تعالوا نتخيل حالة عبثية: مسؤول في السلطة الفلسطينية يعلن ان كل طفل يهودي في إسرائيل يجب التعامل معه كجندي محتل.
أضع هذا التخيل العبثي في مواجهة ما قاله مدّعٍ عسكريٍّ إسرائيليٍّ عام لوفد قضائي بريطاني موَّلتْه وزارة الخارجية البريطانية، جاء يحقق في اعتقال وإصدار أحكام ضد أولاد فلسطينيين يُشتمُّ منها أن إسرائيل تخرق وثيقة حقوق الطفل للأمم المتحدة.
النيابة الإسرائيلية أنكرت شكوى الأطفال الفلسطينيين عن سوء معاملتهم، وقالوا للوفد البريطاني "أضحكتمونا" وأضاف ضابط كبير من النيابة العسكرية بصراحة للوفد البريطاني المشكّل من تسعة رجال قانون "أن كل طفل فلسطيني هو مخرب محتمل".
حسب صحيفة هآرتس، في تقرير لها عن الموضوع، نشرته الصحفية الشجاعة عميرة هيس، زار الوفد إسرائيل في شهر أيلول 2011.
الوفد فحص وحقق بالقانون والتصرفات الإسرائيلية بكل ما يتعلّق باعتقال وصدور أحكام ضد أولاد فلسطينيين.
زيارة الوفد المذكور جاءت بعد أن طرح الموضوع أمام بيتي البرلمان البريطاني للبحث، وتعتبر الزيارة خطوة إلى الأمام في التحقيق مما يجري مع الأولاد الفلسطينيين في محاكم الاحتلال الإسرائيلية.
الوفد أصدر تقريراً من 36 صفحة، بصياغة دبلوماسية لطيفة جداً (يبدو أن ذلك من خصائص الغرب بكل ما يتعلق بإسرائيل). من ضمن ما جاء بلطافة دبلوماسية: "من المحتمل أن بعض التردد بمعاملة الأولاد الفلسطينيين، حسب النهج الدولي سببه من القناعات التي طرحت أمامنا من مدعي عسكري بأن كل طفل فلسطيني هو مخرب محتمل. هذا الموقف يبدو لنا أنه نقطة الانطلاق الحلزونية لغياب العدل، الذي لا يستطع أحد أن يغيره إلا إسرائيل نفسها بصفتها قوة الاحتلال في الضفة الغربية".
المدعيان العسكريان الإسرائيليان اللذان تحدث الوفد البريطاني معهما هما المدعي العسكري الرئيسي الكولونيل روبرت نويفيلد ونائبه الميجر رونين شور. الوفد لا يذكر من قال الجملة التي تشكل منطلق النيابة العسكرية الإسرائيلية (ربما الأصح الفكر الاحتلالي الإسرائيلي) بأن كل طفل فلسطيني هو مخرب محتمل. وهو الأمر الذي يشكل العلاقة بين الأولاد الفلسطينيين والجهاز العسكري الإسرائيلي، أو دولة الاحتلال للدقة بدون لطافة دبلوماسية.
كما جاء في بداية مقالي، حاولت أن أتخيل مسؤولاً فلسطينياً يقول ما يشبه هذا التقييم للأولاد اليهود. تخيل ميتافيزيقي لا أستطيع ربطه بواقع إنساني. ولم أكن لأتردد باعتبار كل تصريح مشابه نفياً لإنسانية كل من يطلقه، ورفضي لإعتباره ممثلاً حتى لخطوط المجاري الفلسطينية. بدون لطافة دبلوماسية شخص يجب نبذه من المجتمع الإنساني الفلسطيني، أو أي مجتمع بشري آخر!!
الوفد كشف في تقريره وجود روايات إسرائيلية عسكرية متناقضة حول منهج اعتقال ومحاكمة الأولاد الفلسطينيين حسب القانون العسكري. الجهاز الإسرائيلي الرسمي له روايته. منظماتٌ ونشطاءُ فلسطينيون وإسرائيليون ممّن يتابعون مسألة اعتقال ومحاكمة الأولاد الفلسطينيين وحتى الأولاد أنفسهم لهم رواية مختلفة. الوفد لم ير ضرورة لقبول رواية ما، حسب لسان التقرير. بل سجل الروايات المتناقضة دون تأكيد صحة قبول رواية طرف من الأطراف، ولكن، وهنا الشيء الأساس، سجّل الوفد في تقريره تبريراً لموقفه بعدم الفصل بين الروايات، بأن "الفروقات المثبتة في القانون بين الأطفال الفلسطينيين والإسرائيليين التي أشغلتهم في فحصهم، هي فوارق موثقة بالفعل، وأنه حسب الوقائع الموثقة، التي لم يستطع المتحدثون الإسرائيليون نقضها او إنكارها، وجد الوفد ان إسرائيل تنقض ستة بنود من وثيقة حقوق الطفل للأمم المتحدة.
البند2 – التمييز بين الأولاد الفلسطينيين والإسرائيليين.
البند 3- مصلحة الولد مقابل مصلحة الاحتلال.
البند 37 ب – الاحتياج لحجّة مسبقة لاعتقال الأولاد.
البند 37 ج- عدم فصل الأولاد عن المعتقلين الكبار.
البند 37 د- الوصول فوراً لمحام (الاحتلال لا ينفذ هذا الأمر).
البند 40 – التقييد بسلاسل حديدية في المحكمة (الظاهرة الشائعة).
والتزاماً منه بعدم اعتماد أيٍّ من الروايات، يسجل الوفد أنه إذا كانت التقارير والشهادات التي وصلتهم من منظمات إسرائيلية وفلسطينية حول اساليب الاعتقال صحيحة، فإن هذا يعني أن إسرائيل تخالف المنع عن التصرف العنيف، وغير الإنساني او المهين حسب البند 37 أ في الميثاق.
وتسجل الصحفية هيس رأيها بوضوح، متخلية عن اللطافة الدبلوماسية، أنه بالاعتماد على ما نشرته "هآرتس" من مراسليها، والتي تشمل عشرات الشهادات حول اعتقال أطفال فلسطينيين، نسمح لنفسنا، كما تكتب عميرة هيس، "أن نكون أقل مجاملة وتردداً، ونقرُّ أن المعاملة القاسية، وغير الإنسانية، أو المهينة، هي المعيار. الجيش يتصرف بشكل دارج (روتيني) في اعتقال الأولاد الفلسطينيين في منتصف الليل. وبشكل دارج يُضربون، صفعاً أو رفساً أثناء الاعتقال. وفي ثلث الحالات، حسب فحص المنظمة العالمية للدفاع عن الأولاد، يطرح الأولاد على أرضية السيارة العسكرية، أثناء قيادتهم للاعتقال. وبشكل دارج رجال الشرطة يحققون معهم قبل التحقيق الرسمي. وتقريباً بشكل دارج أيضا التحقيق يجري قبل أن يسمح للولد أن ينام، وبشكل دارج لا يحضر والداه في وقت التحقيق معه".
حجّة ممثلي وزارة الدفاع ومنسّق العمليات في المناطق المحتلة، أولا، وهو تقليد إسرائيلي دارج، الإنكار أولاً، ثم قولهم أن "الجنود هم جنود". هذه الملاحظة أقلقت الوفد البريطاني، كما جاء في تقريرهم. وطبعاً قال ممثلو الاحتلال إن الأولاد بإمكانهم تقديم شكوى حول معاملة مسيئة لقسم التحقيق مع الشرطة.
اقتراح عبقري!!
نحن مواطني إسرائيل يضحكنا هذا القسم الذي يحقّق مع نفسه، من معرفتنا لنزاهته الكبيرة.. الذي يقرر عادة، بشكل دائم ومتوقع، أنه تبين بعد الفحص ان الشكوى غير صحيحية!!
تبرئة جاهزة. أليس الأطفال الفلسطينيون مخربين محتملين في المستقبل؟ هل يمكن تصديق المخرب الفلسطيني المقبل وتكذيب الجندي أو الشرطي "محرري" الأرض من "مغتصبيها" الفلسطينيين؟!
لمن تقدم شكوى على قسم التحقيقات الذي يبرئ بشكل مطلق تقريباً تصرفات الاحتلال؟
هل يعي الأولاد مضمون اعترافاتهم؟!
تقرير الوفد يذكر باستهجان منضبط جداً، فقط لدى البريطانيين يمكن أن يكون الاستهجان منضبطاً جداً أو بكل ما يتعلق بالتعامل مع تجاوز إسرائيلي. يذكر حقيقة أن الجهاز العسكري القضائي، لا يسمح لمحامي أن يلتقي مع الأولاد قبل بدء المحاكمة ليمثلهم بشكل معقول وكامل. يذكر التقرير بمرارة منضبطة (هذه أيضا مرارة بريطانية أو غربية جاهزة تخصّ إسرائيل فقط) إن لوائح الاتهام المقدمة للمحاكم العسكرية تعتمد على اعترافات الأولاد، واعترافات أولاد على رفاقهم. يشير التقرير أن الجهاز العسكري يدفع الأولاد لاعترافات بالتُّهَم والوصول الى "صفقة ادّعاء" طبعاً بدون وجود محامٍ يمثل الأولاد، أي لا تجري محاكمة حقيقية للأولاد. ومن المؤكد أن الأولاد المرعوبين لا يفقهون ما تخبّئ لهم الصفقة، وربما لا يفهمون هذا التعبير ومحتواه القانوني، وكل ما يهمُّهم هو التخلُّص من الوضع الغريب والمخيف الذي وجدوا أنفسهم بلا وعي داخله بصفتهم مخربين محتملين مستقبلاً. هذه الظاهرة ليست جديدة، بل وردت في عشرات التقارير للجان حقوق الإنسان والطفل إسرائيلية وفلسطينية ودولية ويردّدها دائماً نشطاء فلسطينيون وإسرائيليون، وأوردها المحامون الذين يدافعون عن المعتقلين الفلسطينيين وخاصة عن الأولاد، وقدّموا صورة مذهلة عن المحاكمات التي تصدر أحكاما بالجملة بدون استماع لـ"المخربين الصغار" وبناء على ما تقدمه النيابة العسكرية من "صفقات" جاهزة "توصلت" اليها مع الأولاد، وكأن الأولاد على فهم لمضمون ما يدور حولهم، بغياب أي دور للمحامين لتقديم دفاعهم، إذ يسمح لهم بالظهور في معظم الحالات أثناء المحاكمة فقط، دون أن يتمكنوا من فهم ما يجري مع موكليهم من "المخربين" الصغار. وهناك سيف الاعتقال حتى انتهاء الإجراءات القانونية (وهي صيغة هلامية، تعني بقاء الأولاد في الاعتقال حتى المحاكمة). الحديث يبدو وكأنه عن أشخاص بوعي كامل يتصرفون بناء على فهم وتخطيط، وليس عن أولاد لا يفقهون ما يجري حولهم، ولا يعون معنى لتصرفاتهم حتى في حال قيامهم بالمشاركة بمخالفات مثل قذف الجنود بالحجارة، وهي المخالفات الدارجة مع الأولاد عادة، نتيجة استفزاز يومي يرتكب بحقهم او بحق مجتمعهم وأقاربهم وأبناء وطنهم، يرى فيها الاحتلال "تهديداً لأمنه واحتلاله وجريمة أمنية بالغة الخطورة" والوفد البريطاني التقى مع القضاة العسكريين ومنهم ضباط كبار بدرجات مرتفعة وحملة ألقاب أكاديمية رفيعة جداً ومنها لقب بروفسور مثلاً.
تقرير الوفد القضائي البريطاني يلاحظ أمراً مقلقاً يتوسّع به تقريرهم، حول شكل "محاكمة" الأولاد حيث "يشجع" (ربما الأنسب والأصحّ كلمة "يفرض") الجهاز القضائي العسكري على الأولاد المعتقلين (هل هم بقدرة مواجهة المحققين الإسرائيليين؟) الوصول إلى صفقة مع النيابة العسكرية، الأمر الذي يعني عدم إجراء محاكمة حقيقية، في مثل هذه حالة عدم الوصول إلى صفقة، يعني أنه على النيابة العسكرية ان تُحضِر شهوداً وإثباتاتٍ للتهم التي توجه للأولاد، أيَّ عمل مرهق وشبه مستحيل. وعلى الأغلب لا شهود ولا إثباتات، أي محاكمات "لفلفة" وليس من الصعب إيجاد وصف لهذه المحاكمات في مقالات كتبها المحامين أنفسهم الذين تلخّص كل دورهم بأن يكونوا حضوراً في مسرحية قراقوشية. والأمر المرعب أكثر أن النيابة العسكرية قد تطلّب أيضاً اعتقال الأولاد حتى انتهاء الإجراءات القانونية، وهو أمرٌ تترتّب عليه أضرارٌ نفسية وجسدية هائلة للأولاد، إذ قد يكون الاعتقال حتى انتهاء "الاجراءات القانونية" أكثر امتداداً من العقاب نفسه. هذا الجانب طرح بمئات التقارير المنشورة في الانترنت أيضاً.
الوفد البريطاني قدّم 40 توصية للجهاز العسكري الاحتلالي، من أبرزها ان القانون المدني الإسرائيلي يمنع اعتقال أولاد (القصد أولاد من إسرائيل) تحت سن الـ 14 سنة وأنه يجب تطبيق هذا القانون على الأولاد الفلسطينيين أيضاً.
الفلسطيني مدان حتى يثبت العكس
في تصريحات ل"CNN" قالت عضو وفد المحامين البريطانينن باتريشا سكوتلند، التي شغلت في السابق رئاسة الادعاء العام في بريطانيا، وساهمت في وضع التقرير: "ما فعلناه هو أقرب إلى تقديم تقييم تحليلي قانوني للوضع هناك، لدينا روايات متضاربة حول ما يحصل فعلياً، ولم نقم باستنتاجات حول تلك الروايات، بل لجأنا إلى تحليل نصوص القانون الإسرائيلي، ولذلك نعتبر أن الأدلة التي أشرنا إليها لا تقبل الشك". وأضافت: "استخدمنا القانون الإسرائيلي كنموذج لمعرفة حقوق الطفل الإسرائيلي، وتساءلنا حول السبب الذي يمنع تطبيقها على الطفل الفلسطيني، ونظرنا بالقوانين التي تطبق على الطفل الإسرائيلي، وتلك التي تطبق على الطفل الفلسطيني، ووجدنا أنها مختلفة (مختلفة كلمة في منتهى اللطافة).. وقد سألنا عمّا إذا كان هناك سبباً شرعياً لهذا التباين، فلم تكن هناك إجابة"
الوفد لم يعتمد على تقارير المنظمات الحقوقية الإسرائيلية مثلا، وعلى رأسها منظمة "بتسيلم – مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة" التي نشرت وفضحت آلاف الممارسات غير القانونية حتى في المفهوم القضائي العسكري الإسرائيلي الممارس ضد الأطفال الفلسطينيين، ووثّقت الكثير من التجاوزات بأفلام مصورة بوقت وقوع الاعتداء على الأطفال او الكبار في الكثير من الحالات.
ولنفحص تقارير منظمات إسرائيلية أخرى.
جاء في تقرير أعدته ونشرته منظمة "يش دين" الحقوقية الإسرائيلية ان المحاكم العسكرية التي يمْثلُ أمامها المعتقلون الفلسطينون تصدر قرارات بإدانة ما نسبته 99.7% منهم فيما لا تستمر جلسات تمديد الاعتقال حتى نهاية الإجراءات أكثر من دقيقتين فقط، ووصفت الأمر بأنه "شيك مفتوح"!!
وأضاف تقرير "يش دين" ان المحاكم العسكرية والنيابة الإسرائيلية تمتنعان عن ترجمة لوائح الاتهام المقدمة ضدّ الفلسطينيين للغة العربية، فيما مثل أمامها العديد من الأطفال والقُصَّر الفلسطينيين الذين جرت محاكمتهم كبالغين. وقدَّر محققو المنظمة متوسط الوقت الذي تستغرقه محكمة تمديد اعتقال فلسطيني حتى نهاية الإجراءات القانونية بدقيقة و 54 ثانية فقط.
وفسّر المحامي جواد بولس، المتفرّغ تماماً لمهمة الدفاع عن المعتقلين والأسرى الفلسطينيين، ظاهرة نسبة الإدانة المرتفعة بالقول: "إنني أعتقد بان كل فلسطيني يمثل أمام المحاكم الإسرائيلية مدان حتى يثبت عكس ذلك".