تكشف دراسة الكاتب العراقي عن أن مسيرة المسرح العربي المتأخرة ومعرفة كتابه بالعديد من المذاهب المسرحية التي وفرتها الترجمات النقدية أدت إلى تعددية المذاهب فيه، مما أغنى رصيده الدرامي منذ بداياته مع مارون النقاش وأبو خليل القباني وحتى أعمال توفيق الحكيم وألفريد فرج وصلاح عبدالصبور وسعدالله ونوس.

تعددية المذاهب والاساليب والتيارات المسرحية

في النص المسرحي العربي

إسماعيل الياسري

برزت ظاهرة التعددية في النص المسرحي العالمي، بعد ظهور المذاهب الأدبية، وتعاقبها على الساحة الأدبية، إذ كانت عملية ظهور المذاهب أشبه «بالموجات في مجرى الفكر الإنساني، لكل موجة بدؤها، وصعودها وهبوطها، ولكنها حين تهبط تدفع بأختها في طريق تقدّم عام، لا تخلّف فيه»(1). وإن ما يميز عملية التعاقب هذه بين المذاهب الأدبية المختلفة، أن كل مذهب من هذه المذاهب، يمثّل مرحلة من مراحل تطور الأدب العالمي، مرحلة غنية، ومثمرة أملتها ضرورة تاريخية. لذا تعددت المذاهب مابين، كلاسيكية، ورومانسية، وواقعية، ورمزية، وتعبيرية، على الساحة الأدبية، وظهرت تيارات وأساليب أخرى، كالمسرح الملحمي، والمسرح التسجيلي، والعبث واللامعقول، مما جعل الكاتب المسرحي كثير التحول والتجريب، كل ذلك جاء نتيجة لظهور نظريات فلسفية، ونفسية، جديدة، ونتيجة للمتغيرات الحضارية المختلفة والحروب المتتالية، التي ولّدت حالة من القلق، والاضطراب، وشعور الإنسان بالغربة، والوحدة، وعبثية الحياة، وعدم الاستقرار، كذلك «التطور السريع للتكنولوجيا، الذي لم يؤد فقط إلى زيادة سرعة تغير الأمزجة، بل أدى أيضا إلى تغير مجال الاهتمام، فيما يتعلق بمعايير الذوق الجمالي، وأدى إلى شغف جنوني(...) بالتجديد، وسعي مستمر إلى الجديد، لمجرد كونه جديدا»(2) لذا تداخلت هذه المذاهب ولم تبق بعد الحرب العالمية الثانية مذاهب أدبية واضحة المعالم، وشاملة، ومرتكزة إلى فلسفة، أو نظرة إلى الحياة، كما عهدنا في المذاهب الأدبية الكبرى، بل بقيت شذرات من المذاهب القديمة، متمازجة مع مذاهب، واتجاهات صغيرة. كل تلك المعطيات جعلت الكتّاب ينسجمون مع الحالة الجديدة، التي وصل إليها الأدب، وجاءت كتاباتهم بأطر، وفلسفات، ومضامين جديدة تعبر عن روح العصر الجديد، فظهرت التعددية في النص المسرحي وأصبح الكاتب يخلط في كتاباته بين مذاهب، مختلفة، من واقعية إلى رمزية إلى عبثية أو لامعقول، واستعين بالأساطير، والتحليل النفسي، ولم يلتزم بالشروط الأساسية في تكوين المسرحية. لذا بات من غير الممكن القول في «سيطرة مذهب واحد على فترة واحدة، أو إبداعية عمل أدبي واحد، فصفاء أي مذهب من شوائب المذاهب الأخرى، هو صفاء نسبي»(3). فأصبح من الممكن أن يلاحظ في النص الواحد تعددا لمذاهب، مختلفة.

اما في الوطن العربي فقد كانت ظاهرة التعددية في المسرح العربي أكثر وضوحا منها في المسرح العالمي، وذلك لأن الكاتب العربي، لم يعرف المذاهب الأدبية، منذ نشأتها الأولى، وتعاقبها، وتطورها التدريجي، وظهور كتّاب ونقّاد ومفكرين لكل مذهب، إنما اطلع عليها كلها في فترة زمنية واحدة، وذلك عن طريق، ترجمة الكثير من الكتب النقدية، والنصوص المسرحية، التي تنتمي الى عصور، ومراحل، ومدارس مختلفة، فتأثره بها جميعا. إذ أن الكاتب العربي قد تأثر بالمسرح اليوناني، وبمسرح شكسبير، وبالكلاسيكية، والرومانسية، والواقعية، وبمسرح ابسن، وتشيخوف، وبيرانديللو، دون أن يعيش في زمن هذه المدارس، أو ينتمي إلى أية أمة من أُمم هؤلاء الكتاب، كذلك تأثر بتيارات القرن العشرين من مسرح ملحمي، ومسرح تسجيلي، ومسرح عبث ولامعقول، ولأن الكاتب المسرحي العربي «لا جذور له في هذا الفن تعصمه من الانبهار، فقد تتراكم في نص واحد من نصوصه تأثيرات مختلفة متعددة متناقضة»(4). فإذا تذكرنا أن كل كاتب من هؤلاء الكتّاب الأجانب، الذين تأثر بهم الكاتب المسرحي العربي، ينتمون إلى مذاهب شتى، وأساليب مسرحية مختلفة، أدركنا مدى الاختلاطات، التي كانت تتم عند كل واحد من كتّاب المسرح العربي، وتلك هي الورطة التي وجد الكاتب العربي نفسه فيها، وهي تعدد المذاهب في أغلب النصوص التي يكتبها، وأصبح الكاتب العربي الذي تأثر بمختلف المذاهب والتيارات المسرحية الأجنبية -القديمة والحديثة - مضطراً أن يصوغ من مجمل ماتأثر به من هذه المذاهب المختلفة التي اطلع عليها والمسرحيات المختلفة التي قرأها، أسلوبا فنيا خاصا به، مقنعا لعصره، ومتناسبا مع الواقع الذي يعيشه .لذا برزت ظاهرة التعددية في كثير من النصوص، التي حاول كُتّابُها أن يُعالجوا من خلالها قضايا اجتماعية، وسياسية مختلفة، إذ يمكن أن تلاحظ بذور هذه التعددية في كتابات رواد المسرح العربي، بدءا من (مارون النقاش)(*) الذي قدم أول نص مسرحي عربي وهو مسرحية ( البخيل )عام 1847م بعد أن زار ايطاليا، واطلع على بعض العروض المسرحية، وأظهر انبهاره بهذا الفن، وحاول نقله الى بلاده، وقد أخذ فكرة مسرحيته (البخيل) من مسرحية (البخيل ) لـ(موليير)، ونسج على غرارها مسرحيته، التي تتناسب والذوق العربي في تلك الفترة، وقد خلط في هذا النص ما بين الكلاسيكية والرومانسية، إذ ظهرت الكلاسيكية من خلال تقديم الجوقة، والفصول الخمسة، وتاريخية الحدث، أما الرومانسية فمن خلال عدم التزام الكاتب بالوحدات الثلاث ونهاية المسرحية السعيدة، وتقديم الأناشيد، والأغاني. كذلك تلاحظ التعددية في مسرحيته الأخرى (أبو الحسن المغفل) عام 1849م، والتي أخذ موضوعها من ألف ليلة وليلة، فالمسرحية تتكون من ثلاثة فصول، حاول النقاش أن يلبسها لبوسا جديدا قريبا الى واقع البيئة العربية في تلك الفترة، وجعلها تتناسب وذوق الجمهور آنذاك، فجعل حوارها خليطا من النثر، والشعر، وأدخل الفكاهة، والغناء، والموسيقى فيها.(5) كذلك استخدم الجوقة، وهي تنشد، وتدعو للخليفة بالتوفيق، كذلك تقنية مسرح داخل مسرح، عندما يؤدي (أبو الحسن المغفل) شخصية الخليفة (هارون الرشيد)، بينما يراقبه الخليفة ويهزأ منه، وفعل الشيء نفسه في مسرحيته الأخرى (الحسود السليط)، التي ضمّنها الشعر، والفكاهة، والغناء، محاولا التنقل فيها مابين المسرح الغربي، والتراث العربي، مستخدما الموسيقى، والشعر، والرقص. لذا يمكن القول إن (النقاش) حاول في مسرحياته الثلاث التنقل بين الكلاسيكية والرومانسية، وأن يجمع في المسرحية الواحدة شعرا، ونثرا، وأنغاما، والسبب في ذلك، إن النقاش عندما اطلع على المسرح العالمي، وحاول أن يقلّد هذا المسرح لم يلتفت الى ما يحكمه من قواعد، وأصول، بل ربما تجاهل هذه القواعد، فبرزت التعددية في نصوصه من خلال انتقاله بين هذه المذاهب.

كذلك ظهرت بذور التعددية في المسرح العربي من خلال كتابات (أحمد أبي خليل القباني)(*) المسرحية، الذي استعان بالتراث العربي والمسرح الغربي من أجل تأليفها، والتي أضاف إليها الشعر، والرقص، والغناء، وبما يتلاءم وذوق الجمهور العربي. ويرى (علي الراعي) أن القباني لم يعتمد «النص الأدبي في المحل الأول، أساسا للمسرحيات التي كتبها بل ألتفت التفاتا أكبر الى عناصر الغناء، والإنشاد، والرقص»(6). وقد ظهر ذلك واضحا في مسرحيته الأولى التي ألّفها وهي (ناكر الجميل)، التي قدّم فيها إضافة إلى الحكاية، الغناء، والموسيقى، والرقص، لذا يلاحظ أن (القباني) على مستوى البناء الفني لمسرحياته لم يكن «مجدداً أو مخترعاً، بل نقل شكل المسرح الغربي، إذ قيل له في الغرب فن هذه صورته فقلّده، وكل ما فعله القباني، أنه نقل الحكايات التراثية، وجسّدها، وجعل القصة، والحادثة في خدمة الأغنية، والموشح، والرقص، والموسيقى»(7). لهذا يرى الباحث أن القباني لم يلتزم في مسرحياته بمذهب معين، لأنه لم يكن على دراية بذلك، وإنما اطلع على أعمال مسرحية، ونصوص، وقلّدها من خلال حكايات تراثية، أو تاريخية مازجا معها الغناء، والرقص، والموسيقى، لتتلاءم مع ذوق الجمهور وقت ذاك .

وإذا انتقلنا إلى رائد المسرح الشعري العربي (أحمد شوقي)، يلاحظ أن التعددية موجودة في كثير من مسرحياته الشعرية، إذ كثيرا ما كانت تتعدد في مسرحياته «اتجاهات المذاهب الأدبية المختلفة، من كلاسيكية، ورومانسية، ثم واقعية ضيئلة»(8). وذلك لأن شوقي قد تأثر في بداية حياته الأدبية بالمدرسة الكلاسيكية، من خلال دراسته في فرنسا، واطلاعه على الآداب المسرحية العالمية ولاسيما الكلاسيكية الفرنسية، لذا آثر أن تكون مسرحياته شعرا، ومال الى المواضيع التاريخية، مقلدا بذلك (كورني)، و(راسين). فكتب مسرحيات، استمد مواضيعها من التاريخ العربي القديم، أو القريب، مثل مسرحية (مصرع كليوباترا) 1929م، و(مجنون ليلى) 1921م، و(قمبيز) 1931م، و(عنترة) 1932م، و(علي بك الكبير) 1932م. كذلك اختار شخصيات مسرحياته من الأبطال، والقادة، والأمراء، مثل (كليوباترا)، (قمبيز)، (عنترة)، (علي بك الكبير)، غير أنه لم يلتزم بالقواعد الكلاسيكية، إذ بدا تأثره بالمدرسة الرومانسية في نصوصه واضحا، وذلك من خلال تجاوزه مبدأ الوحدات الثلاث، وإدخال الأغاني، ومجالس الطرب في مسرحياته، و يلاحظ ذلك في مسرحية (مجنون ليلى)، كما يلاحظ في كثير من مسرحياته أن عنصر الملهاة يزدوج مع عنصر المأساة، وهو مبدأ فني في الدراما الرومانسية، مثال ذلك وجود شخصيات كوميدية في مسرحيات تراجيدية، مثلا شخصية (انشو) مضحك الملكة في مسرحية (مصرع كليوباترا)، وشخصية (مقلاص) مضحك الملك في مسرحية (أميرة الأندلس). كذلك يلاحظ أن شوقي لا يأخذ بمبدأ إيثار وصف المناظر العنيفة على مشاهديه، وإنما يفضّل عرضها على المشاهدين، وهي سمة رومانسية، كما في مسرحية (مصرع كليوباترا)، إذ يطعن (اوروس) خادم (انطونيوس) نفسه بالخنجر وكذلك يفعل سيده. ويمكن أن تلاحظ ظاهرة التعددية في مسرحية (مجنون ليلى)، إذ حاول ( شوقي) أن يخلط في هذا النص، بين الكلاسيكية والرومانسية، والغناء، والموسيقى، فالمسرحية هي تاريخية في فكرتها وشخصياتها وكذلك تضحية (ليلى) بحبها لحساب القيم والتقاليد، وهذه كلها صور كلاسيكية، أما نهاية المسرحية من خلال موت الحبيبين، وعدم التزام المسرحية بوحدتي المكان والزمان فهي صور رومانسية. لذا وفي ضوء ما تقدم يمكن أن نقول إن شوقي في مسرحياته، لم يلتزم بقواعد مذهبية معينة، وإنما تعددت المذاهب عنده في النص الواحد مابين كلاسيكية، ورومانسية، وجاءت نصوصه المسرحية انعكاسا لما كان عليه حال المسرح المصري بالذات من اختلاط المذاهب.

أما توفيق الحكيم (1898-1987م) فقد برزت عنده هو الآخر ظاهرة التعددية، إذ حاول الحكيم من خلال كتاباته، أن يؤسس مسرحا عربيا قائما على التمازج بين المسرح الغربي، الذي استقى منه القالب الفني المستخدم في أعماله المسرحية، والمسرح العربي، الذي تجلى من خلال، بث المضمون العربي المستمد من التراث. وقد عالج (الحكيم) من خلال مسرحه قضايا متعددة، من سياسية، واجتماعية إلى تاريخية، وتنوّعت كتاباته بين الكوميديا، والتراجيديا، والاوبريت، فالمسرح الذهني والعبثي. ولم يستقر على مذهب واحد معين، بل كتب في عدة مذاهب مختلفة، و برزت الرمزية في الكثير من كتاباته، إلا أن هذه الرمزية كانت تختلط مع مذاهب متعددة، فمثلا في مسرحية (شهرزاد) تختلط فيها «الرمزية بقضايا رومانتيكية، أو تختلط النزعة الواقعية برومانتيكية حالمة، كما في مسرحية (رحلة الغد). أما في مسرحية (رحلة الجنون) فتختلط النزعة الرومانسية مع الوجودية»(9). كذلك تلاحظ التعددية في مسرحية (الطعام لكل فم) 1963م، فهي تجمع ما بين الواقعية وتقنية (مسرح داخل مسرح)، فالمسرحية ذات خطين دراميين أساسيين يدور أحدهما على المستوى الواقعي، ويدور الآخر على المستوى الخيالي. كذلك يمكن أن تلاحظ التعددية في مسرحية (ياطالع الشجرة) 1962م، التي استمد فكرتها الحكيم من خلال أغنية فلكلورية مصرية تقول «ياطالع الشجرة/ هات لي معاك بقرة/ تحلب وتسقيني/ بالملعقة الصيني». إذ اعتقد الحكيم أن هذه الأغنية ليس لها، معنى مفهوم، وهي ذات فكرة لامعقولة، وقد عدّ الحكيم مسرحيته هذه من دراما اللامعقول.

فيما يرى (محمد مندور) أن هذه الأغنية ليست من اللامعقول، بل هي أغنية رمزية، يلجأ إليها الأدب الشعبي، فهذه الأغنية تجري على لسان رجل فقير، يسأل من اغتنى (أي طالع الشجرة) أن يجود عليه ببقرة تسقيه شيئا من لبنها، وليس هذا من المعقول بل من تدبير العقل الذكي، الواعي، القادر على الرمز.(10) ويلاحظ من خلال البناء الدرامي للنص، أن المسرحية تجمع في أسلوب علاجها بين، الأسلوب الرمزي واللامعقول. إذ تظهر الكثير من الدلالات التي تؤشر الى إنتماء النص الى مسرح اللامعقول، فالحكيم يبدأ مسرحيته بموقف واقعي، وهو اختفاء الزوجة، ولكن هذا الموقف سرعان ما يتطور، من الواقع، الى اللاواقع، وهذه تقنية يونسكو المسرحية. كذلك يلاحظ أن الحوار، الذي يجري بين الزوج والزوجة حوار لا معقول، إذ إن كل واحد منهما يتحدث عمّا يشغل باله، دون تواصل في الحوار بينهم.

فبينما تتحدث الزوجة عن الجنين الذي أجهضته في الشهر الرابع، دون أن يكتمل نموه، يتحدث الزوج عن ثمار البرتقال، التي تسقط من شجرته، دون أن يكتمل نموها. كذلك لا يوجد في المسرحية ما يسمى بالزمان والمكان في المفهوم التقليدي، إذ نجد أن الحاضر، والمستقبل يوجدان في زمن واحد، إذ تتداخل الأزمنة، والأمكنة، حيث يتواجد الزوج في مكانين وزمانين مختلفين في آن واحد، وهذا قريب من تقنية مسرح داخل مسرح، كذلك يتم استدعاء الدرويش من الزمن الماضي الى الحاضر، ليشهد على جريمة لم ترتكب بعد. كما أن الزوج والزوجة يعيشان منفصلين عن العالم فلم يزرهم أحد، ولم يتصلا، بأحد وهذه سمة من مسرح اللامعقول تظهر في النص اذ أن هذه المسرحية رمزية، يتغلغل الرمز في كثير من بنيتها، فالزوج يرمز للفن، والزوجة ترمز للحياة، بينما ترمز السحلية الخضراء لسحر الحياة، وسحر المرأة، كذلك وجود القطار، والشجرة، والدرويش، والأغنية وكلها رموز موحية. لكن صفة اللامعقول يمكن أن تلاحظ في المسرحية في المشهد، الذي يجري خلاله حوار بين الزوج والزوجة، إذ يلاحظ من خلال هذا الحوار، أن كل واحد يتحدث عن عالمه، وفيما عدا هذا المشهد فانه من السهل فهم وتفسير بنية أحداث المسرحية، ومشاهدها على أساس من الرمزية الذهنية . وعموما فأن الباحث يرى أن المسرحية تنتمي الى دراما اللامعقول غير أنها تتضمن مشاهد رمزية.

أما (صلاح عبد الصبور) فقد ظهرت التعددية في مسرحياته الشعرية، وتعددت بين مذاهب مختلفة، ففي مسرحية (ليلى والمجنون)، يمكن أن تلاحظ الرمزية الى جوار الواقعية الاجتماعية. وقد استفاد في هذا العمل من تجارب المسرح الحديث، التي استطاع استخدامها داخل النص مثل «مسرح داخل مسرح، فجاءت مسرحيته تمزج بين الشكل الواقعي، والشكل الرمزي، من خلال بناء جيد ناقش فيه عبد الصبور قضية الثورة والكلمة»(11). كذلك تلاحظ التعددية في مسرحية (مسافر ليل)، التي تدور أحداثها في عربة قطار بين (المسافر)، الذي هو رمز الإنسان المسحوق، والمتهم بقتل الله وسرقة بطاقته الشخصية، و(عامل التذاكر) رمز السلطة والتسلط عبر الزمن، من الاسكندر إلى زهوان الى سلطان، أما (الراوية) فهو يرمز الى الأغلبية الصامتة داخل الحياة.

تبرز في هذه المسرحية التعددية من خلال ظهور اللامعقول، والرمزية، إذ يبرز اللامعقول في هذا النص من خلال دلالات متعددة استخدمها (عبد الصبور)، فمثلا ظاهرة تعدد السترات، التي حاول فيها أن يقلد (يونسكو) في مسرحية (الكراسي)، من خلال ظاهرة تراكم الأشياء، وتكاثرها على المسرح، وهو أسلوب من أساليب اللامعقول، كذلك حاول (صلاح عبد الصبور) في مسرحية (مسافر ليل) أن «يفترض الأشياء في غير موضعها المألوف، والى إفراغ الواقع من إطاره المألوف، والإلقاء به في لعبة مدوخة، من الروابط غير العادية وغير المتوقعة»(12) من خلال استخدام أسلوب التهكم، وهو من أساليب اللامعقول. أما الرمزية فتبرز كدلالات مختلفة داخل النص، فهي لا تنفصل عن نسيج العمل والبناء الكلي للمسرحية من استخدام القطار، وصوته، والأعمدة المسرعة الى الخلف، وحبات المسبحة الشبيهة بأيام عمر هذا المسافر، والمسافر نفسه، وعامل التذاكر والراوية، وجلد الغزال الذي عليه التاريخ بعشرة أسطر والتذكرة، والبطاقة وأوراق التأريخ المأكولة كلها عناصر تتكامل، وتشكل رموزا ذات دلالات موحية داخل النص.

كذلك يلاحظ المسرح الملحمي، إذ يبرز كأسلوب آخر داخل النص، من خلال استخدام الرّاوية، الذي يروي ويعلّق على الأحداث، ويكسر حاجز الوهم لدى المتلقي، وحتى استخدام الشخصيات جاء ليعطي رموزا للمسميات عامة، فالمسافر هو رمز للإنسان بلا أبعاد، الإنسان الذي لا نستطيع أن نصف ملامحه الخارجية. أما (عامل التذاكر) فهو رمز السلطة، والدكتاتورية، والبطش رمز لمن يملك السوط بيده، بينما الرّاوية، فهو ممثل لكل من هم خارج المسرح، والذين يقفون على الحياد يتفرجون على الأحداث دون أن يكون لهم رأي. أما مسرحية (الأميرة تنتظر)، فهي مسرحية رمزية من خلال وجود فكرتين، خارجية، وداخلية تسيران معا بالتوازي، الخارجية تحكي قصة أميرة تخون والدها، وتسلم حكمه الى عشيقها، أما الداخلية فهي مملكة والدها وترمز إلى الوطن، الذي يباع الى المحتل، وأن (القرندل) الذي هو الشعب أو صوت الضمير الحي، الذي يقوم بقتل (السمندل) المحتل، وأضِف إلى رمزية البنية والشخصيات، نجد الترميز في كثير من الحوارات داخل النص.

كذلك برزت ظاهرة التعددية في عدد من مسرحيات (الفريد فرج)، مثل مسرحية (سليمان الحلبي)، ومسرحية (النار والزيتون)، فمثلا تبرز ظاهرة التعددية في مسرحية (سليمان الحلبي)، من خلال قدرة (الفريد فرج) في هذا النص المسرحي على الجمع بين الدراما الأرسطية، والملحمة البريختية في بنية واحدة إذ استخدم الكورس في بداية المشهد التمثيلي الأول، الذي قدّم المعلومات عن حالة القصر، وكذلك استخدمه في التعقيب على بعض الأحداث والمشاهد، وأحياناً تتم المحاورة بين البطل وبين الكورس للكشف عن بعض الأفكار، والمواقف، إذ دخل الكورس في نسيج النص المسرحي، وأدى الوظيفة نفسها في المسرح اليوناني، إذ ساهم في ربط المشاهد، وفي تسلسلها، وأعطى دفعا للحدث و تنوعاً للعمل المسرحي، وبدت الجوقة، ممثلة للحكمة والتعقل، وهي تناصر (سليمان الحلبي) لا لشخصه، بل لما يحمل من مُثُل وقيم، وهي مؤتمنة على أسراره، مثلها في ذلك مثل معظم أشكال الجوقة في المسرح الإغريقي. كذلك يلاحظ مسرح داخل مسرح في مشهد مسرحي قصير، وهذا المشهد خفف من حدة سير الحدث التاريخي، وأعطى للمتلقي نوعاً من الراحة، منحته الفرصة للتفكير، وإيقاظ الحس، وأبعدته من الانسياق وراء الإيهام المسرحي، وذلك عندما التقى (سليمان) (محروسا) صانع الأقنعة. كذلك استعان الفريد فرج بالمسرح الملحمي البريختي، من خلال استخدام عدة مشاهد قصيرة، متتابعة، لا تخضع لوحدة الزمان والمكان. وهكذا فقد حاول الفريد فرج أن يقدم تراجيديا عربية مستفيدا من نماذج، وتيارات متعددة في تاريخ المسرح العالمي، ومن التراث العربي.

أما في مسرحية (النار والزيتون)، فتلاحظ ظاهرة التعددية في المسرحية والتي تصنف بوصفها مسرحية تسجيلية في موضوعها، ووسائلها الفنية لما تحتويه من عرض وثائق، وأرقام، وإحصائيات عن الأرض الفلسطينية، والأطفال، والتعليم، والزراعة في فلسطين، وعن عدد المهاجرين اليهود، إذ تلجأ المسرحية الى عرض بعض الأحداث عرضا دراميا، مثل مذبحة كفر قاسم والمظاهرات المؤيدة لإسرائيل في ألمانيا، و تستخدم وسائل مسرحية أخرى، مثل الرقص، والغناء، والتمثيل الصامت. وقد استطاع الكاتب في هذا النص أن يوظّف آليات المسرح السياسي لبسكاتور، والمسرح الملحمي البريختي، مثل الأفلام، والشرائح، والوثائق وأسلوب المسرحية داخل مسرحية، فضلا عن تقنية الرّاوي، وبذلك تكون المسرحية قد اقتربت مما يسمى بـ(المسرح الشامل)، الذي يحتمل إمكانية وجود خليط من الأصناف الدرامية المختلفة

أما الكاتب السوري (سعدالله ونوس) (1941-1997م)، فقد ظهرت التعددية في كثير من نصوصه المسرحية، سواء في مسرحياته القصيرة، ذات الفصل الواحد، أو مسرحياته الطويلة المتكونة من عدة فصول، إذ شملت المسرحيات القصيرة مسرحيات، (مأساة بائع الدبس الفقير)، و(جثة على الرصيف)، و(الرسول المجهول في مأتم انيكونا)، و(الجراد)، و(المقهى الزجاجي) و(فصد الدم)، وقد اتسمت هذه الأعمال «بالتجريدية والإغراق في استخدام الرموز، والاعتماد على الأشكال المسرحية الغربية»(13). وقد برزت ظاهرة التعددية في بعض هذه المسرحيات، فمثلا في مسرحية (فصد الدم) يمكن أن يلاحظ خليط من التعبيرية، والرمزية، والعبثية، غير أن السمة المهيمنة، هي السمة التعبيرية. وكذلك برزت ظاهرة التعددية في مسرحياته الطويلة، فمثلا في مسرحية (حفلة سمر من أجل5 حزيران)، التي ظهرت عقب هزيمة الخامس من حزيران، فقد حاول ونوس في هذه المسرحية أن يستفيد في آن واحد من، أسلوب لويجي برانديللو المسرح داخل مسرح (...) و من المسرح التسجيلي، إذ برزت ظاهرة التعددية في هذا النص من خلال تأثر (ونوس) بمجموعة مختلفة، من التيارات الحديثة بدءا من تأثره ببيتر فايس، وتأثره الأقل ببسكاتور، ومن ثم ببريخت، إضافة إلى ما استفاده من شكل العرض المسرحي لدى برانديللو. فقد حاول المؤلف منذ البداية في مسرحيته أن يبتعد عن المسرح التقليدي الأرسطي، وحاول هدم الجدار الرابع، وإشراك الجمهور في الحدث، وكسر حاجز الوهم، والاقتراب من المسرح الملحمي البريختي.

إذ اختار لها اسما يوحي بأن الجمهور مشارك، بالحدث وهو «حفلة سمر من أجل 5 حزيران يشترك فيها الجمهور، والتاريخ، والرسميون بالإضافة إليهم ممثلون محترفون»، حيث جاءت عملية إشراك الجمهور في المسرحية مثبتة في النص منذ البداية، وذلك من خلال ما ورد في ملاحظات المؤلف، التي تشير الى تأخير العرض، مما يولد حالة من التذمر والاعتراض لدى المتلقي، وقد لجأ المؤلف الى ذلك من أجل استفزاز الجمهور و إشراكه في العمل وجعل دوره ايجابيا، لذا جرت الأحداث على خشبة المسرح وامتدت لتشمل الصالة، ومن جهة أخرى فإن الشخصيات التي اشتركت في هذا النص هي ليست شخصيات «بالمعنى التقليدي للشخصية، ولا يشذ عن ذلك المخرج أو الكاتب، أو عبد الرحمن، أو أبو فرج، أو أبو عزت، فهم كالآخرين أصوات، ومظاهر من وضع تأريخي معين»(14). لذا فنحن أمام نص مسرحي تكون فيه البطولة جماعية تماما، كما هي الحال في المدارس الملتزمة بالقضايا الجماهيرية، كالمسرح الملحمي، والسياسي، والتسجيلي.

وهذا يجعل الشخصيات تقترب من شخصيات المسرح الملحمي، وبرزت فيها ظاهرة التعددية، مثل مسرحيات (رأس المملوك جابر)، و(الفيل يا ملك الزمان)، و( سهرة مع ابي خليل القباني)، ومسرحية (الملك هو الملك) التي برزت فيها ظاهرة التعددية بوضوح، فقد استلهم (ونوس) فكرتها من حكاية (النائم واليقظان)، وهي من حكايات ألف ليلة وليلة، ليصوغها بأسلوب جديد مستفيدا من تجاربه السابقة، ومستعينا بتقنيات وبعض فرضيات مسرح (برانديللو)، ومسرح (بريخت)، فيحوّل نادرة بسيطة الى بناء فني مركب، ثري، شديد الإحكام. فالمسرحية على صعيد الشكل المسرحي: قُسمت إلى مدخل، وخاتمة، وخمسة مشاهد مقسمة بدورها إلى عدة فواصل، وخاتمة، وقد حاول (ونوس) في هذا النص استعارة الأسلوب الملحمي البريختي وفرضياته الفكرية. حيث يستدعيه داخل المسرحية. فمنذ بداية النص وحتى نهايته، وفي أكثر من حوار، يحاول ونوس أن يذكر المشاهد بأنها لعبة، وذلك من اجل كسر الإيهام لدى المتفرج وهي وسيلة من وسائل المسرح الملحمي.

إذ يلاحظ في بداية النص لافتة كتب عليها «الملك هو الملك، لعبة تشخيصية لتحليل بنية السلطة في أنظمة التنكر والملكية»، هذه اللافتة لخصت العمل المسرحي بكلمات قليلة وأشارت إلى أننا إزاء لعبة مسرحية. كذلك الإرشادات تقول: «إن عبيد وزاهد هما اللذان يقودان اللعبة»، ثم تبدأ المسرحية بحديث عبيد «هي لعبة. لابد أنها لعبة. أنا هو. أو هو أنا .. مرايا مهشمة .. وجهي ألف ألف قطعة من يلم وجهي! أين الوزير؟ أين الحرس؟ أين الجواريأنا الملك .. كانت لعبة.. وأنا الملك. إني الملك»(15). كذلك ظهرت وسائل ملحمية أخرى في هذا النص، وهي: عنونة كل مشهد بعنوان معين من خلال وضع لافتة توضح المشهد، ومخاطبة الممثلين للجمهور، وتعدد المشاهد، إذ يلاحظ أن النص يتكون من مجموعة من المشاهد كل مشهد له فكرته الخاصة، ومن التراكم الذهني عند المتلقي لمجموعة المشاهد، تتكون الفكرة العامة للنص. كذلك برزت في هذا النص تقنية (مسرح داخل مسرح)، وذلك عندما يتوهم (أبو عزة) أنه الملك، ويلبس التاج ويمسك الصولجان، ويسعى الى تثبيت وضعه بتملك كل رموز السلطة، بينما يجلس الملك الحقيقي ووزيره يراقبانه ويضحكان من تصرفاته. وبذلك يكون (ونوس) قد جمع في نص واحد أسلوبين مختلفين هما المسرح الملحمي ومسرح داخل مسرح.

واخيرا ومن خلال ماتم طرحه يمكن التوصل الى ظاهرة التعددية في الوطن العربي برزت بصورة أكثر وضوحا، من المسرح العالمي، وذلك بسبب اطلاع الكاتب العربي على المذاهب المسرحية في آن واحد من خلال حركة الترجمة لكثير من المسرحيات والكتب النقدية، إذ اختلطت هذه المذاهب في فكر الكاتب وأصبح يجد صعوبة في فرزها. وقد ادت هذه الظاهرة الى ظهور نصوص مسرحية عربية ذات بناء درامي متكامل.

 

المصادر
(1)  د. محمد غنيمي هلال، النقد الأدبي الحديث، (بيروت :دار العودة، 1973م)، ص ص10.
(2)  د. جميل نصيف التكريتي، المذاهب الأدبية، ط1، (بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، 1990)، ص293
(3) د. سعيد علوش، إشكالية التيارات الأدبية وتأثيراتها في الوطن العربي، (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، د. ت)، ص82.
(4) فرحان بلبل، مراجعات في المسرح العربي منذ النشأة حتى اليوم، (دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 2001)، ص60.
(*) وهو الرائد الأول للمسرح العربي، وقد ولد مارون النقاش في لبنان عام 1817م في مدينة صيدا وكان مولعا بالأدب، إذ اطلع على عدد من المسرحيات ولاسيما أعمال موليي. واشتغل بالتجارة وزار ايطاليا عام 1846م وحضر بعض العروض المسرحية هناك وأوبريت فأعجب بها، وعندما عاد الى بلده ألّف عددا من المسرحيات أهمها مسرحية (البخيل) وقد قدّمها في مسرح أنشأه في بيته، توفي عام 1855م في سوريا بعد ان سافر اليها.
(5)، ينظر، د. محمد يوسف نجم، المسرحية في الأدب العربي الحديث، 1847-1913م، ط2، (بيروت: دار الثقافة، 1967)، ص ص 370-371
(*) وهو أحد رواد المسرح في الوطن العربي، ولد أحمد ابو خليل القباني عام 1833م في سوريا من أسرة تركية وقد قرأ واطلع على بعض الأعمال المسرحية وألّف على غرارها مسرحياته، التي كان يقدمها في بيت جده ثم أسس له مسرحا خاصا عام 1878م وأول عمل قدّمه هو مسرحية (ناكر الجميل) ثم قدّم مسرحية (الشاه محمود والحاكم بأمر الله) وغيرها من الأعمال بعد ذلك هاجر الى مصر بعد أن أغلق مسرحه 1903م وتوفي بعد إصابته بمرض الطاعون.
(6) د. علي الراعي، المسرح في الوطن العربي (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة، العدد 25، 1979)، ص67.
(7) د. حورية محمد حمو، تأصيل المسرح العربي بين التنظير والتطبيق، (دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 1999)، ص91
(8) د. محمد يوسف نجم، المصدر السابق,ص318.
(9) د. محمد غنيمي هلال، قضايا معاصرة في الأدب والنقد،، ص17.
(10) ينظر، د. محمد مندور، مسرح توفيق الحكيم، ط3، (القاهرة: دار نهضة مصر للطباعة والنشر، ب.ت)، ص167.
(11) د. محمد محمود رحومة، مسرح صلاح عبد الصبور، ط1 (بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، 1990)، ص222
(12) د. نعيم عطية، مسرح العبث: مفهومه- جذوره -أعلامه، (القاهرة: مطابع الهيئة العامة للكتاب، 2005)، ص272.
(13) د.علي الراعي، المسرح في الوطن العربي (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة، العدد 25، 1979)، ص176
(14) يراجع، سعد الله ونوس، مسرحية: حفلة سمر من اجل 5 حزيران، (بيروت: دار الآداب، د.ت)، ص3
(15) يراجع، سعد الله ونوس، مسرحية:الملك هو الملك، ط3، (بيروت:دار ابن رشد للطباعة والنشر، 1980) ص 122.