يستعيد باب علامات مقالة نشرت في مجلة "الهلال" 1929، وفيها مسح للتصارع على الثقافة والسياسة باسترجاع نصوص وأشعار صيغت بقالب غروتسكي يستبطن التوتر بين التحزبات المتجادلة وحتى المتقاتلة بالكلمة على المصالح الفكرية أو المادية لأزمنتها الممتدة من نهاية القرن التاسع عشر إلى بدايات القرن العشرين.

أشهر المعارك الصحفيّة في بدايات القرن الماضي

توفيق حبيب

إعداد: أثير محمد علي

 

كان انفصام عرى الائتلاف بين الأحزاب السياسية، سبباً في استفزاز كتاب الصحف المصرية لمناقشات سياسية أخرجت بعضهم عن جادة الجدل البريء، فتناول الشخصيات والأعراض بعبارات ذكرتنا بما كان يكتبه بعض رجال الصحف العربية فيما مضى، فجمعنا في هذا الفصل أشهر الوقائع القلميّة وأتينا بشذرات مما كان يكتب فيها للمقارنة والمقابلة. (المحرر)

بين الشدياق واليازجيين
كانت أول معركة شهدها قراء العربية ذاك الجدل اللغوي الذي قام لخمس وخمسين سنة خلت بين الشيخ أحمد فارس الشدياق والشيخ ناصيف اليازجي وولده الشيخ ابراهيم. إذ تعرض الشدياق في جريدته "الجوائب" لمقامات الشيخ ناصيف، فانبرى الشيخ ابراهيم اليازجي للدفاع عن والده في مجلة "الجنان" للمعلم بطرس البستاني. واشترك في المعركة غير واحد من أدباء مصر وسورية ولبنان، فانضم إلى الشدياق من أدباء المسلمين الشيوخ: ابراهيم الأحدب، وابراهيم الأسير، وعبد الهادي نجاء الايباري. وانضم إلى اليازجيين المعلم بطرس البستاني، وولده نجيب البستاني، والشيخ ابراهيم الحوراني. وانقلب البحث اللغوي إلى جدل ديني فنهش وعواء.

سلوان الشجي في الرد على اليازجي
وكان ممن انضموا إلى الشدياق ميخائيل عبد السيد المصري، وكان يشتغل حينذاك بتدريس اللغة الانكليزية في مدرسة المرسلين الأميركان بالقاهرة، بعد أن قضى زمناً يطلب العلم )خفية) بالأزهر، ويتقرب من الأدباء، ويتردد على مجالس العلماء إلى أن أنشأ جريدة الوطن. وبقي فترة من الزمن معدوداً من كتاب العصر وأئمة أهل البيان. ولم يكتف كغيره بمعاونة الشدياق بكتابة مقالة أو مقالات، بل وقع كتاباً في مائة صفحة ونيف، سماه "سلوان الشجي في الرد على اليازجي"، يحتوي على مقدمات ومباحث لغوية جدليّة بديعة، لكنها لا تخلو من تعريض شخصي وتلميح مستنكر. ويقول العارفون بأساليب كتاب ذاك العصر وطرقهم، أنه ليس للمعلم مخائيل من "سلوان الشجي" إلا المقدمات أما بقية الفصول والتعليقات والحواشي فكلها من صناعة الشدياق. وإلى القارئ مقتطفات من وصف الكاتب المصري للبستاني واليازجي، قال:

"كيف لا والحسد هو أكبر العيوب، وعامة الذنوب، وداء الكروب، ومفسدة للأفكار والقلوب. وهو لعمري صفة صاحب الجنان، وحبييه وخليله ابراهيم اليازجي الميان: هما اللذان حسدا صاحب الجوائب على ما ناله من شهرة الفضل والبراعة في هذا الزمان. فتغاويا ونشرا ذمه في الجنان. وتماديا في تخطئته بالزور والبهتان. أما ترجمة صاحب الجنان فهو أبو الحسد، الذي قاده الغرور بحبل من مسد، وتناءى به الافتراء إلى أبعد أمد... وقد عرف كل واحد أن صاحب الجنان هو من فاسدي الذهن والتصورات، وقليلي المعلومات تدل عليه أقواله وكتابته وعبارته. فإنك تجدها في غاية الركاكة والتعقيد، الذي ينفر منه كل ذي ذوق سليم، وطبع مستقيم. حتى أنه شاع وذاع. وملأ الأسماع، ولاسيما عند أدباء مصر، أهل النقد في النظم والنثر، أن جنانه هي مخزن الاستعارات الباردة والألفاظ الشاردة، والثرثرة المعلة، والمماحكة المملة، حتى صارت هذه الصحيفة، مثلاً يكنى به عن الأقوال السخيفة، والتشابيه المذمومة. فحيثما وجدت عبارة غير مسبوكة في قالب العربية، قيل أنها عبارة جنانية وركاكة بستانية".

بين الأهرام والمحروسة
وكانت هناك مجادلات ومناظرات شخصية بين أصحاب الجرائد والمجلات في آخر عهد الخديوي اسماعيل استخدم فيها بعضهم ألفاظاً وعبارات جافة. وأما المعارك القلميّة الحادة فقد بدأت بين صاحبي الأهرام المرحومين سليم وبشارة تقلا، وصاحبي المحروسة المرحومين سليم النقاش وأديب اسحق. وكان أديب رحمه الله عصبي المزاج حاد الطبع، فنزل إلى ميدان المهاترة والسباب، ورمى صاحبي الأهرام بكل نقيصة.

المؤيد والمقطم
وظهر المقطم في أواخر عهد الخديوي توفيق مؤيداً سياسة المحتلين، ثم ظهر المؤيد مخالفاً هذه السياسة، فالتف حوله فحول الكتاب الوطنيين. وقضى الفريقان نحو سبع سنوات في عراك وصراع. وكثر عدد الصحف الأسبوعية، ولم يترك أصحابها عيباً إلا ألصقوه بأصحاب المقطم. ومن أخف ما قيل فيهم يوم خروج اللورد كرومر المعتمد البريطاني من مصر في سنة 1907:

يصـدعنا المقطم كل يـوم * * * ويزعجنا بإعلان الحمـاية

وينذرنا بويـل بعـد ويـل * * * على ويل كما نعق ابن دابة

فمهلاً فيلسوف الشر مهـلاً * * * فـإن لكـل نازلـة نهايـة

لقد كشف المؤيد عنك ستراً * * * وأظهر للملأ بطل الرواية

فمثل غير هذا الدور واعلم * * * بأن اللورد قد قطع الجراية

الأستاذ نديم وأصحاب المقطم
وكان السيد عبد الله النديم قد اختفى بعد الثورة العرابية. ولبثت الحكومة تبحث عنه مجدة، حتى ظفرت به في سنة 1892، فعفى عنه الخديوي عباس، وأذن له بالاشتغال بالصحافة. فأنشأ مجلته "الأستاذ" الأسبوعية، وراجت رواجاً عظيماً، لما كانت تنشره من المقالات الوطنية في "ديالوجات" علمية، وناهضتها الصحف المحلية الافرنكية، كما تحداها المقطم فشهر عليها الأستاذ حرباً عواناً، قال رداً على صحيفة البروجرية:

"جريدة بروجـ.. هي جريدة خاصة بالسكارى والبقالين وبعض الحمّارة: تكتب فيها كلمات السخرية والمضحكات، وما يناسب أخلاق السكارى والحشاشين. وقيمة اشتراكها مرور محررها على الخمارة والقهاوي، فيتناول كأساً أو كأسين كل ليلة على حساب السكارى قيمة أتعابه في جمع المضحكات، ونشر الهذيان والتخريف. وقد مرّ صاحبها يوماً فوجد شاباً يمسح بها جزمته، فظن أنه يقراها فقال له هل أعجبك مشربي، ولذّ لك كلامي فأزيدك من بهتاني وزوري. فضحك على عقله وقال له أنا مشترك فيها. فذهل عندما علم أن عاقلاً مسكها بيده، فتوجه في الحال إلى مكتبه وأراد أن يكتب أن جريدة بروجـ... صار لها قبول عند السكارى وغيرهم لما فيها من الترهات والأضاحيك. فكتب غلطاً: "نطلب من الحكومة إبعاد محرر الأستاذ عن مصر لما في وجوده من الضرر علينا، والصحيح أنه لم يغلط فإن الأستاذ ضد السكارى، وجريدته إنما فتحت لهم. فهو معذور إذا طلب إبعاد محرره لتروج جريدته بكثرة السكارى".

أما مقالته المشهورة في الطعن في أصحاب المقطم فقد نشرها في العدد 39 من السنة الأولى للأستاذ الذي صدر في 23 مايو 1893 وافتتحها بقوله:

ولـو أني بيلت بهاشمي * * * خئولته بنو عبـد المـدان

لهان علي ما ألقى ولكن * * * تعالوا فانظروا بمن أبلاني

"رب أعوذ بك من همزات الشياطين، ولمزات الخراطين، واستعين بك على نزع قلوب المردة، وقلع أعين الحسدة، وإخماد أنفاس الخائنين، وإعدام ذكر المارقين، فاجعل كلامي سماً بلا ترياق، وحجراً قوي الإحتراق، يصير به يانع نبات الأعداء هشيماً. ويعود به موجود المنافقين عديماً. لا يمر على الخائفين إلا طلاهم بالقطران والقار، ليكونوا أمثلة لأهل النار، وصبه على رؤوسهم صب حميم آن. واجعله لهم رداء خزي في كل آن. وأعني على إزالة هذا المنكر. حتى لا يرى ولا يذكر. فقد اطلعني بعض المصريين على وريقة، وجدها تحت الأرجل في سويقة. فدحرجها عني دحرجة اللاعب الحلقة. ورميتها رمي النعل الخلقة. وقلت لو غير بعوض حطمتني، أو غير ذات سوار لطمتني، لحليت رمح البنان بالسنان، وقمت للوخز والطعان، ولكن ما لهؤلاء الجهلة تمد الخطا، ولا على مثلهم يعد الخطا، فأقسم علي بحرمة الوطن، ومن فيه لإصلاح قطن. أن أعيرها نظرة، تعود على أهلها بحسرة. فاستعذت بالله من الشيطان وقباح الفعل، وتناولتها برجلي وهي في النعل، ولو وجدتها من ذوات البال لبسملت، أو من النعم الحقيرة لحمدت، فإنها من الخبث والخبائث، وإن لم تكنها فمن البواعث. خرج فيها كتابها من الزمنيات، إلى الشخصيات، والتزموا ما لا يجدي من السعاية، التي هي لهم مبدأ وغاية، ظانين أنهم يخدمون الانكليز بترهاتهم، ويشوشون الأفكار بمفترياتهم. موهمين أنهم يسعون في صالح الأمة المصرية. بل الأمم الشرقية. وإذا انكشفت الحقائق تبين المخلص من المنافق، ومحب الأمم من العدو، والداعي إلى الحركة من الهدوء، فنحن نسرد من الحقائق ما يلحقهم بأهل الفهاهة والعي، ويبين الأصيل في الوطنية من الدعي".

ويلي هذه المقدمة فصول في نقد كتابات أصحاب المقطم وسياستهم تكتفي بنقل عناوينها وهي: أعداء الله وأنبيائه، أعداء السلطان الأعظم، أعداء الحضرة الخديوية الفخيمة، أعداء وزراء مصر وحكامها، أعداء المصريين، أعداء السوريين، أعداء انكلترا وفرنسا، أعداء أنفسهم، أعداء الأمن العام، أعداء الصدق، قاتل الله الأعداء الحكاكة في الركاكة.

وبلغ عدد صفحات هذه المقالة 28 صفحة. وكان لها دوي عظيم في دوائر الأدب والسياسة أو بات القراء ينظرون أمثالها. ولكن لم يصدر من "الأستاذ" بعد ذلك إلا ثلاثة أعداد، ثم أوعز إلى صاحبه بأن يعطله ويسافر إلى الأستانة.

اللواء بعد المؤيد
وكسرت الأيام حدة المؤيد فهدأت ثائرته ولطفت عباراته في مخاطبة المحتلين، واستبدل الهجو والطعن بالبحث المؤيد بالحجج والبراهين، فلم تعجب هذه الخطة جماعة الشبان الناشئين وفريق المتطرفين، فعدوا المؤيد شقيقاً للمقطم وشريكاً له في خدمة الانكليز. وتولى زعامة الوطنيين المرحوم مصطفى كامل صاحب (اللواء)، فلما أشتد ساعده وثبتت قدماه بدأت معارضة المقطمين له، وكانوا يسمونه (الهجاص)، وأطلق عليهم لقب (الدخلاء)، واشتبك العراك بينه وبين المؤيد. وكان المؤيد يسمى صاحب اللواء (شحات بردنجوت)، وهي عبارة مقتبسة عن أميرة مصرية عرض عليها أن تتزوج المرحوم مصطفى باشا كامل، وهو في أوج مجده، فرفضته بإباء وقالت: "وهل بلغ بي أن أتزوج جرنالجياً والجرنالجي شحات بردنجوت".

عام الكفء
وأنشأ المرحوم ابراهيم بك المويلحي، وولده الأستاذ محمد بك المويلحي (أطال الله حياته) جريدة "مصباح الشرق"، فكانت جريدة الأدباء وعنوان الرقي الفني بما تدبج من المقالات الافتتاحية، وما ينشر في باب الأخبار من النتف الرائعة ونقد الأخلاق العامة و"القفش" المحكم.

وحدث أن أحد أبناء الأعيان اغتاظ مما وجه إليه من نقد في المصباح، فقصد حانة دراكتوس في ميدان قنطرة الدكة (وكانت هذه الحانة ملتقى الطبقة العالية من المصريين)، وهجم على محمد بك المويلحي وصفعه كفاً على وجهه. فكانت لهذه الصفعة رنة شغلت الصحف المحلية وفي مقدمتها المؤيد شهوراً. إذ فتحت جريدة المؤيد باباً سمته "عام الكفء"، فلم يبق شاعر أو ناثر، صغيراً كان أو كبيراً، إلا ونشر فيه الهجو المرّ في المويلحيين عن الكيل للخصوم بمثل عباراتهم. ولم يكتفيا بما كانا يكتبانه في المصباح من العبارات الأدبية، بل تنزلا إلى ما هو دونها في جريدة (جهينة) الأسبوعية وغيرها من الوريقات البذيئة.

عام الموقوذة (ذبائح الكتابيين)
وفي أواخر سنة 1903 استفتى جماعة من المسلمين في جنوب افريقية المرحوم محمد عبده في لبس القبعة، وأكل لحم العجول التي تذبح بشج رأسها بالبلطة، وكان يومذاك مفتياً للديار المصرية، فقام عليه بعض العلماء المخالفين لرأيه في الإصلاح الديني عامة، وإصلاح الأزهر خاصة وحملوا عليه حملة شعواء.

وكانت جريدة الظاهر لصاحبها المرحوم محمد أبو شادي في طليعة الصحف المثيرة للفتنة على الشيخ المفتي وأنصاره. وإلى القارئ نبذاً من كتابات المرحوم أبي شادي بك، قال:

"أتعبنا الجاهليون كثيراً. وأصبحنا معهم كمشعلي المصابيح في زوايا العميان. فهم لا يبصرون. وكأن قد ران على قلوبهم فلا يفقهون ولا يعقلون. وكلما صابرناهم ازدادوا تعنتاً وطغياناً وأغرقوا في الشطط واجتراح الخطايا، فتارة يرموننا بالجهل، وهو بعض صفاتهم، وأخرى يصفوننا بالتحامل على الشيخ المفتي، مع أننا نبرأ إلى الله من هذه التهم الشنيعة. فضلاً عن أننا أعرف الناس بمقام المفتي، وأخلصهم في وده وأخبرهم بمعارفه وآدابه. وليسوا هم إلا متزلفون، اقتادتهم المآرب لمجاملة الشيخ بما يتسبب عنه اتساع الخرق وفتق الرتق. فحسبهم منا أننا نعرض عنهم إعراضاً ونصدّ عن هذيانهم ولا نهتم بما ينتشرون من السفاسف... رحماك الله يا بن عبد الله، فقد أصبح دينك عرضة للسفهاء والخاطئين الذين تبجحوا في نسبة أنفسهم إليه حتى جعلوه مضغة مرة في أفواه أعدائه، فأهانوه ومزقوا جلباب الشرف والأدب، وانتهكوا حرمات الفضيلة والعلم. وإذا سألتهم لماذا هذا الشطط المثبور، قالوا: حباً في المفتي المبرور. فرحماك أيها الرسول القائل: (أدبني ربي فأحسن تربيتي) فلا يزعجن روحك الطاهرة تهاتر السفهاء، وتطرف أهل الخطايا الذين طرحوا دينك وآدابه خلف ظهورهم، وتناسوا كل شرف، وأخذوا يقرضون عرض من قام بالدفاع عن شريعتك وتقرير مبادئها القويمة. رحماك فقد تجمعت فئة لا أخلاق لها، وتطوعت في خدمة المفتي، أو هي مأجورة للدفاع عنه فأخذت تنهش الأعراض وتنتهك الآداب. وتطوف على السفلة في أحقر المنتديات، لاستئجارها في سبيل ممقوت هو إقامة البرهان على أنهم سفهاء نأت عنهم الأخلاق الفاضلة، وانتبذتهم التربية الشريفة، فغمسوا أنفسهم في حمأة الشر والخطايا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً".

أما الصحف الأسبوعية الحاملة على المفتي فحدث عن بذاءتها ولا حرج. وكان لجريدة "حمارة منيتي" القدح المعلى في هذا الباب. فأغرمت النيابة على تقديم صاحبها المرحوم محمد توفيق إلى المحاكمة، ومن أقوال "الحمارة" نثراً في وصف المرحوم المفتي:

"الشيخ سخام ابن برام، اللي أمه من غجر الشام، هو صحيح المسيخ الدجال اللي ظهر في الحال"

"تباً له من فاسق، زنديق منافق. قد ربي على نسق أبي جهل في الضلالة، وفاق على الخنزير في أكل الزبالة، وأتعب بترهاته الجمال النقالة. فلا حول ولا قوة إلا بالله. ويا أسفاه على أصحاب الطرق ويا ندماء"

ومن منظوماتها:

إن الفتاوى جيشها مرصوص * * * في وجهه من فشره مطصوص

وذبـابـه في فمـه مفعوص * * * ورئيسه من ودنه مملوص

وبفتوة الممسوخ يغلو الخوص * * * ومن الحمارة قلبه مملوس

أو كالنساء جناحه مقصوص * * * ويعوم في أوساخه وبغوص

ونصببه من ذقنـه بعــ... * * * إذ أنه (مفتي دني خلبوص) (1320هـ)

عام الكفء
وحدث في سنة 1904 أن خطب السيد علي يوسف صاحب المؤيد، وأعداؤه ينادون بالويل والثبور، ويتهمونه بالاعتداء على البيت النبوي، وهو من عامة الشعب الذين لا يجوز شرعاً زواجهم من بيوتات الأشراف. ولم يكتفوا بتحريجه وتمزيق عرضه، بل أخرجوه من الدين وقالوا أنه قبطي "ابن يسي ابن عبد النور".

وهاك مثالاً مما كتب بعد صدور حكم المحكمة الابتدائية بالتفريق بين الزوجين. قالت جريدة الظاهر:

"كأن بك أيها الشيخ بما جنيته على الإسلام وجميع أفراد الأمة التي تجمعك وإياهم روابط كثيرة من دين ولغة وجنسية. وبما وقع عليك من مبرم القضاء ومحكم الشريعة الغراء، وما تبع ذلك من خذلان الأمة لك حين علمت حقيقة جوهرك، وكشفت خبيئة مخبرك، قد سقطت من شاهق عال إلى حضيض خفض، تتخبط في أوحال، عار لا يطاق له دحض، وتتوهق بسلاسل أوجال لا يستطاع لها نقض... ولو أنك حين حلّ بك ما حل من بلاء الجراء قبعت في زاوية بيتك خاضعاً مستكناً تهيئ نفسك للتوبة من فعلتك، وتسأل الله أن يزيل السوء عن نيتك لقلنا عبد عصى ربه، وإلى ربه منابه وعليه حسابه، وقد رضي بما شرع الله حكماً فعلينا أن نعتبر به ولا نجهز عليه لوماً وذماً... إلا أنك أيها الشيخ ما اكتفيت بعد عدوانك على آداب الأمة، وخفرك لله ورسوله عهد الذمة وهتك ستار الحرمة، حتى بلغت بك الجرأة أن تسخر في صحيفتك المؤيد بالقضاء وشرع الإسلام، وتقول فيما استند به من الحكم على كتاب الله وسنة نبيه ومأثور الأئمة إنه مقال لم تؤثر عليك وطأته بشيئ، وإنك تنساه بعد قراءته كأنك تجعله أضغاث أحلام. وما علمت أن السخرية بقضاء قاضي الشرع فجور وكفر، لأن القاضي يقضي بما أمر الله أن يقضي به، وهو نائب عن الخليفة في القضاء، ارتضاه إجماع الأمة وهو مأمون مجتهد في الفصل بين المتخاصمين على ما يبلغه علمه من الشرع الشريف. فمن لم يؤثر عليه حكمه نفساً وعقلا كأنه قد حقر حكمه، ومن حقر حكمة الله في شرعه، والخليفة في النائب عنه، والأمة في استئمانها، ومن كان كذلك فهو أثيم مجرم عظيم جنايته على الله والخليفة والأمة".

بين الأقباط والمسلمين
ونشبت معركة حامية بين الأقباط والمسلمين، كان بطلها الشيخ عبد العزيز جاويش بمقالته المشهورة "الإسلام غريب في بلاده" التي كتبها رداً على مقال للأستاذ فريد أفندي كامل المحرر في جريدته الوطن. وبقيت نيران هذه الحرب مشبوبة شهوراً، وقد أطلق كتاب الأقباط على الشيخ جاويش لقب "المغربي الدجال". ودخل في المعركة غير واحد إلى أن عمت جرائد البلاد كلها عند عقد المؤتمرين القبطي والإسلامي.

بعد النهضة الوطنية
وهكذا قضى قراء الصحف المحلية الوطنية ربع قرن كامل، منذ إنشاء المقطم والمؤيد إلى أن أعلنت الحرب العظمى (سنة 1914)، وهم يقرأون سلاسل من المطاعن والمسبات والتدخل في الشخصيات. ثم جاءت الحرب والسلطة والرقيب وارتفع سعر الورق، وكان التضييق على الأقلام فكانت أيام الحرب هدنة إرغامية.

ثم نهضت مصر نهضتها الوطنية، فكان ما كان من انقسام الرأي العام وتألف الأحزاب السياسية، فما نراه ونقرأه من المنافسات والترامي بجارح العبارات.

(الهلال، س.37، ج. 3، أول يناير 1929)