يستبين الباحث المغربي أن طروحات الأنثروبولوجي الفرنسي الذي رحل مبكرا، بيار كلاستر، بأسلوبها الواضح وتماسكها المنهجي، استطاعت أن تزحزح مفهوم المركزية الأوربية في مقاربتها لـ"الآخر". وبأنها تستحق أن تكون بمثابة مصدر أساسي بالنسبة إلى المتخصص والباحث، لأنها جديرة بالعناية النقدية والدراسة.

بيـار كلاستـر مزحزحاً مركزية الفكر الغربي

محمد المستاري

يعد الأنثروبولوجي الفرنسي بيار كلاستر Pierre Clastres (1934–1977)(1)، من أهم الباحثين الذين ساهموا في تقعيد الأنثروبولوجيا السياسية (l’anthropologie politique)، وذلك بالنظر إلى منجزه الفكري في هذا المجال، المتميز بالحرص المنهجي والعمق التحليلي والاستناد الميداني.

فهذه الجوانب الثلاث التي تميز البحث العلمي وتضفي عليه طابعاً خاصاً؛ نجدها حاضرة على عاتق كلاستر، إذ نستشف حرصه المنهجي من خلال درايته بما يندرج ضمن مجالات اختصاصه ومعرفته بالحدود اللازمة من أجل الدفاع عن افتراضه...، أما عمقه التحليلي فيظهر من خلال أفكاره القوية والجريئة، أما استناده الميداني: فيفسر بكون كتاباته وطروحاته كانت بمجملها ميدانية بالمجتمعات التي يتحدث أو يكتب عنها. أي نتيجة معايشة يومية لقبائل «الغاياكي» البدائية في غابات الأمازون الاستوائية، (وبالأخص في أمريكا الجنوبية).

ترتكز الأطروحة الأساسية لعمل كلاستر في مجال الأنثروبولوجية السياسية - والتي يعبر عنها كتابه مجتمع اللادولة-؛ على القول بأن هناك مجتمعات بلا دولة، وهذا لا يعني أنه ليست هناك سلطة سياسة، بل هذه المجتمعات لها إوالياتها الخاصة التي تجعلها تسير شأنها الداخلي وتجهض كل محاولة تسعى إلى قيام الدولة القائمة على الاستغلال والتفرد بالسلطة.

وقد عمل كلاستر من أجل الدفاع عن افتراضه هذا، على التعريف بالقبائل الموصومة بـ«البدائية» من خلال التعريف بثقافتها، وأشكال تنظيماتها وديانتها وقيمها وأعرافها وتقاليدها، انطلاقا من نبض الميدان، أي نتيجة معايشته اليومية لقبائل "الغاياكي" البدائية في غابات الأمازون الاستوائية، وخلص بعد ذلك إلى ضعف واقتصار خلاصات "إثنولوجيا الوصف" حيث يرى أنها رسمت صوراً مغلوطة عن المناخ الحضاري للغابة الاستوائية باعتبارها «بدائية» و«طفولية» و«خارج التاريخ»، يقول في هذا المضمار: إن «اللوحة الشائعة عن هذه المجتمعات مغلوطة أو على الأقل ليست دقيقة بما فيه الكفاية، وحينما يكتب جورج ميردوك Murdock قائلاً: «إن تفتت المجتمعات البسيطة وتناثرها قد ضخما كثيراً». فإن قوله هذا ينطبق على أميركا الجنوبية بشكل صحيح»(2).

لذلك، -حسب كلاستر- فإنه ليس من الغرابة بمكان في أن ما نملكه عن المجتمعات البدائية من أجوبة وتوصيفات سلبية حول حضارات الغابة الاستوائية من خلال المادة الإثنوغرافية أشياء خاطئة، وفي أحسن الأحوال مبالغ فيها، ولعلها مؤدلجة، بما أنها كانت في خدمة أهداف «الاستعمار الأبيض» يقول كلاستر: «إن إلقاء الضوء على التعارض القائم بين حضارات هضاب (andins) العليا وهضاب الغابة الاستوائية، وذلك من خلال أخبار وقصص وتقارير المرسلين، الجنود والمسافرين الأوائل في القرنين السادس والسابع عشر، غالباً ما هو مبالغ فيه»(3).

ويهدف كلاستر من خلال منجزه الفكري إلى تحطيم الرؤية الكلاسيكية السائدة إلى حدود سبعينيات القرن الماضي، حول «طفولة» المجتمعات الفاقدة لمؤسسة الدولة أو الجاهلة بتقنية الكتابة ووصمها بـ«البدائية» و«الهمجية» من قبل أصحاب «الفكر التاريخي» المنبثق عن المركزية الأوربية (l’eurocentrisme).

- وعليـه، فإن ما يهمنا الآن، من كتـاب: مجتمع اللادولة- بيار كلاستر، هو الإجابة عن الأسئلة الآتيــة:

لماذا كانت المجتمعات البدائية ترفض الدولة؟ وما هي الصورة التي كانت تتخذها بفعل هذا الاختيار من قبل الآخر(4) (أوربا عامة)؟ وكيف تحافظ المجتمعات البدائية على تنظيمها وشأنها الداخلي في إطار رفضها الدولة؟

1 – دواعي رفض المجتمعات البدائية للدولة:
يرى كلاستر أن اختيار المجتمعات البدائية رفض الدولة، هو اختيار ثقافي لدين الآباء والأجداد الأولين، له ما يبرره وينبغي احترامه، وليس ضعفاً أو قصوراً أو جهلاً أو عجزاً هيكلياً كما نستشف ذلك من خلال أعمال المادة الإثنوغرافية المحكومة بالنظرة الغربية، ويعتبر أن ما أفرزته من تعارض وتمييز بين «حضارات عليا» شأن تلك التي توجد فيها دولة مثل: «الإنكا» و«الآزتك»
(Aztèques)، وأخرى سفلى التي لا توجد فيها دولة كلام فارغ ولا أساس له.

وبصياغة أخرى، فإن رفض المجتمعات البدائية للدولة، هو كون ثقافتها تمنع إمكانية الارتهان لأي بشر كان داخلها، ولو من خلال الارتهان للغيب. فالمجتمعات البدائية –حسب كلاستر- تشعر بالدين تجاه الأجداد المؤسّسين للأعراف والرّاعين لهم من وراء هذا العالم. ومن هنا يأتي ردّ الدَّيْن إليهم بتقديسهم وطاعة أعرافهم والتوجّه إليهم بالشّعائر والأضحيات.

ترفض المجتمعات البدائية الدولة، لأنها ترفض الإنتاج والتفاوت الذي يقتضيه وجود الدولة بالضرورة، فهي مجتمعات تعيش على الكفاف، (تنتج لتعيش على خلاف المجتمعات الحديثة التي تعيش لتنتج)، فالبدائيون لا يعرفون التراكم، لذلك يرى كلاستر أنها مجتمعات الديمقراطية والمساواة. لأن البدائي فيها يعيش فوق الطبيعة ويأكل من الطبيعة ويعيش تحت رحمة الطبيعة.

إن غياب الدّولة عند المجتمعات البدائيّة ورفضهم لها لا يعود إلى نقص فيها، أو لأنّها تمثّل طفولة البشريّة أو بسبب عدم اكتمالها، أو لأنّها ليست مجتمعات كبيرة الحجم أو غير راشدة؛ بل لأنّها تحديداً ترفض الدّولة في مفهومها الواسع، أي الدّولة المعرّفة في أدنى صورها بأنّها علاقة سلطة.

إن جميع الأشكال والبنى والتنظيمات الثقافية التي تميز طريقة عيش المجتمعات البدائية تظهر استغناؤهم عن قيام الدولة، وأن ظهورها في تلك الأثناء هو ظهور معناه الخضوع للآخرين والخدمة إليهم. لذلك كانت هذه المجتمعات ضد كل محاولات تصبو إلى نشوء الدولة.

إن المجتمعات البدائية تقع في جهة المتعدّد؛ باعتباره إرثاً ثقافياً، بينما تقع مجتمعات الدّولة في الجهة المعاكسة تماماً، أي جهة النّموّ والاندماج، جهة التوحّد، جهة الواحد. وإذا ما كانت المجتمعات البدائيّة في جهة التّعدّد، والمجتمعات غير البدائيّة ذات الدّولة مجتمعات الواحد، فإنّ الدّولة هي انتصار الواحد.

نظرية الدولة حسب كلاستر هي تصوّر أداتيّ للدّولة، فهي مجرّد أداة لهيمنة طبقة اجتماعيّة على طبقات أخرى؛ فالدّولة من النّاحية المنطقيّة ومن النّاحية الزّمنيّة أمر لاحق، أي أنّها تنشأ بعد أن يكون المجتمع قد انقسم إلى طبقات وأضحى فيه أغنياء وفقراء ومستغِلّون ومستغَلّون، فالدّولة هي أداة الأغنياء المثلى لاستغلال وخداع الفقراء.

2 – الصورة التي اتخذتها المجتمعات البدائية بفعل اختيارها رفض دولة من قبل الآخر:
لقد تم توصيف المجتمعات البدائية؛ بفعل اختيارها الثقافي والمؤسس بعدة توصيفات سلبية: أنها مجتمعات بلا تاريخ، مجتمعات غير تامة وناقصة، مجتمعات غير حقيقية، مجتمعات طفلة، مجتمعات التوحش والضراوة، همج..، بل تعدى الأمر ذلك إلى وقوع المجازر والمذابح الوحشية وترك الأجساد البشرية للآخر المغاير عنهم في الماء المالح ما إن تتعرض إلى التحلل أم لا؟

3- كيفية محافظة المجتمعات البدائية عن تنظيمها وشأنها الداخلي في ظل رفضها الدولة:
حسب كلاستر، إن رفض المجتمعات البدائية للدولة ليس معناه الفوضى والعبث واللااستقرار، وليس معناه التوحش والضراوة، بل يؤكد أن لهذه المجتمعات أعراف وتقاليد، تحكمها بمثابة البوصلة والقاعدة أو المحدد والموجه العام، ورثها البدائيون عن آبائهم وأجدادهم الغائبين، وهي عبارة عن قواعد تحكم تنظيماتهم وتصرفاتهم بأشكال ثقافية خاصة بهم.

كما يرى أن "المجتمعات البدائية هي كالمجتمعات الغربية، تعلم تماماً، إمكان الاختلاف في تحديد هويتها، إمكان "الغيرية" في التجانس، وفي هذا الرفض للميكانيكية يمكن لنا قراءة المؤشر عن إبداعها"(5). يقول كلاستر. كما يؤكد أن التعارض هو على مستوى التنظيم السياسي، أكثر مما هو على مستوى البيئة(6).

لأن لهذه المجتمعات الموصومة بالبدائية استقرار وتنظيم للعمل: النساء في المنازل، والرجال في الغابة للصيد البري والمائي والتقاط الأثمار وتوفير حاجياتهم، وهناك تضامن. فالمجتمعات البدائية ليست عاجزة عن الابتكار، والسؤال الذي ينبغي أن نطرح عنها ليس هو: لماذا لم يستعمل البدائيون كذا؟!! بل يجب طرح ما عسى أن ينفع؟ فالمجتمعات البدائية كانت قد اكتشفت الدولاب والسؤال ليس لماذا لم تستعمل الدولاب، بل ما عسى الدولاب أن ينفعهم؟

ختـامـًا؛ إن طروحات بيار كلاستر بأسلوبها البسيط وتماسكها المنهجي، استطاعت أن تزحزح المركزية الأوربية، وتستحق أن تكون بمثابة مصدر أساسي بالنسبة إلى المتخصص والباحث، وهي جديرة بالقراءة والدراسة.

 

* كاتب وباحث مغربي

 

الهوامش
(1) بيار كلاستـــر Pierre Clastres (1934–1977)، فرنسي الأصل، لم يعش إلا 43 سنة، اشتغل ضمن الأنثروبولوجيا/ الإناسة السياسية، من مؤلفاته:

- مجتمع اللادولة، ترجمة وتقديم: محمد حسين دكروب، المؤسسة الجامعية للطباعة والنشر والتوزيع، 1991.

- في أصل العنف والدولة، بيار كلاستر ومارسيل غوشيه، ترجمة وتحقيق: علي حرب، دار الحداثة للطباعة والنشر، بيروت، ط1 2008. عدد الصفحات: 520 صفحة. (وهذا الكتاب في الأصل مقالتين جمعهما المؤلف: الأولى تحت عنوان: «أثريات العنف أو الحرب في المجتمعات البدائية» لبيار كلاستر، والثانية: «دَيْن المعنى وجذور الدولة» لمارسيل غوشيه).

- كما قد أجري مع بيار كلاستر سنة 1975، أي قبل سنتين من وفاته، حواراً مطولاً وهاماً، يعد بمثابة مصدر أساسي، حيث يعبر عن كل طروحاته، صدر بالفرنسية في مجلة: «الأسطورة المضادة»، العدد: التاسع، باريس، 1975. (L’ANTI-MYTHE, n° 9, Paris, 1975).

(2) بيار كلاستر، مجتمع اللادولة، ترجمة: محمد حسين دكروب، المؤسسة الجامعية للطباعة والنشر والتوزيع، 1991، ص: 53.

(3) المرجع نفسه، ص: 51.

(4) الآخر بمعناه الأنثروبولوجي، وهو مفهوم مركزي في الأنثروبولوجيا.

(5) المرجع نفسه، ص: 63.

(6) المرجع نفسه، ص: 79.