-1-
لم تعُد حالة المواطن العربيّ اليوم، لغويًّا وثقافيًّا، على ما كانت عليه بالأمس. ذلك أن أبأس عربيّ اليوم يشاهد العالَمَ بأسره عبر الفضائيَّات، ويسافر، ويتخاطب، ويسمع، ويرى، وإنْ هو لم يقرأ ولم يكتب. ثم هو، في كُلِّ حالٍ، وقبل الثورة المدنيَّة الحديثة، بوسائطها الاتصاليَّة المتعدِّدة، ما فتئ يفهم العربيَّة الفصحى، ويتذوَّق الشِّعر العربيّ الفصيح، ويَطرب له، وقد يَشدُّ وجدانه أكثر من الشِّعر العامِّي، وإنْ أنكر المكابرون، شريطةَ أن يكون شِعرًا جيِّدًا، لا نظمًا وعظيًّا باردًا. غير أن هناك محاولات لاجترار ذلك الإنسان إلى الخَلْف؛ ليرسف في قيوده وتيهه، أو استنزاله إلى لغة الشارع، أو بالأصح لغة التقوقع والتخلُّف. وتلك هي رسالة العاميَّة الضِّمنيَّة، الحفر صوب الأدنى، لا الارتفاع بالمتلقِّي، كما هي رسالة الأدب الرفيع. فمَن قال إن الأُمِّي لا يفهم الفصحى، ولا يُسيغ بيانها، وهو ابن بيئة القرآن الكريم، وابن المسجد، والجامع والجُمعة؟
إن العربيَّة أُمُّ هذا الإنسان العربي، وليست بلغةٍ أجنبيَّةٍ عنه، تقتحم داره ولسانه وثقافته، ولا العاميَّة بنقيضةٍ للفصحى، في جذورها ومادَّتها، ليصحّ ذلك التهويل من تصوير الشُّقَّة الفاصلة بين مستوى العاميّ واللسان العربي الفصيح. إنْ هي إلَّا ذرائع واهية، يُدافِع بها المدافعون عن بضائعهم، أو يلتمسونها التماسًا لتعصُّبٍ في نفوسهم، الواقع يُنكره وينفيه.
من شواهد هذا ما يرد في مقال للباحث المغربيّ (أحمد العلوي أطلس)، بعنوان "أصالة العربيَّة في المغرب الأقصى"، نُشر في (مجلة لسان العرب، ع67، حزيران 2011، ص11- 25)، يستدلّ فيه ممّا يذكره (البيذق)- مؤرّخ الدولة الموحِّديَّة في المغرب الإسلامي، عن بداية الحركة الموحِّديَّة، من أن (المهدى بن تومرت) لم يتكلَّم بلسان الغرب، أي بالبربريَّة أو الأمازيغيَّة، إلّا في أضيق الحدود- على أن العربيَّة كانت فى القرن السادس الهجري منتشرةً فى ربوع المغرب العربيّ، وكانت وسيلة التعامل. ذاكرًا أن المنطقة السهليَّة، الممتدّة من مصر الى المحيط، كانت لغتها هي العربيَّة الدارجة، وأن حضور هذه العربيَّة الدارجة دليل على حضور الفصحى، فى مجالها الخاص. ولقد كان الأمراء البربر يتعاملون مع رؤسائهم الأمويَّين، منذ باكر عهدهم، بالعربيَّة، فى إدارتهم، ومراسلاتهم، وسائر أحوالهم. وظلَّت العربيَّة كذلك فى العهد المُرابطي، والمُوحِّدي، والمريني. ذاهبًا إلى أنه لا دليل على أن حضور العربيَّة إلى الشمال الأفريقى كان سببه حضور العرب الفاتحين؛ إذ لا يذكر المؤرِّخون أن الفاتحين كانوا يتعاملون لغويًّا مع السكان بغير العربيَّة، أو أن العربيَّة، بصورتيها الفصحى والدارجة، كانت مجهولة للعموم. ذلك أن الفتوح العربيَّة- كما يُعلِّل الكاتب- إنما كانت تتِّجه إلى البلدان التى كان فيها حضور عربيّ، أو كان فيها تحالف مع العرب. ولا نكاد- كما يقول- نجد أحدًا من المؤرِّخين، كابن خلدون، أو ابن أبى زرع، أو ابن شرف القيروانى، أو غيرهم، يتحدَّث عن تنافسٍ بين العربيَّة والأمازيغيَّة، أوالبربريَّة، كما كان عليه الحال فى بلاد الفُرس، بين العربيَّة والفارسيَّة. وهو يذهب إلى أن سكّان تلك البلدان من العرب هم سكان أصليّون، لا وافدون مع الفتح. ومن ثَمَّ فالعربيَّة لغةٌ أصليَّة فى تلك المناطق وليست مستوردة. ساخرًا من سِحريَّة النظريَّة التعرُّبيَّة وأسطوريَّتها؛ لأن معناها أن جماعة من الناس- كانوا يمثِّلون الأكثريَّة وأهل البلاد الأصليِّين- استيقظوا فوجدوا أنهم قد نَسُوا الأمازيغيَّة، وتحوَّلوا تلقائيًّا إلى النطق بالعربيَّة! على أنْ ليس الأمازيغ بأشدّ تديُّنًا من الإيرانيِّين، أو من الأفغان، ليُعزَى تعرُّبهم الخرافيّ إلى عامل الدِّين الإسلامي وهوسهم به. بل من الحقّ- كما يُجادل الباحث- أنْ يقال إنّ الأمازيغيَّة نفسها تبدو لمَن يدرسها، بغير انحيازٍ وأدلجةٍ، نوعًا من العربيَّة، لكنها عربيَّة مستقلَّة، بطبيعة الحال، كالحال فى ما سُمِّي: العربيَّة الحِمْيَرِيَّة. مشيرًا إلى أن التاريخ القديم، الفينيقي والقرطاجي بالمغرب، دليل على حضور العربيَّة القديم فى الشمال الأفريقي.
فإذا كان توغُّل العربيَّة مُغرقًا هكذا في مجاهل التاريخ والبلدان، فكيف يرى الراؤون جُدُرَهُم الوهميَّةَ بين عربيَّة الجزيرة العربيَّة الدارجة والعربيَّة الفُصحى؟! إنْ هم إلّا يمهدون بذلك لشرخ لسانٍ في فمٍ واحدٍ، أكثر فأكثر؛ كأنما لا يُرضيهم أن يلتئم؛ لأن في التئامه ما لا يَرضون!
-2-
إن عصرنا هذا عصر حربٍ لغويَّة. وسلاح كلِّ هويَّة، أو ثقافة، أو حضارة: لغتها. ذاك مُدْرَكٌ لدَى شتَّى الأُممِ، العربُ عنه في سكرتهم يعمهون. ولذلك كانت الصهيونيَّة- على سبيل النموذج- تفرض على اليهود العرب اجتثاثَ لغتهم العربيَّة من شرايينهم، إنْ بفِكرها، أو بتعاملها مع المهاجرين منهم إلى الأرض المحتلَّة. وتلك معاناةٌ ما فتئ يَجأر بها بعض العرب اليهود، ممَّن هاجروا، مختارين أو مضطرِّين، إلى الكيان الصهيونيّ. لا يعني إسرائيل في شيءٍ أن تُوصَم بالعُزلة، أو بالتخلُّف، أو بفرض لغةٍ ماتت منذ مئات السنين؛ فهي تُدرك أن لُغتها إكسير حياتها الحضاريَّة. أنْ تكون إسرائيليًّا، يعني: أن تنسَى ماضيك، وجذورك، وتراثك، ولغتك الأُمّ.. يجب أن تكون عبرانيًّا، وإلَّا فابحث لك عن هويّةٍ أخرى، فهويَّة العبريَّة لن تسعك! أنت- ببساطة- لا تنتمي إلى إسرائيل. الدِّين لا يكفي، ولا الولاء يكفي، أنت لسانُك، وقلمُك، كما يكونان تكون. وليست المسألة هاهنا لُعبةً، أو أُحجيةً، بل هي حساسيةٌ صارمة، تمسُّ أدقَّ السلوكيَّات الإنسانيَّة اليوميَّة، من حديثٍ، أو كتابةٍ، أو أدبٍ، أو غِناء. إن اللغة، إذن، عقيدة، أشدّ تغلغلًا من عقيدة الدِّين؛ لأن الدِّين نفسه لا قيام له بغير لغة. تلك حكاية اللغة، التي ضيَّعها العربُ، واستخفُّوا بمعناها، ومبناها، وهي أُمُّ ضياعهم، وضعفهم، وإعاقاتهم، وتخلُّفهم، واستخفاف العالم بهم، وازدرائه إيّاهم؛ لأنهم بلا لغة، وكونهم بلا لغة يعني أنهم: لا شيء في ميزان الأُمم والتاريخ.
إن تردِّي حالنا اللغويَّة والثقافيَّة، وتفشِّي العاميَّات، بأدبها البدائيّ البليد، والدفاع عنها، عبر التقنيات الحديثة، نتاج خياناتٍ لم يسبق لها مثيل. وليس بخافٍ- في هذا الإطار العامّ- أن كثيرًا من النُّخَب- أو هكذا كان يُفترض فيهم- من إعلاميِّينا، ومعلِّمي أولادنا، بل بعض أساتذة جامعاتنا، حتى أحيانًا من المتخصِّصين في مجال اللغة العربيَّة، هم شعراء عاميِّون، أو شعراء نبطٍ بالأصالة، منغمسون في الحركة العامِّيَّة بالتبعيَّة، منافحون عنها، منظِّرون لأدبها، مساهمون في مشروعها التاريخيّ الواسع. ينساقون في هذا المهيع بولاءٍ غالبٍ، فطرةً، واكتسابًا، أو تسليمًا للضغوط الاجتماعيَّة، التي يصعب أن تُنتزع من النفوس، أو تُنازَع إغراءاتها اليوم!
يجري هذا، فضلًا عن شبكةٍ من "اللهوجة" اللغويَّة عبر الفضاء، و"الإنترنت". حتى إن المتابع لبعض المواقع العربيَّة على "الإنترنت" ليشعر بالقطيعة اللغويَّة مع بعض ما يُكتب فيها؛ فهو، وإنْ بدا بحروفٍ عربيّةٍ، يُكتب في خليطٍ لغويٍّ عجيب، لا تدري أهو هنديّ، أم فارسيّ، أم إنجليزي، أم بلهجة محليَّة مختلطة عربيَّتها بأعجميَّتها؟! وهذا ما وسَّع في العقود الأخيرة دائرة استبدال اللهجة باللغة، في الشِّعر، والرواية، والقصة، والكتابة الصحفيَّة. حدث هذا، ويحدث، عبر الوسائط الاتصاليَّة المعاصرة، ثم عبر بعض المنشورات الورقيَّة.
بل من الطريف أن أمواج الإعصار قد شملت بهِباتها كذلك الدُّعاةَ الدينيِّين، الذين بات بعضهم يتبنَّى العامِّيَّة في خُطَبه ومواعظه، عبر التلفزة، أو شبكات الاتصال الحديثة. وقد يَنْظِم صاحبنا الهمام في ذلك المضمار الأناشيد والمعلَّقات العامِّيَّة، إنْ كان له في النظم نصيب؛ لينشرها بين الناس كافَّة، وبأحدث التقنيات والوسائل، ويبشِّر العالمين بإقامة المسابقات المليونيَّة، خدمةً للأُمّة، وصدقةً لوجه الله جارية، في سبيل مجدها وسؤددها، حتى لا تعلم فصحاه ما أنفقت عاميّته! ولم يبق، إذن، من خطوةٍ رياديَّة أمام هؤلاء إلّا أن يُترجموا آيات القرآن المبين إلى لهجاتهم المحلِّيَّة؛ لأن القرآن أَوْلَى بالفهم، والجمهور لا (ضادَ) له، ولم يعُد يُحسن لغة الضاد، ولا يُطيقها، ولا يستسيغها- حسبما يتصوَّر أولئك الأبرار الآخذون بالعامِّيَّة- ولا يتأثَّر ببيانها القرآني، الذي كانت تخشع له الجبال وتتصدَّع، كما يتأثَّر ببيانهم العامِّي الهجين. وكفى الله المؤمنين النحو والصرف والبلاغة! بل كفاهم التعلُّمَ والتعليمَ بلسان العرب أو الانتماء إليه!