يقدم الناقد المغربي المرموق هنا قراءة لواحدة من أحدث الروايات العراقية (مجنون بوكا)، تعتمد منهج ما بعد الاستعمار في تحليل النصوص، والكشف عن ترسبات الوجه البشع للاستعمار الأميركي، وآلياته الجنونية من ناحية، وعن استراتيجيات رد المستعمَر بالكتابة على جرح هذا الغزو الصارخ لبلاده من ناحية أخرى.

الوجه الكولونيالي البشع لأمريكا بالعراق

في «معتقل بوكا»

يحيى بن الوليد

على الرغم ممـَّا قد يلوح، وفي حال مواضيع محددّة، ومن استسهال، على مستوى التعاطي والتعامل، فإن الباحث أو المحلـِّل أو المعلـِّق، وفي إطار من "الجدّة المنشودة"، يحار في الحديث عن العراق ــ البلد العربي الإشكالي؛ ويتضاعف المشكل أكثر من ناحية الاستقرار على "المنفذ" الذي يضمن نوعا من الإسهاب على مستوى التحليل والتفسير والتعليق. غير أن المؤكد أن ما حصل في هذا البلد، وعلى مدار العقدين الأخيرين، وعلى النحو الذي أفضى إلى «السقوط المذهل» ("الاحتلال" في اصطلاح آخرين) لبغداد وجعلها في قبضة الأمريكان، جعل العراق يقع في التاريخ المعاصر بل ويسهم، وعكسيا، وعلى حساب حضارته وتراثه وأساطيره، في انعطاف المنطقة العربية ككل نحو مرحلة جديدة ومغايرة. وكانت الحصيلة تمزُّق مجتمعي غير مسبوق وتشرذم ثقافي غير محمود ... وغياب، وبالكامل، لـ"الآلة السياسية" وعلى رغم ما يمكن أن يعتوروها من "تثاقل" بل وحتى من "صدأ". لقد تمّ رهن البلاد والعباد، وبالمطلق، لـ"الكوبرا" أمريكا ... وحصل ذلك في إطار من تواطؤ أسهم فيه وحوش المال والسياسة وعملاء الداخل والخارج معا.

إن ما حصل في العراق، وقياسا بالنظر إلى ما استخدم فيه من أسلحة بحجمها ونوعيتها، وعلى النحو الذي أفضى إلى ثلاثة أضعاف ضحايا قنبلة هيروشيما كما يعدد إدوارد سعيد، وقياسا بالنظر إلى ما ترتـَّب عن الاستخدام المفرط للقوة من خراب، وفي البنيان والنفوس، تجاوز "عودة الكولونيالية البيضاء" (كمـَّا عبـًّر عنها البعض) نحو ما لا يمكن نعته بـ"الاستعمار المباشر" فقط بل و"الاستعمار الخشن" و"القذر" أيضا. لقد جاء الأمريكان إلى العراق باعتبارهم، وفي المقام الأوّل، "غزاة" ... وبدافع من "التطهير الثقافي" (Cultural Cleansing) و"تدمير الجغرافيا الثقافية" في أفق ترسيم خرائطي جديد يستجيب لـ"المعيار الأمريكي".

ولفهم الموضوع، وبالتالي فك الغموض الذي يكتنفه من جوانب شتـّى، فإنـَّنا نواجه بسيل من التحليلات السياسية والكتابات الفكرية والأفلام السينمائية والروبرتاجات الصحفية ... وفي دلالة على أشكال التمثيل المختلفة والمتنوعة. وكما هي الحال، وفي جميع الوقائع الكبرى والمفصلية التي تغيـِّر التاريخ، نواجه بمقولة «هناك ما وقع، وهناك ما يروى». وفي المسافة التي تصل/ تفصل/ ما بين الطرفين يتبدَّى «شرط السرد» الذي يغدو، وبمعنى من المعاني، علامة على التاريخ. وفي «غابة السرد» هاته تتبدَّى أهمية «الرد الكتابي» وعلى نحو ما نظـَّرت له «نظرية الخطاب ما بعد الكولونالي». وهو الرد الذي لا يعلو عليه أي سلاح بالنسبة لـ"ابن البلد"، الذي صار مجلى لـ«الجرح الكولونيالي»، وخصوصا إذا ما توفـَّر في الرد «عنصر الخطاب» أو بالأدق «سلاح الخطاب». والظاهر أننا، وفي ضوء هذا المهاد، نكون قد أومأنا إلى أهمية النوع الروائي ولا على مستوى الانغراس في الرد الكتابي فقط، وإنما على مستوى تعميق الرد أيضا. ومن ثمّ منشأ "التاريخ النصي" الذي تبرع في الإسهام فيه الكتابة الروائية بطرائقها المخصوصة التي هي طرائق تداخل التخييل والتحقيق في أحيان وطرائق تخارجهما في أحيان أخرى. فقدرة الرواية على التشابك مع نص الواقع، وفي أفق صياغة خطابها، بارزة ومتعددة الأبعاد في الوقت ذاته.

وفي حال العراق، وعلى نحو ما يمكن أن يستخلص من الرواية التي ستكون موضوع دراستنا، لم يتبق للإنسان العراقي أي مجال من غير مجال التاريخ الذي بإمكانه أن يتحرَّك فيه وفي أفق صياغة تاريخ مضاد لما هو قائم على أرض الواقع المنخور والمنهك. وكما أسلفنا فالأمر في حال العراق تجاوز الإمبريالية نحو الاستعمار، وعلى النحو الذي تكشـَّف عنه فائض من استراتيجيا الإصرار على تشطير الأمة وتمزيق الهوية ونحر الذاكرة... مما طرح، وبإلحاح، مطلب السرد للرد على مخططات الاستحواذ (Appropriation) والإلغاء (Abrégation) والإزاحة (Displacement). وفي حال العراق، دائما، فإننا لا نعدم روايات كثيرة كان من المفهوم أن تنطبع بالسياق العام والسائد، وكان من المفهوم أن تسعى، وفي نماذج كثيرة منها، إلى الانخراط في «الرد الكتابي» على «الجنون الأمريكي». غير أن اللهاث نحو الالتباس بالسياق اللاهب لا يجعل الروايات تسلم من التفاوت والتراتبية، ذلك أن الأحداث الطازجة لا تسعف أبدا على صياغة نص روائي جدير بأن يحافظ على نسغه الفني في أثناء تعالقه مع السياق المتدافع والجارف. وهذا ما يجعل النصوص تقرأ قبل أن تقرأ، وما يجعلها تنطفئ قبل أصحابها. فمطمح الروائي، وفي معزل عن أية نظرة تفاضلية، يكمن في الكشف عن ما لا يمكن للمؤرخ الكشف عنه، وعلى النحو الذي لا يجعل الروائي ينافس المؤرخ أو يزاحمه، وعلى النحو الذي يجعله ــ وفي الوقت ذاته ــ أو من ناحية موازية ــ يجاور هذا الأخير في قلعة كتابة التاريخ. فلا مجال لـ"وهم المطابقة" حتـّى في الكتابة التاريخة ذاتها التي صارت، بدورها، لا تخلو من "تخييل".

ونتصور أن رواية (مجانين بوكا) (2012) تتموقع، بدورها، في أفق هذا «المعترك الفكري» المضمر والمفتوح الذي سعت روايات عراقية أخرى، وبتفاوت، إلى الانتساب إليه؛ وذلك على نحو ما يمكن أن نقرأ في (حارس التبغ) لعلي بدر (2008) و(حليب المارينز) لعواد علي (2008) و(الحفيدة الأميركية) لأنعام كجه جي (2008) و(أموات بغداد) لجمال حسين علي (2008) و(مقامة الكيروسين) لطه حامد الشبيب (2008) و(الشاحنة) لمحمود سعيد (2010) ... إلخ. روايات مكتوبة بمرجعيات مختلفة، ومتفاوتة على مستوى "الخطاب"؛ غير أنها تعكس المجتمع العراقي المفتت والمسحوق. هذا وإن كان يسجـَّل على أن أغلب هذه النصوص، وبما في ذلك نص "مجانين بوكا"، كتب في المنافي لأسباب يقع في مقدَّمها الحكم الديكتاتوري الأرهب والفولاذي الذي لازم العراق.

وـــ0مجانين بوكاـ9 هي لصاحبها الكاتب العراقي شاكر نوري. وللمناسبة فهي الرواية السابعة في سجله الروائي العام، وهي روايته الثانية ــ بعد (المنطقة الخضراء) (2009) ــ في سجل تعاطيه لـ«لغم احتلال العراق». وفي الحق فإن شاكر نوري في غير حاجة إلى تعريف، وخصوصا من ناحية حضوره الإعلامي الذي يغطي على إسهامه الروائي الذي لا يخلو من "تفرد" ضمن له مكانته بين روائيين وكتـّاب عرب معاصرين أمثال حسونة المصباحي وأمجد ناصر وحسن نجمي ومحمد الأشعري ... وبعيدا عن توصيف «الكاتب الإعلامي» الذي لا يخلو من «تبخيس» في الواقع الثقافي العربي في أحيان وأحيان كثيرة.

وأهم ما يلفت النظر، في نص (مجانين بوكا)، ومن ناحية "نواته الدلالية الكبرى"، هو التركيز على «الجرح الكولونيالي السافر»، وذلك من خلال الاستقرار (السردي) على "معتقل بوكا" ودونما تشديد على المداخل الأخرى للاحتلال والمتمثلة في مدخل الديكتاتورية المقيتة التي أفضت إلى الترحيب بـ"الغزاة" وتوسيع دوائر "المستنقع السياسي" أو مدخل "النفط ــ السخط" وعلى النحو الذي جعل "الشرق الأوسط" مجرد "محمية نفطية موثوقة ومتفهمة" أو مجرد "محطة بنزين" كما قال الكاتب المكسيكي كارلوس فينتيس ذات مرة. غير أن ما سلف، وبخصوص  المدخلين الأخيرين وسواهما، أي نوع من "التنقيص" طالما أننا لا نعدم في السجل الروائي العربي عامة، وقبل الاحتلال أيضا، نصوصا روائية لافتة ودالـَّة وساخرة من الديكتاتور والنفط. لقد حرص شاكر نوري، وهو الذي يقول إن «كل متر مربع في العراق بحاجة إلى رواية»، على أن "يلخص الحكاية"، وبوعي مقصود ومستثمر، في "معتقل بوكا" وباعتباره "معطى تاريخيا" مشرعا على "التصعيد الفني"، وكل ذلك من خلال تداخل إواليات التخييل والتأريخ والسخرية ... وفي إطار من السرد بغير معناه اللوغارتمي وبغير معناه التبليغي في الوقت ذاته. والأدب (وبمعناه الجذري) لا يمكنه إيقاف زحف "البربرية" ... غير أنه يخدش "الشر" ويسخر منه.

وكما قلنا، وفي أكثر من قراءة لرواية عربية، ليس هناك ما هو أسوأ من تلخيص رواية ... وليس لأن التلخيص لا يقع في صميم "عمل الناقد" فقط، وإنما لأن النص الروائي ذاته لا يقبل التلخيص. والمؤكد أننا نقصد، هنا، إلى النص المتماسك بنيويا والمتناسل دلاليا. وفي حال (مجامين بوكا) فإننا لا نعدم نوعا من "الدفق السردي" ونوعا من دوران المراكز الدلالية وتكرارها في أحيان، وعلى النحو الذي قد يشرك القارئ في "الإنتاج الدلالي". وتتمحور الرواية حول مراسل حربي وجد نفسه، بعد نقاش مع جنرالات، وفي حانة ببغداد ("حانة الرافدين")، وبدافع من الوطنية والكرامة أيضا، في كتيبة مشاة تتقدمها فرقة المدفعية، ودخل ــ بالتالي ــ في حرب ضد المحتل الأمريكي وفي صحراء مترامية الأطراف تتيه فيها الجمال العملاقة وخبراء الصحراء والمهرّبون المحترفون وصيادو الصقور من الذين خصّهم شاكر نوري نفسه بروايته (شامان) (2011). حرب غير متكافئة على الإطلاق، وقبل ذلك غير تقليدية.

يقول السارد: «لم نكن في حروب القرون الوسطى: السيف بالسيف والرمح بالرمح، بل لم نكن حتى في حرب نظامية، كانت الحرب لا تعدو أن تكون على النحو التالي: العدو يمطرنا بقاذفاته ونيرانه من السماء، ونحن لا نجد أي غطاء أو ملجأ نحتمي به!» (ص28). فجميع المؤشرات كانت ترجـِّح كفة العدو الذي أصرّ على القتال عبر الجو قبل الأرض، وقبل ذلك كيف يمكن مجابهة عدو يملك نصف ما ينتشر في الكون من سلاح. ولذلك فإنه، وبعد تيه متصاعد وشلل متزايد، وبعد تساؤل حول الجدوى من الحرب التي هي «خدعة كبيرة، يحرّك خيوطها الكبار، ويطبق قواعدها الصعار» (ص24)، سيبدأ العد العكسي لهروب جماعي. ومن ثمّ سينتهى شريط الحرب، وبالتالي سيجد المراسل الحربي نفسه، وبعدّته الصحافية، في معتقل بوكا الرهيب الذي سيمضي فيه سبع سنوات من عمره تاركا أمه وزوجته وابنه الصغير.

وفي الوقت الذي استقرّ فيه، المراسل الحربي، على أن السبع سنوات صارت من شواهد حياته في الماضي، وكمئات آلاف العراقيين، فإذا بمندوب شركة سينمائية أمريكية ("ستار برودكشين") يفاجئه، وفي عنوانه بأحد الأحياء الشعبية، بطلب مذكراته لتصوير فيلم سينمائي في المعتقل ذاته الذي كتب فيه مذكراته. وحتى إن كان المراسل الحربي قد أبدى، في البداية، تحفـُّظه بخصوص الطلب، بدليل أنه يصعب تحديد المعتقل في صحراء مترامية الأطراف، فإنه، في الأخير، قبل بالطلب ... وأخذ يعدِّد مجمل الأمكنة والوقائع والوجوه التي يمكنها تأثيث الفيلم. كان الطلب، إذن، وكما في روايات كثيرة، شرارة دفق السرد. وأوّل ما كان قد حار فيه المراسل الحربي هو تسمية "بوكا" التي تعود إلى الماريشال الإطفائي الأمريكي الشهير (من أصل إسباني) رونالد بوكا الذي قضى في هجمات 11 أيلول/ سبتمبر وهو يطفئ الحرائق التي استهدفت برجي التجارة العالمين بنيويورك. وكان المراسل شاهدا على توالد كرافانات المعتقل وكامباته إلى أن بلغت أربعة عنابر، هي: العنبر الأخضر: ونزلاؤه ــ كما يشرح السارد ــ مسالمون لم يدانوا بأية تهمة. والعنبر الأصفر: ويضم معتقلين يعتقد المحققون أنهم يشكلون خطرا. والعنبر الأحمر: ويضم قادة القاعدة والإسلاميين المتطرفين. والعنبر الرابع: عنبر المجانين، ولم يكن له أي لون. وستستوعب هذه العنابر 25 ألف معتقل محاطين بما يزيد عن ثمانية آلاف جندي أمريكي يحرسونهم.

وسيكون المعتقل صورة للمجتمع العراقي في ألوان طيفه السياسي وفي تشكيلاته الاجتماعية الجديدة. ولذلك وجدنا بين المعتقلين من كانوا على صلة بجهاز الدولة ونظام الحكم فيها كما هي الحال بالنسبة للجنرالات السبعة والخياط مكزون (خياط صاحب الأمر الذي ارتقى إلى وزير)، ووجدنا من هم بعيدين عن دوائر الدولة مثل القناص ورجل الأعمال ظافر وابنه المهندس، ووجدنا من ينتمي لقطاع الإبداع والكتابة كما في حال مزهر ... هذا بالإضافة إلى المنتمين لتيارات الإسلام السياسي من المتطرفين في غالبيتهم ومن الذين يسيطرون على المعتقل ويتحكـّمون فيه. وجميع هؤلاء سيلخصون في أرقام ملغـزة، ومختلفة تبعا لاختلاف خطورتهم.

وستمارس في المعتقل، ومن أجل انتزاع "المعلومة"، أعتى أشكال التعذيب. وأفظع هذه الأشكال ما يعرف بـ"الديسكو" الذي تطلق فيه موسيقى صاخبة ومدوِّية تشقّ طبلات الأذن، وتشلّ الدماغ، وتصل إلى قاع الرؤوس ... بل وتفضي إلى الجنون. وهناك الضرب القاسي، والكي بالآلات الحارقة وسكب المياه المثلجة على الأجسام العارية، والإجبار على القيام بحركات القعود والنهوض على أنغام الموسيقى الصاخبة. وهناك استخدام مسحوق الفلفل الأسود في الأكياس البلاستيكية السوداء التي تغطى بها الرؤوس. وحتى الشمس تتحول إلى "عامل معاكس" حين تسهم، عبر أشعتها الحارقة، في تعميق التعذيب. ودون التغافل، هنا، عن شتائم الجلادين وتهديداتهم للمعتقلين باغتصابهم واغتصاب عائلاتهم على مرأى من أعينهم. فبوكا جحيم، ولا تعدو الإقامة فيه أكثر من تدريب على الموت بالتقسيط. ونادرا ما يمكن الإفلات منه ... بل إنه كان يسمح للمعتقلين بالهروب لأنه كان في ذلك ترخيصا غير مباشر بقتلهم.

وعلى الرغم من المقاومة التي أبداها المعتقلون، وعبر أشكال الشطرنج والإبر ... التي ابتكروها من خلال ما أتيح لهم من مواد بسيطة، وعبر أشكال الحلم، فإن كثيرين قضوا في المعتقل الرهيب الذي تجاوز فيه التعذيب ما حصل في أبو غريب وغوانتنامو ... أي السجون التي ارتبطت بالأمريكان. واللافت أنـَّه حتى الجنود الأمريكان حصل لديهم عياء كبير من شدة المراقبة، بل وتوفي بعضهم (المدير الثعلب روبرت مورن والمشرف العام على المعتقل ستيفن كينث)؛ وهذا في الوقت الذي انتحرت فيه مساعدة المدير (جين مكملاين). ولما أصبح المعتقل على أهبة الانفجار المحقـّق، نتيجة العجز الذي بدا بيـّنا على مستوى إدارته والتحكـّم فيه، تمّ تبديده بسهولة طالما أنه شيـّد فوق الرمال وبسهولة مشابهة. ولكن كيف يمكن لنا أن نرى إلى معطى المجموعات التكفيرية التي راحت تفصح عن وجودها من داخل المعتقل وإلى الحد الذي جعلها تتصادم فيما بينها، بل وبلغ الصدام بينها حد المواجهة الدامية والتصفية الجسدية. أجل لقد كان بروز المجموعات، وفي البداية، بتزكية من المحتل نفسه، وذلك حين سمحوا لهم بأن ينقسموا على ذواتهم حتى تسهل "الهيمنة" عليهم؛ غير أنه سرعان ما صار الانقسام يشكـّل خطرا، ولذلك لم يجدوا بدّا من أسلوب القوة لمجابهتهم.

صار هناك معتقل في قلب معتقل، ولم يختلف الأوّل عن الثاني في أشكال التعذيب بشكليه النفسي والمادي الإجرائي التسلطي المباشر. ولذلك فإنه عندما شاع خبر "الصلاة الجديدة"، التي نشرها نوح، ثار الزعماء الثلاثة (أبا أنس وأبا سجـّاد وأبا عيسى) (المعتقلون بدورهم)، وعدّوه ــ وعلى الفور ــ "كافرا" لأن صلاته لا تشبه صلاتهم؛ وكانت النتيجة، وعلاوة على "تكفيره"، أن استدعوه لـ"التحقيق". وعندما قام عمر للآذان، وبصوته الجميل، امتنع أعضاء من جيش المهدي عن الصلاة؛ وسمحوا له، بعد تشاور، لكن شريطة عدم تكرار فعلته. وكما أن "ستر العورة"، ومن السرّة حتى الركبة، يظل أرحم مقارنة مع إخفاء شخصية الإنسان كما في حال رجل الأعمال الذي وجد ذاته في المعتقل: «إذا عرفوا أنك رجل أعمال، فسوف يساومونك على أموالك، وتخسر كل شيء، خصوصا إذا نقلوك إلى كامب التكفيريين، فهم سيجبرونك على التبرّع لمجاهديهم، وإلا هددوا عائلتك! وإذا لم تفعل، فهم يقتلعون عينيك أو يقطعون لك الأطراف العليا أو السفلى أو تقتل! هذه شريعة التكفيريين» (ص302). وهؤلاء «لا يترددون في قطع أصابع من يدخن السجائر، وكسر أطراف وأيادي وأرجل من ينتسب إلى رجال الشرطة أو الحرس الوطني أو حتى الدوائر الحكومية، حتى لو كانوا يشاركونهم في المعتقل!» (ص314). وقد أقدموا على أشياء كثيرة لا يحتملها العقل قلعوا عيني أحد وتروكهما تتدليان تحت ذقنه، وتجاوزا ذلك نحو القتل. إننا بصدد تمزق ديني غير مسبوق، وبما يخالطه من كراهية فولاذية، ممّا جعل المراسل الحربي، الذي هو مدار "الأطروحة" التي يسعى الكاتب إلى تسريبها، يستغرب، وفي وضوح تام، وباسم الإله ذاته. يقول: «يا إلهي! أين كانت تختبئ تلك الجماعات قبل الغزو، بين طبقات الأرض، أم في طيات الرياح، أم في جحور النمل؟!» (ص323).

وكما في «أفاعيل الاستعمار»، ونهج هذا الأخير التفتيتي، جلب الاحتلال الأمريكي شيئا آخر ــ وأفظع ــ للمجتمع العراقي، ولم يكن الإنسان العراقي ليقبل به. ونقصد، هنا، إلى الدعارة كما يمكن أن نطلع عليها في الفصل الخامس "فندق برج بابل" المكرّس للخياط مكزون. وكان هذا الأخير قد اصطدم، ومن داخل المعتقل، بنبأ زوجته التي أخذت تبيت في الفندق الذي أخذ يتجمع فيه أهالي المعتقلين باعتباره النقطة الأقرب من بوكا. غير أنه سرعان ما تحوَّل الفندق إلى مرتع لـ«البغايا الآتيات من كل مكان، ممن يحلمن بالهجرة، ومنهن من يحلمن بلقاء أحد الخليجيين الأثرياء، وخصوصا كبار السن، ممن لفظتهم عائلاتهم، وجاؤوا يبحثون عن أجساد عراقية طرية، ورخيصة الثمن، يلوكون في أجسادهم الخرمة شهوة قديمة! مجون جنسي، رغبة انتقام من المرأة، هوس مرضي!» (ص235). وهذا ما أزعج مكزون، وخصوصا في الأيام الأخيرة، مما جعل حالته النفسية متدهورة وميؤوسا منها. ولذلك وضعته إدارة المعتقل في عنبر المجانين، بل واضطرت لإطلاق سراحه؛ وكانت النتيجة أن قصد زوجته وأرداها قتيلة في الفندق وكأنه يقتل الفندق ذاته الذي صار رمزا للتمزق الاجتماعي الذي أخذ يعصف بالمجتمع ككل (مجتمع ما بعد الاحتلال).

فالرواية، ومن خلال سجن بوكا، تعيد فكرة إدوارد سعيد حول "الإمبريالية" التي عادت، في العقود الأخيرة  من القرن العشرين، لتعكس "حضورها" بـ"أشكال معاصرة"، وعلى النحو الذي عادت من خلاله أمريكا لتؤكد على الاحتلال في مظاهره المباشرة والزاعقة. ولذلك فإن تساؤل "مجانين بوكا": «لماذا قطعوا آلاف الكيلمترات وعبروا البحار والصحارى والوديان لقتالنا؟» (ص23) هو تساؤل حول الاستعمار ذاته. ألم يفعل البريطانيون الشيء نفسه من قبل حتى بلغوا الهند؟! ولذلك لا يبدو غريبا أن تحرص الرواية، وعلى مدار دفقها السردي، على نعت الأمريكيين بـ"الغزاة". هؤلاء ليسوا فاتحين أو ناشرين للحرية أو حاملين لأية "مهمة" من غير مهمة "الاحتلال" في أفق "تخريب الذاكرة" وفي أفق "الهيمنة الثقافية" عبر زرع البعثرة الطائفية والشرذمة العرقية.

وفي الحق فإن ما أقدم الأمريكيون على القيام به في العراق تجاوز الاستعمار المباشر ذاته أو تجاوز "العقل الكولونيالي" نحو "الجنون الكولونيالي". وهو ما يمكن التأكـّد منه من خلال دواعي الاعتقالات التي تتجاوز الدواعي المعروفة التي تلصق بالأفراد قبل بدء التحقيق معهم في المخافر السرية بل وقبل وصول هؤلاء إلى هذه المخافر. تهم من مثل "تفخيخ السيارات" و"إطلاق الصواريخ" و"زرع العبوات الناسفة" و"التخابر مع رجال المقاومة" و"تسهيل دخول أعضاء القاعدة". إننا نقصد، هنا، إلى تهم من نوع آخر من مثل "تهمة القناص" مع أن هذا الأخير لا يجيد حتى استخدام البندقية ولا يعرف أجزاءها. وتبدو التهمة الأخيرة "واردة" مقارنة مع اعتقال شخص آخر لا لشيء إلا لأن كبشه نطح ضابطا أمريكا، وكانت التهمة تدريب الأكباش على نطح الأمريكيين. ودون التغافل، وفي ذروة الجنون، عن الاعتقالات العشوائية من أمام فرن حتى يكتمل العدد المطلوب من المعتقلين.

وعلى الرغم من الطابع العسكري الغالب للاحتلال فإن الرواية لا يفوتها أن تحفل، وإن في مواضع معدودة، بمسلكيات وأفعال دالـَّة على "التصادم الثقافي". فـ«روبرت مورن كان يقرأ الإنجيل ليلا ويعذبنا نهارا» (ص17). «لم يكونوا جنودا بيضا وشقرا وذوي عيون زرق كما تخيلناهم، ذلك الجنس الثلجي الآتي من وراء المحيط، بل بعضهم يشبهنا، أسمر السحنة، بل بينهم عرب وعراقيون نالوا الجنسية الأمريكية، وأصبحوا من هؤلاء الغزاة» (ص53). وهذا ما لا ينبغي أن يكون موطن استغراب، طالما أن الهجرة تقع في صميم تشكـُّل "مفهوم الأمة" بأمريكا كما يتصور الناقد الهندي ما بعد الوكولونيالي الأبرز والأشهر هومي بابا (Homi Bhabha) في كتابه "موقع الثقافة".

وكما يتجلى التصادم الثقافي، وبشكل أوضح، من خلال تنميط استشراقي بارز ونافر، هذه المرّة؛ وكل ذلك من خلال "لعبة بوكا أو كيف تقاتل الأشرار". وهي لعبة إلكترونية للأطفال حرصت من خلالها إحدى الشركات الأمريكية إلى جني الأرباح، وقبل ذلك إلى بثّ "سموم الاستشراق" في الأطفال. ويعلـِّق السارد هنا قائلا: "انتشرت تفاصيل تلك اللعبة في بوكا، هذه اللعبة المسمومة، التي تجاهلت حقائق بوكا، ولم تذكر أساليب تعذيبهم البتة. لم تذكر اللعبة كيف كانوا يضعوننا في باطن الحاويات الحديدية لمدة ثلاث وعشرين ساعة، ويسلطون علينا موسيقى الروك والميتال حتى تتفجر آذاننا، ويغمى علينا، ولا وجود للعنبر الأحمر، من دون سقف، ولا لضربة الشمس، ولا لعنبر المجانين، ووقوفنا على الأسلاك الشائكة لساعات طويلة، ولا الحمامات، أو عقوبة البوكس مع الكلب. «ولم تذكر اللعبة سوى أننا جماعات إرهابية تفجـّر دباباتهم التي جلبت لنا الحرية!» (ص335).

إننا هنا بإزاء ما تسميه "دراسات ما بعد الاستعمار"، بـ"إساءات التمثيل Misreprésentations"  في "دلالة" (ومعكوسة، وابتداءً) على "تفوّق الرجل الأبيض" أو باصطلاح المعجم الأمريكي الإعلامي (المنمـَّط) تفوّق "محور الخير" على "محور الشر" الذي هو محور "الإرهاب" تبعا للتسمية المكرورة والمبتسرة. إن ما حصل في العراق، أو «عراق ما بعد صدام حسين»، يمكن النظر إليه كـ«حدث افتتاحي لعصر ما بعد الاستشراق» كما جادل فاضل الربيعي في كتابه "ما بعد الاستشراق ــ الغزو الأمريكي للعراق وعودة الكولونياليات البيضاء» (2007). فنحن بصدد نمط رؤيوي استشراقي عملي متأخر يتعامى، وعن قصد، عن جذور الإرهاب، وعن الاعتبارات التي جعلت الإرهاب يرتقي إلى "شبح كاسح" و"مشرعن" في نظر مجموعات بعينها. وهذا الأخير قابل لأن يفهم من وجهة نظر "التفسير التاريخي" وليس من وجهة النظر "التفسير الاستعلائي العدائي" الذي لا يراعي "السياق الضاغط" فقط وإنمـّا  يولـِّد فائضا من "الكراهية الجامحة" ومن الإصرار على "الانتقام العاجل" عبر المسامير وكل ما هو متاح من متفجـِّرات تختلط بالأحشاء والأشياء. وهذا ما تومئ إليه الرواية ... وإن كانت، وفي النظر الأخير، لا توافق عليه.

وعلى مستوى آخر، وفي سياق الأخذ بـ"عفريت التصنيف"، فإنه لا يمكن حصر الرواية ضمن دائرة "أدب الحرب" فقط وكما تغري بذلك "القراءة الأولى". وهذا رغم أن الراوية تعنى بموضوعة الحرب، وتتضمن لمعا فكرية بخصوص الموضوعة، وتجعل من "مراسل حربي" بطلها الرئيس بل وتكلفه بـ"مهمة السرد". وكما لا يمكن حصرها في "أدب السجون" أو "المعتقلات" فقط. وهذا رغم أنها تتمحور حول معتقل بوكا الذي يرتقي ــ وباعتباره مكانا بطلا ــ إلى مصاف المكوِّن الذي يغطّي على مكوِّن الشخوص وباقي مكوِّنات النص الروائي. الرواية، في تصوري، تعنى بـ"التمثيل Représentation"، بل وتهجس بمرتكز هذا الأخير. ما يهمّها هو "جرح المعتقل" وكيف أن الاحتلال الأمريكي كان في أساس اندلاقه. هي تتشابك، وبطريقتها، مع التاريخ وكل ذلك في المنظور الذي لا يفارق ما خلـّفه المحتل من "أعطاب" على مستوى التاريخ ذاته ومن "جروح" على مستوى النفوس.

لقد صمـّم المحتل على بناء المعتقل بطريقة تمكـِّنه من التخلص منه بسهولة لكن على أرض الواقع وليس على أرض الذاكرة أو التاريخ. و"بيان الأمر"، هنا، كان على الروائي وليس المؤرخ كما فصَّلنا القول ــ وبعض الشيء ــ في نص المهاد. وإصرار الكاتب على عدم مزاحمة المؤرخ، أو قتله، هو ما جعله يرجئ أو بالأحرى يذيـِّل الرواية بـ"نص توثيقي" في دلالة على "تاريخية الحدث" و"ثقله" في الوقت ذاته. أجل كان بإمكان الكاتب أن يستغني عن هذا النص لكي لا نطالبه بتضمينه في الرواية طالما أن هذه الأخيرة لا تحفل بـ"اللعب السردي" ولا تدعّي الانتساب للرواية المضادة والروايسة المثقلة بالقصاصات أو مهرجان الخطابات. فـ"عمود السرد"، في الرواية، قرين "مركزية  التمثيل". وثقل التمثيل هو الذي جعل الرواية، في نظرنا، تحفل، ومن بعيد، بـ"موضوع الذاكرة"، مثلما تطرح ما تعرضت له هذه الأخيرة ــ وفي العراق تعيينا ــ من نهب بلغ حد التخريب ومن تحرش بلغ حد النحر. وكما أنها جاءت لتطرح ذاكرتها التي هي من صنف "الذاكرة المضادة" التي تشترط مرتكز "العمل" الذي هو "عمل الذاكرة" ذاتها. وما حصل في العراق غير قابل لـ"النسيان"، و"نسيان أمر ما صعود نحو باب الهاوية" كما قال الشاعر الفلسطيني محمود درويش الذي لا تزال بلاده تعاني استعمارا متصلـِّبا وعنصريـّا ... ويطال الذاكرة أيضا.

وكما تطرح (مجانين بوكا)، ومن بعيد أيضا، "موضوع الهوية"... وإن بحدّة أقل مقارنه مع موضوع الذاكرة. الهوية وعلى ما أخذ يطالها، وعلى غرار الذاكرة، من تفتيت مقصود ومدروس ومبرمج. وكما أن الرواية تطرح موضوع السرد ككل، وأحقية "سرد الحكاية العراقية". والسرد، هنا، الوجه الآخر لمقاومة النسيان. ولعلّ في الذاكرة والهوية والسرد ما يؤكـِّد على ما يمكن نعته بـ"ألغام العصر" التي يفيدنا "النقد الثقافي" على مستوى فك ما يداخل وما يخارج ما بينها. والرواية تطرح هذه الألغام بحس إنسانوي مرهق بل معدَّل وملطـَّف (Tempéré) على نحو ما دعا إليه الفيلسوف ومؤرخ الأفكار تزفتان تودوروف في مختتم كتابه الدسم "نحن والآخر". الكاتب لا يبدو موافقا على "الخيار التكفيري" الذي يصرّ على الاستئصال والاجتثات، ولذلك دافع المراسل الحربي، ومن خلفة السارد والكاتب، على التخندق في صف "المقاومة": "أرئيتم، كيف تصنعون الإرهابيين بسهولة؟! تحلو لكم هذه التسمية فيما تحتفظون بكلمة مقاومين لكم فقط، وتنكرون استخدامها علينا" (ص66)، وقبل ذلك التخندق في صفة الكتابة والإبداع. فبوكا هو العراق بأكمله، والموقف منه هو موقف من الانهيار القائم والقادم من جميع الجهات. وحتـّى إن كنـّا نقصد، من قبل، إلى السرد بمعناه المصاغ في النقد الثقافي... ممّا جعل هذا الأخير يلتبس بالتاريخ والجغرافيا... وممّا جعل الكاتب يفيد من حسـِّه الصحفي، ومن تقنية الروبرتاج تعيينا... وممّا جعله يفيد من تقنيات الفن السينمائي، وخصوصا من ناحية تقنية "المونتاج الموازي" ... وكل ذلك في إطار من دفق لغوي استطرادي قوامه الكشف والتأمل البارق  في أحيان والسخرية وإن في أحيان قليلة.

غير أن ما سلف لم يحرم الرواية من بعض مكتسبات السرد بمعناه البنيوي أو السرد في حضوره الذاتي المستقل وعلى نحو ما يتأكـّد من خلال تقنية "التوالد" وليس تقنية "التحوّل" بالنظر إلى المصائر المتشابهة لشخوص الرواية في تطلـُّعها إلى الحرية بمعناها التاريخي الإنساني، وبالنظر إلى إصرار كل فرد على سرد الحكاية ذاتها التي لا تختلف في"إطارها العام" الذي هو إطار العراق ومربع الجحيم فيه. وهذا على الرغم من "السرد الدائري" أو "الحلزوني" الذي سعت الرواية إلى إيهامنا به حين جعلت الحكاية تبدأ بالمراسل الحربي وتنتهي به. الرواية تنخرط في "حكاية العراق" ككل. وهي وحتـّى إن كانت تعجّ بـ"عار الاستعمار"، و"ظلم العصر"، فإنها تتشبث، ومن داخل الخراب، بالحياة... وإلا كان مصير بطلها الموت وــ بالتالي ــ النسيان.