي إبراهيم درغوثي روايته "أسرار صاحب الستر" إلى دمشق (22)، ويمكننا أن نمثل للنصوص التي أهداها أصحابها إلى شخصيّات متخيّلة برواية "النخّاس" لصلاح الدين بوجاه الذي أهدى نصّه إلى تاج الدين فرحات بطل الرّواية (23) وذات الأمر نجده في رواية "طرشقانه" التي أهدتها صاحبتها مسعوده أبو بكر إلى مراد الشواشي بطل الرّواية (24) وراوية "دروب الفرار" التي أهدتها صاحبتها بنت البحر (حفيظة قارة بيبان) (25) إلى "شرود" بطلة الرّواية. أمّا الإهداء الذاتي (auto dédicace) فهو أقلّ الإهداءات ظهورا في تاريخ الكتاب عامّة ولم نجد له تمثيلا في الرّواية العربيّة إلاّ في رواية فرج لحوار "المؤامرة" التي ورد في إهدائها قول المؤلّف " إلى نفسي التي تتوق إلى الصّمود وقد تعذر التوق، شحّ الحلم وتصدّعت كل الجنان، إلى نفسي التي تشتهي رغم العراء وتجبر الصّحراء أن تشيّد له للإيمان وكرا هو المنفى " (26).

ويذكرنا هـذا الإهـداء بإهـداء جويـس (Joyce) روايته "مسيـرة لامعـة" (Une brillante carrière) إلى ذاته بقوله : "إلى روحي الخالصة أهـدي العمـل الأوّل فـي حياتي " (27). وخلافا لهذا النمط من الإهداءات تكثرُ النّصوص المهداة إلى المهدى إليه الخاص والمهدى إليه العام ولا يفوتنا التذكير بأنّ الكتب القيّمة عبر التاريخ كانت تهدى إلى الملوك والسلاطين وفي بعض الوقت كانت تكتبُ بطلب منهم. ولم تكن هذه الظاهرة ظاهرة عربيّة بل عرفها الكتّاب في كلّ أنحاء المعمورة ولنا في إهداء الإسباني ميقال دي سرفانتتيس رائعته "دون كيشوت" إلى الكونت دي ليموس، دون بيدرو فرناندث دي كسترو ونائب الملك في نابلي (1613)(28) دليل على عالمية هذه الظاهرة. غير أنّ الكتّاب المعاصرين بدأوا يستعيضون عن الإهداءات الموجّهة إلى رجال السلطة السّياسية بإهداء نصوصهم إلى الرّموز الثقافيّة والسياسية المناضلة أو إلى الفنّانين الذين تركوا بصماتهم على ذاكرة الشعوب أو إلى الشهداء الذين أهدوا أرواحهم إلى تلك الأوطان، من ذلك إهداء المسعدي كتاب "السدّ" إلى الشهيد فرحات حشّاد، وإهداء أحلام مستغانمي روايتها "فوضى الحواس" إلى الشهيد الرّئيس محمد بوضياف، وروايتها "ذاكرة الجسد" إلى مالك حدّاد، وإهداء محمد برادة روايته "الضوء الهارب" إلى صنع الله إبراهيم.

أمّا الإهداء الخاصّ، فقد ظلّ أكثر الإهداءات مصاحبة للآثار الأدبيّة وحتى العلميّة. لخصوصيّته الذاتيّة وحميميّته، فتكثر الإهداءات إلى الوالدين وإلى الزوجة والأبناء وإلى الأصدقاء… إمّا اعترافا بالجميل أو تعبيرا عن محبّة ومودّة. ويمكن ضمّ إهداءات واسيني الأعرج إلى هذا النمط نظرا إلى أنّه توجّه بها إلى أفراد عائلته وأصدقائه. فقد أهدى روايته "حارسة الظلال" - والتي عليها مدار بحثنا - في طبعتها الألمانية بدار الجمل إلى "زينب" وإلى "نجاة". وأرشدنا البحث إلى تكرّر حضور اسم "زينب" في أكثر من إهداء، فقد رصدناه في رواياته "نوّار اللوز" و"ذاكرة الماء" و"وقع الأحذية الخشنة" وعلمنا مثل كلّ المتابعين لأعمال الأعرج وسيرته أنّ "زينب" هي زوجته الشاعرة زينب الأعوج والتي ترجمت له روايته "حارسة الظلال" إلى الفرنسيّة صحبة الفرنسية "ماري فيرول (Marie Virolle). ولذلك يندرج هذا الجزء الأوّل من الإهداء في خانة الإهداءات العائليّة (Dédicaces Familiales). أمّا الجزء الثاني من الإهداء فقد تضمّن اسم "نجاة" وهو اسمٌ لم يتردّد في سجلّ الإهداءات السابقة ولا اللاحقة ويكاد يكون مجهولا لدى القارئ لكنه مع ذلك يثبت وجود علاقة ما بين الكاتب وصاحبة الاسم وهذه إحدى وظائف الإهداء : وظيفة الإعلان عن علاقة بين المهدي (Dédicateur) والمهدى إليه (Dédicataire) ونلاحظ في الطبعة الجزائريّة أنّ اسم "نجاة" قد استأثر بكلّ الإهداء بعد أن سحب الكاتب الإهداء الموجّه إلى "زينب". ورغم تغيير صياغة الإهداء فقد حافظ الكاتب على معنى الصّمت الذي أراده مرافقا للمهدى إليه.

الصياغة الأولى : "إليك نجاة، براءة طفوليّة وحُرْقة صامتة".
الصياغة الثانية : "الحبيبة الغالية نجاة، أيّتها الجرح الصّامت وحدك تعرفين كم أنّ الدّنيا هشّة وقاسية".
وقد رافق صمت "نجاة" صمت الكاتب عن ذكر هويّتها فعبارة "أيّتها الحبيبة" تبقى حمّالة أوجه، ليبقى القارئ في حيرة هل هي حقا حبيبة الرّوائي أم هي قريبته (29) ولا يدري القارئ إن كان صمتها صمتا فعليّا أم مجازا، صمتا آنيا أم أبديّا. ولكن كلّ هذه التساؤلات لا تخرج هذا الإهداء من دائرة الإهداءات الخاصّة التي عرفتها مدوّنة الأعرج الروائيّة، كما يشترك الإهداء الأوّل والإهداء الثاني في معاني الحرقة والحزن والانكسار والصّمت. وتلفت انتباهنا قراءة الإهداء في ضوء النصّ إلى ذلك الإلحاح على معنى الصّمت، فنقرأ في النصّ الروائي.

" سأحدّثكم عن دون كيشوت […] وأترك لكم البقيّة ملْءَ الفراغات البيضاء ونقاط الصّمت " (30).
ونقرأ في مواضع أخرى :

والحقّ أنّ مقولة الصّمت كان عليها مدار الرّواية فالشخصيّة الروائيّة ـ حسيسن ـ تحاول منذ البداية أن تكسر صمتها من خلال قول الحقيقة ولو كان ذلك عن طريق الكتابة بعد أن أفقدها الملثمون اللسان وهدّدوها بالتصفية والتنكيل إن هي تحدّثت. وهكذا ندرك أنّ افتتاح الرّواية بكلمة "يتحدّث" لم يكن عملا مجانيّا مثلما كان إيراد اسم الجزائر بتوزيعه البصري المتقطّع " الـ…جـ…زا…ئـ…ر " دليلا آخر على صعوبة الكلام وإصرار الرّاوي على تحطيم جدار الخوف ؛ ذلك العائق الذي يحول دونه والتعبير والذي يقاومه بالآلة الكاتبة التي تنهض رمزا لحريّة التعبير : " هذه الآلة الكاتبة هي الحضور الوحيد الذي يملأ هذا الخوف المفجع " (34).

وربّما كان السرّ في اختيار المؤلّف الآلة الكاتبة سلاحا لمحاربة الصّمت هو إيمانه بقيمة المكتوب وبقائه مقارنة بهشاشة الشفوي.

2- إهداء النسخة
يمثل إهداء النسخة تقليدا آخر يزداد كلّ يوم تجذّرا. وقد ساهمت عدّة ظروف في انتشاره، فإلى جانب الدافع الشخصي والعلاقات الشخصيّة (إهداء النسخ إلى الأهل والأصدقاء…) انتشرت في القرن العشرين ظاهرة حفلات توقيع الكتب ويفسّرها البعض بتراجع عدد القرّاء ممّا دفع بالناشرين إلى اختراع هذه الظاهرة لجلب أكبر عدد ممكن منهم لا غير ذلك أنّ هؤلاء الذين ستعجّ بهم قاعات التوقيع يكون همّهم في غالب الأحيان الحصول على توقيع الكاتب، فإهداء النسخة خلافا لإهداء الأثر لا يدع مجالا للشكّ في هويّة المُهدي (dédicateur) لأنّه سيكتب الإهداء بخطّ اليد وسيوقّع أسفله (35). غير أنّ إهداء النسخ خلافا لما يعتقد البعض أصبح فنّا قائم الذات، ففي حين تسقط بعض الإهداءات في التكرار المملّ والمجانيّة من مثل هذه الصّياغة : " إلى (فلان) مع ودي… " تنهض بعض الإهداءات رغم طبيعتها الاختزاليّة المكثفة بوظائف شتّى من شأنها أن ترشّحها عتبة من بين العتبات الأخرى للنصّ. ويرى جيرار جينيت في مؤلّفه "عتبات" أنّ إهداء النسخة ذو أهميّة خاصة لأنّ تعلّقه بشخص معيّن (36) يشي بتوقّع الكاتب أنّ ذلك الشخص سيقرأ كتابه فعلا. ومن ثمّ تصبح تلك العبارات القصيرة فاعلة في عمليّة التلقي فتشتغل كما لو كانت محفّزا على القراءة ودافعا لمطالعة النص، من خلال تلك الإشارات التي يعمد إليها الكاتب في الإهداء لإثارة فضول المشتري أو المهدى إليه. وتكون تلك الإشارات عادة ذات صلة بمتن الكتاب فتدفع المهدى إليه إلى قراءته لتبيّن دلالات العبارات الموجزة التي تضمّنها الإهداء. وقد وقعنا على نموذج من إهداءات واسيني الأعرج لنسخ رواية "حارسة الظلال" وسنحاول استنطاقه والبحث في طرق اشتغاله ووظائفه الدلاليّة.

نصّ الإهداء(37) :

العزيز ……..
هذه "الحارسة" تظلّلنا جميعا
إذ بها ما تبقّى من حبّنا المشترك
أخوك الذي يقدّرك جدّا…..
تونس 25-4-2003

نلاحظ في صياغة الإهداء تركيزا على العنوان وتغييرا لدلالته، إذ تحوّلت الحارسة من حراسة الظلّ إلى وظيفة التظليل. وترشح عبارة "تظلّلنا" بمعاني الحماية والرعاية، كما تشي عبارة "جميعا" بالقدرة وشموليّة التأثير؟ وتقترن هذه الرّعاية اللامحدودة، عادة بالآلهة. ولعلّ صفة الألوهيّة هذه هي التي جعلت كلمة "حارسة" تتخلّص من صفة التنكير التي كانت عليها في العنوان لتصبح معرّفة بالألف واللاّم : "الحارسة". أمّا الجزء الثاني من الإهداء فقد كشف عن صفة أخرى لهذه الحارسة وهي صفة الاتّساع والاحتواء : "إذ بها…" وتحملنا هذه العبارة إلى قصديّة الكاتب من هذا الإهداء. فقد قرن بذكاء بين حارسة الظلال : الخرافة، كما نجدها في النصّ وحارسة الظلال باعتبارها النصّ ذاته. وهذا ما قصده من "إذ بها". فذلك الضمير المتّصل يعود على الرّواية/النصّ. وهذا التحليل يجعلنا نعيد النظر في نصّ الإهداء فتصبح الحارسة هي الرّواية التي تحمي الكاتب والقرّاء من قساوة الواقع بما تحمله من معاني الحبّ. ويمكن قراءة هذا الحبّ المشترك بوجهيه : الحبّ الإنساني العام الذي كان يبحث عنه دون كيشوت : حبّ الخير، وحبّ البطل حسيسن والكاتب الجزائر. كما تشي عبارة "ما تبقّى: بمعاناة عشّاق الجزائر من النفي القسري (حالة الكاتب) والاعتقال والتصفية (حالة حسيسن) ممّا جعل الرّاوي يصفها بـ"المومس المعشوقة" في بداية الرّواية وفي هذا الوصف تتعالق أحاسيس اللذّة والمرارة. وهكذا مثّل الإهداء أحد المحفّزات المهمّة للقراءة كما مثّل عتبة أخرى من عتبات النص التي من شأنها أن ترشد القارئ إلى أعماق الرواية وإلى أسئلتها الكبرى.

III- التصديرات
تصنّف الإنشائيّة الشواهد التي يصدّر بها الكتّاب أعمالهم ضمن النصوص المصاحبة نظرا إلى صلاتها الخفيّة بالمتون المجاورة لها. وقد تنوّعت أشكال الشواهد ومضامينها بتنوّع الكتّاب ومشاربهم، فمنها ما ورد قصيرا مقتضبا ومنها ما ورد مطوّلا. ومنها ما كان نثرا ومنها ما كان شعرا. ويمكن تحديدها والتعرّف عليها من خلال الرّجوع إلى موقعها. فالشاهد كما ذكر جيرار جينيت يحتلّ موقعا قريبا من النصّ وعادة ما يكون على الصفحة الأولى بعد الإهداء إن وجد، لكن قبل المقدّمة (38). وقد عرفت الرّواية العربيّة هذه الظاهرة فصدّر الرّوائيّون أعمالهم بنصوص غيرهم وانفرد بعضهم بتصديرات ذاتيّة فاقتطع عبارة من نصّه ورفعها تصديرا لروايته ولنا في نصّ "المعجزة" (39) لمحمود طرشونة مثال دالّ على ذلك. كما تميّزت رواية "شرق المتوسّط" (40) لعبد الرحمان منيف بتصدير طريف تمثّل في بعض بنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. بينما خيّر الكاتب الليبي إبراهيم الكوني تصدير روايته "المجوس" (41). بنصّ من "العهد القديم".

أمّا واسيني الأعرج فقد انتقى الشواهد التي صدّر بها أعماله من نصوص شعريّة ونثريّة، بعضها عربيّ وبعضها الآخر غربيّ فصدّر روايته الأولى "وقائع من أوجاع رجل غامر صوب البحر" بأسطر شعريّة لمحمود درويش وصدّر روايته "نوّار اللوز" بنصّ للمقريزي من كتابه "إغاثة الأمّة في كشف الغمّة" وصدّر "أحلام مريم الوديعة" بعبارة قصيرة لسرفانتيس على لسان بطله "دون كيشوت" ومهّد لرواية "ضمير الغائب" بمقاطع من أهزوجة شعبيّة وامتزج الإهداء بالشاهد في "سيّدة المقام" وكان شاهد "شرفات بحر الشمال" عبارة لفان كوخ، بينما وقّع شاهد "فاجعة الليلة السابعة بعد الألف : رمل الماية" سان جون بيرس. أمّا "وقع الأحذية الخشنة" فقد صدّرها بشاهدين الأوّل مقتطف من "طوق الحمامة" لابن حزم الأندلسي والآخر جاء على لسان ابنة الروائي ريما الأعرج. وصدّر روايته "المخطوطة الشرقية" بمثل صيني قديم وعبارة لعبد الرحمان بن خلدون. ومهّد لروايته - موضوع درسنا- "حارسة الظلال، دون كيشوت في الجزائر" بقول الشاعر أبولينير(Apollinaire)(42): " كأسي انكسرت مثل قهقهة عالية ". ورغم أنّ الشاهد "يفقد ذاكرته" عندما نقتطفه من سياقه وندرجه في سياق آخر، فإنّ الوقوف على اتجاهات مؤلفه الفكرية والأدبية وقراءة قولته في ضوء سياقها الأصلي يمهّد لنا السبيل إلى تحديد علاقتها بمتن الرّواية التي نحن بصددها. تكشف لنا سيرة أبولينير أنّه انتسب إلى الحركة الطلائعيّة في الشعر والفنّ التشكيلي ودافع عن تكعبيبّة بيكاسو وجورج براك. كما أنّه شارك في الحرب العالمية الأولى فأصيب بجرح كان المتسبّب في وفاته سنة 1918.

وبما أنّ " إقامة الشواهد على تخوم النصّ الأصغر والنصّ الأكبر - أي على تخوّم العنوان والمتن - تجعلها متّجهة صوب أحد ذينك النصّين تارة، ومنفتحة عليهما تـارة أخرى " (43) فإنّ التأمّل في سيرة صاحب الشاهد/التصدير من شأنه أن يساعدنا على فهم قوله وضبط وظائف الشاهد. وقد مكّننا ذلك من الكشف عن الشبه القائم بين أبولينير وسرفانتيس وأبولينير ودون كيشوت وأبولينير وحسيسن الشخصيّة الرّوائيّة الرئيسيّة في حارسة الظلال. فأبولينير كان يدافع عن فنّ جديد هو التكعيبية وفي دفاعه عنه دلالة على رفضه للفنّ التقليدي السائد حتى بداية القرن العشرين وقد كان للتعكيبيّة التي دافع عنها بالغ الأثر في مسيرة فنّ الرسم، فعنها تولّدت الدادائيّة والسّرياليّة… وكان دفاع أبولينير نظريّا وتطبيقيّا، فقد جعل من قصائده حقلا لاستلهام منجزات المدرسة التكعيبيّة وأدواتها التعبيرية فأمكن أن نقول إنّ أبولينير فتح مسارا جديدا للإبداع في الشعر والفن التشكيلي فلم يعد نبل اللوحة من نبل خاماتها. ومثّل سرفانتيس نُقلة نوعية في الكتابة الروائية مما جعل النقاد يعتبرون رائعته "دون كيشوت" أوّل رواية حديثة، فقد أجهزت على روايات "الفروسيّة الزائفة" بشكل نهائيّ. ويُوحي توظيف واسيني الأعرج لسرفانتيس وأبولينير معا، أحدهما في العنوان والآخر في التصدير، بأنّ روايته تتمسّك بدور طلائعيّ.

أمّا الشّبه بين أبولينير ودون كيشوت وكذلك حسيسن فيتجلّى في النهاية التي عرفها كلّ منهم. فدون كيشوت مات جريحا بعد مغامرة فاشلة أراد من خلالها تغيير العالم وأبولينير لم يجن من مشاركته في الحرب العالميّة الأولى سوى جرح أودى بحياته أمّا حسيسن فلم يكن أحسن منهما حظّا إذ انتهت به حروبه التي خاضها ضدّ قوى الشرّ إلى فقدان اللسان والذكر - رمزي التعبير والخلود - لتأكله العزلة المميتة وهو يواجه ذاكرته الكليمة أمام الآلة الرّاقنة العتيقة. وهكذا يكون هذا المصاحب النصّي/الشاهد قد انفتح على العنوان من جهة، عندما أبرق في ذهننا تلك المقارنة بين صاحبه ودون كيشوت مثلما انفتح على المتن الرّوائي من خلال تلك المقارنة التي رأيناها بين أبولينير والشخصيّة الرئيسيّة حسيسن. وباستنادنا إلى دلالة الشاهد : "كأسي انكسرت مثل قهقهة عالية" نلاحظ حجم التفجع والنفس السّريالي الذي حملته العبارة، فعادة ما ارتبطت الكأس في الفكر العربي والإنساني عامّة بمعنى الحياة والسّعادة والأمل والصحّة. وانكسارها إيذان بالموت والدّمار والخراب، وقراءة الشاهد في ضوء المتن الرّوائي يكشف لنا عن إحدى وظائفه النصيّة، فهو موجّه لمسار القراءة. لقد أحدث أفق انتظار عند المتلقّي، وهذا الأفق هو أفق الخيبة والخذلان. وهذه المعاني هي أهمّ ما ينهض عليه العمل الرّوائي عند واسيني الأعرج. ويمكننا أن نرصد في "حارسة الظلال" تعابير شبيهة بعبارة أبولينير تعمّق ذلك الإحساس بالفجيعة والفقدان كقول حسيسن : " للأسف لا توجد منطقة وسطى للهرب من حالة العبث. لم أجد كلماتي. كانت كلّها تنكسر في الأعماق. مثل الأشجار التي أفرغها التآكل. غمرني إحساس عميق بالعجز " (44). ولئن مثلت وظيفة توجيه القراءة إحدى وظائف هذا المصاحب النصّي الأساسيّة باعتبار أنّ " الاستهلال، من قبل ومن بعد، موجه نصّي للقراءة يظلّ القارئ مستحضرا له ومتمثّلا لمضمونه وفكرته الرئيسيّة " (45). فإنّه اختزل مضمون الرواية واضطلع بالوظيفة التكثيفية التي تمثّل إحدى وظائف الشاهد الأساسيّة. ويبقى السّؤال قائما : هل سنجد أثرا لتوجّهات أبولينير الفنيّة في بنية النصّ الرّوائي ؟

IV- فواتح الفصـول
استهلّ واسيني الأعرج فصول روايته "حارسة الظلال" بعناوين مطوّلة تعقب العناوين الأصليّة وهي عبارة عن فقرات تلمح إلى أهمّ الأحداث الواردة في ثنايا كلّ فصل. وقد رأينا أنّ نطلق عليها اسم العناوين الفواتح حتى نميّزها من عناوين الفصول الأصليّة وسندنا في إضافة مصطلح "فواتح" ما ورد في "لسان العرب" الذي عرّف الفاتحة بأوّل الشيء و" فواتح القرآن : أوائل السّور " (46) والفتحة : الفُرْجَة في الشيء(47). وفواتح الرّواية حملت المعنيّين فهي أوائل الفصول وعتبة من عتباتها وهي في الآن ذاته فتحات نُطِلُّ منها على متون الفصول. إنّ القارئ يهتدي إلى العنوان الفاتحة بالاستناد إلى تشكيله التيبوغرافي وموقعه من الصّفحة واستقلاليّته المعنويّة. ولنا في عنوان الفصل الأول من الرواية مثال دالّ على ذلك.

الفصـل الأول : عائلة الخضر

ويتحدّث عن مغامرة حسيسن الغريبة التي احتفظ بالجزء المهمّ منها لنفسه حتى لا يثير الأحاسيس الرّهيفة وغضب الآخرين أو بكلّ بساطة لأنّه خاف من عمليّة اختطاف مدبّرة. كما يروي هذا الفصل قصّة وصول دون كيشوت (فاسكيس دي سرفانتيس دالميريا) إلى الأراضي التي زارها جدّه ميقال دي سرفانتيس قبل أن يندثر هذا الأخير ويتحوّل إلى تربة. وانشداد دون كيشوت الطفولي إلى قصص حنّا. عاشقة الأشواق الأندلسيّة الضّائعة (48).

والحقّ أنّ هذا الأسلوب شائع في كثير من الكتب التراثيّة العربيّة: الأدبية والتاريخية والدينية والجغرافيّة. فالقلقشندي افتتح به فصول كتابه "مآثر الأنافة في معالم الخلافة". وكذلك فعل الحافظ بن كثير في كتابه "البداية والنهاية" الذي أرّخ فيه للدول الإسلاميّة حتى زمانه فسمّى أحد فصول الكتاب : " قصّة داود وما كان في أيّامه ثمّ فضائله ودلائل نبوّته وأعلامه" (49). وعنون فصلا آخر بـ : " خروج أبرهة الأشرم على أرياط فاختلافهما" (50). ويتردّد هذا الأسلوب عند المسعودي في "مروج الذهب" وفي "السيرة النبويّة" لابن هشام و"الكامل في التاريخ" لابن الأثير وكتاب "الفرج بعد الشدّة" للقاضي أبي علي حسن بن علي التنوخي وكتاب "الفهرست" لابن النديم، كما نعثر على ذات الأسلوب عند ابن خدلون في "المقدّمة" وفي كتب الرّحلات. والكتب الجغرافية.

ويتواصل حضوره في عصر النهضة فيطالعنا في كتاب رفاعة رافع الطهطاوي "تخليص الابريز في تلخيص باريس". لقد حاكى واسيني الأعرج بعض الخصائص الأسلوبية التي تميّزت بها تلك النصوص مثلما فعل قبله ميخائيل نعيمة في كتابه "كتاب مرداد" (51) ولنا في رواية التونسي إبراهيم درغوثي "وراء السراب… قليلا" مثال معاصر لهذه المحاكاة(52) وذات الأمر نجده في رواية "النخّاس" لصلاح الدين بوجاه.

وقد ارتحل هذا الأسلوب العربي إلى المدوّنة السرديّة الغربيّة فظهر في نصوص شهيرة مثل "دون كيشوت" للإسباني ميقال دي سرفانتيس (53) و"اسم الوردة" للإيطالي أمبرتو ايكو (54). وترد هذه العناوين الفواتح في أعلى الصفحة بعد عنوان الفصل وقد ميّزها الرّوائي في الطبعة الجزائريّة فخصّها بصفحات مستقلّة (55) وهذا يدعّم حضورها باعتبارها عناوين ويؤهّلها عندنا لتدرس ضمن العتبات. يعمد واسيني الأعرج في كتابة هذه العناوين الفواتح بخط طباعي بارز ومختلف عن الخط الذي كتب به المتن الروائي، فجاءت تلك الفقرات الاسهلاليّة بخطّ شديد السّواد قريب في خصائصه الطباعيّة من الخطّ الذي كتبت به العناوين ولعلّ هذه الإشارة تذكّرنا بما أوردناه سابقا عن ولع الأعرج بثنائيّة العناوين. و" إبراز الكتابة بالخطّ الأسود [كما يقول حميد لحميداني] له وظيفة مهمّة لأنّه يثير انتباه القارئ إلى نقط محدّدة في الصفحة لذلك تأتي عناوين الفصول مبرزة عادة كما يكتبُ أسماء الأبطال والأماكن بالخطّ الأسود لتركيز حضورها في ذهن القارئ " (56). ويذهب محمد الماكري في سياق حديثه عن "التجربة الفضائيّة في الشعر المغربي" إلى كون " هذا المظهر [الطباعي] يمكن اعتباره منبّها أسلوبيّا أو نبرًا خطيّا بصريّا يتمّ عبره التأكّد على مقطع أو سطر أو وحدة معجميّة أو خطيّة " (57).

يشكل العنوان الفاتحة وحدة لغويّة ومعنويّة مستقلّة عن الفصل الذي يمهّد له. حتى أنّ غيابه لا يخلّ بالتماسك البنيوي والحكائي للنصّ الروائي وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل عن أسباب وضع هذه العناوين المطوّلة وإلى رصد وظائفها. جاء السرد في الفصول بضمير المتكلّم، لأنّ الرّاوي مشارك في الأحداث أمّا في العناوين الفواتح فنحن أمام راو محايد أو متحايد (58). وتتقاطع صورة هذا الرّاوي مع صورة الكاتب أو هو الكاتب من درجة ثانية كما حدّده بوث (Booth) فهو يمثّل دور الكاتب في النصّ (59) والرّوائي إبراهيم درغوثي في روايته "وراء السّراب… قليلا" وضع ملاحظة مهمّة في بداية الكتاب بيّن فيها أنّ الهوامش والفواتح وعناوين الفصول من وضع الكاتب ولا دخل للرّاوي فيها لأنّ هذه الأمور تدخل في صناعة الكتاب - كلّ ما يجعل من الكتاب كتابا - ولا تدخل في نسيج الحكاية إنّما هي عتبات قد تضيء عمليّة القراءة. فتبدو كأنّها حديث الكاتب عن نصّه بعد أن اكتمل. وهذا ما يرجّح كون هذه العناوين توضع بعد الانتهاء من الكتابة وهي كما يقول فيليب هامون (Ph. Hamon) "الخطاب علـى الخطـاب" أو الميتـا لغوي (Les discours métalinguistiques)(60).

يضطلع العنوان الفاتحة بوظيفة أولى تتمثل في شرح العنوان الرئيسي وتفسيره للفصل الرّوائي وهو ما يشترك فيه مع العنوان الفرعي للرّواية في علاقته بالعنوان الرئيسي. فالعنوان المطوّل يفكك ذلك التكثيف الذي اختزنته صياغة العنوان الرئيسي للفصل ليجلي عنه بعض ما علق به من غموض. فيشرح - مثلا - في الفصل الأخير دلالة الخوف التي تحدّث عنها العنوان الرّئيسي "رائحة الخوف" مثلما شرح عنوان الفصل الرّابع تلك العودة التي وردت في العنوان الرئيسي للفصل الرّابع:

الـعـنـوان الـرّئـيـسـي

العنــوان الـفـرعــي

الفصل الثالث : ناس من تبن قصّة حسيسن وهو يكتشف جنسا بشريّا من نوع جديد، ناس من خيش وتبن، يشعلون النار ويخافون من حرائقها، وضياعها الكبير داخل دهاليز الخوف والموت (ص 99).
الفصل الرّابع : الـعودة ويتناول عودة حسيسن إلى مقرّ عمله منهكا وخائبا، والأخبار المتضاربة عن الأسير دون كيشوت، وتفاصيل قصّته مع سيدة الأنفاق : زريد الشيقة التي رواها له صديق كابييرو. كما يتناول الفصل بالذكر، قصّة زكية السكرتيرة الخاصة لوزير الثقافة، التي لا تتوقف أبدا عن تحريك لسانها الحادّ في كلّ الاتجاهات داخل الجروح المفتوحة والمدماة (ص 128).
الفصل الخامس : كوردلو دون كيشوت رحلة دون كيشوت (فاسكيس دي سرفانتيس دالميريا) الخطيرة باتجاه مدينة الجزائر، مدينة الرّماد والخوف وأزاهير الرّمل وما وقع له من الأهوال والمصائب إبّان سفرته البحريّة واكتشافه، في أعماق الموج، للمكان المسمّى : زفرة سرفانتيس الأخيرة، الذي أسر فيه رياس البحر جدّه : الكاتب ميغال دي سرفانتيس (ص141).

ولكن هذه العناوين لا تقوم أحيانا بمهمّة الشرح والتفسير فتحافظ العناوين الرئيسيّة على غموضها رغم وجود العناوين الفواتح لأنّ العنوان الفاتحة ينحرف نحو الحديث عن أحداث أخرى لا علاقة لها - ظاهريا - بالعنوان الرئيسي فمن هي "عائلة الخضر" التي عنون بها واسيني الأعرج الفصل الأوّل للرواية ؟! وماذا أضاف ذلك العنوان الفاتحة إلى العنوان الرئيسي ؟!

لقد مارس العنوان الفاتحة ووظيفة الإرباك والإلغاز لا وظيفة التفسير والتوضيح فصمت عن دلالة العنوان الرئيسي وخيّب توقّع القارئ وانتظاراته ويرى امبرتو ايكو في هذه الممارسة وظيفة رئيسيّة للعنوان لأنّ عليه " أن يبعثر الأفكار لا أن ينظّمها " (61). ويمكن أن يمثل العنوان الفاتحة خلاصة (Résumé) أحداث الفصل الرّوائي، والخِلاصة - بكسر الخاء - أو الخُلاصة في اللسان " ما بقي في أسفل البرمة من الخلاص وغيره من تُفْل أو لبن وغيره " (62). والخلاصة أو التلخيص في أدبيّات النقد الغربي الحديث - وكما حدّدها تودوروف وديكرو - تقنية زمنيّة " عندما تكون وحدة من زمن القصّة تقابل وحدة أصغر من زمن الكتابة تلخص فيها الرّواية مرحلة طويلة من الحياة المعروضة " (63). وذكر جيرار جينيت أنّ الخلاصة (Sommaire) " سرد موجز في بعض فقرات أو في بعض صفحات لأيّام أو شهور أو أعوام من الوجود بدون تفاصيل للأشياء أو للأقوال " (64). إلاّ أنّ هذه الخلاصات على غير عادة الكتابة الرّوائية التقليدية - التي تجعلها في آخر الفصل لتذكر القارئ بما جرى أو في أوّله لتلمع إلى أحداث حدثت في الماضي للشخصية - ترد في "حارسة الظلال" في أوّل الفصول لتروي أحداثا لم تحدث بعدُ في الحكاية. فتأخذ هذه العناوين الفواتح وظيفة الواشي الذي يفشي أسرار الفصل لأنّها تعترض حركة القراءة لتربك النظام الذي وضعه الرّاوي في سرد الأحداث، فتعتصر مادّة الفصل الممتدّة على عشرات الصّفحات في سطور. وهنا تتقاطع الطبيعة الاختزالية للفاتحة بوصفها تلخيصا مع وظيفتها الاستباقيّة فهي تستبق وقوع الأحداث فتعلن عن حدوثها. والاستباق تقنية سرديّة تتمثّل في " كلّ مقطع حكائيّ يروي أحداثا سابقة عن أوان حدوثها " (65). ومن وظائفه أن ينشط عملية القراءة لأنّه يدفع الملتقى إلى متابعة القراءة بحثا عن تفاصيل تلك الأحداث التي ألمع إليها العنوان الفاتحة. لأنّ تلك العناوين " تستدعيك إلى مغامرة أنت تعرف بعض علاماتها ولكنك لا تعرف لا كيف بنيت تلك العلامات ولا كيف تنتهي " (66).

ونتيجة لذلك التحفير تنهض خاصيّة أخرى لهذه العناوين الاستبقائية تتمثّل في وظيفتها التشويقيّة، فالعنوان بطابعه الاختزالي لا يفشل عملية القراءة لأنّ القارئ يزداد تمسّكا ببقيّة النص بعد أن وشى إليه العنوان بأحداث جديدة سيعرف تفاصيلها إن هو استمرّ في القراءة، فينقلب ذلك العنوان طُعما يُسحب به القارئ إلى عُمق الفصل الرّوائي. وتلعبُ هذه العناوين الفواتح دور الموجّه لعمليّة التلقّي فهي علامات دالة تضيء طريق القارئ مثلما تضيء علامات الطريق أو الكواكب في الصحراء طريق المسافر. ويشبّه واسيني الأعرج عالم النصّ الرّوائي بالغابة التي يحتاج السائر فيها " أن يضع خلفه حجرات حتى يعرف طريق العودة " (67)، فتحميه تلك الإشارات من الضياع وتبعده عن خطر متاهات القراءة الخاطئة. غير أنّ الرّوائي يمكن أن يوظّف هذه التقنية السرديّة توظيفا معاكسا فيجعل من تلك العناوين إشارات مضلّلة يهرع إليها القارئ فلا يعثر على غير الوهم مثله في ذلك مثل الضمآن في الصحراء يحسب السراب ماء فتنقلب هذه التقنية لعبة فنيّة يشاكس بها الروائي قارئه فيخيّب انتظاره ويخرّب قدراته التوقّعيّة. وهو ما شبّهه واسيني الأعرج بلعبة القط والفأر فتعلن بعض العناوين الفواتح عن أحداث ستقع في ذلك الفصل ولكنّ الرّاوي يؤجّلها إلى الفصل اللاحق مثلما ورد في عنوان الفصل الرّابع "العودة" الذي وعد بذكر تفاصيل قصّة دون كيشوت مع "زريْد" سيدة الأنفاق التي عرفها في قبو السجن.

فقد أشارت الفاتحة إلى أنّ الفصل المتعلّق بها سوف " يتناول عودة حسيسن إلى مقرّ عمله منهكا وخائبا. والأخبار المتضاربة عن الأمير دون كيشوت، وتفاصيل قصّته مع سيدة الأنفاق : زريد الشيقة التي رواها له صديقه كباييرو… " (68). إلاّ أنّنا لا نطّلع على هذه التفاصيل إلاّ في الفصل السادس من خلال كورديلو دون كيشوت الذي أرسله إلى صديقه حسيسن بعد أن غادر الجزائر.

ولا تكتفي هذه العناوين الفواتح بوظائفها السرديّة في علاقتها بالحكاية وتوجيه القراءة وألعاب التلقّي بل تنحو منحى التأصيل فتجعل الرّواية منفتحة على التراث السردي العربي الذي ذكرنا أمثلة منه في بداية الحديث عن ظاهرة العناوين المطوّلة، وتدخل هذه التقنية القارئ في "مناخ عربيّ" (69) وتنقذه من غربة الرّواية التي ظلّت متمسّكة بالنموذج الغربي مدّة طويلة قبل أن تهزها هزيمة حزيران 1967 فتعيد النظر في إنجازاتها. والحقّ أنّ واسيني الأعرج لم يكن حديث عهد بهذا النوع من الكتابة التأصيليّة فقد التفت إلى الموروث السرديّ العربي المكتوب منه والشفوي منذ الثمانينات حين كتب رواية "نوّار اللوز : تغريبة صالح بن عامر الزوفري" (70) التي اشتغل فيها على السيرة الهلاليّة. ثمّ تواصل مشروعه التأصيلي بأكثر وضوح مع روايته النهريّة "فاجعة الليلة السابعة بعد الألف" التي حاور فيها كتاب "ألف ليلة وليلة" فأصدر الجزء الثاني "المخطوطة الشرقية" سنة 2002 (71). بعد الجزء الأوّل الذي صدر سنة 1993 بعنوان "رمل الماية" (72) في انتظار أن يصدر الجزء الثالث. كما مثلت روايته "وقع الأحذية الخشنة" (73) في نسختها المزيدة والمنقّحة إحدى تلك الرّوايات التي استند في كتابتها إلى الموروث السردي العربي، فقد حاور فيها نصّ ابن حزم الأندلسي "الحمامة المطوّقة" وأدب الترسّل. ومن ثمّ فإنّ ظاهرة تأصيل النصّ الرّوائي ليست طارئة على كتابات واسيني الأعرج وإنما هي مرافقة لمسيرته الإبداعية ولكنه لم يجعل منها هاجسا رئيسيّا فقد صدرت له روايات كثيرة لا علاقة لها بهذا التأصيل وتتّخذ من الشكل الغربي نموذجا خالصا لها (74).

kamelriahi2@yahoo.fr

*- هذا البحث فصل من كتاب عن واسيني الأعرج
**- كمال الرياحي باحث مبدع تونسي

________________

(1) انظر : G. Genette : Palimpsestes, La littérature au second degré, poétique, Seuil, 1982
(2) انظر : G. Genette : Seuils, Points, éd. Seuil, 2002
(3) حميد لحميداني : عتبات النص الأدبي (بحث تنظيري)، علامات في النقد، المجلد 12، الجزء 46، ديسمبر 2002، ص 11
(4) عبد الفتاح الحجمري : عتبات النص : البنية والدلالة، منشورات الرابطة، الدار البيضاء، ط 1، 1996، ص 16
(5) انظر : * Teo. H. Heok. La Marque de titre. La Haye. Paris. New York. Ed. Mouton. 1980 * G. Genette. Seuils. Paris. Ed. Seuil. C. Points. 2002.
(6) جمال بوطيّب : العنوان في الرّواية المغربيّة، ضمن كتاب "الرّواية المغربيّة أسئلة الحداثة" مختبر السرديّات كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بنمسيك. دار الثقافة للنشر والتوزيع. الدّار البيضاء، 1996، ص 194.
(7) G. Genette. Seuils. P. 83.
(8) انظر حميدة لحميداني : عتبات النصّ الأدبي، ص 33
(9) يعطي حميد لحميداني اسم "سعيد" مثالا للاسم الاستباقي، نفس المرجع، ص 36
(10) د. محمود الهميسي، براعة الاستهلال في صناعة العنوان، مجلة الموقف الأدبي، دمشق، العدد 313، آيار 1997، ص 41.
(11) Lârej Waciny, Le ravin de la femme sauvage, ENAG Edition, Alger, 1997
* واسيني الأعرج : منحدر المرأة المتوحّشة، موفم، نشر الجزائر، 1997. (ترجمها عن العربية كل من زينب الأعوج Zeineb Laoweij وماري فيرول Marie Virolle).
(12) يذكرنا هذا العنوان بنص كاتب ياسين المسرحي " La femme sauvage "، انظر : Kateb Yacine, L'œuvre en fragments, Sindbad, actes Sud, 1999
(13) انظر د. عبد المالك أشهبون : قصة اختيار العنوان في الرواية العربيّة، مجلة عمّان، عدد 98، آب الأردن، 2003، ص ص 54-55.
(14) وضع على غلاف "زمن الأخطاء" عبارة "رواية" وعلى غلاف "الشطار" عبارة "سيرة ذاتيّة روائية".
(15) انظر حوارنا مع واسيني الأعرج بمجلة عمّان، العدد 65، حزيران 2003.
(16) G. Genette, Seuils, p. 62.
(17) يقول : "حاولت في النصوص الأخيرة تقليص هذه الظاهرة والحدّ منها لأنّني اكتشفت أنّها بقدر ما هي مفيدة فهي مربكة ومثقلة للنصّ لأنّ العنوان جعل أوّلا ليحفظ. فبقدر ما يكون كلمة أو كلمتين يكون ناجحا ويبقى في الذاكرة" (الحوار السابق).
(18) انظر : د. فوزي الزمرلي : شعرية الرّواية العربية، كلية الآداب بمنوبة ومركز النشر الجامعي، 2003، ص 384
(19) عبد الفتاح الحجمري، عتبات النص، ص 26.
(20) جرار جينيت، عتبات (بالفرنسية)، ص 120.
(21) فرج لحوار : الموت والبحر والجرذ، عيون المعاصرة، دار الجنوب، تونس 1985، ص 27
(22) إبراهيم درغوثي : أسرار صاحب الستر، دار صامد، تونس 1998، ص 5.
(23) صلاح الدين بوجاه : النخاس، عيون المعاصرة، دار الجنوب، ط 2، تونس، 2003، ص 13
(24) مسعودة أبو بكر : طرشقانة، دار سحر، تونس 1999، ص 3.
(25) حفيظة قارة بيبان : دروب الفرار، دار سيراس، 2003، ص 5.
(26) فرج لحوار : المؤامرة، دار المعارف، سوسة/تونس، 1992، ص 6.
(27) انظر جرار جينيت : عتبات (بالفرنسية)، ص 136.
(28) Cervantès : Don Quichotte, T II. Folio. Gallimard, 1919, p. 9.
(29) ثبت لنا بعد ذلك أنّها شقيقة زوجته زينب وهي تقيم بالجزائر فكان الجمع بينهما في نص واحد أكثر معقوليّة.
(30) واسيني الأعرج : حارسة الظلال، ص ص 12-13
(31) المصدر السابق، ص 13
(32) المصدر السابق، ص 199
(33) المصدر السابق، ص 215
(34) واسيني الأعرج، حارسة الظلال، ص 9
(35) G. Genette : Seuils, p. 142
(36) المرجع السابق، ص 144
(37) انظر ملحق الوثائق.
(38) G. Genette. Seuils, p. 152.
(39) انظر : محمود طرشونة، المعجزة، ديميتير، تونس، 1996
(40) انظر : عبد الرحمان المنيف، شرق المتوسّط، دار الجنوب، تونس، 1989
(41) انظر : إبراهيم الكوني، المجوس، الدار الجماهيرية للنشر ودار الآفاق الجديدة، ليبيا، المملكة المغربية، ط 1، 1991
(42) هو غييوم ألولينير ولد في روما عام 1880 من أب إيطالي كان ضابطا عسكريا وأم بولونية من أصول أرستقراطية وبعد أن أكمل الدراسة الثانوية في فرنسا أمضى عاما في منطقة "الأردين" البلجيكية ثم انتقل إلى ألمانيا حيث عشق شابة إنجليزية وعنها كتب أشهر قصائده "أغنية العاشق الشقيّ" بعدها عاد إلى باريس لينتسب إلى الحركة الطلائعية في الشعر والفن الزنجي وعن الفن الحديث مجسّدا في بيكاسو وجورج براك. وعند اندلاع الحرب الكونيّة الأولى التحق بالجبهة حيث أصيب بجرح خطير في الرأس وفي عام 1918 مات بسببه. نقلا عن : حسونة المصباحي، مقدمة ترجمته لقصائد مختارة لغيوم ابولينير، مجلة نزوى العمانية، العدد الثالث والثلاثون، يناير 2003، ص 183
(43) د. فوزي الزمرلي : شعرية الرواية العربية، ص 390
(44) واسيني الأعرج : حارسة الظلال، ص 180.
(45) عبد الفتاح الحجمري : عتبات النص، البنية والدلالة، ص 32.
(46) ابن منظور : لسان العرب، دار صادر، بيروت، ط. 1، 1990، الجزء الثاني، ص 539.
(47) المرجع نفسه، ص 540.
(48) حارسة الظلال، ص 7.
(49) الحافظ بن كثير : البداية والنهاية، مكتبة المعارف، بيروت، ط 2، 1990، ص 9.
(50) المرجع نفسه، ص 169.
(51) مثال : الفصل الأول : مرداد بعلمه للغيب يذيع وفاة والد همبال وظروفها ثمّ يكلمنا في الموت : الزمان أكبر المشعوذين، دولاب الزمان وإطاره ومحوره. ميخائيل نعيمة : كتاب مرداد : منارة وميناء. مؤسسة نوفل، بيروت، ط 7، 1985، ص 153.
(52) مثال : الباب الحادي عشر : وفيه حديث عن حبّ "ميلود الطرهوني" لحسيبة التائلية وكيف منع رجال "القبائل" نساء الماخور عن العمّال الطرابلسيين وأعاجيب تتعلق بنبوءة عرّافة التقت "الطرهوني" والصّحراء وملائكة نزلت من السماء لتواري في ثرى المتلوّي قتلى الفتنة "الطرابلسية" إلخ… إلخ. إبراهيم درغوثي : وراء السراب… قليلا. دار الإتحاف، تونس 2003..
(53) نمثل لذلك بـ"الفصل الخامس والعشرون" : في غرائب الأمور التي وقعت لفارس المانشا الشجاع في جبال السيرامورينا والنذر الذي قام به اقتداء بالأدهم الجميل. ثربانتس : دون كيخوته، دار المدى، سورية، ترجمة عبد الرحمان بدوي، الجزء 1، ص 232.
(54) مثال : وفيها يروي بنس قصّة غريبة نفهم من خلالها أشياء ذات عبرة عن حياة الدير. أمبرتو ايكو : اسم الوردة، دار سينا للنشر، ط. 1، مصر 1995، ص 210.
(55) واسيني الأعرج : حارسة الظلال، الفضاء الحر، الجزائر، 2001
(56) حميد لحميداني : بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي. المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط 3، 2000 ص 59
(57) محمد الماكري : الشكل والخطاب مدخل لتحليل ظاهرتي. المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1991، ص 236
(58) أخذنا هذه العبارة عن د. محمد الخبو : الخطاب القصصي. دار صامد 2003، وتفيد معنى الرّاوي الذي يتظاهر بالحياد.
(59) W.C. Booth : Distance et point de vue in poétique du récit. Ed. Seuil, 1977, p. 92.
(60) نقلا عن محمد الخبو : الخطاب القصصي، ص 255
(61) G. Genette. Seuils, p. 95
(62) ابن منظور : لسان العرب، المجلد الثاني، دار الجيل، دار لسان العرب، بيروت، 1988، ص 878
(63) نقلا عن حسن بحراوي : بنية الشكل الرّوائي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1990، ص 145
(64) G. Genette : Figure III, Seuils, Paris, 1972, p. 130.
(65) المرجع نفسه، ص 282
(66) من حوارنا مع واسيني الأعرج، مجلة عمّان، العدد 96، حزيران 2003، ص 11
(67 ) المرجع السابق، ص 11
(68) واسيني الأعرج، حارسة الظلال، ص 128
(69) من حوارنا مع واسيني الأعرج، مجلة عمّان، ص 96 (مذكور)
(70) واسيني الأعرج : نوار اللوز، تغريبة صالح بن عامر الزوفري، دار الحداثة، بيروت، 1983، ص 11.
(71) واسيني الأعرج : المخطوطة الشرقية، دار المدى، سوريا، 2002.
(72) واسيني الأعرج : فاجعة الليلة السابعة بعد الألف "رمل الماية"، دار الاجتهاد، المؤسسة الوطنية للكتاب، 1993.
(73) واسيني الأعرج : وقع الأحذية الخشنة، دار الفضاء الحرّ، الجزائر، 2002.
(74) انظر رواياته : سيدة المقام - أحلام مريم الوديعة - ضمير الغائب - ذاكرة الماء - شرفات بحر الشمال - مرايا الضّرير (بالفرنسية).