للثورة السورية مكونات معلومة. مكون مدني احتجاجي هو الجذع الأصلي للثورة، ومكون عسكري متوسع المراتب هو من يكاد يستأثر باهتمام وسائل الإعلام، ومكون سياسي يثير "أنواته" المتخاصمون كثيراً من الغيظ أو أكثر.
وبينما قد يمكن التكلم على مكونات فرعية، إعلامي وإغاثي، وربما ثقافي، فقد يكون الأنسب إجمال هذه المكونات الفرعية الأخيرة في مكون اجتماعي واسع ولا يكف عن الاتساع، وإن تكن أكثر أنشطته غير مرئية لافتقارها إلى صفتي المشهدية والدرامية اللتين تجتذبان وسائل الإعلام. يتعلق الأمر هنا بروابط منتشرة من التنظيم والتضامن والدعم والمشاركة المادية والمعنوية، سواء في شبكات منظمة بمقادير متفاوتة، أو بعدد لا يحصى من مبادرات فردية، تتضمن المجازفة والتعرض للمخاطر. وليس بعيدا عنها عمل مصورين بهدف التوثيق أو التغطية الإعلامية، وعاملين في الإعلام الجديد المتعدد الوسائط، وتقنيو برمجة أكفاء، قام بعضهم بأعمال مشهودة ضد النظام ولمصلحة مجموعات الثورة، سيأتي الوقت للكلام عليها.
وبينما هناك شبكات معروفة تجمع بين الإغاثة (المعاشية والطبية) والتغطية الإعلامية والتوثيق، والنشاط السياسي بقدر ما، فإن العبء الأكبر للنشاط الإغاثي يقع على عموم السكان في كل مناطق البلد. يكاد يمكن القول اليوم إنه لم يبق غير قلة من السوريين، من غير الموالين للنظام، خارج هذا المكون الاجتماعي للثورة. وغير قليل من هؤلاء أناس جرّتهم الثورة بدوافع إنسانية، دون أن يكون لهم أدنى اهتمام سياسي سابقا، بل ومع استمرار بعضهم في اللامبالاة بالعملية السياسية للثورة أو حتى التحفظ عليها. لكن يجمع الكل شعور بالتضامن والواجب الإنساني والوطني.
وأقرب مكونات الثورة إلى هذا المكون الاجتماعي العريض القاعدة هو النشاط الاحتجاجي المدني الذي كان استمراره اليومي مأثرة مدهشة للسوريين. لا يزال هذا النشاط جاريا حيث أمكن، لكن تعذر كليا تحت وطأة الحرب المفروضة في أكثر مناطق البلد، وهو يعود إلى الانتعاش حيثما خف الضغط العسكري المباشر، على نحو ما شهدنا مناطق إدلب بعد توجيه النظام أكثر قواته إلى حلب. وبالحساب النسبي تشكل المظاهرات الاحتجاجية اليوم كتلة أقل في جسم الثورة الكلي، بالنظر إلى تسارع اتساع مكونات الثورة الأخرى، بخاصة المكون العسكري (ربما 100 ألف مقاتل اليوم).
لكن إذا نظرنا إلى المكون الاجتماعي ككل فإنه يبقى متن الثورة السورية، ويقدر دونما شك بالملايين.
هذا الاتساع حاسم من أجل سورية الجديدة، ما بعد الأسدية.
من المرجح أن يكون لدينا مشهد سوري متنوع فوضوي، تحضر فيه بصخب طبقة سياسية أوسع بما لا يقاس مما أتيح في أي وقت في ظل الحكم البعثي، لكنها منقسمة ومتخاصمة، ويفتقر أكثر أفرادها ومجموعاتها إلى قوة وشرعية ذاتيتين. وضمن هذا المشهد طيف واسع من عسكريين ومقاتلين، ليس كثيرون منهم مفتقرين إلى المطامح السياسية، وبعضهم منجذب إلى هذا التيار أو تلك، لكنهم يتميزون عموما بخشونة العسكر وميلهم إلى السيطرة والمغامرة، على نحو يعرفه جيدا تاريخ سورية خلال نحو ربع قرن بعد استقلالها.
سيكون مهما في هذا المشهد العام أن يكون هناك مجتمع نشط، خرج من سلبيته وشارك بطرق متنوعة في الثورة فارتفع تقديره لنفسه، بحيث لا يسهل على أي كان أن يطويه تحت أبطه. مجتمع متحفز، لأفراده آراء سياسية، وهم على معرفة لا بأس بها بالطبقة السياسية الجديدة بفعل وسائل الاتصال الجديدة وكثافة تداول المعلومات والتغطية الإعلامية المعقولة للثورة السورية. وبينهم قطاعات واسعة شاركت بقوة وفاعلية في الثورة، بما في ذلك المقاومة المسلحة. وهذه القطاعات تشكل ضمانة ضد أي مصادرة نخبوية للمجتمع والسياسة في سورية طوال جيل على الأقل.
ومن وجهة نظر المستقبل، فإنه كلما زاد وزن المكون العسكري، وهو أمر متوقع إلى حين سقوط النظام، تزداد أهمية هذا المكون الاجتماعي العريض. من شأن عسكريين متنوعي الأصول والمشارب، موزعين على تشكيلات لا تنتظم ضمن إطار جامع، ومنتصرين في معركة وطنية على هذه الدرجة من القسوة وطول الأمد، أن يكونوا خطرين سياسياً، إن لم يعدل نفوذهم وتأثيرهم مجتمع ناشط سياسيا وصعب القياد. بخاصة في ظل وجود نخب سياسية ركيكة، ويرجح أن تتهافت على العسكريين بفعل ضعفها الذاتي.
بالمقابل، فإن المقاومة المسلحة ضمانة ضد السيطرة النخبوية. وبخاصة في مواجهة ترتيبات سياسية مشبوهة ومفروضة من الخارج، من نوع تزكية مناف طلاس أو أي معادل له.
من هذا الباب فإن طول أمد الثورة، وهو مكلف من وجهات نظر متعددة، مفيد كتدرب مديد على العمل العام والتثقف السياسي وصعوبة المراس.
وفي هذا ربما تختلف سورية اليوم عن سورية التي خرجت من الانتداب الفرنسي، القاعدة الاجتماعية للنشاط السياسي أكبر اليوم بالمقادير المطلقة (تزايد السكان نحو 8 مرات) والنسبية. كان أكثر من ثلاثة أرباع السوريين وقتها مقيمين في أرياف مهملة حينها.
ولعلها تختلف من وجه آخر، مهم فظهور مكون عسكري متسع للثورة السورية لا يقترن اليوم بصعود إيديولوجية حربية متحمسة للسلاح والرصاص والكلاشينكوف والدم، وليس في خلفيته عقائد تدعو إلى العنف الثوري، وتحتفي بالبطولة والمجد الحربي، أثناء الثورة تطورت أو استعيدت لغة تمجد الشهداء والأبطال، وتثني على المقاتلين في "الجيش الحر"، لكنها مرتبطة بالحدث، ولا تبدو مؤهلة للدوام بعده. ومن بين أكثر النقاشات حيوية التي عرفتها الثورة النقاش حول السلمية والعسكرة، وهو نقاش يسجل وجود نفور واسع من العنف، ولم يكد أحد يعتبر العسكرة قيمة بحد ذاتها أو ينسب إليها فاعلية ذاتية إيجابية. إنها اضطرار يتعين التعامل معه بجدية.
يبقى القلق من العسكر والمقاتلين مسوغاً نظراً إلى تاريخ البلد وإلى تجارب غيرنا، وستكون فرصنا أكبر لمواجهة مبعث القلق كهذا كلما كانت نسبة أعلى من السوريين منخرطة في الثورة ومشاركة في عملياتها المختلفة. هذا يتحقق اليوم بفعل توسع النظام في الإجرام، وتوسع دائرة أعدائه لتشمل أكثرية السوريين. وبفضل شجاعة مئات ألوف السوريين في مئات المواقع في البلد ومبادراتهم الذاتية وتنظيمهم الذاتي.
ومن مسوغات القلق من العسكر والعسكرة وجود مجموعات مقاتلة إسلامية، وبعضها سلفية، وهي تعلي من شأن "الجهاد" والسلاح بطبيعة الحال. وبينما وزنها بعيد عن أن يكون أكثريا وعقيدتها بعيدة عن أن تكون مهيمنة، فإن طول أمد الثورة مقلق في هذه الشأن المحدد، إذ يبدو أنه يتوافق مع تشدد ديني منتشر. وهو في ذلك يناقض تأثير التسييس المتسع للمجتمع السوري.
وبنظرة عامة فإن المستقبل السوري القريب يتشكل من التفاعل المعقد لأربعة عمليات: اجتماعية وسياسية وعسكرية ودينية. ليست أي من هذه العمليات متجانسة، وليس تأثير أي منها سائراً في اتجاه واحد. الأرجح أننا سنرى تركيبات متنوعة منها وغير متوقعة منها، أمامنا أوضاع معقدة ومربكة وخصبة ومحرِّرة. إنها ثورة.