تلك المعادلة الملتبسة والعنكبوتية جداً، بين السياسة والثقافة. ستأخذ بعداً صريحاً وواقعياً دون التباس ولا تأويل ولا إرجاء، لحظة التأسيسات التاريخية المفصلية، التي تضيف جديداً مختلفاً غير تراكمات مبتذلة.
بمعنى، حين بروز وقائع قياميّة، ترتقي بالإنسانية نحو مسارات مصيرية. فالثورات والحروب والكوارث والأزمات الدولية الخانقة، إلخ. هي تحققات تجعل مباشرة من السياسة رؤية ثقافية، أي لزومية استحضار المثل والأخلاق والترميزات والرمزيات من قبل الفاعل السياسي. كما أن الثقافة، تترجل عن جوادها المحلق باستمرار بين مدائن الحلم والممكن والرغبة الشخصية، كي تحاول مزج كل ذلك في فعل مؤسِّس.
أعتقد بأن المقولة الشهيرة: المثقف موقف. إن كان يحق لها، أن تظل منسابة وطرية وخصبة ومنفتحة ومتسامحة...، لما تكون الإنسانية مكتفية بكسل قناعاتها، مع تتابعات رتيبة لتاريخ سانكروني، فإن التعريف عينه يتخلخل ويفقد ألفته، حينما تواجهنا حتميات ثانية ويتدفق التاريخ بطريقة دياكرونية.
إن مانعيشه حالياً من توالد سريع للأحداث، سينتهي حسب مداه المجتمعي إلى إعادة توضيب ليس فقط للخريطة الجيوسياسية في المنطقة العربية وتأثيرات ذلك عالمياً، نظراً لمحورية الشرق الأوسط في السياسة الدولية، ولكن خاصة المنظومة الأخلاقية والإيتيقية التي تمثلتها الإنسانية حتى عهد قريب. والمثقف مساهم مجتهد لامحالة، في تثبيت أعمدة خرائط الطرق التي تنبجس حالياً رويداً رويداً بين الدم والنيران.
هناك شبه إجماع لدى أغلب المحللين السياسيين وأصحاب الرؤى الاستراتجية، على وصف تقاعس الفاعل السياسي الأوروبي حيال الجرائم الفظيعة الجارية حاليا في سوريا، ونفاقه الجلي قياساً لما فعله سابقاً في العراق أو ليبيا "البتروليين"، ومناطق أخرى في العالم تزخر بثروات أخرى إما طبيعية أو لوجيستيكية. أن سوريا لا تملك حقاً ذهباً أسود، لكن نظام عائلة الأسد خدم وسيخدم باستمرار المشروع الاسرائيلي. فقد تأكد بالملموس، أنه جار يسوّق فقط كلاماً مجانياً أو بيّاع بطيخ حسب التعبير العامي للشامييين، لذلك فصقور كحمائم الدولة العبرية، يتمنون من أعماق قلبهم، أن تحافظ اللعبة السياسية على نفس مكوناتها السابقة وفق اللوغوس ذاته.
هكذا، لما تحضر إسرائيل، تتلاشى في المقابل مباشرة وبطريقة آلية الأنوار الأوروبية التي رسخت أدبياتها مبادئ العقل والحرية والعدل والعدالة والحرية. ربما أصبحت إسرائيل جزءاً من علمنة المقدس؟ ومكبوت بين طيات الحداثة الغربية؟ إن كان الجواب إيجاباً، فالمسألة تشي بإخفاق مرعب لتلك الحداثة، باحتضانها القيمي والمؤسساتي لمجموعة إنسانية-أتحدث هنا عن المرجعية الصهيونية- تستمد نسغها الجوهري، من عقيدة عسكرتارية وعرقية شوفينية متخلفة جداً، تحاول جاهدة أن تجد لها في اللاهوت مبرراً. أما الجواب بالنفي، بمعنى إسرائيل مجرد ولادة قيصرية خاطئة للعقل السياسي الغربي، فترة هيجانه الإمبريالي، جراء اختلال في بنية المجتمعات الأوروبية بين الثقافي والسياسي لصالح الأخير طبعاً؟ حينئذ سيعتبر الأمر مجرد عثرة للتاريخ، ستصحح ذاتها آجلاً أم عاجلاً.
إذن حينما نسلم بالأطروحة الأخيرة، بمعنى إسرائيل ولاية غربية أرسيت دعائمها في جوف المنطقة العربية لأغراض محض سياسية، دون أن تتوفر لها شروط البناء الحضاري سوى كهنوتية "الحق الالهي" و"أرض الميعاد" ثم محاولة أدلجتهما مدنياً بالهولوكست النازي، سندرك درجة الثراء الأخلاقي والروحي والقيمة الوجودية ونبل الأصوات الثقافية، وإن كانت في أغلب الأحيان مبحوحة، التي تحاول بكل ما أوتيت من قوة القبض على الجمر، أن تعيد للسياسة الغربية رشدها وتعقلها، وتذكر صاحب القرار ببنود ميثاق الشرف الأوروبي، الذي تسامى بأوروبا بعد حقب طويلة من الظلام الجهل والتخلف والتمزق والصراعات الطائفية والدينية والمذهبية والحروب، إلى كتلة سياسية متحضرة و متطورة تشرئب دوماً إلى العلم والتطور.
إذا كان الحديث عن إسرائيل، بتأويلها الصهيوني الاستعماري، داخل المنتديات الغربية يعتبر جريمة سياسية بكل مافي الكلمة من دلالات تجر صاحبها إلى مقصلة الإعدام، فإنه أيضا كل إشارة تحتفي بالمتورطين من قريب أو بعيد، ستوسع حتماً من حلقة الإتهام. هكذا، يستحيل أن نصادف اليوم بين صفحات منبر إعلامي غربي سواء كبر شأنه أو صغر، على دراسة أو دراسات لتلك الضمائر النخبوية التي مافتئت تميط اللثام بشجاعة عن البربرية الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، وبين طيات ذلك البهتان الغربي المهين لنفسه قبل غيره.
جريمة الصمت هذه، أوجدت لها بمكر تهمة جاهزة: معاداة السامية أو ملاحقة أطياف النازيين الجدد الهائميين بروح هيتلر. بالتالي، ضرورة محاصرة العدوى، بل واقتلاع جذورها. تحضرني فقط، واقعة السيد كورت فالدهايم الأمين العام السابق للأمم المتحدة.
صحيح، المثقف الغربي إنسان حر، وشخص يتمتع بكامل مواصفات المواطنة، ويحظى بموقع سياسي وثقافي متميز، ويؤثر بزخم في حركية مجتمعه، وله وضعه الكاريزمي المرموق الجدير طبعاً برصيده الفكري والإبداعي. ألم تدفع كتابات ميشيل فوكو المسؤولين الفرنسيين إلى تعديل فصول من قانونهم الجنائي؟ بعد أن اكتشفوا من خلال كتاباته درجة معاناة المعتقلين والمجانيين والمهمشيين. أما سارتر، فلم تتجرأ الاستعلامات الفرنسية على اعتقاله، رغم وقوفها على مسؤوليته المباشرة في التحريض على التظاهر سنة 1968. وعندما نقلوا المعلومة إلى دوغول، أجابهم بهيبته المدوية ما مضمونه: أتريدون اعتقال فولتير؟ وفي رواية أخرى: سارتر هذا عقل فرنسا. تخيلوا معي المصير غير المتخيل!! الذي كان سينتظر سارتر لو قدر له أن يكون في كنف حاكم عربي؟؟
لكن داخل دوائر هذا الغرب المتحضر ذاته، تقلب الطاولة تماماً في وجه كل من همس بأقل كلمة تخدش الجثة الإسرائيلية.
إذن إسرائيل خط أحمر، والمثقف الغربي الذي لم يعد حقاً من طينة نموذج العقود السابقة لا سيما الستينات والسبعينات والثمانينات، أي ذاك المثقف الموسوعي صاحب النزعة الإنسانية الذي يوزع حلقات مشروع كوني أكثر منه مجتمعي، بين الحزب والنقابة والجامعة والمنظمات الشبابية والمؤسسات الأكاديمية والحلقات الدراسية ثم الشارع. بل هو اليوم بالكاد مجرد حامل لمعارف، مستكين إلى أبجديات تخصصه في أفضل الأحوال، منفصل تماماً عن مجريات العالمي، والأسوأ أن يتشيأ حيال منظومة لم يعد يرجو منها إلا بقاءه البيولوجي. أقول بأن هذا المثقف تنبه جيداً إلى عش الزنابير، الذي تشكله قوى الضغط الصهيونية التي تسربت إلى أهم المنافذ المفصلية التي تقوم عليها الدول في العصر الحالي سياسياً واقتصادياً وإعلامياً. بل أحياناً الحياد لا يجدي، لذلك فباب الإرتقاء المجتمعي والفكري، يصير مشرّعاً على مصراعيه إذا تأتى لهذا المثقف إتقان الترويج للدعاية الصهيونية: كم هي الأسماء الضحلة التي ينفخ فيها الإعلام حد التوثين فقط لأنها وصفت الفلسطينيين بالإرهابيين؟
لقد تابعنا في الشهور القليلة الماضية، حيثيات قضية الأديب الألماني غونتر غراس الحائز على جائزة نوبل سنة 1999. حينما نشر في صحيفة نيويورك تايمز قصيدة بعنوان "ما ينبغي أن يقال"، انتقد عبر مقاطعها الترسانة النووية الإسرائلية، وكذا بيع بلده ألمانيا قطع السلاح لإسرائيل ولا سيما الغواصات القادرة على إطلاق الصواريخ النووية، كما حذر من العواقب المدمرة التي ستترتب في حالة شن حرب على إيران. ولم يكد ينتهي الرجل من كلامه، حتى قذفته قيادة تل أبيب بمختلف الشتائم في مقدمتها الوصف الجاهز عدو السامية وكذا النازي المعتوه. وبادر وزير الداخلية الإسرائيلي إلى مطالبة لجنة نوبل أن تسحب من غراس الجائزة. أيضا، تعرض لحملة مسعورة داخل بلده ألمانيا، حتى من قبل تنظيمه الحزب الا شتراكي الديمقراطي الذي سارع إلى إلغاء مشاركته في حملته الإنتخابية، وقد نسمع غداً أو بعد غد عن تهديده بالقتل خاصة وأنه متشبث برأيه رافضاً الإعتذار أو التراجع عن انتقاداته. هي مجرد قصيدة، أجمعت بعض الآراء على ضعفها من الناحية الفنية ولا ترقى إلى ما يكتبه أصلاً غراس، مع ذلك أخرجت الثعابين من جحورها.
وضع يستعيد بشكل من الأشكال، مصير غارودي المنظّر اللامع للماركسية سابقا، لما أقدم على نشر كتابه "الأساطير المؤسسة للسياية الاسرائلية" (1996)، فقد تحرك بقوة اللوبي الصهيوني الفرنسي، كي يحاصر أنشطته ويحظر كتبه. وقد ظل غارودي بالفعل، محظوراً إعلامياً حتى وفاته يوم 13 يونيو الأخير عن سن التاسعة والتسعين.
لقد تعامل دائما "الضمير" الأوروبي مع المسألة اليهودية بنوع من جلد الذات والإحساس العميق بعقدة الذنب –على حساب الحق الفلسطيني- بدعوى الإضطهاد التاريخي الذي اختلفت وتضاربت حوله التقييمات من طرف الأوروبيين أنفسهم،لا سيما لدى الباحثين المتجردين عن كل حساسية عقائدية والمترفعين عن الحسابات الإنتهازية الضيقة.
يحضرني في هذا المقام، كتاب أصدره المفكر المرموق ريجيس دوبري والمعنون برسالة إلى صديق يهودي، والمقصود به إيلي بارنافي السفير الإسرائيلي السابق في فرنسا. حيت طرح حقيقة، بطريقة مضمرة سؤالاً أنطولوجياً مؤرقاً جداً، مفاده: إلى أين تذهب اسرائيل؟
دوبري، المتعقب لمباحث عديدة تتراوح بين الفلسفة والنقد والدين والرواية والسياسة...، وتنصهر جميعها في روح المناضل الثوري الفذ الذي خبر عملياً في شبابه السلاح وعاشر عن قرب رموزاً كبيرة مثل غيفارا وكاسترو وسالفادور أليندي، بدت حقاً أطروحات عمله شفافة لا تنم عن أية كراهية، وبقلم وموسوعية لا نظير لهما في الفكر الفرنسي باعتراف "معارضه" الصحافي الاسرائيلي ستيفان أمار الذي تكفل بمهمة الرد على دوبري ودحض رؤيته الرافضة لمنظومة السياسة الإسرائيلية بمرجعياتها وأهدافها ووسائلها وماهيتها واستراتجيتها وتعاملها الإحتقاري مع الفلسطينيين بأسلوب لايمكن وصفه إلا بالأبارتيد.
بناء عليه ألمح دوبري بطريقة ذكية، عند نهاية الحوار الذي أجري معه، أن كثيراً من أصدقائه الإسرائليين، قد شرعوا في مجابهة أنفسهم بأسئلة مصيرية وراديكالية تصب في مجملها عند سؤال: هل بوسع إسرائيل البقاء لفترة أطول، على الرغم من حيويتها الاقتصادية؟
إن ريجيس دوبري، وهو يفضح النزوع الإسرائيلي نحو عقائدية وطنية وإتنية، يُعبر عن وفائه الأخلاقي لاختياراته الفكرية المنحازة دائماً إلى العدل والحرية، بالتالي مقاومة كل أشكال الاستعمار. لكنه، هنا ولاسيما باعتباره مثقفاً أوروبياً، يبتغي صادقاً تخليص قارته من هاته الرقابة الذاتية الكابحة. ففي فرنسا مثلاً، قليلاً هم الكتاب والصحافيون الذين يتوفرون على الجرأة والشجاعة كي يفضحوا التعصب الديني الإسرائيلي. في المقابل، يبدو لهم من اللائق أكثر التصدي لحركة حماس. يقول دوبري: "قضية نجازف، مع كل كلام عنها، بأن نصعق كهربائياً". وضع، سيحاول البحث عن أسبابه، من خلال تبين معطيات اللاوعي التاريخي الإسرائيلي والخلفيات الذاتية المتوارية.
إسرائيل التي تمارس البربرية اتجاه الفلسطينيين، هي التي انتقلت من دولة لليهود حسب تعبير المؤسس تيودور هيرتزل، إلى دولة يهودية تخضع الأراضي باسم إله يستوطن التاريخ، وفق لا نهائية مقدسة "وصارت الإلياذة إنجيلهم، أي قصيدة أبدية للقوة". في السياق ذاته، تحول ما عرف بالمحرقة إلى نقطة مشتركة موحدة لجميع الأوروبيين، بل مثل مركز مقدس متعالي "لكنه مقدس سلبي، شيء نتجنب قطعا رؤيته ثانية، وفي إطار هذا الرفض تبلورت أوروبا". لذا، سيبذل رؤساء الدول والحكومات، أقصى ما في وسعهم، بغية التعبير عن مواكبتهم لطقوسها واحتفالاتها التذكارية. من هنا، ضرورة إرجاع الذكرى، يؤكد دوبري، إلى إطار موضوعي وتفسيري والتخلص من الحمولة العاطفية التي تضفي هالة قداسة مرعبة على ّ"الكره المطلق"، وازع يقتضي عملاً دؤوباً للأصوات الباسلة المنتمية إلى المجتمع المدني. إن استحضار، دراسة أصيلة كتلك الصادرة سنة 1944 تحت عنوان: "شهادتي أمام العالم" لصاحبها جان كارسكي، أبرزت اضطهاد اليهود فقط في فصلين من بين ثلاثين فصلاً. لكن، مع بداية 1960 اتخذت الواقعة منحى غريباً، وكأن دوبري يتوخى التشديد على أن بتر الأحداث من سياقها التاريخي، يطبعها بكثير من الالتباس وسوء التقدير. لهذا، ينبغي التخلص نهائياً من المذهب القائم المنمّط لمعرفتنا بالمحرقة كي توضع الأمور في نصابها الطبيعي والقطع مع التيولوجيا التي تقود على الفور إلى العهد القديم، وما تنطوي عليه من تميز لشعب مختار، ثم تصير الديبلوماسية خداعاً، بحيث لا تسوية ممكنة على أرض مقدسة. أيضاً، وبجانب كارسكي من المفيد جداً، قراءة كتّاب إسرائيليين آخرين، مثل أفراهام بورغ الذي أنجز سنة 2007 دراسة تحت عنوان: "هزْم هيتلر، من أجل يهودية أكثر إنسانية وكونية"، أقر فيه، بأن نضال اليهود ضد الحلقة المفرغة الجهنمية التي وُضعوا داخلها منذ عيسو حتى هيتلر مروراً بفرعون، وجالوت وأدريان وفيسباسيان وكذا خميلنيتسكي...، كانت نتيجته عكسية بحيث فقدوا حساسيتهم بقدر نضالهم، ويعيدون إنتاج نفس ما مورس عليهم، أو بتعبير بورغ: "تتشابه أيادينا مع أيادي عيسو والآخرين".
إذن، دور كل مفكر سواء كان إسرائيلياً، فرنسياً، أو غيرهما، يكمن في إلغاء طابوهات قبيلته. بالتالي، ما الذي يمنع دوبري حسب اعتقاده هذا، من كتابة ما يصرح به الإسرائيلي في الشارع والمقهى؟ خاصة، وقد بدأ ينتابه الضجر، من سماع ترديد الديبلوماسيين والسياسيين لمقولة أضحت لازمة: "ما تتحدثون عنه صحيح، لكن ليس في وسعنا قوله". منطق، بلا شك يغذي مشاعر معاداة السامية والضغينة ضد طفل الغرب المدلّل، كما يجعل مقترحات الأمم المتحدة بلا مضمون واقعي. وأهم ذلك، استمرار تمسك إسرائيل بلغة الخشب، يعني سعيها الاختياري لانتحارها الذاتي وبشتى الطرق. مما، يقتضي الأمر، الإقرار نهائياً بحدود لها، وتقطع مع قاموس تراجيدي ومرعب يتضمن عبارات من قبيل: "القدس عاصمة أبدية لإسرائيل، غير قابلة للانقسام".
لقد شكلت الصهيونية، بداية ثورة عقلانية ضد الحاخامية وتمرداً على الله، لهذا رفضها في العمق جمع من المتدينين الأرتوذوكسيين. وتبقى ذكرى هيكل سليمان، أهم ما وحد قاعديا الشعب اليهودي. حينما، استقر بالأرض الموعودة وليس أوغندا أو مدغشقر...، تمكن منه ثانية اللاوعي الديني. فوجد، الصهاينة العلمانيون أنفسهم منجذبين اتجاه ماض، توخوا تجاوزه، لكنهم اكتشفوا فيه شرعيتهم الوحيدة. إجمالاً، نقف على مصدرين للدولة الإسرائيلية، واحدة قامت على الدم والعرق، تنتسب إلى يعقوب، ثم تلك المنحدرة من إبراهيم وموسى. مع النموذج الثاني، لا تعلل إسرائيل قط بمفاهيم "هم أن نحن"، والتمادي في احتقار الجيران، لكن "معهم ذات يوم". فأن، تكون يهودياً يبرره الإيمان اليقيني والعمل بمجموعة قيم، وإلا فكيف بمجتمع على قدر من التطور يتفاعل مع سينمائييه ومسرحييه وباحثيه ومفكريه الاستثنائيين... التحول ذات يوم إلى قلعة مغالية في التطرف وبنية أصولية يهيمن عليها الجيش، يجيز له إله الطمأنينة كل أعمال العنف؟ مسار يدق ناقوس الخطر، لذلك التجأ دوبري رغم دعوته الكبرى للعقل إلى الصلاة أيضاً، حين تمنى استسلام التوراة اليهودية "العسكرية ذات النزوع الإتني الفظيع" أمام أخرى "كونية على نحو مثير للإعجاب ومسالمة جداً".
أشخاص من عيار دوبري والعالم اللغوي تشومسكي، وبينهما شابة أمريكية مغمورة اسمها "راشيل كوري" سحقتها عام 2003 جرافة اسرائيلية، بعد أن تصدت لها بجسدها النحيف كي لا تهدم منازل الفلسطينيين.هؤلاء فقط، من يجعلون العالم حقاً قابلاً للحياة.
مراكش/ المغرب